قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل السابع عشر

بين المخلفات الآدمية النجسة، غاص جسده الفاني إلى حيث بدأت جرائمه، وانتهت نوائبه، دون أن تُذرف دمعة واحدة على فقدانه؛ وكأن بموته قد أراح العالم من شره. بحرصٍ مختلط بالحيطة سحب الرجال الثلاثة تميم بعيدًا عن الحافة، وصوت صراخه المتألم يصدح في سكون الليل، حملوه معًا بحذرٍ إلى مسافة آمنة، ليمددوه على ظهره على الأرضية. تساءل منذر أولاً في جزعٍ:
-قولي حاسس بإيه؟
أجابه بصوتٍ تبين منه مدى ألمه الشديد:.

-رجلي، مش قادر.
تفهم ما يمر به بسبب الجذب الشديد الذي تعرض له من الجانبين، وقال بلهجةٍ جادة:
-تحب ننقلك على المستشفى.
رد دون جدالٍ:
-يا ريت.
بعزمٍ أخبره في الحال:
-على طول يا صاحبي، هاجيب العربية قريب من هنا.
بينما أضاف دياب بنفس الاهتمام الجاد:
-اطمن، هاتبقى كويس بأمر الله، وكلنا معاك.
رد دون شكٍ:
-عارف.
وزع تميم نظراته الشاكرة على من حوله، لتتحرك عيناه بعشوائيةٍ وهو يتساءل:
-فين سلطان؟

أتاه صوت سراج مطمئنًا، وذراعاه تضمان الرضيع إلى صدره:
-متقلقش عليه، هو معايا وفي أمان.

ابتسم له في حبورٍ، وقد رأه يهدهده في حنوٍ، يعطف عليه وكأنه من صلبه، على الرغم من العداء القديم بينهما إلا أنه كان الأسبق في نجدته في كل موقفٍ يحتاج فيه للمدد. اكتفى بنظرات العرفان بالجميل، ولم يعلق عليه. نظرة جانبية حانت منه في اتجاه هيثم الذي بدا شاردًا، وجهه يعكس حزنًا عميقًا، امتدت يده لتمسك بذراعه، فالتفت الأخير ناحيته يطالعه بخزيٍ، قبل أن يخفض رأسه مستشعرًا مدى خذلانه له. استطرد تميم قائلاً بصوته المرهق:.

-إنت ملكش ذنب في أي حاجة حصلت.
رغم يقينه بصحة ما حدث، بناءً على طبيعة شخصية والدته الطامعة، إلا أنه لم يستطع إعفاء نفسه من الذنب، نكس هيثم رأسه متحاشيًا نظراته، ليردد بغصةٍ:
-هو أنا قادر أرفع عيني في عين حد فيكو؟
أخبره بعد لحظة من السكوت:
-مافيش حد بيشيل شيلة حد، وكل واحد في النهاية خد جزائه.
كان في أعماقه يخشى من مواجهة الحقيقة؛ لكن لا فرار منها، فقال بمرارةٍ:.

-أنا مش عارف أزعل على أختي وأمي، ولا أروح...
قاطعه دياب مشددًا قبل أن تسيطر عليه هواجسه:
-أمك تبرها لحد آخر نفس، حتى لو كانت إيه، محدش بيختار أهله.
الإضاءات الأمامية القوية لسيارة منذر جذبت الأنظار نحوها، فهتف سراج بصوته المرتفع:
-يالا يا رجالة.

تحامل تميم على نفسه، وحاول الاعتدال في رقدته؛ لكن ألمه أبى أن يتركه دون معاناة، بمساعدة الرجال الأشداء حملوه بحرصٍ نحو السيارة، ليستلقي في المقعد الخلفي بمفرده، وما إن جلس منذر خلف المقود تساءل بلهجته المليئة بالجدية:
-الحكاية مش هتعدي كده، إنت عارف ده؟
نظرات حائرة تبادلها الاثنان قبل أن يتكلم تميم في النهاية:
-أيوه، بس خليني أروح المستشفى الأول، وبعدها هتصرف.

أخبره منذر بنبرة عازمة، حاسمًا هو الآخر أمره:
-إنت مش هتشيل الليلة لوحدك، احنا معاك فيها.
لم يكن يملك من الطاقة الذهنية –أو البدنية- ما يدفعه للنقاش معه، فكامل قواه قد استنزفت بالكامل، كان في حاجة لفسحة من الوقت ليستعيد خلالها قدرته على التفكير واتخاذ القرار. استمر منذر في تحديقه به، وسأله بصوتٍ هادئ:
-هنبلغ البوليس؟
صمت للحظاتٍ ليفكر في الأمر، فبادر بإخباره، كنوعٍ من الإيضاح:.

-مش عايزك تقلق، كل حاجة مترتبلها
علق عليه بعد زفرة تحمل أنات التعب:
-إزاي يعني؟
أجابه بابتسامةٍ بسيطة:
-أنا عامل حسابي، فاكر لما قولتلك إني بعت اتنين من رجالتي قبلنا؟
هز رأسه بالإيجاب، فأكمل:
-كنت موصيهم يصوروا كل اللي هايحصل من بعيد، كأنهم معديين بالصدفة، فمافيش حاجة هتدينك.
رد على مهلٍ، وتعابير الرضا ترتسم على محياه:
-مش عارف أقولك إيه يا منذر؟
-استدار ليحدق في الطريق مرددًا بارتياحٍ بسيط:.

-متقولش حاجة، احنا إخوات.

راحت تتابع بقلبٍ مرتاع، ونظراتٍ مليئة باللوعة والخوف الطريق من نافذتها، لم تتجلس للحظة، ولم تتوقف عن الدعاء، عقلها مفصول عمن حولها، تنتظر بترقبٍ مذعور قدوم شقيقها بابنها المختطف، أشفق الجميع عليها بعد انتشار خبر اختطافه على يد أبيه القاتل. لمسة حانية من والدها على كتفها جعلتها تدير رأسها نحوه، انسابت بغزارة عبراتها الحارقة، شهقت قائلة بصوتٍ متقطع، معبرة له عن هواجسها:.

-خايفة على ابني يابا، هو مالوش ذنب.
قال بيقينٍ لا تشكيك فيه:
-ربك هينجيه، خلي عندك إيمان بالله.
عادت لترفع بصرها للسماء، وتوسلت بتضرعٍ شديد، وعيناها تتسابقان في ذرف العبرات:
-يا رب إنت عالم بحالي، ماتضرنيش في ابني أبدًا.
قال مؤمنًا عليها:
-أمين يا رب.
رن هاتفه في يده، فنظر إلى شاشته قبل أن يجيب على الهاتف، وصوت ابنته يلاحقه:
-مين يابا؟
أشار لها بيده لتصمت، ونطق بتريثٍ:
-أيوه يا تميم.

لم يكن ابنه المتصل، بل تولى منذر المكالمة عنه، وأخبره بإيجازٍ عما حدث. تابعت هاجر سكوت والدها بقلبٍ يخفق في قلقٍ، طلت نظرات ارتياعٍ من عينيها، حبست أنفاسها، وضمت قبضتيها إلى صدرها في توجسٍ متعاظم، انتابها هاجس لخطي من حدوث الأسوأ، فلاحقته متسائلة ببوادر هلع، عندما طال صمته:
-لاقاه؟ عرف يوصله؟
أشار لها بعينيه لتصمت، هدوء والدها أكد لها أن الأمر ما زال بخير، وازداد تأكيدًا بترديده بعد برهةٍ:.

-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
سألته على الفور، وقد تعلقت بذراعه:
-ابني معاه صح؟
أومأ برأسه مُجيبًا إياها وهو يضغط على زر إنهاء المكالمة:
-الحمدلله عرف يجيبه، بس آ...
بتر عبارته بشكلٍ جعل الرعب يدب في قلبها، سألته بنظراتٍ شاخصة:
-بس إيه؟ جراله حاجة؟
قال نافيًا، والعبوس يملأ ملامحه:
-لأ، محرز مات.
لم تبدُ آسفة على وفاته، ولم تتعاطف معه، بل ظنت أنه نال ما يستحق عقابًا لجرائمه، ودمدمت بصوتٍ تحول للحنق:.

-منه لله الظالم، عقابه عند ربنا...
عادت اللهفة لتكسو تعابيرها، وسألته:
-هيرجع تميم بيه امتى؟
أجاب بتنهيدة مرهقة:
-مسافة الطريق.
ضمت هاجر يديها معًا، وركزت كامل أنظارها على الطريق، ولسان حالها يدعو برجاءٍ كبير:
-ردهم سالمين يا رب.

نظرات متأملة، محملة بالشوق والحنين، سلطها على النافذة العلوية، طامعًا أن يلمحها إن أطلت منه، رغم عدم تأكده من حدوث ذلك؛ لكن قلبه التواق منحه الأمل الزائف، فهو لم يشبع بعد من رؤيتها، الدقائق لم تعد كافية، احتفظ عقله بصورة طيفية لملامح وجهها المليء بدموعه الفرحة بعد أن سلمها رضيعها، ضمته بشدة، وكأنه سينفذ إلى ضلوعها، رغبة منها في حمايته من شرور البشر، خاصة والده الحقير منعدم المشاعر والضمير، كم تمنى سراج في تلك اللحظة أن يرزقه الله بطفل منها ينال عاطفتها الكبيرة! تذكر صوتها الباكي وهي تشكره بعينين متلألأتين:.

-كتر خيرك يا معلم سراج.
خفقة موترة ضربت فؤاده، وجعلت دقاته تتلاحق، صوتها الناعم المليء بالشجن، كان له أكبر الأثر على نفسه، شعر وكأن الكلمات فرت من على طرف لسانه، فقال بتلعثم المراهقين:
-ده واجبي يا، ست البنات.
أخفضت هاجر نظراتها لتنظر إلى شاله الصوفي، والذي لف به الرضيع ليحميه من البرد، كانت على وشك نزعه عنه، فأصر عليها بخوفٍ غير مصطنع وهو يشير بكفيه:
-والله لتخليه، أنا مش عايزه.

نظرت إليه بأهدابٍ رطبة، بسمة باهتة اخترقت الحزن السائد على وجهها، لتختفي بعدها كما تشكلت. شكرته مجددًا بخفوت، وانسحبت بوليدها للداخل، آلمه رؤيتها تقاسي في صمت، أراد لابتسامتها الرقيقة أن تدوم على شفتيها، أن يمسح عنها همومها، أن يسمع صوت ضحكاتها يجلجل عاليًا في سعادةٍ ومرح، فهل يُكتب له في يومٍ تحقيق هذا؟ حرر سراج تنهيدة ثقيلة من صدره بعد أن عاد لواقعه الخالي من وجودها، تحفز في جلسته، وأدار المحرك بمجرد أن استقر بدير إلى جواره في مقعد الراكب؛ كان الأخير شاكرًا لمعروفه معه، وأجزل له من عبارات الثناء والتقدير، فقال:.

-والله يا سراج يا ابني اللي بتعمله معانا كتير، غيرك كان آ...
قاطعه بعتابٍ رقيق، وهو يوزع نظراته بينه وبين الطريق:
-عيب كده يا حاج، والله هتزعلني، في النهاية احنا كلنا أهل.
حرك بدير رأسه بهزة خفيفة، وزفر مرددًا بكلماتٍ ذات دلالة صادقة:
-الله يديم المعروف والخير بينا يا رب، فعلاً ما محبة إلا بعد عداوة.
رد بهزة صغيرة من رأسه:
-الله كريم، وحمدلله على سلامته يا حاج بدير.
التفت ناحيته ليخاطبه بنبرة ودودة:.

-الله يسلمك يا ابني، ربنا يكرمك ويصلح حالك.
خرج صوت سراج مفعمًا بالألفة وهو يتابع حديثه معه:
-كنت ارتاح يا حاج، مالهاش لازمة تتعب نفسك، كلنا واقفين مع تميم، محدش فينا قصر معاه.
تهلل وجهه بأمارات الاستحسان، وقال بنوعٍ من المدح:
-ونعم الصُحبة.
واصل سراج إخباره، كتمهيدٍ مُسبق لإطلاعه على مسألة إعادة احتجاز ابنه في المشفى:.

-مش عايزك تقلق يا حاج من كلام الدكاترة، إنت عارفهم بيحبوا يهولوا الأمور، صحيح هما يعني صمموا إن تميم يفضل كام يوم في المستشفى، بس إن شاءالله يقوم منها على خير، ويرجع يقف على رجليه.
بدا هادئًا وهو يعقب عليه:
-طالما فيه الصالح ليه، منقدرش نعترض.
...

افترشت علامات الضيق وجهه، لم يكن راضيًا عما تم تنفيذه دون الرجوع إليهم، لكون الأمر مؤثرًا بشكلٍ كبير على ترتيباتهم السرية، تلك التي لا يعلم عنها أحد شيئًا؛ لكن خرج الأمر عن السيطرة، ومع جنون محرز فسدت كافة المخططات الحالية، وربما عرقلت مضيها في الطريق السليم. انتصب الضابط وجدي في وقفته بالغرفة الراقد فيها تميم، ووجه له توبيخًا بدا إلى حدٍ ما قاسيًا حينما أخبره بصوته المرتفع:.

-كان لازم تستنانا، مكانش ده الاتفاق، إنت كده عملت اللي في دماغك.
ظهر الألم على قسماته وهو يرفع جسده للأعلى مستخدمًا مرفقيه، ليريح ظهره على الوسادة الموضوعة خلفه. نظر في عينيه بقوةٍ، وعلل له بصوته المرهق:
-يا باشا كل حاجة جت بسرعة، وزي ما شوفت أنا كنت هاروح فيها.
رمقه بنظرة غامضة، لا تتوقف عن لومه، وردد مع نفسه بصوتٍ خفيض حائر:
-كده الحسابات كلها اتلخبطت.
سأله تميم بعينين ضائقتين:
-لو في إيدي حاجة آ...

رفع وجدي يده أمام وجهه ليقاطعه بلهجة جادة، كنوعٍ من إنهاء المناقشة:
-خلاص يا معلم، في ظابط هايجي ياخد أقوالك.
رد بإجهادٍ:
-أنا موجود مش رايح في حتة.
تركه متجهًا نحو الخارج، ويده تطلب الرقم الدولي الخاص برفيقه المقيم حاليًا بالخارج، وما إن أجاب عليه حتى اندفع يخبره بضيقٍ شديد:
-ألوو، أيوه يا ماهر، عندي أخبار مش حلوة ليك.
...

كالتاجر المفلس حينما تنضب مصادر تمويله، يُفتش في دفاتره القديمة، عله يجد بين المنسي دينًا غفل عنه، هكذا كان آسر مؤخرًا! فعندما ضاق الخناق عليه، وشحت الأموال المتاحة في يده، أخذ يبحث بين ملفاته القديمة عن تسجيل مرئي لإحدى زوجاته السابقات، ممن اشترين شرفهن بالنقود، رغبة في التخلص منه، ليقوم بابتزازها مجددًا، فتغدق عليه بالأموال، منعًا لتلويث سمعتها. وبعد وقتٍ طويل من مراجعة حقيبة الأسطوانات العتيقة وجد ضالته. ابتهجت أساريره، وشعر بنشوةٍ عارمة تجتاحه، خلل أصابعه بين شعره قائلاً ببسمة انتصارٍ خبيثة:.

-كده مش ناقص غير أكلم المُزة...
زادت ابتسامته اتساعًا وهو يضيف:
-وهترجع تزهزه معاك من تاني يا آسر.
...

أرجأ إطلاعها على الأخبار السيئة، لم تكن بحاجة لمعرفة كل شيء في الوقت الحالي، خاصة أن هذا الجزء لا يهمها، وإن كان ذو صلة وثيقة بقضيتها. سحب ماهر المقعد، وقربه من فراش فيروزة التي بدت أفضل حالاً عن ذي قبل، ومع هذا عكس وجهه وجومًا غير طبيعي، استشعرته حتى من نظراته نحوها، كانت على وشك الاستفسار منه؛ لكنها ابتلعت السؤال في اللحظة الأخيرة، تركته يستهل الحديث معها بقوله:.

-في الوقت اللي آسر مش موجود فيه في البيت، رجالتنا زرعوا أجهزة التنصت في الشقة، ما عدا أوضة النوم والحمام.
نظرت له بغرابة، فأكمل موضحًا بعد أن ضغط على شفتيه للحظة:
-وده عشان خصوصيتك إنتي، مش حد تاني.
ابتسمت له في امتنانٍ لمراعاته تلك الجزئية تحديدًا، فالشعور بأنها مراقبة من أعين غريبة لن يكون مريحًا على الإطلاق، خاصة حينما تتشارك الفراش مع ذلك النذل المسمى زوجها، انتبهت له بتركيزٍ أكبر وهو يشدد عليه:.

-بس ده هيخليكي تقومي بالمهمة دي بنفسك، تسجليله من غير ما ياخد باله، بالجهاز اللي هايكون معاكي.
أبدت استعدادها بمهمتها الجديدة، وقالت:
-مافيش مشكلة يا ماهر بيه، عرفني بس إزاي أتعامل مع الجهاز.
-دي بسيطة.

نطق بجملته وهو يخفض أنظاره نحو هاتفه المحمول، فقد ورده اتصالاً هاتفيًا من أحد الأشخاص المكلفين بالتعاون معه في هذا البلد العربي. نهض ماهر من مقعده، وانسحب مستأذنًا من غرفتها ليجيب على مكالمته بعيدًا عنها، انعكس القلق على تقاسيمه، واستطرد يقول بصوتٍ حاول أن يبدو هادئًا:
-خير يا فندم؟
...

على مسافة بضعة كليومترات من تلك البلدة، أقيمت محطة حديثة لمعالجة مياه الصرف الصحي على نمطٍ مستحدث، تخدم المنطقة ومن حولها من بلدات صغيرة. المحطة الرئيسية مقسمة داخليًا لعدة محطاتٍ صغيرة، كل واحدة تختص بدورٍ محدد خلال مراحل المعالجة، في البداية تتحرك كافة المخلفات المتجمعة عبر محطة الرفع، ليتم صبها عبر الأنبوب الواسع إلى المحطة التالية؛ محطة الغربلة، حيث يتم فصل المواد الصلبة، والحيوانات النافقة، وغيرها من الأشياء العالقة غير القابلة للذوبان، وهناك وقف أحد مسئولي المتابعة يراقب أداء العمل في منطقته تلك، نظراته كانت تدور بين الحين والآخر على المخلفات المتراكمة بالحوض المتسع. جاءه أحد المشرفين يشكوه:.

-يا ريس في مشكلة عندنا في المحطة.
سأله بتعابيره الجادة:
-في إيه؟
أجابه وهو يشير بيده:
-منسوب الضخ قليل.

في بعض الأحيان، تستعمل خطو الصرف الصحي في غير أغراضها المخصصة لها، حيث يقوم بعض المواطنين بتصرفاتٍ مضرة للبيئة دون وعيٍ أو إداركٍ لخطورة أفعالهم غير المدروسة من خلال إلقائهم للحيوانات النافقة، والمخلفات الزراعية الصلبة، والبقايا غير القابلة للتحلل العضوي في غير مناطق التخلص منها، مما يؤدي في الأخير لحدوث انسدادٍ أو عطب في إحدى المحطات. فكر مسئول المتابعة مليًا للحظة، وأمره:.

-كلم الغطاس ينزل يشوف إيه اللي سادد المِجرى، مش ناقصين دوشة.
أومأ برأسه قائلاً:
-تمام يا ريس.

ذهب سريعًا لاستدعاء الغطاس، فأعد الأخير أدواته ليهبط بواسطتها، إلى داخل مياه الصرف الخاصة بمنطقة الرفع، للكشف عن سبب هذا العطل. أزاح بعض الأغطية البلاستيكية الممزقة، وفروع الأشجار المقطعة، وبعض من الطحالب والبقايا النباتية، وجد كذلك طيورًا نافقة، أزاحها عن الفتحة، وكانت المفاجأة الصادمة حينما امتدت يداه لتجذب ما بدا وكأنه ذراعًا، في البداية لم يستوعب الأمر، إلى أن استمر في جذبه للكتلة الثقيلة، فظهرت له بقيتها، معالم جثة بشرية، مُلطخة بالأوساخ، برقت عيناه، خاصة مع تشوه أطرافها واختراق لحمها المهترئ لبعض الأغصان الخشبية الحادة. اضطرب تنفسه، وكاد يختنق بالأسفل جراء أصابته بصدمةٍ لحظية، سيطر على خوفه، وتركها تقبع في مكانها، ليصعد بتعجلٍ للأعلى محملاً بأخبارٍ ستقلب المحطة رأسًا على عقب.

...

ممارسة تلك المهام غير القانونية لا تتم دون تخطيط منظم، أو ضوابط معينة، هناك أشخاص غير معلوم هويتهم، يقفون بالمرصاد لكل من يشرد عن القطيع، أو يتصرف وفق أهوائه دون الرجوع إليهم، اعتقادًا منه أنه قادر على إدارة أزمته وحده؛ لكن ذلك يدفعه للوقوع في المحظور. أمام واجهة غرفة مكتبه الزجاجية -والتي تمتد بطول الحائط- حملق ذاك الرجل المهيب في الفضاء الشاسع الممتد لمساحة لا نهاية له، وكأسه الممليء بالنبيذ يلامس شفتيه. لم يدر رأسه للواقف خلفه عندما سأله مستفسرًا بلكنته الأجنبية:.

-ماذا قررت بشأنه؟
تذوق النبيذ باستمتاعِ رجل خبير، وقال بنبرته الباردة:
-أصبح ورقة محترقة.
سأله ليتأكد من جديته:
-إذًا أنت مع التخلص منه؟
جاوبه رافعًا كأسه للأعلى، ويده الأخرى تندس في جيبه:
-وفي أسرع وقت.
حادثه بلهجته الرسمية:
-كما تأمر سيدي.
...

على حسب الموعد المتفق عليه، اختال في مشيته وهو يتجه نحو الطاولة المحجوزة باسمه في هذا المطعم الراقي المطل على الخليج، ساعدته ثقته الكبيرة في نجاح خطته على الظهور بمظهر القوة، خاصة مع استجابة ضحيته له، واستجدائها المستميت له بألا يتهور ويفسد حياتها المستقرة بذكريات الماضي المدنسة. مرر أنظاره على الجالسين من حوله، بدت الأجواء طبيعية، باعثة على الهدوء، حتى الخلفية الموسيقية عززت من هذا الشعور، غاص آسر في مقعده، واضعًا ساقه فوق الأخرى، تقدم نحوه أحد الندلاء بصينية تحمل قهوته، وضعها أمامه وهو يبتسم له بعمليةٍ، بدأ في ارتشافها على مهلٍ وهو ينتظر بترقب قدوم ضيفته، لمحها من على بعدٍ، فدفع مقعده للخلف لينهض مستعدًا لاستقبالها، دنت منه إحدى السيدات بخطواتٍ شبه عاجلة، ونظراتها القلقة تحوم حولها، طمأنها ببسمته المغترة عندما أصبحت في مواجهته:.

-متخافيش، المكان ده محدش هيعرفك فيه...
ثم أشار لها بيده لتجلس، وتابع بنفس الهدوء المستفز:
-اتفضلي، مش معقول هنتكلم واحنا واقفين.
بعصبيةٍ متوترة جلست قبالته، وضعت المرأة حقيبتها على الطاولة، وصاحت فيه؛ وكأنها تنذره:
-اعمل حسابك دي آخر مرة هدفعلك فيها فلوس.
أسبل عينيه معاتبًا إياها بنعومةٍ زائفة:
-طب مش نسلم على بعض الأول ونشرب حاجة كده؟ ده احنا بقالنا زمن ماشوفناش بعض.
صاحت في استهجانٍ منفعل:.

-وأنا مش عايزة أعرفك تاني، إنت صفحة واتقفلت من حياتي.
رمقها بنظرة محذرة قبل أن يرد عليها:
-اهدي كده يا مدام، ماتنكريش إن لولا معرفتك بيا مكونتيش بقيتي هانم دلوقتي.
احتقن وجهها من تلميحه القذر، وهدرت به:
-إنت مش محترم!
قست نظراته، وسقط القناع عن وجهه الحقيقي، ليواصل تهديدها بتبجحٍ مستفز:
-هتغلطي فيا هزعلك، ماتنسيش الفيديو بتاعك لسه معايا.
تضرجت بشرتها بمزيدٍ من الحمرة المنفعلة، وسألته بنبرةٍ متشنجة:.

-إنت بتعمل كده ليه؟ هتستفاد من أذيتنا إيه؟
ببرودٍ أجابها، وهو يرفع فنجان قهوته إلى شفتيه:
-ده شغل.
كزت على أسنانها متسائلة بهسيسٍ حانق:
-بتعتبر ابتزازك ليا ولغيري بفيديوهات مش حقيقية شغل؟
هز رأسه إيجابًا ليستفزها، فتشدقت قائلة بنزقٍ:
-لأ ده بيتقال عليه حاجة تانية!
رفع سبابته أمام وجهها الغاضب يحذرها بسخافةٍ باردة:
-لسانك يا بيبي.

لعنته بسبة لم تفارق ثغرها، ثم قامت بفتح حقيبتها لتخرج منها مظروفًا يحوي عملات أجنبية، مدت يدها به في اتجاهه، وقالت بغيظٍ واضح عليها:
-خد، ومش هادفع تاني.
سحب المظروف من أسفل يدها، وتلك النظرة المتوهجة تشع من عينيه، ثم قال بابتسامةٍ منتشية:
-تسلمي يا حبي.
وقبل أن يدس المغلف في جيب سترته، قبضة قوية أوقفت يده مصحوبة بلهجة آمرة:
-عندك!

رفع آسر عينيه للأعلى لينظر بذهولٍ صادم لرفيقه الذي حجب بطوله الفاره الرؤية عنه، لعق شفتيه، وردد بتعابير مدهوشة؛ وكأنه لم يفق من صدمته بعد:
-مين؟ ماهر؟
ابتسامة غرور، تتبعها نظراتٍ فخرٍ اعتلت قسمات وجه ماهر، ظل قابضًا على يده، وأخبره بنبرة بدت هازئة:
-منور يا آسر.
حاول أن يتمالك نفسه محاولاً السيطرة على انفعالاته، تنحنح بربكةٍ ملحوظة، وسأله بلجلجة بائنة في نبرته:
-إنت، بتعمل إيه هنا؟ جاي زيارة؟

وفي لمح البصر تشكلت حول الطاولة طوقًا أمنيًا من أفرادٍ ظهروا بملابسٍ رسمية، باعد آسر أنظاره المتوترة عنهم، ليحدق في وجهه عندما أخبره ببساطةٍ:
-لأ، ده أنا جاي عشانك مخصوص، أقبض عليك.
ارتفع حاجباه للأعلى في دهشةٍ، وسأله بوجهٍ بُهت بشكلٍ ملحوظ:
-تقبض عليا؟
اكتسى وجه ماهر بالجد عندما أكد عليه:
-أه طبعًا...
ثم تحولت أنظاره نحو المرأة التي تغيرت ملامحها للسرور، وتابع:.

-هو أنا مقولتلكش إن الهانم مرتبة معانا عشان نمسك بيك مُتلبس؟
انفجر مستنكرًا في غضبٍ جم:
-ده كدب، أنا محامي، وده مقدم أتعاب اتفاق شغل بينا، يعني أقدر أطعن على المهزلة دي بسهولة.
ربت على كتفه معلقًا عليه باحتقارٍ واضح:
-اطمن يا اللي كنت صاحبي، مش هاتعرف تطلع منها المرادي، لأن كله متسجل صوت وصورة.

برقت عيناه أكثر وهو محدق به مطولاً بتعابيره الذاهلة، فرغم باعه الطويل في استدراج السُذج من النساء للإيقاع بهن في شباكه الغريقة، لاستغلالهن واستنزافهن ماديًا حتى تفرغ حاجته منهن، إلا أنه لم يتوقع أن يتم الإمساك به بتلك السهولة، وعلى يد رفيقه، كان حدوث ذلك أبعد ما يكون عن الخيال. للحظة توقف تفكيره عن العمل، تضاربت أفكاره، وبدا مشتتًا، أعمل عقله بجهدٍ شديد ليصل إلى حل ينجيه من تلك المعضلة الشائكة. أحس آسر في خضم هذا الموقف بألمٍ يجتاح أسفل معدته، تغاضى عن حدته التي ازدادت تدريجيًا، وحاول أن يشرح لرفيقه معللاً بأكاذيب اجتهد في ارتجالها:.

-إنت فاهم غلط يا ماهر، صدقني دي واحدة مش تمام، وضحكت عليا، وأنا كنت بأجاريها في اللي بتقوله، إنت تعرف عني كده؟ ده احنا عِشرة سنين، وأختك آ...
قاطعه بحزمٍ:
-ماتجيبش سيرة علا على لسانك.
بالكاد تمكن من ضبط أنفاسه التي اضطربت، وهتف يرجوه، متلمسًا الفرصة لإعادة صياغة الأحداث:
-ماشي حاضر، بس إديني فرصة أصلح سوء التفاهم اللي حصل ده، إنت لو سمعتني للآخر هتعرف إني مظلوم.
قبض عليه من ذراعه، ليرد برسميةٍ بحتة:.

-إنت هترجع معايا على مصر، وهناك هنتحاسب على القديم والجديد.
تقلصت أحشائه بوخزاتٍ أعنف، وأحس بنيرانٍ حارقة تتصاعد في بدنه، تضاعف عرقه المتصبب من كامل جسده، تلقائيًا وضع يده أسفل معدته ليمسك بها، كز على أسنانه مستنجدًا:
-بطني بتتقطع، الحقني يا ماهر.
تجاهل ما قاله لينظر له باستخفافٍ، قبل أن يخاطبه بما يشبه التهكم:
-مش شايف إن الحركات دي مهروسة؟

لم يكن آسر بالمازح في إظهار ألمه، تقوس ظهره، وانحنى للأمام مقاومًا بضراوة الآلام التي تفتك به. ارتفع صوت لهاثه المتحشرج، وغرق جسده في عرقه الغزير، حتى دقات قلبه كانت تنبض بعنفٍ لم يستطع مضاهاته، نظرة خاطفة وسط الغيمة التي حطت على رأسه سددها لوجهٍ بدا مألوفًا له، تعمد ذاك الرجل الظهور في محيطه ليرسل له رسالة صريحة صامتة وهو يرفع فنجان قهوته للأعلى، تعني أنه قد صدر الأمر النهائي بالتخلص منه، وها قد نُفذت الأوامر. تضاعفت التشنجات في أطرافه، وترجرج كامل جسده، حتى لم يعد ماهر قادرًا على تثبيته. افترش آسر الأرضية بجسده، وفمه يريق سائلاً رغويًا غريبًا، شهقة أخيرة متحشرجة خرجت من أعماقه قبل أن يهلك صريع السم على مرأى ومسمع من الحضور المذهولين...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة