قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

بعينين ترمشان في توترٍ ملحوظ، حملقت في سقف الغرفة، ويداها معقودتان معًا فوق بطنها المنتفخ قليلاً، أثناء استلقائها على الفراش إلى جوار زوجها. سحبت همسة شهيقًا عميقًا، لفظته من رئتيها على مهلٍ، واستطردت تبوح لزوجها بما يستبد بها من مخاوفٍ تزداد ترسخًا فيها بمضي اللحظات:
-مكدبش عليك يا هيثم، أنا بقيت أخاف من مامتك...

بترت باقي كلامها، لتدير رأسها في اتجاهه، وجدته محدقًا مثلها بالسقف، وهذا التعبير الغامض يكسو وجهه، لعقت شفتيها، وتابعت استرسالها في ترددٍ:
-حاسة إنها ناوية على حاجة وحشة، وده مش مريحني.
رفعت جسدها قليلاً لتنظر إليه، ثم سألته في ترقبٍ:
-إنت مش حاسس بكده برضوه؟
أجابها وهو يسحب ظهره للخلف ليستند على عارضة الفراش ورائه:
-والله ما عارف أقولك إيه، هي أمي...
لامست الألم في صوته عندما أكمل:.

-وماينفعش أرميها في مصحة ولا الشارع، مش بعد العمر ده كله أبهدلها.
ردت في كلماتٍ مهونة عليه تخبطه:
-وأنا مقصدش ده أبدًا، بس فعلاً حالتها مش بتتحسن، وإنت أكيد ملاحظ ده.
وسَّد ذراعه خلف رأسه، وقال بزفيرٍ بطيء:
-بكرة أكلم الدكتور، وأخدلها ميعاد معاه، جايز يفيدنا بحاجة.
ابتسمت في امتنانٍ لقراره الجيد، وقالت:
-كده أفضل.
التفت برأسه ناحيتها لينظر إليها بعمقٍ قبل أن يخبرها:.

-ولو إنتي مقلقة منها ابقي انزلي عند خالتي ونيسة، خليكي أعدة معاها، وأنا هفهمها الوضع، مهما كان هي بردك أختها، وأكيد هتساعدني ناخد بالنا منها الفترة دي.
أومأت برأسها موافقة:
-ماشي.
عاودت الاستلقاء مرة أخرى على ظهرها، وهي تطبق على جفنيها، مستدعية النوم إليها؛ لكن شتت حالة الاسترخاء المذبذبة سؤال هيثم الغريب:
-إيه الريحة دي؟
استنشقت الهواء المعبق بتلك الرائحة المزعجة، وقالت بوجهٍ متقلص:
-في ريحة شياط.

سألها مستفهمًا بحاجبٍ مرفوع للأعلى:
-هو إنتي ناسية حاجة على النار؟
ردت نافية على الفور، بتعابيرٍ تبدلت للاسترابة:
-لأ، أنا نضفت البوتجاز، وفصلت محبس الغاز.
أزاح الغطاء عن جسده، وتساءل في حيرةٍ قلقة:
-أومال دي جاية منين؟
منحته جوابًا عائمًا وهي تعتدل في رقدتها:
-يمكن من برا ولا حاجة، أنا متأكدة إن مافيش حاجة عندنا.

تقدم هيثم نحو باب غرفة نومهما، فاقتحم أنفه المزيد من الرائحة الخانقة، تلقائيًا وضع ذراعه حول أنفه ليقلل من نفاذها إليه وهو يهتف في توجسٍ:
-ده الريحة بتزيد.
مثلما فعل، هبطت همسة عن الفراش، ودنت منه وأنفها يشم بقوةٍ تسرب الرائحة إلى داخل الغرفة، سعلت قليلاً، لتعقب بعدها بقلبٍ يدق في ارتعابٍ:
-معاك حق، الموضوع كده يخوف.
أشار لها لتبقى وهو يخبرها:
-استني كده أنا هاطلع برا أشوف في إيه.

أصرت على الذهاب معه بقولها:
-أنا جاية معاك.

غادر الاثنان الغرفة، ليجدا سحبًا من الدخان الكثيف تنبعث في الصالة، وتغطي الفراغ، بل وتنتشر بسرعة البرق في أرجاء المنزل، أسرع هيثم أولاً في خطاه باحثًا عن مصدرها، وكان اتجاهه الأول هو المطبخ، تجمد عند أعتابه ناظرًا بعينين على كامل اتساعهما من الصدمة المرعوبة، عندما رأى ألسنة اللهب تتصاعد من أعلى الموقد، من المقلاة تحديدًا، لتصل إلى السقف. هلل في فزعٍ، مع شحوب مخيف لوجهه، وقد رأى والدته تجلس على المقعد أمامها تحملق فيها في هدوءٍ عجيب؛ وكأنها تستمتع بمنظرها:.

-يا ساتر يا رب، حاسبي يامه.
صرخت همسة مستغيثة:
-يا لهوي، الحقونا يا ناس، البيت بيولع!
حاول زوجها تهدئتها، ودفعها بعيدًا عن مرمى النيران، وهو يصيح بصوتٍ اختلط بالسعال:
-اهدي، خليني أعرف اتصرف.
من بين سعالها المؤذي لحلقها أمرته بلهجتها المذعورة:
-افصل محبس الغاز بسرعة.

امتثل لنصيحتها الهامة، وأسرع بغلق المحبس الموصول بالموقد، ليقطع إمداده بالغاز الذي يزيد من تغذية النيران المتوهجة، بالكاد استطاع الاقتراب من والدته الجالسة في ثباتٍ عجيب أمام الألسنة؛ وكأن ما يحدث نصب عينيها لا يهز شعرة من رأسها. جذبها بقوةٍ من على المقعد وهو يأمرها بصوته المختنق:
-تعالي يامه برا.

قاومته رافضة الذهاب معه، وهي تشير بيدها نحو فمها؛ وكأنها تخبره برغبتها في تناول الطعام، لم يفهم مقصدها، ولم يضع الوقت في هراءٍ لا يفيد، دفعها بخشونةٍ طفيفة نحو باب المطبخ مرددًا:
-متخافيش يامه، خدي بالك بس.
نظرت همسة إلى وجه والدته الملطخ برمادٍ محترق، وحدقت في شعرها المشعث بنظراتٍ تعبر عن خوفٍ صريح، انتشلها من تحديقها فيها صوت هيثم الهادر:
-هاتي بطانية بسرعة يا همسة.
هزت رأسها هاتفة وهي تسعل:
-طيب.

أبعد هيثم أمه عن الخطر، وأجلسها بالصالة وهو يردد في تضرعٍ:
-نجينا يا رب.

عادت إليه زوجته تحمل الغطاء الثقيل، فهرول ركضًا نحو المطبخ ليطرحه على المقلاة المشتعلة عن بكرة أبيها، ليخمد بها النيران، سحب الغطاء من جديد، وكرر الفعلة لبضعة مراتٍ، قبل أن يستعين بالماء ليضمن انطفاء كامل ألسنتها، في حين ظلت همسة مرابطة في مكانها، تتطلع إلى بثينة بنظراتها الوجلة، والأخيرة تضحك بشكلٍ هيستري قبل أن تتوقف عن الكركرة، لتشير بإصبعها نحوها. توقفت عن التنفس لحظيًا مع حركتها تلك، وزاد جفناها اتساعًا في رهبةٍ، خاصة عندما وضعته على عنقها لتشير إلى نحره، لم تتحمل كم الخوف الذي تبثه حماتها لها، فسقطت مغشيًا عليها، وقد غاب عن وعيها الإدراك.

في تلك الأثناء، انتبه تميم للجلبة الصادرة من الأعلى، في البداية لم يعر الأمر الاهتمام، وظل جالسًا على فراشه؛ لكن مع الصرخات المستغيثة انتفض هابطًا عنه، ليخرج من غرفته بخطواتٍ سريعة، شبه عرجاء، متجهًا نحو البهو المتسع، حيث يجلس أفراد عائلته، متسائلاً بنبرة حائرة:
-سامعين الدوشة دي؟
ردت عليه ونيسة بجبينٍ مقتضب:
-أيوه يا ابني.
وأيدتها في كلامها هاجر بقولها، وهي تداعب رضيعها:
-وقبلها في حد صوت.

أمره جده بلهجته الحازمة:
-اطلع بص كده يا تميم، وشوف في إيه.
رد وهو يومئ برأسه إيجابًا:
-ماشي.
هتفت والدته من خلفه، قبل أن تتبعه حتى باب المنزل:
-ربنا يستر.

نظرة سريعة ألقاها تميم للأعلى، وهو يصعد درجات السلم متوجهًا للطابق العلوي، قرع الجرس، ودق على باب منزل هيثم، وأنفه يستنشق الرائحة الغريبة المنبعثة من الداخل، مسح أرنبته بظهر كفه، وانتظر بترقبٍ فتحه له، ظهر هيثم أمامه، فشمله بنظرة متفحصة لهيئته الفوضوية، ليسأله بعدها في ريبة:
-خير في إيه يا جماعة؟
أجابه وهو يفسح له المجال للمرور:
-ربنا لطف، حريقة قامت في المطبخ، بس لحقتها قبل ما تكبر.
ردد مذهولاً:.

-يا ساتر يا رب، من إيه كده؟
جاوبه وهو يهز كتفيه في حيرة:
-مش عارف يا تميم...
ثم استخدم يده في الإشارة وهو يوضح له تفاصيل ما حدث:
-أنا فجأة شميت ريحة شياط، وببص لاقيت أمي قاعدة جوا المطبخ والنار هابة من البوتجاز.
فكر تميم مليًا فيما سرده، بعد أن ولج إلى المطبخ معه، ليمعن النظر بتدقيقٍ شديد في بقايا أثر الحريق، ودون مقدماتٍ تمهيدية، سأله مباشرة؛ وكأنه يشك في أمرٍ بعينه:
-تفتكر تكون أمك عملت كده؟

ضغط هيثم على شفتيه قائلاً بعد زفيرٍ طويل أظهر تردده:
-مش عارف، بس الموضوع بقى مقلق..
لم ينبس ابن خالته بكلمة، متفهمًا طبيعة الموقف، وتبع بنظراته هيثم وهو يدنو من الحوض، ليحضر كوبًا ملأه بالمياه، ظلت أنظاره عليه عندما خاطبه:
-ده غير إن همسة تعبت من الريحة، وأغمى عليها، وبالعافية فوقتها.
اقترح عليه تميم بإصرارٍ:.

-طب خلي جماعتك تنزل تحت عندنا مع أمك، لحد ما نتأكد إن كل حاجة بقت تمام، وهما هياخدوا بالهم منهم، وأنا هافضل معاك لغاية ما نشوف حل مناسب يريح الكل ويطمنهم.
كان هيثم في أمس الحاجة لفسحة من الوقت للتفكير بذهنٍ صافٍ، بعد الذي اختبره اليوم، لذا استحسن اقتراحه، ووافق عليه دون جدالٍ:
-ماشي.

جرفتها مشاعر الخوف ودفعتها للمكوث ليلاً في منزل عائلة سلطان، على أن تبقى في منزلها مع والدة زوجها، بعد تهديدها الصامت لها، فتشاركت الغرفة مع هاجر، ولازمت الفراش مقاومة الرجفة الغريبة المسيطرة عليها، حاولت الأخيرة تهوين الأمر عليها، فقالت وبين شفتيها ابتسامة مطمئنة:
-ماتقلقيش من حاجة، الدنيا هنا أمان.
قوست همسة شفتيها لتبتسم عندما ردت بحرجٍ:
-أكيد، أنا، أسفة لو زاحمتك في أوضتك.

تصنعت هاجر العبوس، وأخبرتها بلطفٍ:
-إنتي نورتيني، وبعدين الأوضة واسعة زي ما إنتي شايفة.
شكرتها بامتنانٍ شديد:
-كتر خيرك.
تساءلت مضيفتها في نوعٍ من الفضول:
-هو حصل إيه بالظبط؟
تهربت من إعطائها الإجابة حتى تتحدث أولاً مع زوجها، وقالت:
-م، مش فاكرة، أنا أغمى عليا من الخضة.
جلست هاجر على طرف الفراش إلى جوارها، ومسحت بحنوٍ على جانب ذراعها، وهي تتنهد قائلة:
-الحمدلله، عدت على خير.

بتوجسٍ لم تستطع ضبطته في نبرتها تساءلت همسة، والذعر يزحف على عينيها:
-أومال، فين، طنط بثينة؟
أجابت بتلقائية وهي تشير بيدها:
-خالتي، نايمة في أوضة أخويا، هي ماما معاها.
عضت على جانب شفتها قبل أن تسألها بتلعثمٍ يشوبه الخوف:
-طب ممكن طلب؟
ردت مرحبة:
-اتفضلي.
أخبرتها وهي تزدري ريقها:
-ممكن نقفل الباب بالمفتاح؟
تعجبت من طلبها الغريب، وسألتها مستوضحة:
-ليه؟ في حاجة؟

وقبل أن تمنحها ردها أخبرتها معتقدة أنها تفكر في تلك المسائل البديهية البسيطة:
-لو قلقانة إن في حد هيدخل علينا اطمني، الكل هنا بيراعي الخصوصية وبيحترمها.
أصرت على رغبتها دون تبريرٍ واضح:
-معلش، عشان خاطري.
استجابت لطلبها، ووافقت بإيماءة من رأسها:
-حاضر.
صاحبتها همسة بنظراتها الخائفة وهي تتجه نحو الباب، غمرها القليل من الارتياح بعد أن سمعت صوت حركة المفتاح في قفله لتوصده، وهمهمت بصوتٍ هامس للغاية:.

-يا رب نجيني من شرها.

بدا الخيار الأسلم، بعد الكارثة التي وقعت في المنزل، إبقاء والدته بعيدًا عن محيطها، وتحديدًا في منزل شقيقتها، تحت مراقبة ورعاية العديد من الأشخاص، ريثما يتخذ التدابير اللازمة، لنقلها لمكانٍ متخصص يتم فيه رعايتها نفسيًا وعقليًا، حتى لا تكرر فعلتها بجنونٍ أكبر لا يمكن السيطرة عليه. لم تخبر همسة والدتها بتفاصيل الحادث المشؤوم في حينها، بل انتظرت مرور يومين لتطلعها على الأمر، فجاءتها الأخيرة على الفور بصحبة توأمتها، لتعاتبها بلومٍ شديد:.

-يعني لو مكونتش كلمتك بالصدفة، مكونتش عرفت باللي حصلك؟
هتفت بنبرة هادئة:
-عدت على خير يا ماما.
نظرت فيروزة لتوأمتها بنظراتٍ متفرسة، ثم خاطبتها بجديةٍ؛ وكأن في مضمون حديثها لها تحذيرًا متشددًا:
-الموضوع بقى خطير يا همسة، ماينفعش يتسكت عنه، الست دي لازم تروح مصحة نفسية تتعالج.
تطلعت إليها، وحركت شفتيها ناطقة:
-وده اللي هيثم ناوي يعمله.
سألتها والدتها بصبرٍ نافذ:
-وده امتى إن شاءالله؟

التفتت ناحيتها قبل أن تجيب:
-مش عارفة
أصرت عليها بخوفٍ أمومي بائن في صوتها:
-وإنتي مستنية إيه؟ لما تتهف في مخها أكتر، وتعمل فيكي حاجة؟
بتعابيرٍ مستاءة علقت عليها:
-وأنا في إيدي إيه أعمله يا ماما؟ الدواء بديهولها في ميعاده، وواخدة بالي منها على أد ما أقدر، ودلوقتي هي بعدت عني، وأعدة مع أختها.
هتف في تنمرٍ غير راضٍ:
-ده مش كفاية.
أضافت فيروزة بما يشبه النصيحة:.

-طب كلمي جوزك، وفهميه بالعقل كده، عشان يتحرك بسرعة.
بينما استمرت آمنة في إظهار هواجسها لها بترديدها:
-وبعدين لو مش خايف عليكي، فاحنا خايفين عليكي وعلى اللي في بطنك.
على مضضٍ عقبت ابنتها:
-ربنا يسهل.
تنهدت فيروزة طالبة من والدتها:
-خلاص يا ماما متقلقيهاش أكتر من كده.
على ما يبدو لم تكن آمنة راضية كليًا عن التفريط في حياة ابنتها وسلامتها، فاقترحت على ابنتها:
-تعالي روحي معانا.
رفضت رغبتها بلباقةٍ:.

-عشان هيثم مايضايقش.
صاحت في اعتراضٍ مغلف بالسخط:
-هو إنتي هتقعدي في الشارع، ما هو ده بيتك.
بابتسامة لطيفة حاولت تبديد مخاوف والدتها، وأخبرتها:
-والله أنا دلوقتي كويسة.
يئست من إقناعها بالقبول رغم إلحاحها الشديد عليها بكافة الطرق، فنطقت أخيرًا في إحباطٍ:
-طب خدي بالك من نفسك، ماتخليش عقلي يودي ويجيب من القلق عليكي.
هزت رأسها في طاعةٍ وهي ترد:
-حاضر يا ماما.

أرادت همسة تغيير الموضوع بآخرٍ، فخاطبت توأمتها متسائلة في اهتمامٍ:
-أخبار محلك الجديد إيه يا فيرو؟
بحماسٍ انعكس في صوتها استطردت فيروزة تشرح لها:
-قربنا خلاص أهوو، بأشوف البضاعة اللي محتاجاه، وجمعت حاجات كتير، وقت ما استلمه بعد التشطيب هابدأ أرصها.
بنفس اللهفة قالت؛ وكأنها تشاركها حماسها:
-أنا هساعدك فيه ماليش دعوة، وهتلاقيني بنط فوق دماغك كل شوية، وليا لي نسبتي.
ضحكت وهي تعقب عليها:.

-تعالي يا هموس، هو أنا هحوشك؟
تابعت آمنة حوار الشقيقتين، ومخططاتهما لتطوير العمل قبل أن يبدأ فعليًا بنظراتٍ لامعة، مليئة بالسعادة والحبور، ثم تنهدت داعية للمولى في سريرتها برجاءٍ كبير:
-ربنا يخليكم لبعض يا حبايبي.

وقف كلاهما على بَسْطة السلم يتبادلان الحديث الجاد، بعيدًا عن الثرثرة الجانبية للنساء، والتي قد تفسد تفكيرهما المنطقي، بسبب تأثير مشاعر العطف والشفقة. أشعل هيثم سيجارة أخرى، نفث دخانها بمجرد أن احترق طرفها، بينما اكتفى تميم بالواحدة التي تناولها قبل قليل، ليتطلع إلى ابن خالته بنظراته الثاقبة، كان الأخير صامتًا، مستغرقًا في التفكير، تبدو الحيرة ظاهرة على محياه. زفر تميم عاليًا، وارتكن إلى جانب الحائط، ليستطرد قائلاً بملامحه الجادة:.

-أنا رأيي ماتسكتش عن حالتها، لازمًا حد متخصص.
قال بنوعٍ من التبرم:
-وأنا مقصرتش معاها!
حاول إيضاح أبعاد خطورة إرجاء التصرف المنطقي والسليم، بسبب تحكم عواطفه بقراره، فتكلم بعقلانية:
-طب ما إنت شايف عملت إيه وإنت موجود، ما بالك لو عينيك غابت عنها؟
لفظ الدخان من رئتيه، وتذوق التبغ في لعابه وهو يبلعه قبل أن يهمهم:
-ربنا يستر.
كرر عليه من جديد عله يدرك ما قد يغيب عن ذهنه:.

-الصح إنها تفضل هناك شوية، وأنا اطأست وعرفت إن المكان ده كويس، فبلاش تأخر مرواحها.

قبل أن يأتيه تعليقه، التقطت أنظاره الأطياف المنعكسة على الجدران، لتنبهه لقدوم أحدهم، فاعتدل مستقيمًا في وقفته. كجرس إنذارٍ انطلق دويه فجأة، قفز قلبه بين ضلوعه عندما أطلت عليه بوجهها الناعم، وهي تتهادى في خطواتها هابطة الدرجات متأبطة ذراع والدتها. جالت عيناه على ذلك الوشاح الأسود المتطاير حول وجهها، مداعبًا صدغيها بدلالٍ، كما لو كان النسيج يغازل بشرتها النضرة. سرعان ما تدارك نفسه، وأخفض رأسه مقاومًا خيبة الأمل التي اجتاحت وجدانه، لإبعاد عينيه عن تأملها. استمع إلى صوت هيثم وهو يتساءل:.

-ما بدري يا جماعة؟
اقتحم أنفه الرائحة الزكية المنبعثة من العطر الغارق فيه ثيابها، ومع إرهافه السمع لصوت تنهيداتها، تحفزت حواسه وتيقظت على الأخير، فبدا وكأنه في حالة استنفارٍ، قاتل مستنزفًا طاقة صبره ليوأد ما نبض في خلايا جسده، وبعث الحياة فيها. حاول التركيز مع صوت والدتها التي ردت:
-عشان تاخدوا راحتكم، والحمدلله إنها جت على أد كده.
علق هيثم في رضا:
-قدر ولطف.
أوصته آمنة بلهجة الأم المتشددة:.

-خد بالك من همسة، دي أمانتي عندك.
قال بصوتٍ مغاير للهادئ الذي كان عليه قبل لحظة:
-اطمني يا حماتي...
ألقى بالسيجارة، ودعس طرفها المحترق بقدمه قبل أن يكمل جملته:
-تعالوا أوصلكم.
رفضت إرهاقه قائلة بتهذيبٍ:
-لا يا ابني، ماتتعبش نفسك، المسافة مش بعيدة.
تسارعت النبضات، وكادت تنطق علنًا باستسلام فؤاده صريع حبها المتغلغل في أعماقه، أمام الصوت المتسائل في لطافةٍ اختزلت في الجميع النساء إلا سواها:.

-هو الحاج بدير موجود؟
جاهد لتبدو نظراته عادية، غير فاضحة لأمره، وهو ينظر إلى قطعتي الفيروز عندما أجابها متسائلاً:
-أيوه، عايزاه في حاجة؟
استغربت والدتها من طلب ابنتها الغريب، وسألتها هي الأخرى:
-خير يا بنتي؟
التفتت برأسها في اتجاه والدتها، وأجابت بصوتٍ كان إلى حدٍ ما خافتًا:
-الفلوس بتاعة العمال يا ماما معايا، بما إننا موجودين بالمرة أديهاله.

التقطت أذناه كلامها، ووجد نفسه في موقفٍ حرج، فوالده الوحيد المنوط بإدارة تلك المسألة المادية، لذا أخبرها بهدوءٍ:
-طب أنا هاشوفه نايم ولا صاحي.
اعترضت آمنة على إزعاجه قائلة بحرجٍ، ونظراتها اللائمة تتجه إلى ابنتها:
-لأ خلاص، مالوش لازمة تقلقه، خليها وقت تاني.
ضاقت عينا فيروزة في احتجاجٍ، وألحت عليها:
-بس يا ماما، دي فرصة وآ...
قاطعتها بحسمٍ، ونظرة صارمة تكسو عينيها:.

-عيب يا بنتي، مايصحش نزعج الناس في بيوتها.
تدخل تميم في حوارهما قائلاً بترحيبٍ شديد وهو يشير نحو باب المنزل:
-ولا إزعاج ولا حاجة، اتفضلوا.
تمسكت برفضها لتلبية رغبة ابنتها، وبادرت بالتحرك نحو الدرج وهي تقول:
-وقت تاني إن شاءالله، عن إذنكم...
سحبت ابنتها من ذراعها خلفها قائلة لها:
-بينا يا فيروزة.
لكز تميم ابن خالته في جانب كتفه، ليستحثه على الحركة، وصوته يأمره بلهجةٍ لا تقبل بالتهاون في تنفيذ ما قاله:.

-انزل معاهم لتحت يا هيثم، وركبهم تاكسي وحاسبه.
حمحم قائلاً بإذعانٍ:
-طيب.
بمجرد أن هبط خلفهما هيثم، تحرك تميم ناحية حافة الدرابزون ليحني رأسه للأسفل، عله يلتقط لمحة أخيرة منها، قبل أن تغيب شمسه عن سماه. تحرر الهواء المشحون بالآمال والأحلام من صدره، مصحوبًا بدعاءٍ لا يتوقف اللسان عن ترديده ليل نهار:
-ربنا يقرب البعيد...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة