قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل التاسع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل التاسع

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل التاسع

محادثة غير مقصودة بين اثنتين من الممرضــات أثناء تجولهما بالردهة، بجوارها، دون أن تنتبه أيًا منهما، لكونها الوالدة المكلومة. تكلمت كلتاهما بعفويةٍ عن وفاة الأخوة الثلاثة جراء تلك المادة المسممة، حينها استقامت حمدية في وقتها، وقد أرهفت السمع لحديثهما العابر، اندفعت نحوهما تعترض طريقهما، وهتفت متسائلة بقلبٍ مفجوعٍ، ويدها تتشبث بذراع الأقرب إليها:
-إيه اللي بتقوليه ده؟

انزعجت الممرضة من طريقة إمساكها القاسية، نفضت قبضتها عنها، وعلقت متسائلة بقليلٍ من الحدة:
-في إيه يا مدام؟
صرخت بها حمدية بوجهٍ تضاعفت حمرته الحانقة:
-هو عيالي ماتوا؟ ردي عليا، عيالي ماتوا؟
شعرت الممرضتان بالأسف عليها، والحرج من تماديهما غير المحسوب في الحوار عن الضحايا، بادرت زميلتها تواسيها:
-ربنا يصبر قلبك.

وجهت أنظارها نحوها، وحدجتها بنظرة أشد شراسةٍ، قبل أن تشتبك معها بالأيدي، وصوت صراخها يجلجل في الردهة:
-إنتي بتقولي إيه؟ عيالي لسه عايشين.
تعاملت كلتاهما برأفةٍ وحذرٍ معها، وحاولتا تهدئتها قدر المستطاع، وهما تتفهمان أن للخبر الصادم وقعًا قاسيًا على أعصابها، أردفت الأولى تدعو بحزنٍ لصغارها، والكلمات في تلك المواقف لا معنى لها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يرحمهم.

نهج صدرها، وانسابت دموعها المحترقة تغرق كامل وجهها، وزعت نظراتها الملتاعة بينهما، وصرخت في إنكارٍ شديد، رافضة تصديق حقيقة خسارتهم للأبد:
-أكيد إنتو غلطانين، عيالي بخير، محصلهمش حاجة، أنا سيباهم بيلعبوا وبيجروا ورا بعض...
قاطعتها الممرضة تقول في أسى:
-دي مشيئة ربنا.
تبدلت نبرة حمدية للغلظة، ونفضت الأيادي الرابتة عليها، لتهدر بهما بخشونةٍ:
- خليل جوزي هيجي يعرفكم مقامكم، إنتو عالم ملاوعة!

وقبل أن تفكر الممرضة في الرد عليها، مالت عليها زميلتها تطلب منها:
-ماتكلميهاش، ربنا يكون في عونها.

تنحت الاثنتان للجانب متجاوزتان عن تصرفاتها العدائية نحوهما، رفضتا التدخل أو التعامل بالمثل، لتقديرهما الشديد للحالة المقهورة المستبدة بها، في حين أسرعت حمدية بإخراج هاتفها المحمول من حقيبتها، بحثت عن رقم زوجها لتهاتفه، وضعت الهاتف عن أذنها، مشحونة بكل مشاعر الحزنن الغضب، الألم، والانكسار. جاءها صوته مختنقًا، يبدو من يستمع إليه للوهلة الأولى مصابًا بالزكام، عندما اعتذر منها:.

-أيوه يا حمدية، معلش أنا مشغول جامد دلوقتي، مش هاعرف أجي وآ...
استوعب عقلها أن التغيير السائد في صوته، ليس طبيعيًا، بل لسبب آخر تعلمه جيدًا، وإن ادعت تناسيها له، استفزها عزوفه عن سماعها، واستشاطت غضبًا من هروبه الدائم من التعامل معها، فقدت أعصابها المستثارة، وقاطعته بهديرٍ، جعلت ما تبقى من روحه ينسحق:
-ولادك ماتوا يا خليل، سامعني، ماتوا، وراحوا مننا خلاص.

واصلت عويلها الهائج به، تكرر تلك الكلمات القاسمة للأظهر، حتى لم تعد تسمع صوت أنفاسه، فأنهت المكالمة، وبدأت فاصلاً جديدًا من الصراخ الجنوني، رن صداه في جنبات المكان، فأثارت الرعب في المتواجدين. وعلى إثر هديرها الصاخب، هرولت آمنة في اتجاهها، تسألها بصدرٍ ملتاع، وهي تدعو الله بقلبها ألا تكون ظنونها صحيحة:
-في إيه يا حمدية؟
التفتت نحوها تخبرها بحرقةِ قلب أمٍ:
-عيـــالي ماتوا، مــــاتوا.

شهقة جارحة للحلق وجدت طريقها في جوفها، تبعها همهمتها المذهولة، والدموع تتقافز بكثافة في حدقتيها:
-إيه؟!
شقت حمدية عباءتها، لتلطم على صدرها بقوةٍ، قبل أن تتحول للطم وجهها، وهي تندب وفاة أبنائها، بصوتها الصارخ:
-يا حـــرقة قلبي عليكم يا ضنايا.
تهاوى جسد آمنة، وبحثت عن أقرب مقعد لتسقط ثقل جسدها عليها، وهي تبكيهم:
-آه يا ولادي!

أظلمت عينا حمدية، وبدت مغيبة عن إدراكها، لتهجم بعدائية على شقيقها زوجها، تتهمها في مفاجأة صادمة لكل الحاضرين:
-إنتي السبب، إنتي اللي قتلتيهم!
وسط ذهولها المفجوع، نظرت إليها آمنة في دهشة، وعبراتها تتسابق على صدغيها، رددت في ذهول بصوتها الباكي، معتقدة بأن لغوها غير الواعي يقصد أحدًا غيرها:
-أنا؟ إيه الكلام ده؟

تعلقت بطرفي ياقة عباءتها، جذبتها بشراسةٍ منهما، لتجعلها تقف على قدميها، هزتها بعنفٍ، ثم استدارت بها نحو الناحية الأخرى، لتقول بعدها بصراحةٍ، ووضوحٍ لا يدع أي مجالٍ للشك:
-عملتي كده ليه فيهم يا آمنة؟ حرام عليكي، بتكرهي عيالي للدرجادي؟
نفت عنها هذا الاتهام المخيف بترديدها المذعور:
-أنا معملتش حاجة.
لامتها بكل ما فيها من حرقةٍ وغضب:.

-عيالك لو مكانوش بيحبوا ياكلوا من إيديكي مكانوش ماتوا، إنتي اللي عملتي كده فيهم، إنتي خلصتي عليهم!
ظلت تلقي بالاتهامات في وجهها، حتى كاد يصدق من يسمعها أنها متورطة بالفعل في مقتلهم، ومع الفوضى والضجيج اللافت للانتباه، ركضت همسة في اتجاه الاثنتين، تحاول الفصل بينهما، متلقية بجسدها ضربات غادرة من زوجة خالها، وهي تصيح بها، بنوعٍ من الدفاع الغريزي عن والدتها:.

-سيبي ماما، هي مالهاش ذنب، دي حبيتهم أكتر منك.
لحق بها هيثم، وشكل هو الآخر بجسده حائلاً يفصل الجميع عن التطاول بالأيدي، في حين هدرت حمدية بتشنجٍ حانق، محاولة تجاوز الممرضات الممسكات بها:
-إنتي وبناتك بتكرهوا عيالي، جبتي أجلهم يا ظالمة! يا مفترية!
ردت عليها آمنة محاولة انتشالها من جنونها غير العقلاني:
-يا حمدية فوقي، إنتي بتتكلمي إزاي؟

ارتفعت نبرتها أكثر، حتى جرحت أحبالها الصوتية، خلال صراخها المحمل بالاتهامات:
-يا نــــاس قتلت ولادي، حرمتني منهم، منك لله يا آمنة، ربنا يحرق قلبك زي ما خدتي مني عيالي.
هتفت ممرضة ما من الخلف، مبررة تصرفات المرأة المكلومة:
-الست من صدمتها اتجننت...
أضافت أخرى عليها بعزمٍ:
-أنا هنادي على حد من الدكاترة يتعامل معاها، بدل ما يجرالها حاجة من القهرة.

ترجتها ثالثة، وهي تكافح للسيطرة على تشنجاتها العصبية:
-أوام الله يكرمك.

رغم بقائه لفترة طويلة بمفرده، إلا أنه لم يتذمر، اعتبر وجوده في المشفى، نوعًا من الواجب الذي تفرضه قوانين الجيرة الودية، بين أهالي المنطقة الواحدة. جلس في منطقة الانتظار، يتابع كل برهة المستجد بشأن حالة خليل، وكذلك طفلته، آملاً خلال ذلك أن يتواصل معه أحد معارفه، ممن تلقوا الأخبار السيئة. رفع عماد جسده عن مقعده المعدني، ليتمكن من إخراج هاتفه المحمول من جيبه، أجاب على اتصال زوجته التي هرعت تسأله بتوجسٍ محسوس في صوتها:.

-إنت فين يا عماد؟
علق بتبرمٍ على سؤالها السخيف:
-في المستشفى يا ستي، هاكون فين يعني؟
هتفت بنبرة مزعوجة:
-كل ده؟ إنت اتأخرت أوي!
أخبرها بزفيرٍ مرهق:
-ما هو الراجل طبّ واقع من طوله قصادي، وبنته ربنا يتولاها بقى.
سألته في اهتمامٍ، وقد بدت متفهمة للموقف:
-طب وهتعمل إيه؟
لحظة من الصمت تخللت حديثهما، ليقول بعدها بحيرةٍ بائنة:.

-مش عارف، أكيد مش هاسيبه لوحده في الظروف دي، وبأحاول أوصل لحد من أهله، بس موبايله مقفول برقم سري.
تمتمت في كلماتٍ متأسفة:
-ربنا يصبره على ما بلاه
رد باقتضابٍ:
-يا رب...
ثم طلب منها بصيغة بدت شبه آمرة:
-بأقولك إيه ودي العيال عند أمك، وتعالي عندي.
استغربت من طلبه، وسألته:
-ليه ياخويا؟
ببساطةٍ جاء رده عليها مليئًا بالرحمة والعطف:
-مش هانسيب البت رقية لواحدها، هي عايزة حد أكيد معاها.

مصمصت شفتيها قبل أن تعقب عليه:
-عيني عليها، حاضر يا عماد، هالبس وألبس العيال، وأبقى عندك، مهما كان أمها الله يرحمها كانت زي البلسم وست عِشرية.
أمرها بهدوءٍ لا يخلو من الجدية:
-خدي تاكسي، بلاش مكروباصات عشان تنجزي.
كان ردها مريحًا له عندما نطقت بإيجازٍ:
-طيب، على طول ياخويا.

أنهى الاتصــال معها، وتطلعت إلى الهاتف الآخر الذي بيده، محاولاً العبث في أزراره، عله يتمكن من فتحه، حيث احتفظ بهاتف خليل المحمول، بعد أن تم نقله للطوارئ، للتعامل مع حالته الحرجة. انتفض في جلسته، وقد رأه يهتز برقمٍ غريب، أجاب عليه دون تفكيرٍ، ليستمع لصوت أحدهم يقول:
-ألوو، أيوه عم خليل.
صحح له عماد بعد نحنحة خفيفة:
-لأ أنا صاحبه، إنت مين؟
شعر بلمحة من الاستغراب في نبرته عندما خاطبه:.

-أنا هيثم جوز بنت أخته، لو هو جمبك خليني أكلمه.
اعتذر منه عماد بحرجٍ:
لا والله، ده وقع من طوله بعد اللي حصل لمراته وبنته
ردد مدهوشًا:
-مراته وبنته!
تعجب من استغرابه، وأطلعه بإيجاز على تفاصيل الحادث المؤسف:
-هو إنتو مادرتوش، البيت ولع بيهم من شوية، وبالعافية لحقنا رقية بنته.
سكوت متردد ساد للحظاتٍ معدودة، قبل أن ينطق هيثم أخيرًا:
-طب هو موجود عندك فين؟
منحه عنوانه موضحًا:.

-في مستشفى (، )، اللي جمب (، ).
علق عليه هيثم بصوتٍ واجم:
-خلاص عرفتها، أنا مسافة السكة وهاكون عندك.
هتف بصدرٍ شبه منشرح:
-في انتظارك يا أستاذ.
أكد عليه هيثم مجددًا:
-جايلك على طول.

استغل وضعها تحت تأثير المواد المهدئة، بعد انهيارها العصبي، ليترك زوجته ووالدتها في المشفى معها، ريثما يُقابل ذلك الغريب الذي أخبره، بالجديد والصادم من الأخبار، أرجئ كالعادة ما عرفه مُصادفة، إلى أن يلم بالتفاصيل. التقى هيثم بـ عماد الذي لم يتوانَ عن إطلاعه بكل شيء، يخص الحادث، وكيف انتهى الأمر برقوده طريح الفراش. أخفى اندهاشه من براعة خليل، في تخبئة مسألة زيجته الثانية لسنوات، وخاصة عن زوجته اللئيمة حمدية، ولولا وقوع هذا الحادث، لما عَرف أحدهم عنه، ولبقي زواجه في طي الكتمان.

لاحقًا اتجه مع الجار إلى الطبيب لمقابلته، فقال الأخير بجديةٍ، تضمنت تحذيرًا صريحًا:
-المريض هايتحط تحت الملاحظة؛ لكن لازم تبقوا عاملين حسابكم للأسوأ.
تساءل عماد بنبرته المهتمة:
-يعني إيه؟ أنا مش فاهم؟
التفت الطبيب برأسه نحوه، وقال:
-هو اتعرض لجلطة دماغية، ودي حاجة مش بسيطة...
تأكد من متابعة الاثنين لحديثه، قبل أن يكمل جملته:
-من توابعها إنها بتسبب شلل نصفي.
ردد هيثم بأسفٍ:
-يا ساتر يا رب.

وقال عماد في حسرةٍ:
-هو الراجل ناقص، لا حول ولا قوة إلا بالله.
تابع الطبيب كلامه:
-احنا مش هانقدر نحدد مدى الضرر الحالي، إلا لما يفوق.
أثنى هيثم على مجهود الطبيب قائلاً:
-متشكرين لتعبك يا دكتور.
علق في امتنانٍ:
-ده واجبي يا فندم، وربنا يطمنكم عليه.
-يا رب
قالها عماد وهو يلتفت ناظرًا إلى هيثم ليسأله:
-شوف هتعمل إيه يا أستاذ معاه.
شردت نظراته عنه لثوانٍ، ليأتي رده بعدها، مغلفًا بتوترٍ مضاعف:.

-أكيد هاعرف أهله...
ثم انخفضت نبرته، مستكملاً عبارته؛ وكأنه يُحادث نفسه:
-وربنا يستر من اللي جاي.

تأتي المصائب الجسام لتظهر معادن الرجال؛ وكان هو أحد هؤلاء الأشداء، رغم ماضيه المليء بالسقطات، تجاوز عن هفواته، وخط لنفسه طريقًا مستقيمًا، ما زال ملتزمًا بالسير فيه، متعهدًا لنفسه ألا ينحرف عنه، فكان لها ولعائلتها نعم السند في وقت الأزمات. تحركت همسة مع زوجها إلى مدخل المشفى الراقد به خالها، قدرتها على الكلام بدت مفقودة، وأي حديث يُمكن أن يُقال بعد الخسائر التي لا عوض؟ تصدع ما كان يمسك بالأسرة بوفاة الصغار، وبات الأبوان على شفير الجنون، مسحت مجددًا عبراتها التي لم تنضب بعد، لتتطلع إلى هيثم الذي طلب منها بهدوءٍ:.

-امسكي نفسك يا همسة، خالك مش مستحمل.
ردت بألم شديد:
-ومين فينا قادر؟ إذا كان أمهم اللي طول عمرنا بنعتبرها معندهاش إحساس، كانت هتموت نفسها، ما بالك هو!
قال في أسفٍ، مقاومًا الغصة الحارقة في حلقه:
-دي مشيئة ربنا، وخلينا نشوفه هو عامل إيه دلوقتي.
بإيماءةٍ موافقة قالت:
-طيب.

أشــار لها إلى حيث توجد غرفته، بعد أن تم إيداعه في إحدى حجرات الرعاية الفائقة، لم يستطع هيثم أن يخبرها بعد بمدى سوء حالته الصحية، جراء الجلطة الدماغية التي تعرض لها، والتي حتمًا ستترك أثرها السلبي على جسده، تقدم في خطواته ليسبقها، ثم ولج إلى الداخل، ملقيًا نظرة سريعة على الرجل المستلقي على الفراش، في حالة جمود، رغم رؤية الدموع المبللة لوجهه.

رغمًا عنها انفلتت منها شهقة متحسرة، فشلت في كتمها، تبعتها بشهقات متقطعة مختلطة بنواحها، دنت من فراشه، وواسته بنحيبها الباكي:
-شد حيلك يا خالي.

بصعوبةٍ حاول خليل إدارة وجهه ناحيتها، وحينما تمكن من هذا، نظر لها بعينين تسبحان في أنهرٍ من الدموع المقهورة، رأته يُجاهد لتحريك فكه حتى ينطق، فزاد إشفاقها على مصيبته الأخرى. همس متلعثم خرج من بين شفتيه، يرجوها بأحرفٍ متقطعة، وفي عينيه نظرة استجداءٍ تحرك المشاعر المتبلدة:
- ر، قـ، يــ، ة بـ، نتـ، ي!
أمعنت النظر فيه، فكرر نفس الكلمات المقتطبة على مسامعها، مع إضافة:
-ما، تسيــ، بهــاش.

استوعبت رغبته في رعاية طفلته اليتيمة، والمتواجدة معه في نفس المشفى، لترد مؤكدة له، وهي تكفكف عبراتها:
-حاضر يا خالي، متقلقش عليها، كل اللي إنت عايزه هاعمله.

رأته يبذل ضعف جهده ليرفع ذراعه للأعلى، حركته كانت بطيئة للغاية، تثير الحزن العميق عليه، ذاك الذي كان يرفع ذراعه لينهال بالضرب عليها وعلى توأمتها، متباهيا بقوته، الآن يعجز عن بسطها، امتدت يدها لتمسك بكفه المرتعش، واحتضنته بأناملها، نظرت له عن قرب بنظرات مليئة بالدموع، أوصاها مجددا بصوت ثقيل للغاية:
-بــ، نتـ، ي!
هزت رأسها بإيماءات متتالية، وهي تعقب عليه:
-متخافش عليها يا خالي.

وسط بكائها الحارق، تخيلت أنها رأت ابتسامة ارتياح على شفتيه الجافتين، ارتخت عضلاته المتشنجة، ليسكن كما كان، جسدًا هامدًا، يحوي أحزانًا، لا حسر لها.

-عامل إيه يا صاحبي؟
تساءل منذر بتلك الجملة المهتمة، وقد سحب مقعده، ليجلس على مسافة قريبة من فراش رفيقه المقرب، لينفرد به قبل أن يلتقي بعائلته. هز الأخير رأسه بإيماءة راضية، ثم جاب بنظراته على جسده المتعب، وعيناه تعبران عن ضيقه الشديد، ليقول له بعد زفيرٍ طويل، بقلةِ حيرة:
-أهوو، زي ما إنت شايف لا عارف أتحرك، ولا قادر أقوم أجيب حقي بإيدي.
ربت على ذراعه قائلاً له بتفاؤلٍ:
-فترة وتعدي...

ثم غمز له بكلماتٍ موحية، تدل على علاقة متينة:
-وبعدين احنا إيديك ورجليك.
شكره بمحبةٍ صافية:
-تعيش يا غالي.
تنحنح منذر بصوتٍ خفيض، ثم أسبل عينيه نحوه، ليضيف بنوعٍ من التردد:
-أنا عندي ليك كام خبر كده، بش مش ولابد.
تحفز تميم في رقدته، وتساءل بقلقٍ:
-خير؟
قال بوجهٍ ممتعض، ونظراتٍ منزعجة، أشارت لضجره:
-واحد من رجالتنا شاف الكلب محرز وهو طالع عند بيت خالتك، مكملش دقايق، وخلع قبل ما يمسكه.

استاء من سماعه لذلك، وهتف متسائلاً في حنقٍ:
-وهو راح هناك ليه؟ إيه اللي بينه وبينها؟
بحذرٍ تحرك فكه لينطق، دون أن تخلو نبرته من الغموض:
-بص، في الأول هتستغرب زيارته ليها؛ لكن لما تعرف من اللي احنا وصلناله، هتفهم ليه راحلها.
صاح بنفاذ صبرٍ، وقد استبدت به شكوكه، حول وجود علاقة مريبة، تفاصيلها غير متضحة المعالم بعد:
-قول يا منذر على طول، ماتكلمنيش بالألغاز.
منحه التفسير القاطع، بقوله المباشر:.

-خالتك هي شريكة محرز في الدكان التاني بتاعه، ومن زمان.
انعكس استهجانه على ملامحه التي تحولت للقساوة، وسأله مستنكرًا:
-نعم، إيه الكلام ده؟!
ضغط على شفتيه قليلاً، قبل أن يخبره بضيقٍ:
-احنا اتفاجئنا زيك، بس ورق الدكان باسمهم هما الاتنين.
دمدم في غضبٍ لاعنًا كليهما:
-يا ولاد الـ...
تابع منذر حديثه بمنطقيةٍ:
-فماتستعبدش علاقتهم المدارية ببعض، مصالح وشغل وفلوس.

غامت ملامح رفيقه، وزحف الحنق على نظراته، عندما غمغم في غيظٍ:
-ده أنا كنت مغفل كبير أوي.
رد عليه محاولاً التخفيف من وطأة الأمر عليه:
-محدش كان يعرف، بس أكيد إنت فاهم إنه راحلها عشان يسلك قرشين منها يمشي بيها نفسه
في تهكمٍ ساخط علق عليه:
-أه طبعًا، ما هي الخزنة بتاعته.
ربت منذر من جديد على جانب ذراعه، وأكد عليه بلهجته الحاسمة:
-عمومًا المرة الجاية لو راح عندها هيلاقينا مستنينه
.

وداعة لطيفة من المحقق الشرطي، تعامل بها مع الطفلة، أثناء محاولته استجوابها، لمعرفة كيف وقعت الحادثة المؤسفة في منزلها، بالطبع لم يجرؤ على إخبارها بمسألة وفاة والدتها، ترك تلك المهمة الشاقة لأقاربها، حينما يظهر أحدهم على الساحة. كان من الغريب عليه أن يجد جيرانها يتواجدون من حولها، يقدمون لها كل الدعم المطلوب لتخفيف الأزمة عليها، بينما تعذر الوصول لعائلة والدتها، فخالها الوحيد سافر للخارج، وجداها توفيا قبل وقت طويل. ابتسم لها وناولها قطعة من الشيكولاته، قبل أن يستأنف حديثه متسائلاً، بنفس الوجه الهادئ:.

-يعني بقى كانت أول مرة تشوفي فيها طنط دي؟
أجابته رقية ببراءةٍ:
-أيوه.
سألها بلهجته المحققة، دون أن تبدو متزمتة معها:
-وهي صاحبة ماما على كده؟
أجابتها كانت كسابقتها موجزة:
-معرفش.
داعب شعرها بيده، وسألها مرة أخرى:
-طيب قالتلك إيه تاني عنها؟
لحظة سكتت فيها الصغيرة عن الكلام، محاولة تذكر ما أخبرتها به والدته، لتجيب بعد ذلك بترددٍ:
-قالت دي عمتو.

انعكس الاهتمام المثير على وجه المحقق، وعلق بنظرةٍ ذات مغزى:
-عمتو، كويس!

ثم وجه نظرة أخرى للمعاون الموجود معه، ليدون كلامها في الأوراق الرسمية، حتى يتم التحري عنه بدقةٍ، مع مطابقة أقوالها بنتائج العينات المسحوبة منها، وأيضًا بنتائج تشريح جثمان الفقيدة. راقب حركة الصغيرة المتوترة ليديها، واحتضانها لقطعة الشيكولاته؛ وكأنها تخشى ضياعها. لم يكف عن ممازحتها باللطيف من الكلام الطيب، حتى تسترسل في ردودها معه، بعد عباراتٍ عادية، عن أسئلة بسيطة ومباشرة متعلقة بألعابها، وما تحبذ فعله، سألها المحقق بمكرٍ، ليستشف منها إجابة منطقية، علها تكون المفتاح لكشف اللغز عن الغموض المريب، في تلك الجريمة الشنعاء:.

-ويا ترى عمتو جابتلك لعب وحاجات حلوة معاها؟
ردها كان تلقائيًا للغاية عندما قالت له:
-كانت عاملة كيكة كتيرة، وأنا كلت حتة فتفوتة، بس وجعت بطني أوي.
تصنع الأسف وهو يخبرها:
-سلامتك يا جميل.
سألته رقية بعينين تعكسان براءة محببة للقلوب:
-هي ماما فين؟
ثم أشارت بعينيها إلى الجارة الواقفة في الزاوية مع زوجها عماد، قبل أن تكمل:
-طنط بتقول راحت عند ربنا، أنا عايزة أروح معاها.

شعر بالإشفاق نحوها، ورد باقتضابٍ:
-ربنا يحفظك..
سألته الصغيرة بصوتٍ بدا مُلحًا:
-يعني هاتوديني عند ماما يا عمو، هي اتأخرت عليا.
بلع غصته، وابتسم يقول في حزنٍ:
-كلنا هنروح مع ماما عند ربنا، بس قدامنا شوية.
انتهى المحقق من استجوابها، لينهي محضره هاتفًا بنبرة رسمية:
-اكتب عندك، يتم تسليم الطفلة لأقارب والدها، بعد أخذ التعهد اللازم برعايتها.
أومأ المعاون برأسه، وقال بعدها:
-تمام يا فندم.
.

استرابت من إصرار أبيها على الذهاب لرؤية شقيقها بمفردها، دون أن تأتي والدتها، وفي حضوره شخصيًا، في غير موعد الزيارة المعروف، وقبيل ذهابها للعزاء الخاص بأولاد خليل. أنبئها حدسها أن للأمر علاقة بزوجها الغائب، فالأخير اختفى عن المشهد كليًا؛ وكأنه لم يعد له وجود. استجابت لطلبه، ووجدت تميم في انتظارها بوجهٍ مبتسم، خفف قليلاً من حدة التوتر الذي اعتراها، عندما لمحت شخصًا -يبدو على ملامحه الرسمية الجادة- ينتظر بالخارج، تبعها في هدوءٍ عندما تأكد من دخولها للغرفة.

التمهيد الذي سبق التطرق للموضوع الرئيسي كان ضروريًا، وتلك كانت مهمة شقيقها، لذا استطرد تميم يقول على مهل، بمجرد أن استقرت في جلستها إلى جوار فراشه:
- هاجر، إنتي عارفة كويس إن مافيش حد أغلى عندي منكم كلكم، صح ولا غلطان؟
ردت بتعابيرها القلقة، ونظرة خاطفة دارت على الأوجه المتطلعة إليها:
-أيوه.
تابع حديثه متسائلاً بقسماتٍ شابها علامات من الجدية المريبة:
-ولو قولتلك حاجة هتصدقيني؟

صمتت لهنيهة، تدرس فيها تعابيره غير المقروءة، والمليئة بالغموض، قبل أن تكون إجابتها قاطعة:
-أيوه يا تميم.
أثلج جوابها صدره، فواصل القول معترفًا دون مقدماتٍ مُلطفة:
- محرز جوزك هو اللي ورا حرق الدكان، وكان قاصد يقتلني...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة