قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن عشر

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثامن عشر

بدا على وجهه خيبة الأمل والتذمر، بعد تفقده للعرق النابض في عنقه ليتأكد من موته الذي كان صادمًا له، بالرغم من مقته لكل تصرفاته المسيئة. استقام ماهر واقفًا، ووجه أوامره لمن حوله بتطويق المكان أمنيًا، وعدم السماح لرواد المطعم بالخروج قبل استجوابهم كل فردٍ على حد، نظرًا لاحتمالية تورط أحدهم في قتله. اتجهت أنظاره نحو المرأة التي بدت غير راضية عن احتجازها، وصاحت في غضبٍ معترضة على إبقائها قسرًا:.

-يعني إيه تحققوا معايا؟ إذا كنت أنا اللي مبلغة عنه.
توجه ناحيتها، وأخبرها بهدوءٍ:
-حضرتك فاهمة إن دي جريمة قتل، وده إجراء طبيعي هيتعمل مع الكل.
سألته بنظرةٍ متشككة:
-يعني أنا مش مقبوض عليا؟
جاوبها نافيًا بنفس الأسلوب الهادئ:
-لأ.
لم يملك ماهر النية لاستمرار حديثه معها لولا أن بادرت بقولها الشامت:
-الحمدلله إنه خد جزائه، ده ذنب كل واحدة جه عليها في يوم، مع إنه كان يستاهل أكتر من كده.

استرعت انتباهه بكلماتها العفوية، فسألها مستوضحًا بطريقته المحققة:
-قصدك إيه يا مدام؟
هتفت بنقمٍ حانق:
-يا فندم قناع الشياكة والبراءة اللي كان موريه للكل كان وراه صندوق أسود، مليان بلاوي شبهه.
تنحنح طالبًا منها:
-ممكن توضحي أكتر؟
أخبرته دون الحاجة لأدنى رجاء لفعل هذا:.

-حضرتك عارف إني مكونتش أول ضحية ليه يبتزها؟ أنا زيي زي غيري ضحك عليهم عشان فلوسهم، ولما يتكشف المستور يساومنا، إما ندفع ونخلص منه، أو يفضحنا بفيديوهات متلفقة.
احتدت نظراته متسائلاً بنظراته الثاقبة:
-إزاي؟
بشفاه مقلوبة أجابته؛ وكأنها تشمئز لذكر ما هو متعلق به:
-البيه اللي عامل نفسه محامي محترم كان بيدير مواقع دعارة وقلة أدب.
رد عليها بهدوءٍ:
-ما ده عارفينه.

جاءه سؤالها نزقًا، صادمًا وهي ترمقه بنظرةٍ ذات دلالة قوية:
-وحضرتك كنت تعرف إنه كان عاجز؟
هتف مشدوهًا:
-نعم؟
أكدت عليه معلنة عن كامل أسراره:
-أيوه زي ما قولت لحضرتك، جوازاته كلها كانت أونطة، كانت سِكة يجيب بيها تمويل لمشروعاته القذرة.
دعاها للجلوس ليقول بلباقةٍ:
-هستأذنك كده تحكيلي كل حاجة بالتفصيل.
ردت موافقة على طلبه:
-حاضر...
ومع هذا أبدت سخطها على نهايته التي بدت غير مؤلمة بقولها:.

-كان نفسي مايموتش بالسهولة دي، واحد زيه كان لازم يتجلد ويتعذب مليون مرة، يدوق المرار كله قبل ما يقول حقي برقبتي.
بتريثٍ عقلاني تحدث إليها:
-حسابه عند ربنا دلوقتي، يا ريت تسيبك من طريقة موته، وتقوليلي كل حاجة عرفتيها عنه.

فرصة واتتها على طبقٍ من فضة؛ وإن لم تجدِ نفعًا الآن، لكونه أصبح ميتًا، لن تقتص منه؛ لكنها أرادت إطلاع الجميع، على ما احتواه صندوق أسراره الأسود من قاذوراته النجسة، ردت مبتسمة في نشوةٍ واضحة عليها:
-هاعرفك بكل حاجة أعرفها عنه.

حول فراشه المريح بغرفته المستقلة بالمشفى، اجتمع أفراد عائلته ورفاقه المقربين، في الوقت المخصص لزيارته للمكوث معه قدر المستطاع، ورغم تذمرات إدارة المشفى من التجاوزات غير المسموح بها، والتي قد تسبب في إرهاق المريض، إلا أنه تم وضع استثناء مؤقت له، بعد اللجوء لوساطات خارجية لتسهيل الأمر. تساءل الجد سلطان موجهًا حديثه للطبيب الواقف عند حافة الفراش، يدون بعض الملحوظات في الأوراق المثبتة بالحامل المعدني:.

-يعني هيخرج امتى؟
أجابه بابتسامةٍ لبقة:
-قريب يا حاج، هو في تحسن، لكن وجوده دلوقتي هنا أفضل عشان مايحصلش مضاعفات تضره فيما بعد.
سعل تميم قليلاً، وخاطب والدته المحدق بها:
-سمعتي يامه، أنا كويس أهوو، بلاش قلق عليا.
ربتت ونيسة على جانب ذراعه، ودعت له بابتسامةٍ متفائلة:
-ربنا ما يسمعني غير كل خير عنك يا حبيبي.
في حين أضافت هاجر من ورائها وهي تهدهد رضيعها:
-حمدلله على سلامتك ياخويا.

وجه أنظاره إليها متسائلاً بودٍ:
-أخبار سلطان الصغير إيه؟
ببسمة مشرقة أجابته، وهي ترفعه للأعلى قليلاً ليتمكن من رؤية وجهه:
-الحمدلله، بيبوس إيد خاله.
هز رأسه في حبورٍ، وقال:
-ربنا يحفظهولك.
أردف بدير قائلاً بحماسٍ وهو يشير بيده:
-بإذن الله الأيام الجاية العمال هتخلص توضيب الدكان، معدتش إلا حاجات بسيطة.
استدار ناظرًا نحوه ليرد:
-على خيرة الله.
في حين علق منذر بدوره في نوعٍ من المزاح:.

-بيتهيألي كده وجودنا معدتش ليه لازمة؟ الوضع بقى مستتب، وكله تمام.
عقب عليه بدير بعتابٍ ودود:
-متقولش كده يا ابني، إنتو أصحاب مكان.
قال منذر مؤمنًا على كلامه:
-أه طبعًا يا حاج، احنا بس هنشوف مصالحنا، ومواجدين معاكو.
بمرحٍ أضاف دياب وهو يربت على كتف شقيقه:
-هما يومين بالعدد، وهتلاقينا فوق دماغك يا تميم.
التفت منذر يرمقه بنظرة متشككة، قبل أن ينطق ساخرًا منه:
-مسمعتكش ست الأبلة، كانت سنجفتك.

ضيق دياب نظراته، وأكد له بابتسامةٍ عريضة:
-عيب عليك، ده أنا مسيطر برا وجوا.
كتم ضحكة هازئة منه عندما رد:
-إنت هتقولي يا دياب.
ترديد ذلك اللقب الدارج بصورة عفوية، أعاد بقوةٍ إحياء ذكريات محدودة في خبايا عقله، كانت في وقت ما مصدر بهجته الوحيدة. حافظ تميم على جمود تعابيره غير المقروءة رغم الحزن الكائن في قلبه، ليبقى كما هو هادئًا، مبتسمًا، وإن ظل الألم مستقرًا في أعماقه، حتى يأذن الله بتغييره!

في غرفة أخرى، بدت مريضتها وحيدة كليًا، لا أقارب يودونها، ولا معارف يبكونها، كانت بثينة تستقر على فراشها، الهدوء من حولها، فيما عدا صخبًا محدودًا ناتجًا عن طنين الأجهزة الموصولة به، كانت يقظة الوعي؛ لكنها فاقدة للنطق، رفرفت بجفنيها بوهنٍ حينما أطل عليها ابنها، تأكدت أنها لا تتوهم وجوده. وقف هيثم أمام فراشها، يتأملها بنظراتٍ آسفة مليئة باللوم والحسرة، تقدم نحوها ليبدو قريبًا من وجهها الذي تركز عليه، لم يجلس، ولم يمسك بيدها، ليواسيها؛ وكأنه استصعب إظهار إشفاقه عليها. تخشب في مكانه، في حين احتجزت مقلتاه عبراتٍ حارقة، صوته بدا مختنقًا عندما سألها:.

-عملتي كده ليه فينا كلنا يامه؟
نظرت له بعجزٍ، فتابع أسئلته المحملة بالذنب:
-استفدتي إيه في النهاية؟
فقط نظراتها بقيت مرتكزة عليها، قتل غصة احتلت حلقه حلقه، وخاطبها بألمٍ:
-لا بقيتي أغنى واحدة في الحتة كلها، ولا بقينا كلنا حواليكي.
غلف صوته المزيد من الشجن مع سؤاله التالي لها:
-تقدري تقوليلي فين خلود دلوقتي؟

لم يكن متعاطفًا مطلقًا مع محاولتها لتحريك كتفها المصاب وتقريب ذراعها منه، بل نبذ قربها بتراجعه خطوة للخلف، وقال كأنما يجيب على سؤاله الذي طرحه سابقًا كبديلٍ عنها:
-ماتت، بس بعد ما اتعذبت عشان تحقق أحلامك إنتي...
رأى الألم يجتاح عينيها؛ لكنه لم يرفق بها، بل زاد من لومه القاسي عليها، بصوته المتذبذب:.

-إنتي خدتيها وسيلة توصلي بيها للي عايزاه، طمعتيها في حاجة عمرها ما كانت هتبقى ليها، وفي الآخر حصلها إيه؟
طفرت الدموع من عينيه بغزارةٍ وهو يسألها:
-طب بلاش هي، قوليلي أنا بالنسبالك كنت إيه؟
المزيد من مشاعر الوجع والإحباط اجتاحته عندما استرسل في الإفراج عن مكنوناته:.

-حاجة مهملة، واد خايب، مافيش فيا رجا لأني خرجت مع تحت طوعك، مع إنك زرعتي جوايا حقد وغل لجوز خالتي، ولأي حد في عيلة سلطان، وهما مايستهلوش كده، لومتي عليهم موت أبويا، حملتيهم كل الذنب، بس...
توقف عن الكلام لهنيهةٍ، وصوت شهقاته يرتفع قبل أن يخبرها بحرقةٍ:
-الحقيقة اللي محدش يعرفها إني...

بالكاد أطبقت على جفنيها وهي تتأمله في صمتٍ إجباري، رأى تأثير حديثه عليها، توترت نظراتها، وتقلصت عضلات وجهها، أنين مبتور خرج من بين شفتيها، بصعوبة نطق معترفًا بالحقيقة الغائبة:
-أنا السبب، أنا اللي حرقت دكانه بدون ما أقصد.
اتسعت عيناها في ذهولٍ، فاستدار متحاشيًا نظرات عينيها الجوفاء، وقال بندمٍ:
-غيري شال ذنب حاجة معملهاش، وأنا فضلت ساكت، خايف أتكلم وأقول الحقيقة وآ...

لكنه عاد ليلتفت نحوها، ويرمقها بنظرة جامدة مسيطر عليها دموعه وهو يواصل إخبارها بمرارةٍ:
-ونفس العيلة اللي بتكرهيها هي اللي واقفة معانا لحد النهاردة، هي اللي كانت بتدور على الحق عشان تحمينا كلنا، هي اللي إنتي اتفقتي تأذي ابنهم مع الكلب محرز، وبنتك اتقتلت على إيديه.
كفكف عبراته بظهر كفه، وسألها بصدرٍ متهدج من انفعاله:
-قوليلي يامه طلعتي بعد ده كله بإيه؟
جاوبها بكف يضربه بالآخر:
-ولا حاجة!

نظرة ازدراء استحوذت على عينيه وهو يتابع بصوتٍ يملأه الشجن:
-وريني بقى هتصلحي اللي فات إزاي بعد ما كله راح منك.
غص بالبكاء مجددًا، حتى لم يعد يحتمل وجوده بقربها، تراجع مبتعدًا عنها بالمزيد من الخطوات، وخاطبها بلومٍ شديد:
- خلود بقى هترجعيها إزاي؟ ها ياما؟ هي مش راجعة تاني...
أولاها ظهره، واتجه إلى الباب ليغادر الغرفة؛ لكن قبل أن يخرج منها، أشار لها بسبابته ملقيًا بكامل اللوم عليها للمرة الأخيرة:.

-ذنب اللي حصلها هيفضل متعلق في رقبتك يامه.
نظراتها نحوه كانت زائغة، مشبعة بالعبرات، تبدو متأثرة بحديثه المؤلم، ومع هذا لم يكن قادرًا على تصديق مشاعرها كأم مكلومة، رانت من هيثم نظرة أخيرة منكسرة، لينصرف بعدها من غرفتها وهو موقن أن توبتها؛ وإن كانت بحق، لن تبعث الموتى من جديد.

بدت أفضل عن السابق بكثير، اِلتأم جرح رأسها، كما تعافت كدماتها الظاهرية، وخفت آثارها في مختلف أنحاء جسدها؛ لكن لم تندمل بعد جروحها المعنوية. مسدت فيروزة بيدها شعرها وجمعته معًا بربطةٍ رأس صغيرة، لتتركه خلف جسدها على هيئة ذيل حصان، اتجهت إلى الفراش لتجلس عليه عندما سمعت نقرات خفيفة على باب غرفتها، تمددت وسحبت الغطاء على جسدها، ثم صاحت داعية الطارق للدخول:
-اتفضل.

تعلقت أنظارها ب ماهر الذي خطا ببطءٍ في اتجاهها، ابتسمت مرحبة به:
- ماهر بيه، اتفضل.
كعادته سحب المقعد، وقربه من فراشها ليجلس عليه، قبل أن يسألها في اهتمامٍ، وإن عكست تعابيره وجومًا غريبًا:
-أخبارك النهاردة إيه يا فيروزة؟
قالت بحماسٍ، محاولة إخفاء توترها:
-الحمدلله أحسن، وجاهزة أقوم بدوري.
رفع رأسه وأخبرها بغموضٍ:
-لأ خلاص، مش مطلوب منك حاجة.

استرابت من عزوفه عن إتمام مهمتها بعد التدريب المكثف الذي تلقته في الأيام الماضية، زوت ما بين حاجبيها في استغرابٍ، ثم سألته وقد اشتد كتفاها:
-ليه؟ هو آسر كشف الحكاية؟ أنا مشفتوش خالص من يوم ما دخلت المستشفى.
لحظة من الصمت سادت بينهما، تخللها نظرات غريبة نحوها، إلى أن قرر ماهر النطق في النهاية، فأعلمها بصوتٍ أجوف:
- آسر مات.
تطلعت إليه باندهاشٍ لوهلةٍ، قبل أن تردد في إنكارٍ ساخر:
-مات؟ أكيد دي نكتة.

رد عليها مؤكدًا بنفس الثبات الانفعالي العجيب:
-دي الحقيقة.
هتفت في استهجانٍ، وتلك الابتسامة المتهكمة تحتل زاوية فمها:
-حضرتك بتهزر يا ماهر بيه؟ استحالة يموت بالبساطة دي!
واصل إطلاعها على ما لم تعلمه بكلماتٍ انتقاها بعناية:
-صدقيني يا فيروزة هو اتصفى.
رددت في صدمةٍ مختلطة بالذهول:
-اتصفى؟
أومأ برأسه وهو يوضح لها:
-أيوه، اتقتل، لأنه معدتش ليه لازمة عند اللي مشغلينه.

افتر ثغرها على ذهولٍ كبير، بدت تعبيراتها ما بين الصدمة والاستنكار، لم يأتِ ببالها أن كابوسها المهلك للنفس، والمؤذي للروح انتهى هكذا فجأة، بعد أن سعت جاهدة لتتهيء نفسيًا لمكوثها معه، بتلفيق أكاذيب الحب والغرام. حملقت في وجه ماهر وهو يخبرها بحقيقة أخرى واقعة لا محالة:
-إنتي كده بقيتي حرة.
لم تعلق عليه، بقيت صامتة، نظراتها أوحت بأنها ما تزال تحت وقع الصدمة، ناداها بلهجة جادة:
- فيروزة!

انتبهت له، فأردف قائلاً بندمٍ محسوس في صوته:
-أنا أسف.
ضاقت عيناها نحوه، فاستفاض في توضيحه:
-كنت هورطك في حاجة، وأنا مكونتش عارف طبيعة البني آدم اللي كنتي عايشة معاه.
أدركت تلميحه الضمني، فغطت عليه بادعائها:
-مش، فاهمة حضرتك.
آثر عدم الضغط عليها لتؤكد له ما خاضته من معاناة ضرتها نفسيًا، وتابع بزفرة مسموعة عبرت عن استيائه من تسرعه في الدفع بها في شيء كهذا، دون إدراكٍ جيد لأبعاد مخاطرته:.

-بس أنا فاهم، وسامحيني لأني كنت هأذيكي من غير ما أخد بالي.
احتفظت بصمتها، بينما نطقت نظراتها عن الكثير من التخبط والحيرة، تأثير الخبر الصادم كان قويًا، يحتاج لمساحة من التفكير لاستيعابه، لم يجرؤ على التطلع إليها، وأكمل اعتذاره اللبق:
-أحيانًا في شغلنا ده، بنضطر نبص على الحاجة من برا، اللي يخدم مصالحنا وبس، من غير ما نتأكد كويس إن كان في حد يتضر ولا لأ، فأنا أسف يا فيروزة.

بدت أكثر إحساسًا بالضياع والتشتت، خاصة مع إضافته الأخيرة:
-أنا مش عارف إن كنت أهنيكي على حريتك ولا أعزيكي، لكن كل اللي أقدر أقولهولك إنها فرصة تانية ليكي عشان تبدأي من أول وجديد، وتعيشي حياتك بجد.
كانت بحاجة لقول أي شيء، لتظهر له تقديرها لمجهوداته؛ لكن الكلمات المناسبة لم تسعفها، فما كان منها إلا أن تمتمت بهدوءٍ، أخفت خلفه صراعًا من المشاعر المتضاربة:
-شكرًا ليك يا ماهر بيه.

نهض من مقعده، وقال متصنعًا الابتسام وهو يخرج من جيبه هاتفًا محمولاً:
-تقدري تتواصلي مع أهلك يا فيروزة، ده رقمهم ومعاكي موبايل جديد.
نظرت إلى ما وضعه على الفراش، ثم رفعت عيناها إليه عندما طلب منها:
-بس أتمنى ماتحكيش عن اللي حصلك إلا لما ترجعي، يعني هايكون أفضل.

اكتفت بتحريك رأسها بالإيجاب، قبل أن تنخفض عيناها نحو الهاتف، ارتكزت نظراتها الشاردة عليه، حتى أنها لم تتابع مغادرته للغرفة، كما لو أنها غاصت في ذكرياتٍ طويلة مؤلمة، أعادتها لأيامٍ تعيسة بائسة، مضت عليها بطيئة ثقيلة، ساحقة لكبريائها قبل صمودها.

-اتفضلي يا أم البنات، ده نصيبك عن إيراد السنادي.
قال اسماعيل هذه العبارة، وهو يضع على الطاولة الرخامية، أمام زوجة شقيقه المتوفي، رزمة من النقود الملفوفة برباطٍ مطاطي، خلال زيارته لها في منزلها مع ابنه فضل. نظرت إليه آمنة في امتنانٍ، وقالت كنوعٍ من المجاملة:
-خلي يا حاج اسماعيل.
رد عليها بإصرارٍ:
-لازمًا الحق يوصل لأصحابه...
ثم أسند رزمة أخرى إلى جوارها، وأتم جملته:
-وده نصيب خليل كمان.

شكرته على تعبه بترديدها:
-تعيش يا حاج.
أخبرها مقترحًا بعدم امتناعٍ وهو يلوح بيده:
-ولو حابة تراجعي الورق والحسابات، أنا معنديش مانع.
غامت تعابير فضل، واستنكر تصريحه الأخير، فقال:
-هي هتخونك يابا ولا إيه؟
نظر ناحيته قائلاً بصوته الرخيم:
-معلش، الحق مايزعلش حد.
ابتسمت له آمنة وهي تعيد تكرار امتنانها له:
-طول عمرك أبو الأصول يا حاج اسماعيل.
استدار فضل ناظرًا إليها، ثم طلب منها بوقاحةٍ طفيفة:.

-ما تعلقيلنا على شوية شاي يا مرات عمي، دماغي اتفلقت من كتر الرغي.
تحرجت منه، وردت وهي تنهض من جلستها:
-حاضر يا ابني.
انتظر انصرافها ليعاتب والده:
-يابا إنت بتديها وش ليه؟ هي مالهاش حاجة عندنا، كتر خيرك أوي إنك قايم على الأرض وطالع عينك فيها.
رمقه بنظرة محذرة وهو يسأله بلهجةٍ شبه غاضبة:
-ده حق ربنا، عايزني أكله عليها عشان ربنا ينتقم مني دنيا وآخرة؟
قال على مضضٍ:
-لأ، بس احنا بنتعب، وآ...

قاطعه خاتمًا حديثه معه في تلك الجزئية:
-ملكش دعوة، طول ما أنا عايش هارد الحق لأصحابه.
لم يكن راضيًا عن تصرفه، فأشاح بوجهه بعيدًا، وخاطب نفسه بصوتٍ خفيض عكس سخطه:
-خليك كده طيب مع ناس ماتستهلش!
انتبه لرنين هاتف آمنة، فمد يده ليلتقطه، حملق في الرقم الغريب الذي ظهر على شاشته، وحين دقق النظر فيه أدرك أنه لم يكن محليًا، تحفز بشكلٍ مريب، ونهض قائلاً:
-هادي التليفون لمرات عمي.

رد والده باقتضابٍ وهو يشير له بالانصراف:
-ماشي.
لكنه لم يفعل ما أخبره به، بل اتجه نحو الشرفة، ليضغط على زر الإجابة، قبل أن يلصق الهاتف بأذنه، أتاه صوت فيروزة واضحًا عندما نطقت بنعومةٍ محملة بالأشواق:
-ماما.

اعتلى ثغره ابتسامة خبيثة، حتى نظراته لم تبد بريئة، بدا وكأن خياله الجامح يصورها له بأشكال فاتنة مثيرة، تداعبه فيها بجراءة يرغب فيها، ليستثير حواسه للتجاوب معه. وضع فضل يده الأخرى على صدره يمسحه في حركة دائرية، وهتف بلعابٍ يسيل من جوفه:
-أهلاً بالعروسة.
على ما يبدو صُدمت لسماع صوته، فتبدلت نبرتها للجدية وهي تغمغم:
- فضل؟
قال باستمتاعٍ، وبابتسامة بلهاء لن ترغب فيروزة في رؤيتها حتمًا على وجهه:.

-كويس إنك لسه فكراني يا بنت عمي.
سألته مباشرة بجمودٍ:
-فين ماما؟
رد بنوعٍ من المماطلة السمجة:
-مش تسألي عليا الأول؟
هاجمته بحنقٍ واضح:
-وأسأل عليك إنت ليه من الأساس؟ وبعدين إنت بترد مكانها ليه؟ اوعى يكون جرالها حاجة؟
أجابها نافيًا ببرودٍ استفزها:
-لأ، أمك صحتها أحسن مني ومنك.
صاحت فيه بغضبٍ متصاعد في نبرتها:
-الله أكبر عليك، إديها الموبايل خليها تكلمني.
زاد أسلوبه استفزازًا بسؤالها:.

-إيه دلوقتي افتكرتي إن ليكي أهل؟
استمرت في صياحها الهادر به؛ وكأنها تهدده:
-إنت يا بني آدم، أحسنلك تودي الموبايل آ...
لم يمهلها الفرصة لإكمال جملتها، قطع عليها الاتصال، وقال ببسمة حقيرة قاصدًا استثارة أعصابها:
-كده أحسن، خلي دمك يتحرق.
ثم تعمد غلق الهاتف نهائيًا لتفشل في الوصول إليها؛ كما لو أنه بذلك يحقق انتقامه الغبي منها، التفت كالملسوع، حينما سألته آمنة فجأة، وقد تعجبت من وجوده بالشرفة:.

-في حاجة يا فضل؟
تلجلج وهو يدعي بالكذب:
-لأ يا مرات عمي، كنت بأبص في الساعة، لأحسن موبايلي فصل.
ثم رفع هاتفها الموجود في يده للأعلى، وواصل ادعائه:
-وموبايلك كمان.
لم تشكك في نواياه الدنيئة، وقالت معتقدة أنها أهملت في الانتباه لخاصتها:
-أصلي بأنسى أشحنه.
تعمد تغيير الموضوع متطرقًا لآخر بصورة ملتوية:
-بأقولك إيه صحيح.
بدت منتبهة له، وسألته:
-خير يا فضل؟
أخبرها بغموضٍ في صيغة سؤالٍ مبطن:.

-مش ناوية تعفي بنت أخوكي؟
لم يصلها مغزاه، فسألته مستفهمة:
-قصدك إيه؟
جاوبها بعد زفرة طويلة:
-الزمن غدار يا مرات عمي، فخلينا نأمنها من بدري أحسن.
ما زال عقلها في حالة من الحيرة، ولم يعِ بعد مراده، فكررت عليه سؤالها، عله تفهمه:
-إنت بتكلم عن إيه؟
بكل ما فيه من سماجةٍ قال؛ وكأنه أمر مفروغ منه:
-نطاهرها يعني يا مرات عمي، إنت راح عن بالك الحكاية دي ولا إيه؟
استنكرت تطرقه لتلك المسألة، وعارضته محتجة:.

-هو أنا عملت ده لبناتي لما هاعملها لبنت أخويا؟
لامها بوجهٍ مكفهر على ما اعتبره تقصيرًا جسيمًا:
-ماهو عشان كده متنططين علينا، أنا خدتها من قاصرها وعملتها للبت بنتي.
تدلى فكها السفلي في صدمة، ثم استجمعت نفسها، وسألته:
-ومراتك سها وافقت؟
قال بلهجة من لا يُخير أبدًا:
-هي تقدر تنطق بكلمة، ده أنا أجيب رقبتها تحت جزمتي.
برقت عيناها وهي تسأله:
-وأبوك الحاج اسماعيل واقف على كده؟
بوقاحةٍ كان رده عليها:.

-أنا صاحب الكلمة في عيالي، مين ما كان مالوش يقول رأيه.
اغتاظت منه، وللمرة الأولى واجهته بتحدٍ، فارضة رأيها عليه:
-وزي ما إنت حر معاهم، أنا كمان مش هاعمل حاجة ل رقية، دي أمانة أبوها عندي.
عقب بشيء من الزهو:
-ما إنتي بتحافظي عليها، اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
كان قرارها حاسمًا معه:
-أنا هحافظ عليها، بس مش بطريقتك دي.
استهزئ برأيها قائلاً:
-بكرة ترجعي تندمي، وأنا نصحتك لوجه الله.

رفعت الصينية الفارغة التي حملتها بيدٍ واحدة أمام وجهه، وقالت بتعابيرٍ واجمة:
-اشرب الشاي يا فضل، زمانه برد.
رددت جملتها قبل أن تنصرف، فتصاعد الغيظ في صدره مستهجنًا على أسلوبها غير الاعتيادي في التحاور معه، كور قبضة يده، وقال متعهدًا في نفسه، وعيناه تتبعان إياها:
-بقى كده؟ ماشي يا مرات عمي، أنا مش ورايا غيرك إنتي وبناتك، وهنشوف رأي مين اللي هايمشي عليكم كلكم...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة