قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الخامس والعشرون

مثلما اتفق معها مسبقًا، على القدوم في هذا التوقيت تحديدًا، استقبلت آمنة ضيفها في صالون منزلها بعد اطمئنانه على شقيقها، رحبت به بتقديرٍ غير مبدية استغرابها لعدم تواجد ابنه الفظ، فالأخير قد أحدث القليل من الفوضى، ولولا حنكة ضيوفها لكان الآن يرقد بين المصابين بالمشفى. لحسن نيتها، توقعت أن يظهر الحاج اسماعيل أسفه على تصرفاته غير المقبولة؛ لكنها تفاجأت به يسألها عن طبيعة تلك الزيارات الغريبة من رجال المنطقة لمنزلها، وللمرة الأولى اتخذت موقفًا حادًا معه، فهبت واقفة، وأخبرته بلهجةٍ صارمة، وتعبيراتها تعكس سخطها:.

-شوف يا حاج اسماعيل، إن كنت جاي تعزي بنتي في جوزها، فأهلاً وسهلاً بيك، غير كده هتمسوا سمعة بنتي بحرف فأنا مش هسمح بده.
رد مبررًا كلامه السخيف المبني على ادعاءات ابنه الباطلة:
-احنا بنتكلم في الأصول.
صاحت بتشنجٍ استغرب كثيرًا منه:.

-الأصول طول عمري ماشية بيها من زمان، من وقت ما جوزي الله يرحمه مات وأنا جمب الحيطة، قافلة على نفسي وعلى بناتي، وإنت أكتر واحد عارف الكلام ده يا حاج، عيب أوي لما تصدقه على طول مهما كان مين اللي قالك.
حمحم في خفوتٍ، وقال مُختلقًا الأعذار ليحسن من مظهره، ويحفظ ماء وجه ابنه:
-كل الحكاية إني مش عايز آ...
قاطعته بعصبيةٍ، وقد اِربد وجهها بالغضب:.

-يا حاج ده إنت ناقص بتتهم بنتي علني، والجماعة اللي شرفوا البيت معروفين في الحتة كلهم أهل مروءة وشهامة، وعارفين الأصول أكتر مني ومنك.
نظر لها بعينين ضيقتين، بينما تابعت عصبيتها المزعوجة:
-مش هايجي على آخر الزمن اللي يطعن في شرف بنتي وأنا أسكتله.
أطلق زفرة بطيئة وهو ينهض من جلسته، ثم عقب بصوته الهادئ:
-عمومًا يا آمنة، ده مش وقته، بنتك تخلص عدتها، وبعد كده نتكلم.

قطعت عليه التطرق لتلك المسألة بقرارها الفوري والصارم:
-لا بعدين ولا قبلين، الموضوع ده مرفوض فيه الكلام.
تحرك في اتجاه باب المنزل وهو يودعها بقليلٍ من الحرج:
-أنا عملت الواجب خلاص، سلامو عليكم.
تبعته سائرة خلفه قائلة بنفس اللهجة المتشددة:
-قول ل فضل يرحم نفسه، ويركز مع مراته وعياله أحسن، هما اللي هايبقوله.
على مضضٍ غمغم باقتضاب:
-ربنا يسهل.
وقبل أن تغلق الباب في إثره رفعت نبرتها مكررة على مسامعها:.

-إن كنت سِكت مرة، وسبت بنتي تتهان، فالمرادي لأ، وصل الكلام ده لابنك يا حاج.
لم يعلق عليها، وواصل هبوطه الدرج، للحظات بقيت في مكانها متسمرة عند الباب، صدرها يلهج في ضيقٍ غاضب. في تلك الأثناء، كانت فيروزة في طريقها للنزول مع رقية بعد أن انتهت كلتاهما من تنظيف المنزل بالأعلى، تساءلت الأولى في دهشةٍ:
-أنا شايفة عمي نازل من فوق، هو لحق؟
أشارت ابنتها بيدها للأعلى، وتابعت بصوتٍ شبه لاهث:.

-ده أنا يدوب قفلت شقة خالي بسرعة، عشان أنزل اقعد معاه.
رفعت رقية أنظارها نحوها متسائلة في براءة:
-كده أروح ألعب؟
ابتسمت قائلة لها وهي تداعب طرف ذقنها:
-أه يا حبيبتي، العبي لحد ما تزهقي.
ركضت الصغيرة للداخل لتلهو، بينما لم تجد تعليقًا من والدتها، فقط نظراتها الحانقة مسلطة على ما كان أثرًا لعمها، تقدمت نحوها، وتساءلت بتوجسٍ:
-مالك يا ماما، في حاجة حصلت؟
تنهدت بصوتٍ مرتفع، وأجابتها بوجهها العابس:.

- فضل لَسِّن بكلام مالوش أي لازمة
قطبت جبينها متسائلة بشكٍ:
-عن مين؟
لازمت آمنة الصمت المريب، فلاحقتها بسؤالها التالي، وبوادر الغضب تتصاعد إليها:
-اتكلم عني؟ صح؟
نظرت في اتجاهها، وردت بنفس الوجه الواجم وهي تربت على ذراعها:
-مش عايزاكي تزعلي يا فيروزة، أنا كلمت عمك جامد.
اهتاجت على الفور، وصرخت بانفعالٍ كبير:
-مين ده أصلاً عشان يتكلم عني؟ هو إيه مصدق؟

حاولت والدتها تهدئتها؛ لكن فلتت زمام الأمور منها، أضافت فيروزة تتوعده بكراهية بغيضة:
-والله العظيم لو فتح بؤه بكلمة عني تاني لهقلع اللي في رجلي وأضربه بيها على دماغه.
توسلتها آمنة بتخوفٍ، بعد أن رأت حالتها المتعصبة:
-اهدي بس يا فيروزة، أنا رديت حقك.

وكأنها تخاطب نفسها، لم تصغِ لكلمة واحدة مما قالتها، حيث اقتحم عقلها مشهد إذلالها في عقر داره، بحجة التأكد من عفتها وطهرها. انقبض قلبها للذكرى، وشعرت بالوخزات تطعن فيه وهي تنطق بصوتٍ جريح متألم:
-هو مكفهوش اللي عمله فيا؟
وضعت والدتها كلتا يديها على كتفيها تهزها برفق منهما، ورجتها بخوفٍ بائن عليها:
-متضايقش نفسك.

احتقنت عينا فيروزة على الأخير، تجمع في وجهها كل أشكال الحقد والغضب، ودمدمت بأنفاسها الهادرة:
-اللي زي البني آدم ده عايش على أذية الناس، مفكر نفسه أحسن واحد في الكون، وهو مايسواش، البغل أحسن منه.
احتضنت وجهها براحتي يدها، ومسحت عليهما بحنوٍ وهي تؤكد عليها:
-خلاص يا حبيبتي، ماتتعصبيش، مافيش حد يستاهل تضايقي نفسك عشانه.
قالت معبرة بحرقةٍ اكتوت بها حتى أبت جراحها الاندمال:
-تغور القرابة اللي بالشكل ده.

ضمتها والدتها إلى صدرها، حاولت احتوائها في أحضانها الحانية، أبقتها لبرهة بين ذراعيها، ومسدت على رأسها بمزيدٍ من العاطفة، على أمل أن تنجح في امتصاص نوبة غضبها المسيطرة عليها.

فقدت شهيتها، وعزفت عن تناول الطعام لبقية اليوم، أثرت قضاء الساعات في غرفتها معزولة عمن حولها، لم تضغط عليها والدتها، متوقعة أن تنضم إليها لاحقًا، حينما تخبت عصبيتها، وتنطفئ جذوة غضبها. استلقت فيروزة على الفراش، وحملقت بالسقف مليًا، بنظراتٍ شاردة، ساهمة، لا تعي المحيط بها، انفصلت ذهنيًا عمن حولها، فصدماتها المكبوتة لم تتركها لحالها، طفت بقوةٍ على السطح من جديد، ودق ناقوس الأحزان في رأسها، ليذكرها بكل ما جابهته وعاشته بمفردها من قساوةٍ، معاناة، وشقاء. أغمضت عينيها في قهرٍ، وحزنها الراسخ مستبدٌ بجوارحها، تكالبت عليها كل الأوجاع، فاستغرقت في نومٍ كان أبعد ما يكون عن الراحة. اندفع تيار من الذكريات السيئة ليحتل أحلامها القريبة.

رأت فيروزة نفسها محتجزة في غرفة مربعة، جوانبها الأربعة مصنوعة من الزجاج، لا مخرج منها، ولا مهرب، ترتدي ثوبًا أبيض اللون، يغطي كامل جسدها بأكمامٍ متسعة، فيما عدا رقبتها ووجهها، كما انسدل شعرها خلف ظهرها. دارت حول نفسها في دهشةٍ، وحمى الرعب تسري في أوصالها. اندلعت النيران فجأة لتحاوطها من الخارج، وبدأت سحب الدخان تشق طريقها إليها، اندفعت في جنونٍ نحو أحد الجوانب، ضاربة بيدها الزجاج علها تنجح في إزاحته، أو تجد منفذًا يساعدها على الهروب قبل أن تختنق في محبسها الغريب؛ لكن لا جدوى، عجزت عن الخروج.

برزت عيناها في خوفٍ أشد، وتدلى فكها للأسفل عندما رأت آسر واقفًا على مسافة قريبة، زاد جحوظ عينيها وقد أبصرته يلقي بمادة ما غريبة على الزجاج؛ وكأنه يرغب في إحراقها حية، حركت شفتيها لتصرخ؛ لكن لم تجد صوتًا، وكأنها فقدت قدرتها على الكلام. التفتت راكضة نحو الجانب المقابل، فوجدت فضل واقفًا أمامه، يحدجها بنظراته الشهوانية الشامتة، وسوطًا غليظًا يرفعه للأعلى في يده، تراجعت في ذعرٍ متجهة لناحية أخرى، فرأت خالها يزحف أرضًا وهو يمد ذراعه العاجز نحوها، ومن خلفه تقف حمدية، كأنما تعيق تقدمه، وعيناها المغلولتان لا تكفان عن إظهار بغضها الدفين لها.

لم يتبقَ لها سوى جانبًا واحدًا لجأت إليه، شحذت كامل قواها الهاربة لتحرك الزجاج، نظرت أمامها، ووسط غيمة الدخان الكثيفة، وجدت صاحب الوعد الصادق الذي نفذ إلى قلبها قبل روحها، يقاتل شيئًا غامضًا، لم يكن تميم منتبهًا لها، بدا ملهيًا عنها بصراعه الخفي، فطرقت على الزجاج بقبضتيها في عنفٍ، راجية أن ينظر ناحيتها، تألمت يديها من خبطها الشديد، يئست من سماعه لاستغاثتها، فهتفت تناديه بقلبها، والدموع تنساب بغزارة من عينيها:.

- تميم!

أثناء استغراقها في كابوسها المؤلم، ولجت رقية إلى داخل الغرفة، والسرور يملأوها بعد أن انتهت من متابعة مسلسلها الكرتوني المفضل. ألقت نظرة فضولية على ابنة خالها النائمة، وهي تشرأب بعنقها للأعلى، نادتها بخفوتٍ:
- فيروزة.
وقفت إلى جوار فراشها، وأكملت تسألها:
-هتلعبي معايا شوية؟

انتظرت أن تجيبها؛ لكن لا شيء، فاعتقدت أنها ما زالت غافلة، لذا تحركت على مهلٍ لتفترش الأرضية، وتلهو بالدمي المتجمعة إلى جوار الدولاب، انتفضت في قلقٍ حينما سمعت أنينًا مكتومًا يصدر عنها، تجاهلته في البداية وواصلت اللعب؛ لكنه تزايد فوثبت على قدميها لتتجه إليها، نظرت إليها في خوفٍ غريزي، وقد رأت جسدها يهتز بصورةٍ عنيفة، وضعت يديها على ذراعها لتفيقها وهي تناديها:
- فيروزة!

زادت حدة التشنجات، فصرخت عاليًا:
-عمتو، تعالي بسرعة!
على إثر صوتها المرتفع حضرت آمنة متسائلة في استغرابٍ:
-في إيه يا رقية؟
أجابتها بتحيرٍ والخوف يتجلى على قسماتها:
- فيروزة بتعيط مش عارفة ليه.
لطمت آمنة على صدرها، وهتفت بجزعٍ:
-يا نصيبتي.
كانت نوبتها تلك المرة أشد وطأة عن ذي قبل، لم تختبر مسبقًا مثل تلك الحالة معها، فخفق قلبها رعبًا عليها، حاولت إيقاظها وهي تهزها من كتفيها:.

-ردي عليا يا فيروزة، إيه اللي حصلك بس؟
قفزت رقية على الفراش، لتجلس عند الناحية الأخرى، ومالت على رأسها تناديها بصوتٍ مال للبكاء:
- فيروزة، اصحي.
ثم رفعت عينيها في اتجاه عمتها، وقالت ببراءة:
-أنا خايفة.
لم تقف مكتوفة الأيدي تشاهد ابنتها تعاني، هرولت بخطواتٍ لا تتماشى مع جسدها الممتلئ، لتأتي بهاتفها المحمول، وبحثت عن رقم همسة لاجئة إلى مساعدتها. وما إن ردت على اتصالها هتفت بصوتها اللاهث:.

-الحقي أختك يا همسة، الحالة رجعتلها، وأنا مش عارفة أتصرف.

-استر يا رب.
ردد هيثم تلك الكلمات المناجية للمولى، وهو يهبط على درجات السلم، بخطواتٍ متعجلة، متجهًا للأسفل، فبمجرد أن أطلعته زوجته على الوضع الصحي لتوأمتها، حتى أسرع بتبديل ثيابه المنزلية بأخرى أكثر ملائمة، ليهرع إلى نجدتها بعد أن طلب منها المكوث، وبصعوبةٍ تمكن من إقناعها بالبقاء، وتركها تبكي في حزنٍ وخوف. قابل عند المدخل تميم الذي كان في طريقه للصعود مستندًا على عكازه، سأله الأخير متعجبًا:.

-إنت رايح فين السعادي؟
ودون أن يجيبه، وضع قبضته على ذراعه، وجذبه منه قائلاً بغموضٍ مقلق:
-تعالى معايا يا تميم.
سار معه متسائلاً بنبرة حائرة، وعيناه تفحصان تعابيره الغريبة:
-ما تقولي يا ابني حصل إيه؟
أبطأ من سيره المتعجل، والتفت ناظرًا إليه، ليجاوبه بوجهه الغائم:
-الست حماتي بتقول بنتها جاتلها الحالة، ومش عارفة تتصرف.

لحظة حديثه عنها، انقبض قلبه في فزعٍ، وسأله ليتأكد من مقصده، وهو يدعو الله أن تخيب ظنونه، بملامحٍ بهتت من خوفه الحقيقي عليها:
-إنت بتكلم عن فيروزة؟
رد باقتضابٍ:
-أه هي.

استرجع في ذهنه ما مرت به سابقًا من حالة جمود غريبة، جعلتها آنذاك فاقدة للإحساس بمن حولها، اتسعت عيناه لمجرد تخيله للأمر، وشعر بانسحاب روحه من جسده، بأن أنفاسه توقفت، باعتصارة مميتة نالت من قلبه، اهتز كيانه بالكامل، بالكاد تماسك، أظهر ثابتًا زائفًا، وهتف بقسماتٍ غامت بشدة، وبعقلٍ سبقه بلهفته المذعورة إليها:
-يالا أوام.

لو كان الأمر بيده لنقل كامل أوجاعها إلى جسده، لتنخر فيه وحده، فلا تتأذى، ولا يسرق الألم منها بسمتها، يكفيه أن تكون في مأمن من أقل ضرر. عدَّ تميم الثواني ليصل إليها، ولسانه يدعو سرًا للخالق بأن ينجيها من آلامها، سبقه هيثم في خطواته بعد أن صف السيارة إلى جوار مدخل البناية القصيرة، ورغم إحساسه بالوخزات الحادة في ساقه لضغطه القاسي عليها ليصعد ركضًا، إلا أن ذلك لا يصف مدى الوجع الذي حز في قلبه لتخيل معاناتها.

وجد الباب مفتوحًا عندما وصل إلى طابقها، قرع الجرس تحسبًا، ونادى مستئذنًا:
-يا رب يا ساتر.
خرجت إليه رقية تبكي وهي تخبره:
- فيروزة تعبانة أوي.
هبط قلبه بين قدميه فزعًا، وسألها بصوتٍ حاول أن يبدو هادئًا:
-هي ماما مش معاها؟
أجابت عنها آمنة بصوتها الحزين:
-كتر خيركم يا ابني، معلش جبناكم على ملى وشكم.
سألها بصوتٍ متذبذب، لم ينجح عبره في إخفاء توتره المرتعد عليها:
-هي عاملة إيه؟
ردت والدموع تطفر من عينيها:.

- هيثم بيكلم الدكتور يجي يبص عليها، أنا مش عارفة جرالها إيه.
تعاظم إحساسه بالخوف، واستأذنها بلوعةٍ، غير عابئ بالتقاليد والأعراف في تلك المرة:
-طب، ينفع أشوفها؟
نظرت له بترددٍ؛ وكأنها تفكر في الأمر، فألح عليها بنظراته الخائفة، تلك التي نطقت بوضوحٍ عن مشاعره العميقة، وإن لم يسعفه لسانه في البوح بها، أومأت برأسها موافقة وهي تشير نحو الداخل:
-تعالى يا ابني.

اضطربت أنفاسه وهو يسير خلفها ليتبعها، لم يكن ليتجرأ على تلك الخطوة المناقضة لمبادئه لولا فقدانه للسيطرة على كبح خوفه المتزايد عليها. توقف عند أعتاب غرفتها ينظر إلى جمود جسدها بنظراتٍ تجمع فيها كل مشاعر الحب، والخوف، والقلق، واللهفة، والحُرقة. احتجزت عيناه –تلقائيًا- العبرات، طردها بظهر كفه، ودنا من فراشها يتأمل تيبس جسدها في صمتٍ؛ كانت شاحبة، جامدة، وباردة الملامح، خُيل إليه لحظتها أنها تخلت عن رغبتها في الحياة، تكورت أصابعه حول عكازه حتى ابيضت مفاصله من ضغطه الشديد. إن أمعنت النظر إلى صدره لوجده ينتفض في ثقلٍ؛ وكأن جبلاً يجثم عليه، برقت عيناه بصدمةٍ حينما نادته بهسيسٍ وسط سكونها القابض للأرواح:.

- تميم.
دون مقدماتٍ جثا على ركبته أمام فراشها، امتدت يده لتمسك بكفها المسنود إلى جسدها المسجى على مستوى نظره، ضم أناملها داخل قبضته، وقال بصوتٍ أقل همسًا:
-أنا جمبك.
شعر بحركة خفيفة داخل راحته، فأخفض نظراته نحو أصابعها، ودقات قلبه تتسارع، ثم عاد ليحملق في وجهها، وناداها بتنهيدةٍ خافتة، جمعت ما بين لوعة الألم وحرقة الشوق:
- فيروزة!

لو لم يكن واعيًا في إدراكه لتوهم ابتسامتها الباهتة له، هربت دمعة من طرف عينه، وأخبرها بصوتٍ متأثر:
-أنا معاكي، وسندك.
همهمة غير مفهومة آتية من الخارج جعلته ينتبه لتصرفه الذي قد يُساء فهمه، إن رأه أحدهم في تلك الوضعية الحرجة، ترك يدها مرغمًا، وتدارك نفسه، ليستقيم بعدها في وقفته، ثم تراجع خطوتين للخلف، تاركًا المسافات بينهما؛ لكن ظلت عيناه مثبتة عليها. ولج الطبيب لداخل الغرفة مستأذنًا:.

-ممكن تتفضلوا برا عشان أشوف شغلي، يا ريت بس والدتها تكون معايا.
انسحب بهدوءٍ، والحزن يعتصر قلبه، أدار رأسه في اتجاه هيثم الذي خاطبه:
-تعالى يا تميم.

بكل ما فيها من بطءٍ وكسل مرت الدقائق عليه كأنها سنوات، أثناء وقوفه بالشرفة منتظرًا الأخبار المطمئنة، استنفذ ما يملك من صبرٍ، وأصبح على شفا الخروج عن عقلانيته الزائفة، استرخائه كان مستبعدًا، فكيف يهنأ البال، وطاووسه حبيس أوجاع الماضي؟ التفت كالملسوع وصوت آمنة يردد شاكرًا:
-كتر خيرك يا دكتور.

خرج متكئًا على عكازه الطبي، ونظراته تتوزع بينهما محاولاً فهم ما يدور، شدد الطبيب قائلاً، كنوعٍ من التوصية:
-مش لازم تسكتوا عن الحالة دي، يُفضل إنها تتابع مع دكتور نفسي متخصص، طالما متكررة معاها.
هزت رأسها في أسفٍ وهي ترد:
-حاضر يا دكتور.
مد يده بورقة انتهى من الكتابة فيها، وتابع:
-ويا ريت تجيبوا الأدوية دي ليها.
أقبل عليه تميم مختطفًا الوصفة الدوائية من أصابعه قائلاً بعزم:
-تمام يا دكتور، أنا هتصرف.

نظرت له آمنة في امتنانٍ، فأكمل وهو يخرج من جيبه مبلغًا نقديًا:
-اتفضل.
تناول الطبيب أجرة زيارته الاستثنائية العاجلة، ورد مبتسمًا بنبرة موجزة:
-شكرًا.
علق هيثم بجديةٍ، حتى لا يرهق ابن خالته، قبل أن يرافق الطبيب في اتجاه الباب:
-عنك يا تميم، أنا هوصل الدكتور في سكتي، وهاجيب الدوا.
أومأ برأسه في حبورٍ، واستدار ناظرًا إلى آمنة يسألها بصوته القلق:
-أخبارها دلوقتي إيه؟
ابتسمت قائلة في رضا:.

-أحسن من الأول بكتير، تسلم يا ابني، تعبتك وإنت مش قادر.
رد بزفيرٍ مضطرب:
-أنا معملتش حاجة...
لعق شفتيه، وسألها مستفهمًا:
-بس هي مش كانت بطلت الحكاية دي؟
بعد تنهيدة مرهقة أجابته:
-أه، يجيلها فترة، بس معرفش إيه اللي جد...
على ما يبدو تذكرت عصبيتها اليوم، فانزلقت تُعلمه من تلقاء نفسها؛ وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-أكيد اللي قاله فضل لعمها ضايقها.

تبدلت تعابيره للقساوة، ونظراته للقتامة وهو يسألها بنبرةٍ لم تكن تبشر بخير:
-هو قال إيه عنها؟
تحرجت من إخباره بالأمر، وتهربت قائلة:
-خلاص مالوش لازمة، المهم إنها بقت كويسة.
بالكاد كبح رغبة عارمة في المغادرة فورًا، والذهاب إلى ذلك الوضيع في عقر داره، لتلقينه درسًا لا ينساه ما دام حيًّا، غمغم بفحيحٍ لم تسمعه آمنة جيدًا:
-الحساب يجمع!
سألته في استغرابٍ:
-بتقول حاجة يا معلم؟
رد نافيًا، وتعابيره ما تزال قاسية:.

-لأ، مافيش.
لفظ دفعة من الهواء من صدره، وقال:
-أنا هستنى تحت لحد ما هيثم يرجع.
أصرت على بقائه مرددة:
-ليه ما تخليك؟

كان بحاجة لمتسع من الفراغ، لينأى بما يكبته من مشاعر غاضبة تهدد بالظهور، كلما جاء لسان أحدهم على ذكر الحقود فضل، واستمرار بقائه هنا، وهو في تلك الحالة المستنفرة لن يسفر إلا عن كارثة حتمية، لهذا اعتذر منها:
-تسلمي يا حاجة، كده أحسن.
شكرته مجددًا على موقفه النبيل، واصطحبته إلى باب المنزل، ليجد الصغيرة رقية ترمقه بنظرة ممتنة، قبل أن تودعه ببراءة:
-باي باي يا عمو، هستناك تجيلنا.

مسَّت كلماتها العفوية قلبه، وبردت قليلاً النيران المستعرة في صدره، منحها نظراته الحانية، ويده تمتد لتداعب أعلى رأسها، ثم انحنى بجذعه ناحيتها ليبدو قريبًا منها، وقال مبتسمًا:
-وأنا مستني أشوفكم تاني.
طبع قبلة صغيرة على وجنتها، وهمس بالقرب من أذنها بابتسامةٍ عادت للإشراق، وعقله سارحٌ في مُهجة الفؤاد:
-دي ليكي، و، ل فيروزة...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة