قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الحادي والثلاثون

مع التفافة رأسها السريعة، تطاير طرف وشاحها الأسود غير المربوط، والمصنوع من قماش الشيفون، حيث كانت تطرحه على شعرها لتغطيته قليلاً، لتنظر في نفس الاتجاه المحدق به الحاج بدير، وضعها له اعتبرته أولى خطواتها نحو الاعتياد على ارتداء ما يغطي رأسها، رغم كونها تضع في أغلب الأوقات منديل الرأس؛ لكنها أرادت أن يكون التزامها بارتداء الحجاب كاملاً، وليس كما اعتادت سابقًا مجرد حجب لشعرها.

التقت الأعين ببعضها البعض، فتلبكت فيروزة من النظرات التي غمرتها كليًا، وأشعرتها أنها حقًا محور الاهتمام، وإن لم يصرح تميم بهذا علنًا! كانت قد علمت بمحض الصدفة عن غيابه بحجة السفر، وتجاهلت التفكير في الأمر، مؤكدة لنفسها أن شأنه لا يعنيها، لا داعي لمنحه أهمية أكثر من اللازم، فما جمعهما من مواقف لا يستدعي كل هذا التضخيم؛ لكن مع حضوره تبخر ما ظنت أنه الأصح لها. أحنت رأسها على صدرها، متحاشية طريقة تطلعه إليها، لتمد يدها ساحبة الوشاح من جديد على رأسها، وملقية بطرفه المحلول على جانب كتفها.

استرعت حركتها العفوية انتباه تميم، فلم يلحظ ما تضعه في البداية، ربما لكونه ملفوفًا حول عنقها، ومع هذا انتابته حالة من الفضول الشديدة، للتأكد من نواياها إن أقبلت حقًا على ارتداء الحجاب، تمنى باشتياق أن تفعلها، فلا يتمتع الغريب عنها بما هو محرم عليه، لمعت عيناه في توقٍ لرؤية تلك الأمنية تتحقق على أرض الواقع، ليحظى وحده بكامل سمات جمالها الفطرية، فقط إن شاء المولى ويسر له الزواج بها. تقدم بدير نحو ابنه، واستقبله في أحضانه، رابتًا على ظهره وهو يُحييه:.

-منور يا ابني، طولت الغيبة المرادي.
رغمًا عنه، خالف تميم وعده لأبيه، واستمر في تحديقه لها من زاوية رؤيته، تلك التي منحته المزيد من الفرص المغرية لتأملها عن كثب. ابتسم في بهجةٍ، وقال:
-الحمدلله يابا، أنا رجعت خلاص.
وبجهدٍ مضاعف عن ذي قبل أبعد نظراته المتشوقة عنها، ليركز بصره على والده، وتابع حديثه له:
-متقلقش عليا.
رد بدير متسائلاً بابتسامته الوقورة، وهو يسحبه نحو الجانب:
-طب خير، عديت على أمك ولا لسه؟

أجابه ابنه نافيًا:
-لأ، أنا جيت عليك على طول.
ربت على جانب ذراعه، يستحثه على التحرك معه، بعيدًا عن فيروزة تحديدًا، وهو يخبره:
-طيب روح عندها طمنها، زمانها متشوقة تشوفك.
أومأ برأسه قائلاً وهو يتبع خطواته الموجهة:
-وأنا والله...
لهنيهةٍ توقف عن الكلام ليسأله في فضولٍ قاومه كثيرًا:
-بس مقولتليش بتعمل إيه هنا؟
نظرة حازمة منه إليه، تبعها قوله الجاد:
-بعدين يا تميم.
حمحم مبديًا طاعته لأمره المتواري بصوتٍ خفيض:.

-حاضر يا حاج.
بالكاد أوشك على الذهاب حينما ارتفع عيناه نحو الأعلى، لينظر نظرة شاملة على المكان عمومًا، وسريعة خاطفة نحو طاووسه العائد؛ لكن تجمدت نظراته على العامل الذي كان يطلي الواجهة وهو يقف على السقالة الخشبية، فقدمه كانت قريبة من وعاء الطلاء، وقبل أن يبادر تميم بتحذيره، ركله العامل بعنفٍ –وبغيرِ قصدٍ- وهو يتحرك للجانب لينسكب ما فيه، مسببًا فوضى عارمة على الأرضية. هدر تميم عاليًا في غضبٍ:.

-إنت يا ابني، مش تفتح وتاخد بالك؟
انتفضت فيروزة للكارثة الحادثة على مقربة منها، والتفتت للجانب ملقية نظرة مصدومة على ما حدث، فرأت لطخات عشوائية من الطلاء قد طالت ثيابها السوداء فأفسدت مظهرها الخارجي، بينما واصل تميم صياحه الحانق:
-في بني آدمين واقفين هنا، عجبك البهدلة دي؟
رد عليه العامل بقليلٍ من التوجس، قبل أن يهبط عن السقالة الخشبية، وقد رأى علامات الغضب واضحة على تعابيره:.

-ماخدتش بالي يا ريس، لا مؤاخذة.
دنا منه تميم ملوحًا بذراعه وهو يهدده علنًا بخشونةٍ قوية:
-ودي أصرفها منين لا مؤاخذة بتاعتك دي؟ ليلتك طين.
جاء والده من خلفه يطلب منه بجديةٍ:
-سيبه يا تميم.
استدار ناحيته يخاطبه:
-إنت مش شايف يا حاج استهتاره؟
هز رأسه وهو يشدد عليه:
-معلش، اهدى.

استاءت فيروزة من إفساد ثيابها، ببقع متفرقة من الطلاء، يصعب إزالتها بالمناشف الورقية، ومع هذا لم ترغب في نشوب الشجار وتصاعد الأحداث، خاصة بعد تجمهر القليل من المارة الذين وقفوا لمشاهدة ما يحدث بتطفلٍ مبرر. تنحنحت قائلة بضيقٍ محسوس في صوتها:
-خلاص يا جماعة، حصل خير.
رد تميم محتجًا:
-لأ، محصلش.
رأى بدير ثيابها غير النظيفة، وتساءل في انزعاجٍ:
-هتمشي إزاي كده يا بنتي في الشارع؟
على مضضٍ أجابته:.

-يعني هتصرف، هاشوف تاكسي ولا حاجة قريبة توصلني للبيت.
دون إعادة تفكيرٍ، خلع بدير عنه قفطانه الداكن، ومد به يده نحوها عارضًا عليها:
-خدي ده عليكي.
تحرجت من تصرفه اللبق، وقالت:
-بس آ...
قاطعها بإصرارٍ:
-مافيش بس، أحسن ما الناس تتفرج عليكي.

جابت بنظراتها سريعًا على الأشخاص المراقبين للموقف، لم يكن من المحمود أبدًا التحرك هكذا أمام أنظارهم الجريئة، تحولت نظراتها نحو بدير مجددًا، فالأخير كان يملك من الفطنة ما جعله يتدارك الموقف سريعًا، بل ويجيد التصرف فيه بحكمةٍ وروية، لهذا لم تجادله كثيرًا، تناولت القفطان منه، ولفت به كتفيها، لينسدل على كامل ظهرها، ثم ضمت طرفيه معًا، فغاصت بداخله. رفعت فيروزة رأسها للأعلى، عندما تابع بدير أوامره الجادة لها:.

-تعالي معايا أوصلك.
هزت رأسها موافقة، ولم تحاول النظر في اتجاه تميم الذي لم يفوت الفرصة ليتأملها بثياب أبيه في دهشة لا تخلو من الغرابة والذهول، قبل أن يبعد عينيه عنها ليحدق في العامل بنظراته المهددة. التفت بدير نحوه يحذره بإشارة من عكازه:
- تميم مش عايز أي عاركة هنا، الواد مايقصدش، لِم الدور.
كز على أسنانه هاتفًا بصوتٍ محموم:
-ماشي كلامك يا حاج.
لكزة مؤلمة بكوعه، سددها تميم للعامل في ذراعه وهو يعنفه:.

-ابقى ركز يا بأف.
أحنى رأسه مرددًا في انصياعٍ:
-تمام يا ريس.
صفق تميم بكفيه معًا، هادرًا في التجمهر البسيط المتواجد في محيط الدكان:
-الليلة خلصت يا جدعان، الكل على أشغاله الله يكرمك.
في أقل من لحظاتٍ انفض التجمع، وعادت نظراته تهيم فيما نسجه الخيال مجددًا لصورة طيفها، وهو يكبح ابتسامة مسرورة تعانده للظهور على محياه.

ما إن انتهى من شحن هاتفه المحمول برصيدٍ زائد، حتى ولج إلى بعض المواقع الإباحية لتحميل بضعة مقاطع خارجة، لمشاهدتها خلسة مع نفسه، عله يستدعي جذوة نشوته المنطفأة، فتزداد وهجًا واشتعالاً. تمدد فضل على فراشه، عاقدًا ساقيه معًا، وممسكًا بالهاتف بيده، حملق ملء عينيه في الشاشة، بعد أن أخفض نبرة الصوت، وهمهم بنبرةٍ هامسة محفزًا نفسه:.

-وأدي أعدة، أما نشوف بقى الحلويات دي، بردك عايزين نستعد، ونعيد الذي كان بعد ما نسينا الدلع والهشتكة.
مقطع أعقبه آخر، ولا أدنى تأثير عليه، فاستمر في البحث عما يبث النار في خلاياه الحسية؛ لكن دون جدوى، شعر بتبلده وجموده، فانتابه القلق. اعتدل في رقدته، وتساءل في خوفٍ:
-إيه ده؟ ولا حاجة كده!

قضى ما يقرب من الساعة وهو يسعى بشتى الطرق لإنعاش إحساسه، ورغم ذلك، بقي جسده خامدًا دون استجابة مشجعة. تصبب عرقًا باردًا، وردد في ارتعابٍ، مستعيدًا في عقله لمحاتٍ من الضرب العنيف الذي تلقاه على يد تميم:
-لأحسن يكون اللي في بالي صح.

ساعة أخرى انقضت عليه، وقد نفذ كامل رصيده، بعد مشاهدات لأكثر المواقع إثارة، دون تأثيرٍ حسيٍ ملموس، ألقى بالهاتف في عصبيةٍ، ولون بشرته قد صار باهتًا. هبط عن الفراش مدمدمًا في توترٍ مذعور:
-تبقى سنة سوخة لو ده بجد.
حاول تهدئة نفسه، والتجاوز عن هواجسه مخاطبًا نفسه:
-أنا كويس، مافياش حاجة، هوهم نفسي ولا إيه؟
بلع ريقه الجاف مستشعرًا مرارته، وتابع بأنفاسٍ مضطربة؛ وكأن عقله قد أضاء بفكرةٍ جهنمية:.

-مقدميش إلا أشوف الحباية إياها، ما أنا كنت مضغوط الأيام اللي فاتت، وأعصابي تعبانة.
عقد فضل العزم على شراء إحدى الأدوية المنشطة، لتحفيز الكامن من خلاياه، مقتنعًا بأنه لا يعاني من أي مشكلة عضوية، وتجربة الاعتداء البدني عليه، خلفت فقط بضعة سجحاتٍ وتسلخات داوتها الأدوية.

امتلأت المائدة المستطيلة بكل صنف طعام اشتهى ابنها تناوله، فباتت وجبة الغذاء وليمة عظيمة تكفي لعشرات الأشخاص. وضعت ونيسة في صحن تميم، الكثير من الطعام، وهي تشجعه على إفراغه من محتوياته:
-كُل يا ضنايا، ده إنت وشك أصفر زي الليمونة.
ابتسم لها وهو يلوك لقيمات منه في جوفه، بينما استمرت في تفرس وجهه وهي تسأله بتشكيكٍ:
-إنت كنت تعبان ولا إيه؟ وشك دبلان.
بلع ما مضغه، ليعلق بعدها:
-أنا الحمدلله كويس.

هزت رأسها معترضة:
-لأ، مش باين عليك.
في حين أخبرها سلطان، وهو يتأمل تصرفها الأمومي الحريص باستغرابٍ:
-سبيه يا ونيسة، الواد كويس قدامك أهوو.
أيده تميم في رأيه ناظرًا في اتجاهه:
-قولها يا جدي.
احتجت على كليهما بقولها:
-أنا أدرى بابني، هو خاسس، ومش عاجبني.

أقبلت عليهم هاجر وهي تحمل رضيعها على ذراعها، وبيدها الأخرى تمسك بصحن الملوخية، وضعته في منتصف المائدة، قبل أن تمرر أنظارها على أفراد عائلتها وهي تسألهم في اهتمامٍ:
-ناقصكم حاجة تانية؟
ردت ونيسة نافية:
-لأ يا هاجر، اقعدي.
أشار لها تميم بيده:
-هاتي الواد العفريت ده عنك شوية.
اقتربت منه برضيعها، وأعطته له مبدية ترحيبها الشديد بطلبه:
-أهوو تريحني منه.
هدهده تميم بمحبةٍ كبيرة وهي يتساءل:.

-حبيب خالو، عامل إيه معاكي يا هاجر؟
بعد زفيرٍ مزعوج أجابته:
-مطلع عيني.
اعترضت عليها أمها بسخطٍ:
-هو لسه عمل حاجة؟ ليل نهار بتشتكي منه.
بررت ضيقها موضحة:
-ما أنا بصراحة مش فهماله حاجة، على طول زن وعياط.
علقت عليها أمها بصوتٍ مال للجدية:
-هما العيال في السِن ده كده، وبعدين ده الأيام بتعدي هوا.
رد تميم برجاءٍ:
-ربنا يباركلك فيه، وتحسني تربيته.
مسحت هاجر على كتف شقيقها، وقالت بابتسامةٍ حنونة:.

-يا رب أشوفه زيك كده يا تميم.
أتاها تعقيبه مؤكدًا:
-إن شاءالله، ده أنا اللي هاربيه على إيدي.
استدارت شقيقته برأسها نحو أبيهما عندما خاطبها مباشرة للفت انتباهها:
-بأقولك يا هاجر..
التفتت ناحيته هاتفة:
-أيوه يابا.
قال بعد تناول ملعقة من الشوربة الساخنة:
-كنت بأفكر أبيع الشقة بتاعتك، وأحطلك فلوسها في حسابك في البنك، مالهاش لازمة قفلتها، إيه رأيك؟
تنهدت قائلة بفتورٍ:
-اللي تشوفه صح اعمله.

راح يشورها في الأمر مشددًا عليها:
-أنا باخد رأيك، مش عايز أعمل حاجة إنتي مش عايزاها.
بعد لحظة من الصمت نطقت بوجهٍ يميل للتجهم:
-بيعها يابا، أنا مش عايزة حاجة تفكرني باللي عشته وشوفته مع قليل الأصل.
رد في استحسانٍ:
-ماشي يا بنتي.
وجهت ونيسة حديثها لزوجها تسأله في اهتمامٍ:
-ها يا حاج خلصت توضيب دكان فيروزة؟

تطرق أحدهم لسيرتها كان كفيلاً بجعل نبضات قلبه تتسارع، جاهد تميم ليبدو هادئًا، غير مقروء التعبيرات، بينما تحفزت كل حواسه لتقصي أخبارها بالكامل، ادعى انشغاله بالعبث فيما يملأ صحنه من طعامٍ، وركز سمعه مع والده الذي أجاب:
-فاضل كام حاجة ونقفله.
رددت أمه في تضرعٍ:
-ربنا يجعله فاتحة خير عليها، هي بنت حلال وتستاهل، وكويس إنك معاها يا حاج، بدل ما الغريب يضحك عليها.

قدرته على البقاء بلا ردة فعلٍ كانت مستحيلة، لاك الطعام ببطءٍ، وهو يشعر بتلاحق خفقاته، واضطرابٍ في معدته، تشنجت يده على الملعقة حينما أضافت هاجر في إعجابٍ:
-أه والله، هي أصلاً بنت جدعة، مابتحبش تعتمد على غيرها.
وافقتها ونيسة في الرأي:
-مظبوط.

حقًا كان غير يسيرٍ عليه أن يمثل عدم مبالاته أمام مدحها عفويًا بكل الصفات المحمودة التي يحبذ سماعها عنها، دفع تميم مقعده للخلف، وأعاد الرضيع لأمه، ليتحرك مبتعدًا عن المائدة. سألته ونيسة في استغرابٍ:
-رايح فين يا تميم؟
أجلى أحباله الصوتية، وأجابها مشيرًا بذراعه:
-هاخش أريح جوا.
مصمصت شفتيها معقبة في إشفاقٍ:
-أكيد تعبان من السفر والشقا ليل نهار.
رد وهو يفرك مؤخرة عنقه:
-يعني.
أخبرته والدته بنوعٍ من الإعلام:.

-ماتحاولش تنام، أنا بعد ما ألم الأطباق هاعملك شوية شاي تظبط بيهم دماغك.
استحسن عرضها، وقال في امتنانٍ:
-تسلم إيدك يا ست الكل.
انسحب بعدها من المكان، موليًا عائلته ظهره، ويده موضوعة على صدره، تتحسس قلبه القافز بين ضلوعه في رغبةٍ ورجاء، لا يمكن إنكار الابتسامة العريضة التي أنارت وجهه، وتلك المرة لم يبذل جهدًا لإخفائها.

جاءت بصحبة والدها، في الموعد المتفق عليه مع مضيفتها، لتجمع متعلقاتها الشخصية، وما يحتاج إليه أبنائها من ثيابٍ وأشياءٍ ضرورية كانت متروكة فيه، لكونه كان فيما مضى مسكنها. رحبت سعاد بطليقة ابنها، واستقبلتها بودٍ، ليظل والد الأخيرة جالسًا بالخارج في انتظارها. عاودت احتضانها قبل أن تعاتبها في لطفٍ:
-بقى كده يا بنتي؟ تهون عليكي العِشرة؟
في سخطٍ متهكم أجابتها:.

-أنا بردك يا خالتي؟ إنتي بنفسك عارفة عملت إيه عشان أرضي ابنك، وفي الآخر اترميت في الشارع.
هتفت بسجيةٍ، معللة تدهور الأوضاع بينهما:
-ده شيطان ودخل بينكم، استهدي بالله كده وآ...
قاطعتها في احتجاجٍ حانق:
-يا خالتي ابنك مصدق خلص مني، وطلقني بالتلاتة، بعد ما خلاني أبريه من كل حاجة، تقوليلي شيطان وكلام من ده؟
أطرقت رأسها في خزيٍ وهي تغمغم:
-والله أنا وشي منك في الأرض.

ابتلعت غصة في حلقها، وواصلت الحديث معها بضيقٍ:
-محدش ليه ذنب غير ابنك، وقلة أصله...
لكن ما لبث أن غلف الألم صوتها وهي تكمل:
-أنا اللي رخصت نفسي من الأول، ورضيت أخد بالجزمة فوق دماغي، وأسكت عشان عيالي.
طردت كتلة ثقيلة من الهواء عن صدرها، وأضافت بتعابيرٍ واجمة:
-الكلام مش هايغير حاجة، كل واحد خد نصيبه، خليني ألم حاجتي، وأخد كام هِدمة للعيال يغيروا فيهم.
قالت بملامح آسفة:
-ده بيتك يا سها.

همَّت بالتحرك؛ لكن ظهر لها من العدم آخر من ترغب في رؤيته، بسحنته المقلوبة، وتعابيره اللزجة. على الفور بادر فضل بالهجوم عليها بإهانةٍ سافرة:
-هي بوز الإخص دي بتعمل إيه هنا؟
حذرته والدته من التمادي في الخطأ بلهجةٍ غير راضية:
-ما تحفظ لسانك يا فضل، بلاش قلة أدب.
بينما قابلت سها إهانته بردٍ وقح، لم يتخيل أن تجرؤ على النطق به، وهي تشير بسبابته نحوه؛ وكأنها تقلل منه بازدراء شديد:.

-سبيه يا خالتي، هو مافهوش إلا لسان؟
اهتاج من احتقارها الفظ، وسبها بوجهٍ مشتعل:
-آه يا بنت ال...
قاطعته قبل أن يواصل إهانتها، مهددة إياه بقوةٍ لا تعرف كيف امتلكتها أمامه، بعد سنواتٍ من الذل والخذلان:
-عندك، أبويا واقف برا، ولو مديت إيدك عليا هاخليه يسجنك.
صاح بها في حنقٍ مغتاظ:
-إنتي جاية تهدديني في بيتي؟
ضحكت هازئة به:
-لأ، هو أنا أقدر يا سبع البرومبة؟
سألها بنبرةٍ مغلولة وهو يرمقها بتلك النظرة الدونية:.

-جاية ليه يا وش البومة؟
جاوبته بتأففٍ:
-أخد حاجتي، وماشية.
لوح لها بيده وهو يهدر بها:
-طب انجزي وغوري..
حدجته بنظرة نارية قبل أن تكمل سيرها؛ لكنه استوقفها هاتفًا، وكأنه يغيظها:
-ولعلمك بكرة هاتجوز ست البنات وأكيدك.
ضحكت في استهجانٍ وهي تخبره:
-دي أكيد أمها داعية عليها اللي تتبلي بيك.
اشتاط غضبًا من ردها المستخف به، وصاح في حقدٍ:
-شايفة يامه الغلط؟ وتزعلوا لما أكسر دماغها.

توقفت عن الضحك لترد بلهجةٍ جامدة تحمل الوعيد:
-أنا لو أعرف إنك موجود مكونتش دخلت من أساسه، والأحسن أنادي على أبويا يتصرف معاك.
تدخلت سعاد لتهدئة الوضع المتأزم بينهما بقولها:
-الموضوع مش مستاهل يا سها، خلي أبوكي مرتاح في المضيفة، وشوفي حاجتك..
ثم التفتت نحو ابنها تطلب منه بصوتٍ منزعج:
-وإنت يا فضل، امشي من قدام وشها السعادي.
هتف في حرقةٍ، وأمارات الغيظ تتراقص في ملامحه:.

-أنا ماشي من الخلقة اللي تغم النفس دي.
اختفى فضل من أمامها، ملقيًا ببعض اللعنات المسيئة إليها، بصوتٍ قصد أن يكون مرتفعًا، لتصل إهانته لها، فرددت سها تدعو عليه رافعة كفيها للسماء:
-ربنا يسلط عليك، اللي لا يخاف ولا يرحم، يا فضل يا ابن سعاد...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة