قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والعشرون

في الاستقبال الواسع، جلس كلاهما بالقرب من باب المنزل الخشبي، ليتركا مساحة من الخصوصية لأصحابه، ليتمكنوا من التحرك بأريحية، دون الشعور بتطفل غيرهم عليهم. وما إن انصرف الطبيب بعد تلقي الجميع البشارة حتى نهض الجد سلطان واقفًا، وأخبر حفيده الجالس معه بلهجته الجادة:
-خليك معاهم يا تميم، جايز يحتاجوا حاجة كده ولا كده.

هب واقفًا على قدميه، ومستندًا بيدٍ على عكازه الطبي، ثم أومأ برأسه مرددًا في طاعةٍ واضحة:
-ماشي يا جدي، اللي تشوفه...
بدأ الجد في السير المتهادي نحو الباب، فتبعه حفيده مضيفًا:
-أنا مستني الواد من الدكان يجيب الدوا اللي الدكتور طلبه.
علق في استحسانٍ:
-كويس...
وأضاف مشددًا عليه بابتسامةٍ وقورة:
-وخلي الواد هيثم يعدي عليا، قوله جدك عاينلك حلاوة البشارة.
لاحت ابتسامة لطيفة على محياه وهو يقول:.

-ربنا يباركلنا في عمرك يا جدي.
ربت سلطان على كتف حفيده، وخاطبه بلهجةٍ ذات مغزى:
-وعقبال ما تبشرني إنت كمان.
لم يبدُ تميم خجلاً تلك المرة، بل خرج صوته مُنيبًا راجيًا:
-يا رب.
هز الجد رأسه بإيماءاتٍ صغيرة، وهو يختتم حديثه:
-كله على الله، سلامو عليكم.
بادله تحية الوداع قبل أن يغلق الباب في إثره:
-وعليكم السلام.

عاد ليجلس في مقعده، وانتقى تلك المرة ذاك القريب من الباب، موليًا ظهره لمن بالداخل، حتى لا يبدو وجوده مزعجًا، التهى بإجراء بعض المكالمات الخاصة بالعمل، والتأكد من إتمام نقل حمولات البضائع لأصحابها. شتت تركيزه هذا الرنين المتكرر لهاتف محمول بدا قريبًا منه؛ لكن صوته كان مكتومًا إلى حد ما، وكأن شيئًا موضوعًا عليه يمنع صدوره بوضوح. أرهف السمع ليحدد مكانه، نهض باحثًا عنه، فوجده بالفعل موصولاً بالشاحن على قطعة (الدريسوار) الملاصقة للحائط، ومن فوقه أحد المفارش، أزاحه عنه، وحملق بعينين متسعتين في الاسم الذي أضاء الشاشة، وأنعش قلبه بنبضٍ زائد؛ فيروزة. أحس بنوبة من الحماس والنشاط تجتاحه، بتدفق الدماء الغارقة في العشق في كافة شرايينه، تستحثه على الرد عليها، ظهر التردد عليه، وتساءل مع نفسه بصوتٍ خفيض، يعبره عن حيرة مصحوبة بربكةٍ بائنة على تصرفاته:.

-طب أعمل إيه؟
حدق في اسمها بنظرة مفتونة، ولهة، تنم عن حبٍ عميق، لا يمكن إنكار حقيقته أبدًا، مط فمه في ضيقٍ، عندما انقطع الاتصال، كما حل العبوس على قسماته المبتهجة، وكأن مصدر السعادة انسل من بين يديه؛ لكن عادت تعابيره للإشراق مجددًا، ونظراته للمعان، حينما ملأ اسمها الشاشة، دفعته اللهفة للإجابة على مكالمتها، بالنسبة له سماع صوتها كان الحافز المثالي لبدء يومه الطويل، والذي أصبح لا معنى له بدونها.

وضع تميم الهاتف على أذنه، حابسًا أنفاسه، عاجزًا عن إيجاد الحروف التي ينطق بها لتبادل الحديث معها، وقبل أن يجد مسعاه، انطلق صوتها ثابتًا، قويًا، يتخلل وجدانه وهي تتساءل باهتمامٍ:
-إنتي فين يا بنتي؟ من بدري باتصل عليكي وإنتي مش بتردي...
ابتسامة مسروة استقرت على شفتيه، ازدادت اتساعًا مع استرسالها الضاحك:.

-فاتك نص عمرك إمبارح يا هموسة، كان لازم تكوني موجودة، تميم نفخ البغل فضل، عرفه مقامه الحقيقي، اقسم بالله كان واقف زي الكتكوت المبلول قصاده..

يا لقلبه الراقص طربًا لنطقها باسمه مجردًا من أي ألقاب! يا لعذوبة لسانها بحروف تدلل اسمه بنعومة مغلفة بالضحكات! أي شيء بعد يريده وقد نال السعادة بعد الشقاء؟ ودَّ لحظتها –بكل جوارحه- لو رأت ما يلوح على وجهه، وينعكس في وهج عينيه، من بهجة فاقت حد أي فرحة حظى بها في كامل حياته. تحليقه الحالم في سماء مُلبدة بالمشاعر الفياضة انتهى سريعًا كما بدأ، عندما أتمت جملتها:.

-بصراحة اللي عمله فيه برد ناري شوية، وهو يستاهل أكتر من كده.
استشعر حنقًا دفينًا في صوتها الذي تبدل، وكبح ما اهتاج في عروقه من دماءٍ ثائرة، وذاكرته قد تنشطت بالتلميحات المبطنة السابقة عن تعرضه لها بالأذى، أصبحت أنفاسه ثقيلة، مشبعة بالحقد والغيظ، ومع صمته الطويل تساءلت فيروزة:
-إنتي مش بتردي ليه؟
لم يعد هناك أي سبيل للمماطلة، فقد نال فرصته لليوم، لهذا تنحنح بخشونة طفيفة:
-احم..

سألته على الفور؛ وكأن نبرتها قد تحولت للتحقيق:
-مين معايا؟
تردد لوهلة قبل أن يبادر بالتعريف بنفسه، بتلعثمٍ محسوس، ودقات قلبه تتسارع بين ضلوع التي تحجزه:
-صباح الخير يا، أبلة...
حل السكون على الطرف الآخر؛ وكأن الصدمة قد ألجمت لسانها، فأكمل ناطقًا باسمه، مُتمنيًا أن يحالفه الحظ وتناديه به:
-أنا تميم.
لم يجد استجابة منها، فسألها متوجسًا:
-إنتي معايا؟
استمع إلى صوتها المرتبك وهي ترد:
-آ، أيوه.

كان سؤاله عفويًا؛ لكنه أراد حدوثه فعليًا، لذا أناب للمولى سرًا في دعائه الراجي:
-يا رب دايمًا.
تدارك نفسه، وتابع مفسرًا، بجملٍ لا يعلم إن كانت مرتبة أم لا:
-لا مؤاخذة رديت على تليفون أختك، هي تعبت شوية، متقلقيش مش حاجة خطيرة، الدكتور عندها وطمنا.
سألته في جزعٍ:
-مالها؟ حصلها إيه؟
طمأنها بتريثٍ:
-والله هي كويسة...

لم يحبذ إطلاعها على الأخبار السارة دون الرجوع أولاً لشقيقتها، لكون الأمر شأنًا عائليًا، فأضاف بدبلوماسية:
-لما تيجوا هتعرفوا منها.
هتفت دون انتظارٍ:
-أنا جاية مع ماما على طول.
انزلق لسانه مرحبًا بحرارة:
-تنوري.
تقلصت تعابيره في ندمٍ لتسرعه الأهوج في التعبير عن فرحته المتعاظمة لقدومها، أنهى المكالمة، وعنف نفسه بتجهمٍ شديد:
-إيه الهبل اللي بأعمله ده، المفروض أبقى راسي عن كده.

أعاد تميم الهاتف في مكانه، وأخرج تنهيدة بطيئة قبل أن يعاود أدراجه، ويقف بالقرب من النافذة المطلة على الشارع، متحرقًا بتلهفٍ -يزداد بمضي الساعات- لرؤيتها، فحلمه الذي انطلق من أعماقه، أصبح على وشك التحقيق؛ إن شاء المولى!

على الجانب الآخر، ضربت بظهر كفها جبينها في لومٍ حرج، بعد أن عرفت بهوية مُجيب اتصالها، انعكس تأثيره الحسي عليها، فانبعثت من بشرتها حمرة ساخنة، لم تكن لتشعر بهذا مسبقًا مع من تخاطبه؛ لكن بدا الأمر مختلفًا تلك المرة بشكلٍ لم ترغب في مقاومته، حتى دقات قلبها، نشطت بصورة عجيبة دفعتها للتفكير في مدى تفاعله مع حضوره. ازدحمت الأفكار في رأس فيروزة عن ظنونه بها، خاصة مع اعترافها النزق بسعادتها الغامرة لتصرفه العدائي تجاه فضل، أوشكت أن تموت من الخجل. أطبقت على جفنيها، وتجعد جلد وجهها وهي تُغمغم:.

-يادي الكسفة اللي كنت فيها!
برطمت بكلماتٍ مزعوجةٍ قبل أن تزيد من توبيخ زلة لسانها الأحمق:
-مش كنت أبلع لساني شوية، هيقول عليا إيه دلوقتي؟
أخرجها من تخبط رأسها سؤال والدتها:
-كلمتي أختك؟
استدارت تنظر في اتجاهها، وأجابتها بعد نفسٍ عميق استعادت به انضباط نفسها:
-أيوه يا ماما، وعرفت إنها تعبانة، والدكتور عندها.
هتفت آمنة في تخوفٍ اكتسبه صوتها، وهي تضرب على فخذيها:.

-قلبي كانت حاسس والله، البت بقالها كام يوم مش عجباني، وشها دبلان، وعلى طول مش مريحة نفسها.
ردت تطمئنها:
-إن شاءالله خير يا ماما، متقلقيش.
أمرتها والدتها بلهجتها المتوترة:
-لبسي رقية أوام، عايزين نروح نشوفها قبل ما نطلع نجيب خالك.
هزت رأسها إيجابًا وهي تقول:
-طيب.

بداخل غرفة خُصصت لجلوس العائلة معًا، جلس وحده يتناول إفطاره باستمتاعٍ شهي؛ وكأنه لا يحمل همًا. قضم رأس البصل الأخضر بأسنانه، قبل أن يلوكها في جوفه، وأتبع ذلك بلع لقيمة خبزٍ مغموسة بالفول المدمس الذي أجادت زوجته صنعه، لم يكتفِ بهذا، وأكمل بلعه للجُبن القريش بنصف رغيف الخبز المتبقي في حجره، ثم تأمل البقايا الموجودة في الصينية بعينيه، ورغم امتلاء معدته، إلا أنه حشر المتبقي في كل صحنٍ في جوفه، غير عابئ بالضرر الذي قد يلحق بجهازه الهضمي من كثرة الطعام بأحشائه. مسح يده المستخة في طرفي جلبابه، وصاح مهللاً بعد أن تجشأ:.

-الشاي يا ولية، عايز أحبس.
تجشأ مجددًا، واضعًا يده على صدره، تحركت نظراته نحو والده الذي أقبله عليه يأمره بملامحه الجادة:
-فضي نفسك من بكرة بدري، رايحين عند مرات عمك.
قال وهو يغرز ظافر إصبعه الصغير بين أسنانه:
-لأ مش عايز.
سأله اسماعيل بتهكمٍ:
-ليه؟ وراك الديوان؟
أخفض ساقه المثنية على المصطبة المريحة، وأجابه نافيًا ببرودٍ:
-لأ، بس خلاص أنا روحت.
تجهمت تعابير وجهه، وعنفه:
-بردك نفذت اللي في دماغك، وعصيتني؟

ضم اسماعيل يديه معًا، فوق رأس عكازه، وأكمل بحدةٍ متوقعًا تسبب ابنه في كارثة ما بسبب رعونته الطائشة:
-تلاقيك عملت هناك دقة نقص من إياهم.
رد كاذبًا بتكاسلٍ ظاهر على جسده:
-والله إنت ظالمني يابا، ده أنا غلبان، وفي حالي...
توقف لهنيهةٍ عن الحديث، لكن انعكست وحشة غريبة على نظراته، وبدأ شيطان رأسه في الوسوسة له، فادعى بالباطل:
-ولو مكونتش روحت مكونتش عرفت اللي بيحصل من ورا ضهرنا.

كلامه الغامض استثار حفيظة والده، فسأله بقليلٍ من الاسترابة:
-هو إيه اللي بيحصل؟
وجد في كذبه المُرتب الحيلة المقنعة لخداع والده، لهذا رسم علامات الامتقاع على وجهه، ثم نفخ قائلاً بلهجةٍ غير مريحة على الإطلاق، متعمدًا الإساءة لسمعة فيروزة تحديدًا:
-رجالة داخلة خارجة ليل نهار، ومافيش أي اعتبار لحُرمة البيوت.
انفعل عليه اسماعيل بحنقٍ:
-إيه الكلام ده؟
بنفس البرود السمج أكد عليه كذبه:.

-بأقول اللي شوفته يا حاج، ومش لوحدي، ده كل الحتة هناك...
وليزيد من الطين بلة أضاف منتهكًا عفتها، وبنبرة موحية، تدل على استباحة المحرمات:
-ما خلاص السِكة المقفولة بقت سالكة.
هاج أباه في عصبيةٍ وحمية:
-إنت سامع نفسك؟ كلامك ده فيه قطع رقاب!
غامت عيناه، وعلق بتشنجٍ، مستخدمًا يده في التلويح:.

-أنا مبقولش حاجة غلط، وبدل ما تزعقلي يا حاج، روح اسألهم، ومش هايقدروا ينكروا، الحتة كلها شايفة كوم الرجالة اللي طالع عندهم في أنصاص الليالي، والاسم أنا جاي من غير ميعاد...
راقب احمرار وجهه الغاضب، وإظلام نظراته، كان متيقنًا من نجاحه في جعل الهواجس تدور في رأسه، فتابع مستفزًا عصبيته، وشحذ تعاطفه –إن بقي متواجدًا- ضدها:.

-ولعلمك عم خليل مكانش موجود، يعني السايب في السايب، وكل من هب ودب عندهم، ده غير صوت الضحك والمرقعة اللي جايب التايهين.
هدر به اسماعيل في غلظةٍ:
- فضل!
هب واقفًا من مكانه، وأخبره مدعيًا اكتراثه لأمرها، رغم ما تعكسه عيناه من شرٍ مستتر:
-اهدى يابا، صحيح مهما كانت النفوس شايلة، بس دي بنت عمي، من دم واحد، والكلام هيمسنا في الأول ولا في الآخر.
ضرب اسماعيل بعكازه على الأرض، وصاح بنبرته الواجمة:.

-أنا ليا لي كلام مع آمنة.
تحرك فضل ليقف بجوار أبيه، وأردف يوصيه بنزقٍ، وهو يتأمل ملامحه المكفهرة:
-متصدقش حججها، النسوان ياما بتهلفط عشان تبرأ نفسها...
التوى ثغره، وتابع بنبرة كانت هازئة، لم يتوقع أن تُؤخذ على محمل الجد:
-تلاقيها هاتقولك أنا كنت بأخطبلها.
التفت يحدجه بنظرة غائمة، قبل أن يأتيه تعليقه:
-وماله، لما تخلص عدتها تجوزها، بس بالأصول.
انقلب السحر على الساحر، صدمه رده، وهتف مستنكرًا:.

-إنت بتقول إيه يابا؟
تكلم بلهجته الصارمة:
-اللي سمعته.
سأله بصيغة أخرى واضحة، ليتأكد مما صرح به:
-يعني لو في حد خطب البت فيروزة هتوافق؟
كان جوابه قاطعًا:
-أه طبعًا، أومال هتفضل كده مترملة طول عمرها؟
جحظت عيناه لوهلةٍ، وقال دون تمهيد:
-طب أنا أولى بيها من الغريب، أنا عايز أتجوزها.
ضاقت نظرات اسماعيل في اندهاشٍ، بينما صرخت سها مصدومة، وقد سقطت صينية الشاي من يديها، لتبدأ بعدها فاصلاً من العويل:.

-يا نصيبتي! إيه اللي إنت بتقوله ده يا راجل؟ بقى دي أخرتها تتجوز عليا؟
تجاهل ما اعتراها من نواحٍ وصراخ، لتبقى أنظاره على أبيه وهو يلح عليه بطلبه:
-جوزني فيروزة يابا.
منحه نظرة غير مريحة، وقال حاسمًا الأمر:
-ده مش وقته يا فضل...
ثم سلط أنظاره على سها، وأمره:
-شوف مراتك، وراضيها قبلى.
استنكر بوقاحةٍ فجة كامل واجباتها الزوجية معه، وتضحيتها بصحتها في سبيل إسعاده وراحته:
-هي دي ولية تتعاشر؟
دعت على جحوده علنًا:.

-منك لله يا شيخ، ربنا ينتقم منك.
استشاط غيظًا من تصرفها الطبيعي، واندفع نحوها يتوعدها بإيذاءٍ بدنيٍ عنيف:
-بقى بتدعي عليا يا وش البومة؟ طب أنا مش سايبك النهاردة.
انهال عليها بقبضته بصفعاتٍ، وضرباتٍ موجعة على جسدها جعلتها ترتد بقوةٍ، وتسقط على ظهرها، تدخل اسماعيل لمنعه من إفراغ غضبه غير المبرر بها، وهتف هادرًا به:
-ياخي بطل افترا بقى.
ثم أمسك به من ذراعه، وحال بينهما بجسده، فدمدم فضل بحقدٍ:.

-بأربيها يابا، أومال أسكتلها؟
أدار والده رأسه في اتجاه زوجته المسكينة، واعتذر منها:
-حقك عليا يا بنتي، خشي جوا، وأنا ليا لي كلام معاه.
نظرت له بعدم اقتناعٍ، وغمغمت من وسط بكائها وهي تنهض من رقدتها:
-ربنا على الظالم.

على مقربةٍ من البناية القاطنة بها ابنتها، أبطأ السائق سيارته الأجرة، عند ناصية الشارع تحديدًا، ليتمكن من الدخول إلى المنطقة، ألقى نظرة خاطفة عبر مرآته الأمامية لوجه المرأة القلق الجالسة في الخلف، عاد ليركز في طريقه، وصوتها يردد بتضرعٍ:
-استر يا رب.
انتبه لها مجددًا عندما صاحت عاليًا:
-على جمبك ياسطا.
تهادت سرعة السيارة لتصطف بمحاذاة الرصيف، شكرته آمنة لسرعة استجابته:
-كتر خيرك يا ابني.

خاطبت فيروزة والدتها بهدوءٍ:
-اطمني يا ماما، هتبقى كويسة.
ثم خفضت من نبرتها:
-أنا هحاسب، اطلعي إنتي.
ترجلت والدتها أولاً لتسبقها، بينما ظلت فيروزة بالخلف ومعها ابنة خالها، مدت يدها تخرج من حافظتها ورقة نقدية بفئة عالية، مدت بها يدها نحو السائق وهي تحدثه:
-اتفضل.
نظر إلى ما بين إصبعيها، وقال بوجهٍ جاد:
-معييش فكة.

لم تملك من العملات النقدية فئاتٍ أقل، فقالت بعد أن مسحت المكان بنظرة سريعة؛ وكأنها قد وجدت الحل الفوري لمشكلتها البسيطة:
-طب ثانية هاشوفلك في الكُشك اللي هناك ده، استناني بعد إذنك.
أومأ برأسه قائلاً:
-ماشي.

هبطت من السيارة، ساحبة في يدها رقية، وبخطواتٍ متعجلة -حاولت الصغيرة مجاراتها فيها- اتجهت الاثنتان نحو أقرب كشك يبيع الحلوى، لم تلمح فيروزة ذاك الذي انتظرها على جمرات الأشواق في مدخل البناية، ما إن استشعر قربها العزيز حتى خفق قلبه باضطرابٍ غبط لرؤياها، بنظراته المتفرسة المتابعة لها فطن ذهنه لسبب ذهابها بعيدًا، دون الحاجة للاستفسار. اقترب تميم من السائق، وأعطاه ما يزيد عن أجرته متسائلاً:.

-تمام حسابك؟
نظر السائق إليه في امتنانٍ، وعقب بابتسامةٍ راضية:
-أيوه يا باشا.
خبّط على مقدمة سيارته يستحثه على التحرك وهو يأمره:
-اتكل على الله.
انصاع السائق له، وبدأ في التراجع بسيارته للخلف، مغادرًا المكان برمته، لمحته فيروزة وهو يبتعد فجذبت الصغيرة من يدها لتسرع في خطاها لتلحق به وهي تهتف:
-تعالي يا كوكي.
نادت على السائق ملوحة له بيدها الأخرى بالنقود:
-يا أسطى، استنى.

لم تصل إليه، فقد انحرف مبتعدًا عند الناصية، توقفت عن ملاحقته مرددة بلهاثٍ:
-ده مخدش حسابه.

بقيت متسمرة في مكانها، والحيرة مسيطرة عليها، استغربت من ذهابه، وتنهدت مستديرة للجانب لتكمل طريقها، ترددت خطواتها بشكلٍ ملحوظ عندما رأت من خطر على بالها طوال الساعات الماضية واقفًا عند المدخل، رمشت بعينيها في حرجٍ، متذكرة ما تفوهت به من حماقةٍ، قبل أن تتحاشى النظر إليه، والخجل يزداد فيها. النعيم بكامل متعه الخفية تجسد في حضورها، لعثمتها الخفيفة كانت آسرة للعقول عندما استطردت ناطقة:
-معلم تميم.

يا لجمال الشفاه التي تنطق بعذب الأسماء! ابتسامة محملة بالغرام وجدت مستقرها على ثغره، هتف يُحيها، وعيناه تهيمان شوقًا في تأملها:
-صباح الخير.
لم تنظر إليه، وردت بهدوءٍ رقيق:
-صباح، النور.
وقبل أن يستأنف حواره معها، بادرت بسؤاله، لتشبع فضولها المحير:
-هو إنت دفعت للسواق؟
ببساطةٍ أجابها:
-مايصحش وأنا موجود.
مدت يدها بالنقود إليه، وأصرت عليه:
-طب اتفضل فلوسك.
رمقها بنظرة معاتبة، وهو يقول:.

-عيب كده يا أبلة، ده احنا..
شدد على تتمة جملته وهو ينظر بعمقٍ في عينيها:
-عيلة.
مسَّ الدفء قلبها بكلمته تلك، ورفعت عينيها لتتطلع إليه بوميضٍ كان جاذبًا لأنظاره، حاولت الابتعاد عن محيطه المُربك لها بشكلٍ غير اعتيادي؛ لكنه استوقفها بتهذيبٍ:
-ممكن كلمة؟
تصنعت الجدية، وضيفت نظراتها متسائلة:
-خير؟
دنا منها مقلصًا المسافات بينهما، وقف قبالتها من جديد، تنهيدة بطيئة تحررت من صدره قبل أن يخبرها بصدقٍ:.

-مش عايزك تترددي للحظة إنك لو احتاجتي لأي حاجة..
ركزت كامل انتباهها معه، مما منحه فرصة للتعمق في تأمل عينيها، ورؤية ما تضمره روحها من حزنٍ راسخ حتى النخاع يحتاج للتطييب، خُيل إليه أنه نفذ إلى داخلها بنظراته، فلامس الوجع الدفين في كيانها. ازدرد تميم ريقه، وأخفض نبرته ليقول بلهجةٍ هادئة؛ لكنها جادة على الأخير:
-تطلبيها مني.

أغمضت عينيها متجنبة نظراته المسبلة نحوها، وشعرت برجفة تعصف بها عندما همس بصوتٍ أعاد الطمأنينة المفقودة إليها:
-أنا، سندك.
اهتز كيانها مع تصريحه غير الموضوع في الحسبان، فبدت كالكتاب المفتوح أمامه، بنظرة واحدة يقدر على رؤية أسرارها، ويطلع على جراحها غير المندملة. لم تستطع مواجهته، وتجاوزته هاربة من حصار نظراته الكاشفة لشقائها، أسرعت نحو الدرج وهي تردد بصوتٍ مضطرب:
-آ، عن إذنك.

صاحبها بعينيه حتى توارت بالأعلى، نظرة واحدة ساهمة من لؤلؤتيها، كانت كفيلة بقلب كيانه من النقيض للنقيض. طرد الهواء المعبئ بتنهيداته الهائمة، وقلبه يرجو أن يكون بقربه منها دوائها، كما كان عزائه في البُعدِ طيفها.

انحنت عليها وهي ممددة على فراشها، تحتضنها في عاطفةٍ جياشة، قبل أن تتراجع عنها، بادلت همسة توأمتها بنظراتٍ سعيدة ما زالت تحتفظ ببقايا دموعها الفرحة، التفتت ناظرة نحو والدتها التي كررت تهنئتها لها:
-ألف مبروك يا حبيبتي، والله ما مصدقة.
ردت عليها بامتنانٍ شاكر:
-ربنا رضاني من وسع.
تمتمت آمنة قائلة:
-الحمد والشكر ليك يا رب.
تساءلت فيروزة بلهجةٍ مالت للجدية:
-عرفتي حماتك؟
أجابتها وهي تشير بيدها:.

- هيثم في الأوضة التانية بيقولها.
علقت عليها والدتها:
-أهي حاجة تفرحها وتنسيها شوية الحزن اللي في قلبها.
قالت فيروزة على مهلٍ:
-ربنا يصبرها ويعينها.
سألتها توأمتها بنظراتٍ شبه متوترة:
-هتسلمي عليها يا فيرو؟
هزت كتفيها قائلة بترددٍ:
-مش عارفة يا همسة، قلقانة شوية.
تساءلت في اهتمامٍ:
-من إيه؟
أجابت بعد استغراقها لحظات في الصمت:.

-يعني لما هتشوفني هتفتكر بنتها، والمشاكل اللي كانت بينا، بلاش أحسن، على الأقل دلوقتي.
تفهمت عزوفها، وقالت مومئة برأسها:
-براحتك.
أوصتها والدتها بوجهٍ جاد:
-أهم حاجة تاكلي كويس، وتريحي جسمك الفترة دي.
بينما أضافت فيروزة لافتة أنظارها:
-عايزين نشوفلك دكتور تتابعي معاه الحمل.
حركت رأسها مغمغمة:
-ماشي.
أشارت آمنة ل فيروزة مشددة عليها:
-شوفيلها حد كويس، عايزين نعمل اللي علينا معاها.
ردت عليها بابتسامة مقتضبة:.

-حاضر يا ماما.
أدارت رأسها ناحية همسة عندما خاطبتها مجددًا:
-أنا عايزاكي يا فيرو معايا، في مشوار كده لما تفضي.
ردت ضاحكة وهي ترفع يديها:
-أنا فاضية على طول، عايزة تروحي فين؟

لم يكن مسترخيًا في جلسته على المقعد الجلدي أمام مكتب الطبيب، فالأخير كان يُطالع ملفه الطبي بتركيزٍ واضح، راقبه وهو يراجع لأكثر من مرة نتائج التحاليل، والأشعة، وما قام به مؤخرًا من فحوصات جسدية، تشنجت عضلات وجهه عندما رفع رأسه لينظر إليه مستطردًا نقاشه العلمي معه:
-من واقع الورق اللي قدامي أنا حابب أكون صريح معاك.
استشعر تميم الخطر في كلامه المبطن، وسأله صراحةً:
-هي الحالة خطيرة للدرجادي؟

نفى الطبيب بنبرته الهادئة:
-لأ مش زي ما إنت فاكر، بس خليني أشرحهالك بطريقة مبسطة.
هز رأسه، وتابعه بانتباهٍ كبير، فواصل قوله بتمهلٍ:
-لما سحبنا العينة منك، وفحصناها وجدنا إن عدد ال sperms أقل من 3 مليون.
نظر له بغرابةٍ، فأوضح مقصده:
-أقصد الحيوانات المنوية.
تنحنح متسائلاً بحرجٍ طفيف:
-وده وحش ولا حلو؟
أجابه بتريثٍ وهو يراقب ردة فعله:.

-ده معناه في مشكلة، إن الحيوانات المُنتجة ضعيفة، فيها خلل، ما بيتمش توفير العدد المطلوب عشان يحصل إخصاب للبويضة قبل ما تصل رحم الأنثى.
أخبره بتلقائيةٍ، مسردًا له بعض الحقائق التي وقعت بالفعل:
-أنا كنت متجوز بنت خالتي الله يرحمها، وكانت حامل يا دكتور، يعني حصل ده.
سأله الطبيب مستفهمًا وهو ينظر في اتجاهه:
-الحمل ده كمل؟
هز رأسه نافيًا، ولمحة من الحزن تكسو قسماته:
-لأ.
زم الطبيب فمه للحظةٍ، وسأله مستوضحًا:.

-حصل إجهاض مبكر، مظبوط؟
بعد تفكيرٍ سريع، أجاب تميم بترددٍ، متحاشيًا الخوض في التفاصيل:
-هي كانت اتزحلقت ووقعت، وربنا ماردش الحمل يكمل.
بنفس الأسلوب الهادئ، خاطبه الطبيب بعقلانية مهنية، واضعًا في الاعتبار توضيح أبعاد مشكلته له:.

-طيب أنا عايز أفهم حضرتك حاجة، بعيدًا عن ملابسات ظروف المدام، لو الحيوان ضعيف عمومًا فجودته وكفاءته هاتكون غير الحيوان الطبيعي اللي مافيش فيه مشاكل، وبفرض حصل إخصاب للبويضة، وتم النجاح في تلقيحها، فالجنين في مراحله الأولى هايكون مشوه، تركيبه في خلل، وبنسبة كبيرة هيحصل إجهاض مبكر، يعني مش هايكتمل الحمل لوجود عيوب وتشوهات في أساسه.
تدلى فكه السفلي مدهوشًا، وتساءل في خوفٍ محسوس في نبرته:.

-يعني أنا، كده مش، هاخلف؟
علق عليه الطبيب:
-أستاذ تميم، كله في النهاية بأمر ربنا.
كان وجهه في تلك اللحظة واجمًا، حزينًا، وممتلئًا بالهموم، بلع ريقًا غير موجودٍ في وجهه، وأطرق رأسه قائلاً:
-ونعم بالله..
تابع الطبيب إخباره:.

-حالة حضرتك مش مستعصية، وبناءً على اللي شايفه، فإنت عندك دوالي، ودي سهل تتعالج بعملية جراحية بسيطة، ومع كورس علاجي فيه مقويات، ومحفزات منشطة للخلايا المنتجة أتوقع بإذن الله يكون في نتيجة حلوة.
خفت حدة الخوف المتسللة إليه بعد عبارته الأخيرة، وبلهفةٍ متشوقة عليه تساءل:
-يعني في أمل؟
أومأ برأسه مؤكدًا:
-بأمر الله، احنا بناخد بالأسباب وبنعمل اللي علينا.

لم يترك عقله لوساوسه الجوفاء تنخر فيه، وتبدد ما عقد عليه الآمال، بل نفضها بالكامل، وقال بحماسٍ يشوبه التفاؤل والثقة في تعويض الخالق –عزوجل:
-وبنعم بالله، وأنا عندي ثقة إن ربنا مش هيكسر بخاطري، شوف الصح اللي المفروض يتعمل وأنا معاك فيه يا دكتور...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة