قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن

تقدم ناحية المكان الذي تجلس به، وعيناه مغرورقتان بالدموع، مد يده نحو ذراعها، قبض عليه بلطفٍ، وسحبها من مقعدها بعيدًا عن والدتها وزوجة خالها، فمثل تلك الأخبار المفجعة تحتاج لتمهيدٍ مسبق، حتى لا يكون وقعها مميتًا على من يتلقاها، حاوط هيثم زوجته من كتفيها بذراعه، وسار بها في اتجاه السلم، وهناك استطرد يقول بصوته المختنق، وتلك الغصة تجرح حلقه:
-إنتي مؤمنة بقضاء الله وقدره، صح؟

وضعت همسة يدها على فمها تكتم شهقاتها الصارخة، فتابع يوصيها:
-مش عايزين صريخ، ربنا اختارهم يكونوا من لؤلؤ الجنة، هما راحوا عند اللي أحسن من اللي الكل، ده قضائه.

لم تستطع نفسها من البكاء قهرًا على وفاتهم، انفجرت في نوبة مريرة، عجزت عن ضبط انفعالاتها المتحسرة فيها، كان من الحكمة أن انفرد بها بعيدًا عنهما، وإلا لامتلأت جنبات المشفى بوابلٍ من الصراخ العنيف، لن يزيد القلوب سوى ألمًا وانفطارًا. تنفس بعمقٍ، وأخبرها على مهلٍ:
-خلي أمك تكلم أبوهم، متقوليش ليها حاجة دلوقتي، لحد ما هو يجي...

بدت غارقة في بكائها الشديد، فوضع يده على جانبي كتفيها يهزها برفقٍ منهما، وهو يسألها:
-إنتي سمعاني؟
أجابت بصوتٍ متقطعٍ بالكاد استطاع فهمه:
-صعبانين، عليا، أوي، هما مالهومش ذنب.

عبارات المواساة أحيانًا في مثل تلك المواقف العصيبة، يتعذر النطق بها، قد تبدو فارغة، غير مجدية لمن يعاني من ويلات الفراق، فالراحلون ذهبوا للأبد، وتركوا من خلفهم لوعة الاشتياق لوجودهم! استدمعته تلك المشاعر، وحجزت العبرات في حدقتيه، تنفس على مهلٍ، ثم تابع بصوته المغلف بحزنٍ ثقيل:
-ربنا يصبر أهلهم، ويعينهم على اللي هما فيه..
انتظر للحظة قصيرة، وقال:.

-أنا هاوصي الدكتور والممرضين يفضلوا مكتمين على الخبر لحد ما يوصل خالك، وجوده أكيد هيفرق مع أمهم.
هزت رأسها بإيماءة موافقة، ومسحت بمنديلها الورقي الدموع المبللة لوجهها، قبل أن تتحرك ناحية والدتها لتطلب منها تنفيذ ما أمره بها زوجها.

من بعيد بدت له، كبؤرةٍ من الكتل البشرية المتزاحمة فوق بعضها البعض، وحين اقتربت خطواته المتخبطة من المكان، ترأى له بوضوحٍ، أنه كان حشدًا غفيرًا أتى من كل حدبٍ وصوب، لتفقد البناية التي بدت كأتونٍ من الجحيم. زاد ازدحام المنطقة بعربات الإسعاف، النجدة، والمطافئ، فأصبحت الحركة عسيرة على الغالبية. جرجر خليل قدميه نحو منزله، شخصت أبصاره وهو يرى كيف تحول المكان الذي كان يأويه فيما مضى، لركام وأطلال دُفنت فيه ذكرياته مع أحبابه. ضربات خفيفة تلقاها على كتفيه، كنوعٍ من المواساة، أثناء شقه الطريق إليه. منعه الطوق الأمني المفروض حول العمارة وما حولها من الصعود إلى الأعلى؛ لكن هذا لم يوقف صوته عن الصراخ مناديًا:.

- سمــــــاح! رقيــــــة!
لفت الأنظار نحوه، فحاوطه جيرانه، والإشفاق يبدو ظاهرًا عليهم، ربت أحدهم على كتفه يواسيه:
-شد حيلك يا أستاذ خليل.
وقال آخر بحزنٍ عميق:
-ادعيلها بالرحمة.
لم ينظر بعينيه الزائغتين نحو أي أحدٍ، بقيت أنظاره معلقة للأعلى، ولسان حاله يردد في إنكارٍ شديد، رافضًا تصديق ما حدث لهما:
-هما مماتوش، أنا كلمتهم من بدري، إنتو مش عارفين حاجة.
علق عليه أحدهم من الخلف، وهو يشاطره الأسى:.

-لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يصبرك.

بقي متبلدًا في مكانه، لا يقوى على الحركة، عيناه فارغتان، وعقله محجوب التفكير عنه، سد أذنيه عن شبيه هذا الكلام الغريب، أوهم نفسه إنها مجرد عبارات سخيفة لا معنى لها، إلى أن أفاق من صدمته، وانهار مع رؤيته لكيس الجثث الأسود، يمر من جواره، يحمله المسعفين نحو عربة الإسعاف، وصيحات التوحيد، والترحم على المتوفية ترتفع من ورائه، هزة عنيفة نالت من جسده، وأحدهم يواسيه مجددًا:
-ادعيلها يا أستاذ خليل بالرحمة.

شهق باكيًا في حسرةٍ، وهو يهتف بصوته المختنق:
- سماح لسه عايشة، هي ما، ماتتش.

تفهم المتواجدون من حوله حالته العقلية المضطربة، فقلبه اضطرمت فيه نيران الوجع، خاصة والجميع يعلم مدى ارتباطه الوثيق بزوجته، وتعلقه بطفلتهما الصغيرة، خسارة مثل تلك لا يسهل احتمالها! مرت الدقائق عليه كأنها ساعات، ازداد نحيبه مع حجم الألم المتولد في صدره، ذاك الوجع الذي لا يمكن مداواته مطلقًا، عفويًا التقطت يده هاتفه المحمول حين اهتز في جيبه، رفعه إلى وجهه، ليجيب على المتصل، صوتًا أنثويًا مكتومًا رن في أذنه:.

- خليل.
تحرك فكه لينطق بصعوبة، وسط بكائه الشديد:
-ألوو، آمنة.
سألته بنبرتها الباكية:
-إنت، فين يا خليل؟
من بشاعة المشهد وقساوته، غاب عن ذهنه بعض الحقائق البسيطة؛ عدم معرفة شقيقته بأمر زيجته الثانية، لهذا لم يكن واعيًا بالقدر الكافي، ليستوعب سبب بكائها خلال اتصالها المفاجئ به. سألها بحسرةٍ موجعة، وقد اعتقد أنها تشاركه أحزانه:
-شوفتي اللي حصل يا آمنة؟

ظنت أن الأخبار السيئة وصلت إليه، فكان سؤالها متقطعًا، مصحوبًا بوجعٍ محطم للقلوب:
-إنت، عرفت؟
أجاب عليها بنواحٍ:
-كانوا كويسين، أنا مكلمهم الصبح.
رددت على مسامعه بألمٍ كبير:
-ربنا ليه حكمة في كده.
سألها والحسرة تتوغل في كامل روحه، لتزيد من عذابه:
-هما عملوا إيه عشان ده يجرالهم؟
هتفت ترجوه بنشيجٍ:
-امسك نفسك يا خويا، مراتك عايزاك جمبها.

وكأنه تلمس بارقة الأمل في كلماتها الأخيرة، وسألها بلوعةٍ قاسية:
- سماح؟ هي عايشة؟
استغربت من هذا الاسم الغريب الذي نطق به لسانه، وصححت له بدهشةٍ طفيفة:
- سماح مين دي؟ أنا بأكلمك عن حمدية يا خليل، احنا في المستشفى وعايزينك.

كان كمن أصابته صاعقة أخرى، توقف عن الكلام، وشرد بذهنه عنها، غابت عن عينيه الصور، وبدا مشتتًا عن استيعاب أي جديد يُقال الآن، بؤبؤاه تحركا في اتجاه صاحب الصوت الرجولي الذي ناداه:
-يا أستاذ خليل...
انخفضت يده الممسكة بهاتفه المحمول عن أذنه، وصوت آمنة يهتف:
-يا خليل! إنت سامعني؟
أنهى الاتصال، ليركز مع جاره عماد الذي واساه بأسفٍ:
-شد حيلك، كله مقدر ومكتوب...
جفل بدنه بالكامل وهو يُعلمه:.

-أنا عايز أقولك إن بنتك رقية نقلوها على المستشفى، تعالى أوديك عندها.
ارتجفت شفتا خليل مهسهسًا باسمها:
- رقية!

برائحة ما زالت خانقة، محملة بالأدخنة المؤذية، استمر رجال القانون في فحص المكان، طقطقات الخشب المحترق كانت مسموعة، لكل من يخطو فوقه بحرصٍ، رغبة منهم ألا تفسد الخطوات غير المدورسة ما يمكن الاستدال عليه، لإظهار معالم الجريمة محل التحقيق. أثناء ذلك، ســار اثنان من المسئولين، تبدو على هيئتهما الخارجية أهمية منصبهما القانوني، بتهملٍ حذر على الأرضية المتفحمة، توقفا عند عتبة المطبخ، يتطلعان إليه في اهتمامٍ. تأمل وكيل النيابة، المكلف بتفقد مسرح الجريمة، ما يحويه المطبخ من بقايا هالكة، بنظراتٍ دقيقة فاحصة له، وبدأ حديثه مستفيضًا في طرح بعض الدلائل:.

-واضح كده من المعاينة المبدأية للبيت، واتجاه اشتعال الحريق، إنها بفعل فاعل، مش قضاء وقدر.
ثم انصت بعنايةٍ للضابط المسئول عن التحقيق في هذه القضية عندما ناقش معه الملابساتٍ الجديدة تم الوصول إليها:
-رجالة المعمل الجنائي قالوا إن عيون البوتجاز كلها كانت مفتوحة، في الوقت للي مكانش في أي حلل عليه.
تركزت عيناه على ما كان يبدو موقدًا من قبل، والتفت نحو الأخير الذي واصل القول:.

-ده غير في بعض السكان قالوا إنهم كانوا شامين ريحة غاز من بدري.
حاوره وكيل النيابة بهدوءٍ:
-مش بأقولك، احنا كده مضطرين نوسع دايرة الاستجواب ونسأل أهالي الحتة، جايز حد يكون شاف ولا سمع حاجة.

أشــار الضابط للوكيل بيده ليتحركا بعيدًا عن المطبخ، عاد كلاهما للردهة المتسعة، جالت أنظارهما على الأريكة التي ما زالت تحتفظ ببقايا النسيج المحترق من جسد الضحية، أشــار وكيل النيابة بيده نحوها، وأردف قائلاً بنبرته الرزينة:
-الغريبة من مكان وضع الجثة، إنها ماتحركتش، مع إن الطبيعي إنها تحاول تنقذ نفسها، أنا حاسس إن في شيء مريب في وفاتها!
نقر الضابط بسبابته على جانب وجهه، وعلق بتعابيرٍ شديدة الجدية:.

-احنا مضطرين ننتظر تقرير الطب الشرعي بعد ما يشرح الجثة.
استدار الوكيل ليواجهه، وأخبره بلهجةٍ شبه آمرة:
-عمومًا ابدأ في استجوابك للأهالي لحد ما نجمع أطراف الخيوط مع بعض.
هز رأسه بامتثالٍ مظهرًا طاعته له، واقتضب في قوله:
-تمام يا باشا.

أمام عربة الإسعاف المفتوح بابها الخلفي، جلست إلى جوار ابنتها، ولسانها يلهج بالشكر، لم تتوقف عن احتضانها، كما غمرت صدغيها بعشرات القبلات الحنون، كلما تذكرت أنها أوشكت على خسارتها، نظرت لها والدتها ملء عينيها، وهتفت تردد في تضرعٍ:
-اللهم لك الحمد والشكر يا رب، أنا مش مصدقة نفسي، ده روحي راحت مني، وافتكرتك بعد الشر عنك آ...
قاطعتها دعاء قبل أن تتم جملها قائلة:
-ربنا لطف بيا يا ماما.

ردت عليها أمها بعزمٍ:
-أنا لازم أطلع حاجة لله حلاوة نجاتك.
اشرأبت دعاء بعنقها لتحملق في الرماد الأسود الذي كسا واجهة البناية، باعدت نظراتها عنه، ودمدمت بغصةٍ آسفة:
-اللي صعبان عليا أبلة سماح، و كوكي.
هزت والدتها رأسها في أسى، وأضافت عليها:
-بيقولوا لحقوا البت، بس أمها بقى ربنا يرحمها، ويصبر أهلها على فراقها.
-يارب.

التفتت كلتاهما نحو الرجل الذي دلت ثيابه الرسمية على عمله بالسلك الشرطي، حين صاح بلهجته الخشنة:
-يا ست!
ردت عليه أم دعاء قائلة:
-أيوه يا شاويش.
أشـار بيده نحو تجمعًا على بعض خطواتٍ، وقال:
-البيه الظابط عايز يتكلم مع بنتك شوية.
سألته في جزعٍ وهي تلطم على صدرها:
-ليه؟ هي عملت حاجة؟
طمأنها بصوته الأجش:
-ده إجراء روتيني يا حاجة، بيتعمل مع كل السكان.
دون تفكيرٍ أخبرته بصوتها الحاسم:.

-طيب، أنا جاية معاها.
نظرة حائرة تبادلتها مع ابنتها، قبل أن تستعد الاثنتان للذهاب إلى الضابط، وصوتٌ مُلح يتردد في عقل الأم:
-هايكون عايز منها إيه يا ترى؟

مرت اللحظات ثقيلة ومؤلمة عليه، خلال انتظاره بالمشفى الحكومي، حيث تُعالج طفلته الناجية، ولولا وجود عماد معه، لخر جسده المتخاذل مفترشًا الأرضية القاسية، تضرع في رجاءٍ شديد أن يرأف المولى بحاله، وينجيها. نظر لوجه جاره الذي بدت علامات الإشفاق والتعاطف معه واضحة، حاول الأخير أن يهون عليه حزنه، فقال له:
-إن شاءالله خير، الدكتور دلوقتي هيطلع من جوا ويطمنا، الحمدلله إنها جت على أد كده.
غمغم في ألمٍ:.

-هو في مصيبة أكتر من كده؟
وضع يده على كتفه، وضغط عليه برفقٍ، قبل أن يخبره:
-امسك نفسك، بنتك محتاجاك.
نهج صدره بالبكاء الحارق، وظل ينوح خسارته التي لا تعوض إلى أن ظهر أمام عينيه المتورمتين رجلاً يرتدي معطفًا أبيض اللون، تساءل الطبيب في هدوءٍ، وهو يوزع نظراته بينهما:
-مين فيكو والد الطفلة رقية؟
على الفور نطق خليل بصوته الملتاع:
-أنا! هي عاملة إيه؟
تمهل في حديثه عندما خاطبه:.

-الحمدلله احنا لحقناها، لو كانت استنت أكتر من كده، الله أعلم كان ممكن يجرالها إيه، وخصوصًا إنها فقدت وعيها من كمية الغاز اللي ملى الرئتين.
ردد عماد في امتنانٍ:
-الحمدلله يا دكتور، مكتوبلها عمر جديد.
بقيت عينا الطبيب مثبتة على خليل وهو يكمل سرد ما قام به، من روتينٍ متبع مع الحالات الطارئة:.

-لازم حضرتك تعرف إننا عملنا للطفلة غسيل معدة كمان، بعد ما اكتشفنا وجود قيء على هدومها، وبقايا أكل غير مهضوم في بؤها.
بدا خليل مصدومًا مما يسمعه، ولم يستطع بعقله المشتت أن يستجمع مقصدهـ في حين عمق عماد من نظراته نحوه، وسأله بتشكيك:
-وده ليه؟
تلك المرة التفت الطبيب نحوه، ليجاوبه مفسرًا، بنبرة هادئة مضبوطة:.

-كان لازم نعمل اللازم مع حالتها الحرجة، وبعد التحليل الأولي للعينة، من الواضح إن هي عندها حساسية لمادة اللاكتوز، وكلت حاجة فيها منتجات ألبان بكمية كبيرة، حفزت خلاياها ضده، وطبيعي إن جسمها يتفاعل بالعكس مع مادة مش متجاوب معاها، ده غير إن في مواد تانية كانت موجودة ضمن العينة، دكاترة المعمل بيحللوها، ووقت ما تطلع النتيجة هاعرفك.
تساءل عماد في حيرةٍ:
-طب ده يأثر عليها؟
كان كلامه محايدًا عندما رد:.

-هنشوف، الطفلة محطوطة تحت الملاحظة حاليًا، وغير مسموح بزيارتها.
ألح عليه عماد بسؤاله، وهو يمسح بيده على ظهر خليل:
-يعني أبوها مش هايعرف يشوفها؟
نظر له بجديةٍ قبل أن يصبح تعبيره رسميًا:
-دلوقتي لأ، بس هنحتاجه يكون موجود عشان باقي الإجراءات الخاصة بالمحضر.
دون تردد أتت جملة عماد حاسمة:
-احنا مش رايحين في حتة يا دكتور.
جاء تعليقه عليه كنوعٍ من المواساة:
-ربنا يطمنكم عليها.

انصرف الطبيب بعدها ليتابع عمله، فاستدار خليل نحو جاره واضعًا يده على ذراعه، وجد نفسه يقول له، بما يشبه التوسل:
-بنتي يا عماد، مش عارف أساعدها.
هتف يطمأنه بتريثٍ، عله ينجح في التخفيف مما يعانيه:
-الدكتور قال هتبقى كويسة.
زاد من توسله له قائلاً:
-عايز أشوفها، وديني عندنا
شد جاره من أزره قائلاً بتفاؤل رغم كبر حجم الفاجعة:
-هتشوفها والله، بس يطمنونا عليها الأول.

تهدل كتفا خليل، وانحنت قامته، استند بظهره على الحائط، عله يمنحه الدعم ليقف ثابتًا، جلجل صوته المتضرع راجيًا:
-استرها معاها يا رب.
ومع مواصلته للدعاء المستجدي، لم يعبأ بالرنين المزعج –والمتكرر- الأتي من هاتفه المحمول، نبهه له جاره بهدوءٍ، علَّ الاتصال القادم يحمل أمرًا هامًا له:
-تليفونك بيرن يا أستاذ خليل.

انتشله من شروده المعبق بأحزانٍ لا تنتهي، ليجيب عليه بعد أن قرأ اسم زوجته الأولى فيه، أجلى صوته الكئيب، ليعتذر منها، بصوته الذي ما زال مختنقًا:
-أيوه يا حمدية، معلش أنا مشغول جامد دلوقتي، مش هاعرف أجي وآ...
قاطعته بهديرٍ، جعلت ما تبقى من روحه ينسحق:
-ولادك ماتوا يا خليل، سامعني، ماتوا وراحوا مننا خلاص.

خُيل إليه أنه أصيب بالصمم وصراخها المؤلم يكرر نفس الكلمات القاتلة عليه، تدارك نفسه وسألها بقلبٍ ينقبض بعنفٍ مُهلك:
-إنتي بتقولي إيه؟ عيال مين؟ إنتي بتخرفي يا ولية؟
هدرت به بجنونٍ:
-ربنا خدهم عشان ترتاح، ها برضوه مش هاتيجي يا خليل؟
توالت الكوارث عليه، كل واحدة أعظم في شدتها من الأخرى، تقطع صوته متسائلاً بقلبٍ يتمزق إربًا:
-إيه الكلام ده؟ إنتي بتقولي إيه؟

عويلها الممتزج بنحيبها اخترق طبلتيه عندما أعادت عليه:
-ولادنا ماتوا، مااااااتوا!
تضاعفت رجفة شفتيه، وشعر بتلك الوخزات المميتة تنخر في ضلوعه؛ كأنها تقطعه، قبض بيده على صدره، يحاول إسكات الألم المبرح الذي عصف به، سأله عماد في جزعٍ، بعد أن رأى الشحوب المخيف على بشرته:
-في إيه يا أستاذ خليل؟

سقط فاقدًا لوعيه، بعد أن عجز عقله المستنزف، على التعامل مع كم الأخبار المشؤومة التي نال نصيبه منها في يومٍ واحد، حاول عماد الإمساك به، وصاح مستنجدًا بمن حوله:
-يا دكاترة! يا ممرضين الحقونا!

حك فروة رأسه بأصابعه، لينشط عقله الثقيل، بعد أن زحف النعاس إليه، ثم فرقع فقرات عنقه، بتحريكه للجانبين، والتفت ساحبًا ورقة أخرى، لينقل بياناتها بدقةٍ على جهاز الحاسوب الألي الموضوع أمامه، كما تنص مهمات وظيفته الحكومية، على تسجيل المعلومات أولاً بأول، فور ورودها إليه، على الشبكة العنكوبتية، لتبقى المعلومات مُحدثة باستمرار. رفع بصره عن شاشته، ليتطلع إلى زميله الذي ولج إلى الغرفة قائلاً بنبرته الآسفة:.

-هو إيه اللي حاصل في البلد اليومين دول!
سأله الأول مستفهمًا:
-خير، في جديد ولا إيه؟
أجابه بوجهٍ عابس، وهو يناوله ورقة صغيرة:
-3 عيال ماتوا بتسمم.
تقلصت عضلاته في ضيقٍ، وردد بنوعٍ من الدهشة:
-يا ساتر.
أضاف زميله بتعابيرٍ مصدومة؛ وكأنه ينقل سبقًا صحفيًا:
-وكمان من عيلة واحدة!
تمتم الموظف بنبرة مشفقة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يصبر أهلهم.

وضعها على سطح المكتب، وحرك الفأرة نحو أيقونة ما على شاشة حاسوبه، ليفتح قاعدة البيانات الخاصة بالمرضى، وبدأ في طباعة الأسماء من خلال لوحة المفاتيح. حضر إليهما أحد الموظفين، وسلم إليهما ورقة جديدة، ليُملي عليه زميله، وهو يضعها فوق الأوراق:
-طيب سجل عندك كمان حالة تسمم تانية في مستشفى (، )
نفخ الموظف في سأمٍ، قبل أن يتحول للتعقيب الناقم:
-برضوه؟ معدتش في ضمير عند الناس ولا إيه؟

استغرق في طباعة الأحرف بتباطؤ، ليسحب بعدها الورقة الجديدة، وبدأ في قراءة ما دوّن فيها، اعترت الدهشة ملامحه، وهتف بعفويةٍ، وسبابته تفرك جبينه:
-غريبة أوي!
تساءل زميله بفضولٍ:
-في إيه؟
أخبره وهو يرفع الورقة إليه:
-اسم البت شبه أسامي الـ 3 عيال اللي ماتوا.
دقق النظر في اسم الطفلة صائحًا بذهولٍ مُحير:
-إيه ده بجد؟
أكد على كلامه قائلاً:
-أه والله
هتف زميله مُصرحًا، والدهشة تفترش قسماته:.

-لأحسن تكون أختهم.
ضاقت عينا الموظف في ألمٍ، قبل أن يعلق:
-أوبا، ده كده صعب أوي، زمان أبوهم وأمهم هيجرالهم حاجة.
تنهد زميله مرددًا:
-ربنا يسترها على عيالنا.
استعاد الموظف الورقة منه، واستكمل تدوين الاسم في خانة المخصصة له، وهو يطلب منه بلهجةٍ تبدلت للجدية:
-طب حاول تجهز الإخطارات عشان نسلمها للعسكري، بدل ما يجي المدير يسمعنا كلمتين بايخين.
أمن برأسه عليه، مختتمًا ثرثرته معه:.

-على طول أهوو، ما الغربال الجديد ليه شدّة.

تطلعت إلى طبقها الذي لم تمسه يدها بنظراتٍ منزعجة، خشيت أن تكون ابنتها قد عدلت عن قرارها، واستسلمت لمشاعرها البائسة مجددًا، تلك المشاعر أحادية الجانب، والتي لا تجني منها سوى التعاسة والشقاء. زفرت بثينة على مضضٍ، ونظرت إليها بعينين تعكسان نقمها، ثم سألتها بوجهٍ مكفهر:
-مش هاتكلي برضوه؟
رفعت خلود عينيها إليها، وأجابت بصوتٍ لا يخلو من الفتور:
-ماليش نفس.

هتفت بها والدتها تسألها بنوعٍ من اللوم، وهي تسدد لها نظرة ساخطة:
-هنرجع تاني نِحن؟
تحدثت من زاوية فمها قائلة بوجومٍ:
-لأ يامه اطمني، معدتش في رجوع، أنا خلاص عقلت.
أحست بالارتياح يتخللها بعد تصريحها هذا، فقالت بحماسٍ انعكس على نبرتها، وظهر بريقه في نظراتها نحوها:
-أيوه كده، وصدقيني بكرة هاجوزك سيد سيده، بس نفوق من اللي احنا فيه.
احتجت بغلٍ اِربد به وجهها:.

-لأ مش عايزة أتجوز، أنا عايزة أخلي عيشة تميم مرار، مايشوفش في حياة لحظة هنا.
أكدت عليها والدتها بنظراتٍ برقت بوحشيتها:
-هايحصل.
نهضت خلود عن المائدة تقول لأمها، بجمودٍ صار تعبيرها الملازم لها:
-أنا هاقوم أفرد جتتي جوا.
ردت في استحسانٍ، وهي تجمع صحون الطعام:
-وماله يا حبيبتي.

كان الوقت متأخرًا لتستقبل زيارة فيه، لهذا حينما سمعت الدقات الخفيفة على بابها استرابت في الأمر، تحركت نحوه متسائلة مع نفسها:
-ده مين اللي جاي السعادي؟
ارتفع حاجباها للأعلى في صدمة يشوبها الخوف، عندما رأت محرز واقفًا بشحمه ولحمه، على عتبها، واللا خوف سائد عليه، بلعت ريقًا غير موجود في حلقها، لتلاحقه بأسئلتها؛ ولكن بصوتٍ خفيض:.

- محرز! إنت بتعمل إيه هنا؟ وجيت إزاي؟ دول قالبين عليك الدنيا، وجايز يمسكوك.
قال بهدوءٍ رغم خفوت نبرته، ونظرة واثقة تلمع في عينيه:
-ماتخفيش يا خالتي، أنا مأمن نفسي...
شعرت بتسارع نبضاتها، خاصة مع همسه القائل:
-مش هاتقوليلي اتفضل.
واربت الباب على قدر المستطاع، لتطل برأسها من فُرجة ضيقة، وأخبرته بنبرة مهتزة، جاهدت أن تكبت خوفها فيها:
-البت خلود جوا، وجايز تاخد بالها.
تفهم حرصها، وقال مباشرة:.

-ماشي، مش هاطول عليكي، أنا محتاج فلوس، عايزك تدبريلي قرشين كده يمشوني الأيام الجاية.
تحججت إليه بعذرٍ واهٍ لم ينطلِ بالطبع عليه:
-ما إنت عارف البير وغطاه.
صعد الدم الحانق إلى وجهه، لكونه على يقين كامل بكذبها، أخبرها بصوتٍ رن فيه التحذير:
-يا خالتي الكلام ده يخيل على أي حد غيري، ده احنا دفنينه سوا، الفلوس عندك زمانها بقت أكوام.
أصرت على كذبها الملفق قائلة:
-أونطة، هو في حاجة بتفضل يا محرز؟

أوجز في مماطلتها غير المقنعة بإخبارها بغلظةٍ، ونظرة باعثة على التهديد تنطلق من حدقتيه:
-أنا مش هلوك لوك كتير معاكي، يومين وهارجعلك تكوني اتصرفتيلي في مبلغ محترم، وإلا هتطربأ على دماغك قبلي يا ست الحاجة.
استبد بها الخوف من طريقته المُوحية بعنفٍ وشيك، ورجته:
-وطي صوتك يا محرز.
كرر عليها تحذيره بوجهه الغائم:
-ماتنسيش، هاعدي عليكي تاني.
صرفته على عجالةٍ بترديدها:
-طيب، طيب، امشي بقى.

رد وهو يخفي وجهه خلف وشاحٍ من القماش الأسود:
-سلام.
راقبته وهو يهبط الدرجات في خفةٍ، ليختفي مثلما جاء خلسة، أغلقت الباب بحذرٍ، حتى لا تحدث الكتلة الخشبية صريرًا ينبه ابنتها، ابتعدت عنه تبرطم مع نفسها في تبرمٍ، رافضة توريط نفسها معه، أو حتى تهديده الضمني:
-هو أنا كنت نقصــاك؟!

معاملته لها، يُمكن أن توصف على أقلِ تقدير، بأنها ازدرائية مفعمة بالاحتقار، ومع هذا تقبلتها منه مرغمة، ليس لأنها شخصية ضعيفة، تجعل غيرها يتغذى على إذلالها؛ ولكنها وسيلتها المتاحة، لخداعه بالحيلة والمكر، مثلما اتبع معها هذا الأسلوب الخسيس، للإيقاع بها في شباكه الدنيئة. دون حياءٍ أو حتى ذرة حرجٍ، استعرض آسر قبالتها واجهة موقعه الإباحي؛ وكأنه يتباهى بإنجازٍ خطير، شعرت بالغثيان يضرب معدتها، عندما قال بتفاخرٍ:.

-شايفة العظمة يا حبيبتي.
أبعدت فيروزة عينيها قبل أن تختطف نظرة غير مقصودة نحو ما تبثه الفيديوهات، لتعلق بتقززٍ:
-ده قرف.
استفزه كلامها، فقال مُعقبًا بسخافةٍ:
-القرف ده، هو اللي بأكلك منه يا بيبي
قاومت رغبة مُلحة في شتمه، وردت تسأله بوجهٍ ملامحه تعكس استحقارها له:
-إزاي قادر تعمل كده؟ مش خايف من ربنا؟
لمحت نظرة عداء في عينيه، عندما هتف بها بصوته الرخيم، والذي سعي ليكون غير مبالٍ:.

-أنا مش هاعيش غير مرة واحدة بس...
حاول أن يثير مخاوفها، والتمتع برؤيتها ذليلة، فأضاف بانتشاءٍ:
-ده غير إن الفيديو بتاعك محطوط هنا، إيه رأيك لو أعرضه؟ تفتكري هايجيب مشاهدات أد إيه؟!
نظرة جريئة لا تخلو من وضاعة نكراء رمق بها مفاتنها، قبل أن يضيف مهينًا إياها، وقاصدًا الإشارة لما اعتبره أنوثتها المنقوصة:
-مع إن البضاعة مغشوشة، وماتسحقش إلا نص قيمتها!

باغتها بتهديده الوقح، فحدقت فيه بنظراتٍ متسعة في غيظٍ يُصاحبه القلق، استثار أعصابها بتلاعبه بأصابعه على لوحة المفاتيح؛ وكأنه حقًا سينفذ ما قاله، شعرت بالدم المشبع بغضبها يتدفق بقوةٍ إلى رأسها، فلم تتمكن من كبح رغبتها في تحطيم حاسوبه النقال على رأسه، وبتحفزٍ واضح عليها، أمسكت فيروزة بفنجانِ القهوة، وفي لمح البصر أفرغته على جهازه لتفسده، انتفض مع تصرفها المفاجئ، وصرخ بها بشراسةٍ استبدت به:.

-إنتي عملتي إيه؟
توقعت أن تتلقى جزاءَ رعونتها، ولم تأبه بذلك؛ لكن لم يعد ما يحيق بها من إيذاء بدني مهم، أي شيء أمام حماية نقاء شرفها يهون! لتحيا بعفتها عاليًا؛ وإن كان يعني فنائها، وليهلك النجس بمفرده، مُلطخًا بقاذوراته...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة