قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

بكفين مرفوعين للأعلى، ولسانٍ يلهج بالشكر، اختتم تميم صلاة الجماعة مع جده، حيث قام بتأدية فرضه الرئيسي كعادته في غرفة الأخير كلما سنحت له الفرصة بذلك، خاصة بعد عودته من العمل. كانت الحجرة ملجأه المؤقت ريثما يتم نقل خالته من غرفته للمشفى النفسي. نهض من مكانه ساحبًا مصليته من أسفله، ليطويها بعد ذلك، ويضعها في مكانها المعتاد على التسريحة. التفت ناظرًا إلى جده الذي بادر قائلاً بنبرة خاشعة:.

-تقبل الله.
رد مبتسمًا:
-منا ومنكم إن شاءالله...
شعر بوخزة طفيفة في ركبته، فانحنى قليلاً ليدعكها بيده، وهو يتابع كلامه معه:
-متأخذنيش يا جدي، بقالي كام يوم مزاحمك في الأوضة...
ثم تنهد ببطءٍ، وأضاف:
-ربنا يسهل على هيثم ويودي أمه المصحة.
جاءه تعليق جده مؤيدًا انتقالها للمشفى النفسي، وقد ضاقت نظراته:
-أيوه، خلي الكل يرتاح.
تحدث تميم معقبًا على تأجيل ابن خالته تنفيذه للأمر:.

-غصب عنه يا جدي، مهما كان دي أمه، مش هيرميها.
لمحة من الضيق ضهرت على وجهه وهو يكمل كذلك:
-ده غير جو الصعبنيات اللي كل شوية تعمله، وده مأخر الحكاية.
رد عليه جده بتعابيره الهادئة:
-ومين قالك إني مضايق من قعدتك معايا؟
ببساطةٍ أخبره مستخدمًا يده في الإشارة:
-برضوه عشان تاخد راحتك.
عاتبه سلطان بنوعٍ من المزاح اللطيف:
-دي فرشتك يا واد من زمان، ولا نسيت كنت بتعمل إيه وإنت صغير؟

وكأنه شرد في ماضٍ كان الأفضل على الإطلاق، فأخذ يشاركه في الاسترسال متحدثًا عنه:
-فاكر يا جدي، كنت باستنى أما أمي تنام، وأطلع من أوضتي أتسحب عشان أنام مكانك قبل ما ترجع من الدكان.
اتسعت بسمته وهو يواصل سرد المميز في طفولته:
-وكيس الحلويات، كنت أقوم من النوم ألاقيه محطوط جمبي على المخدة.
علق جده في حبورٍ، مبديًا سعادته باستعادة تلك الأحداث الطيبة:
-ياه، ذكريات فات عليها زمن.

اقترب تميم من جده، وأحنى رأسه على قمة رأسه ليقبله في وقارٍ، ثم تراجع عنه مرددًا في تضرعٍ:
-ربنا يديك طول العمر يا جدي، وتعمل كده مع ولادي.
أومأ برأسه قائلاً في استحسانٍ وهو يمسح على جانب ذراعه:
-يا رب..
جلس تميم على جانب الفراش، وتطلع إلى جده الذي سأله بتلميحٍ مبطن:
-كله تمام معاك يا تميم؟ الدكتور طمنك؟
تقوست شفتاه عن بسمة راضية، بعد أن فهم ما يرمي إليه وهو يرد:
-الحمدلله، أحسن عن الأول.

هز رأسه مغمغمًا في ارتياح:
-يستاهل الحمد...
ثم لاحقه بسؤاله الآخر؛ ولكن بشكلٍ مباشر
-مش ناوي بقى تاخد خطوة؟
زوى ما بين حاجبيه متسائلاً في غموض:
-في إيه؟
نظر في عينيه، وأجابه محذرًا:
-إنت فاهمني يا واد، ولا لازم أتكلم بالمفتشر؟
حمحم في خفوتٍ قبل أن يخبره بتنهيدة مغلفة بالآمال:
-والله نفسي، النهاردة قبل بكرة، بس مش عايز أستعجل في الحكاية دي بالذات، بدل ما تبوظ، خلي كل حاجة تيجي على مهلها.

كان تعقيبه عليه مريحًا له:
-كله شيء بأوان إلى أن يأذن الله.
ابتسم وهو يرد:
-ونعمة بالله.
أضاف جده خاتمًا حوارهما اليومي:
-ربك عليه جبر الخواطر، ماتبطلش بس دعا، وسعي.
نهض من جلسته، وأومأ برأسه هاتفًا:
-يا مسهل الحال، حاضر يا جدي.

وضع إلى جواره على الأريكة المزدوجة، كيسا بلاستيكيا أسود اللون، ثم مد يده إلى كوب العصير المسنود على الطاولة القصيرة أمامه، وقربه من شفتيه، ليرتشفه مرطبا حلقه الجاف بشيء حلو المذاق، بعد يومٍ شاق ومرهق في العمل. ظل هيثم صامتًا في البداية يستمع بغير تركيزٍ إلى الحوارات الجانبية بين خالته والجد سلطان، قبل أن تتجمد نظراته على خالته حينما سألته في عتابٍ:.

-مجتش تتغدى معانا ليه يا هيثم؟ مش أنا موصياك من إمبارح؟
اعتذر منها بلباقةٍ، وعيناه تتطلعان إلى والدته الساكنة:
-معلش يا خالتي، كان ورايا شوية مصالح بأقضيها، وبعدها طلعت على همسة أشوف ناقصها إيه، ورجعت.
ربتت ونيسة على ظهره تشجعه وهي تقول:
-ربنا يقويك.
بابتسامة باهتة تساءل، دون أن تحيد نظراته عن والدته:
-أمي عملت إيه معاكو النهاردة؟
أجابت ونيسة وهي توزع نظراتها بينهما:
-هي كويسة يا ابني، اطمن.
قال في حرجٍ:.

-تعبك معايا يا خالتي.
ردت مؤكدة ترحيبها بتقديم كل المساعدة المطلوبة دون كللٍ أو ملل:
-دي أختي يا حبيبي.
انضمت إليهم هاجر بعد قليل، تنهدت شاكية في تعبٍ:
-أخيرًا نام، أنا مش مصدقة نفسي.
نظرت إليها والدتها تسألها:
-الحمدلله، غطتيه كويس؟
أومأت برأسها قائلة:
-أيوه يامه.
تحركت عيناها في اتجاه هيثم عندما مد يده بالكيس البلاستيكي ليناولها إياه:
-اتفضلي يا هاجر.
سألته في استغرابٍ وهي تأخذ الكيس منه:
-إيه دول؟

أخبرها بوجهٍ جاد التعبيرات:
-نصيبك من بيع الدكان ل سراج.
أسندت الكيس أمامها، وتساءلت في حيرة:
-وأنا هعمل إيه بكل الفلوس دي؟
في غمرة حوارهما لم يلحظ أحدهم عيني بثينة المعلقة بالكيس المليء بالنقود، غامت نظراتها، وتحولت للقساوة بشكلٍ مريب، لتبدو منفصلة عمن حولها، فيما عدا ذلك الوهج الطامع الملازم لنظراتها دومًا مهما تبدلت بها الظروف. خاطبت ونيسة ابنتها، وكأنها تنصحها:.

-أهوم متعانين للزمن، محدش ضامن هيحصل إيه.
ردت هاجر في رضا:
-الحمدلله، خير ربنا موجود.
أضاف هيثم بعد زفيرٍ شبه مسموع:
-ربنا يزيدك، ونصيب أمي، أنا استلمته خلاص، هعين جزء منه في البنك، وجزء هصرفه عليها وأجيبلها أحسن الدكاترة عشان تتعالج.

اتجهت نظرات بثينة نحو ابنها، ارتكزت عليه بقوةٍ، وملامحها تنم عن وعيها الكامل لكل ما يدور من حولها، فبدت وكأنها غير راضية عن تصرفه في شئونها، في حين عبست ونيسة بتعبيراتها بعد سماعها لجملته تلك، وعاتبته بنبرة الأم الحنون:
-واحنا قصرنا معاها يا هيثم؟
رد عليها بإصرارٍ:
-معلش دي فلوسها، وحاجاتها، وأنا مسئول عنها دلوقتي.

من نظراته المتفرسة بها خلال مراقبته الحذرة لها، استشف سلطان أن الجالسة معهم، رغم سكوتها الإجباري، تدعي الجنون، فإدراكها لما يحدث في محيطها، والتحولات السريعة في تعبيرات وجهها أكدت له شكوكه، وحتى لا يبدو مختلقًا للأمر، قرر كشف أمرها بحيلة بسيطة. ضرب بعكازه على الأرضية، وصاح موجهًا كلامه ل هيثم:
-بأقولك إيه يا واد..
حرك هيثم رأسه في اتجاهه قائلاً في طاعة:
-أيوه يا جدي.

بنفس الصوت القوي الهادئ قال، وكامل نظراته الخبيرة على بثينة:
-عايزك تاخدني شقة أبوك.
سأله في استرابة:
-ليه؟ في حاجة؟
بابتسامةٍ ماكرة تتدلى على جانب شفتيه أخبره بما يشبه الغموض:
-هاقولك هناك، أصله زي ما تقول سر، ماينفعش يتعرف.
لم يكن هيثم فضوليًا ليلح عليه لمعرفة السبب الذي يدعوه للذهاب إلى هناك، فرأسه كان مشحونًا بالكثير من المشاغل، لهذا كان رده عاديًا عليه:.

-ماشي يا جدي، شوف الوقت اللي يناسبك، وأنا جاهز.
منح والدته نظرة ذات مغزى، قابلتها بنظراتٍ تعكس عدائية شرسة، وكأن ما بينهما ما صنع الحداد، قبل أن يجبر نفسه على النهوض وهو يخبر الجميع:
-بأمر الله، أنا هاقوم أريح شوية.
هتفت ونيسة على الفور:
-خد راحتك يا حاج، ولو عوزت حاجة ناديني.
-تسلمي.

قالها باقتضابٍ وهو يولي الجميع ظهره، متوقعًا أن تكون أنظار بثينة عليه، كان حدسه ينبؤه أنها لن تمرر الأمر على خير، ورغم هذا تمنى أن تخيب ظنونه لمرة واحدة!

بقلبٍ خاشع، وصوتٍ يرتل في عذوبة، استمر الجد سلطان في قراءة ورده اليومي من المصحف الشريف، تاركًا باب غرفته مواربًا، غير متوقعٍ أن تُقبل بثينة على إيذائه نهارًا جهارًا، فالأخيرة ولجت إلى المطبخ، واختطفت من أدواته الموضوعة بداخل الدواليب يد الهون النحاسية، لتستخدمها في تهشيم رأسه بها. قضت بثينة ساعات الليل الطويلة، تنتظر على أحر من الجمر، مجيء اللحظة المناسبة، للإقدام على تنفيذ خطتها الإجرامية البسيطة، خاصة وأن الجميع مؤمن بكونها فاقدة للعقل والأهلية، راقتها تلك الفكرة كثيرًا، أن توجه انتقامها لكل من تسبب في مقتل ابنتها، بشكلٍ غير مشكوكٍ فيه، ناكرة تورطها بصورة رئيسية في إفساد شخصها، وفي إزهاق روحها جراء طمعها الذي لا حدود له.

سارت بخطواتٍ متسللة متجهة إلى غرفة الجد، وكلها إصرار تلك المرة على الخلاص منه، دفعت الباب بيدها بخفةٍ، وعيناها تتطلعان إلى ظهره الموالي لها، ابتسامة شيطانية زحفت على شفتيها، فقط بضعة خطواتٍ تفصلها عنه، ستتخلص منه، ولن يتمكن من مقاومتها، فالأفضلية هنا لها! تابعت تقدمها نحوه، ويدها ترتفع تدريجيًا للأعلى، وقبل أن تصل إليه، كان تميم في طريقه إليه ليلقي عليه التحية قبيل مغادرته للعمل، هلل في ارتعابٍ وهو يثب في خطواته ليقبض على رسغها قبل أن تمس رأسه:.

-حاسب يا جدي.
انتفض سلطان ناهضًا من مكانه هاتفًا في دهشة:
-يا ساتر يا رب.
استدار لينظر إلى الاثنين بعينين حائرتين، فحفيده نجح في تقييد رسغي خالته، والأخيرة تتأوه صارخة في غضب غير مفهومٍ، للحظة شُل تفكيره وهو يحاول تفسير ما يحدث، سرعان ما تجمدت أنظاره على يد الهون، وتفقه ذهنه لما حدث، لهذا سألها مستنكرًا:
-إيه اللي بتعمليه ده؟

قاتلت بثينة حتى الرمق الأخير، ويدها تلوح بالهون في كل الاتجاهات قاصدة إيذاء تميم ؛ لكنه نجح في السيطرة عليها، وانتزاعه من قبضتها، ليصيح بها بكل ما اعترى صدره من غضبٍ جم:
-عايزة تقتلي الحاج؟
رد عليه سلطان بنظرة قاسية تلومها:
-واضح إن الجنان اشتغل.
جاءت كلاً من ونيسة و هاجر إلى الغرفة على إثر الصياح الجهوري المريب، وتفاجأت كلتاهما بما يحدث، لطمت الأولى على صدرها مرددة في صدمةٍ:
-ليه كده ياختي؟

صوت زئيرها المحموم، وعدائيتها المرئية تجاه من حولها، أكد للجميع أنها لم تكن نادمة على فعلتها، ولو اتيحت لها الفرصة لكررتها مرة أخرى. هدر تميم آمرًا والدته:
-كلمي هيثم ينزل بسرعة.
بصوتٍ تحول للاختناق، وعينين حزينتين ظلت والدته تردد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب ليه يا بثينة؟
نجحت بثينة في الإفلات من قبضة تميم، وهرعت نحو شقيقتها تريد خنقها من عنقها؛ لكنه أمسك بها، وأبعدها عنها وهو يهتف في حنقٍ متعاظم:.

-حاسبي يامه.
حلت الصدمة المستنكرة عليها، ونطقت في قهرٍ:
-حتى أنا؟ للدرجادي بتكرهيني؟
أبعدتها هاجر عن مرمى بصرها، وحاوطتها من كتفيها قائلة لها بنوعٍ من التعاطف الذي يتخلله الذهول:
-تعالي معايا يامه.
هتف الجد مشددًا:
-معدتش ينفع تفضل كده.
وافقه حفيده الرأي، وأكد عليه:
-أيوه، لازمًا تتنقل المصحة، هناك هتتعالج صح.
ظل صوت ونيسة يكرر في خذلانٍ أثناء خروجها من الغرفة:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.

تعاونا معًا، لإخراجها من المنزل، وتقييد حركتها بعد إجلاسها بالسيارة، من أجل اقتيادها نحو المشفى الذي وقع عليه الاختيار لإبقائها فيه، فقاومتهما بكل ما أوتيت من قوة، وانهالت يداها بالصفع تارة على وجه ابنها، وبالخدش والضرب على ظهر تميم تارة أخرى، خلال قيادته للسيارة، لم يعبأ بما تفعله، واستمر في طريقه إلى أن وصل إلى البوابة الرئيسية.

ترجل تميم أولاً، ودار حول السيارة ليفتح الباب الجانبي الخلفي الملاصق لابن خالته، خرج الثاني قبل والدته، وحاول سحبها من مكانها قائلاً لها:
-اللي بأعمله ده لمصلحتك يامه.

لكنها قاومته بشراسة، فانتزعت حذائها من قدمها، وضربته به بغلظةٍ على رأسه، فتأوه بألمٍ شديد، ومع هذا تغاضى عن وجعه لينجح بعد جهدٍ جهيد في إخراجها، ليبدأ بعدها تميم في الإمساك بها من ذراعها، وجرها معه جرًا نحو الداخل، اعتذر منها هيثم مجددًا في حزنٍ:
-سامحيني، بس والله ما برميكي، أنا باعمل ده عشانك.

تضاعفت مقاومتها للاثنين، وزمجرت بصراخٍ هائج، على أمل أن تفلت منهما، ورغم ذلك كان تميم لها بالمرصاد، لم يفلتها، وشدد على ابنها بلهجته الصارمة:
-امسك كويس يا هيثم.
وكأنه يُحادث الفراغ، فالأخير ما زال يتكلم مع والدته؛ كأنما يبرر لها تصرفه:
-أنا على طول هاجي أزورك، بس إنت خدي دواكي عشان خاطري، وهتخرجي قريب.
صاح تميم مناديًا على الأمن الخارجي لاستدعاء بعض الممرضين:
-عاوزين مساعدة هنا يا إخوانا.

دقائق، وكانت بثينة محتجزة بالداخل، في إحدى الغرف الفردية، بعد حقن وريدها بمهدئ، ليسكن جسدها الثائر، وتخضع للمراقبة الطبية المتخصصة. ارتعشت يد هيثم وهو يكمل تسجيل بياناتها في الأوراق الموضوعة أمامه، رفع عينيه الدامعتين لوجه ابن خالته، وأخبره في حزنٍ:
-قلبي متقطع عشانها.
رد عليه بثباتٍ:
-ده لمصلحة الكل، بدل ما تأذي نفسها وتأذي غيرها.
تنفس بعمقٍ ليكبح رغبته في البكاء حسرة عليها، ودمدم في دعاءٍ:.

-ربنا يشفي عنها.
بإيجازٍ واضح آمن عليه تميم وهو يضغط على كتفه، كنوعٍ من الدعم له:
-يا رب.
...

وسط صخب العمال المحاوط بها في الدكان، حاولت فيروزة التركيز، وترتيب أفكارها في رأسها المشحون، لتنتهي اليوم من المهمة المحددة التي جاءت لأجلها، حتى تضع النقاط فوق الحروف، بعد الإرجاء والمماطلة الزائدة التي ضاعفت من شعورها بالاسترابة والقلق. لم تمد فيروزة يدها نحو طبق الفاكهة الموضوع قبالتها، ولم تمس شفتاها علبة المشروب المنعشة أيضًا، اكتسبت ملامحها طابعًا جديًا ورسميًا للغاية، عندما خاطبت الحاج بدير:.

-كده ماينفعش يا حاج.
بصوته الهادئ الرزين سألها:
-وإيه اللي خلاه ماينفعش؟
أجابته في تبرمٍ يشوبه الاحتجاج:
-أنا مدفعتش ولا مليم، وحضرتك متكفل بكل حاجة، وبصراحة ده مضايقني، أنا مش حابة أستغل حد.
ضم بدير كفيه معًا فوق رأس عكازه، وتكلم معها بأسلوبه الهادئ، علها تقتنع بحججه:
-بصي يا بنتي، من غير ما نرغي كتير، هاقولك الخلاصة عشان ترتاحي.
أبدت ترحيبها بسماعه، فقالت وهي تلقي بطرف غطاء رأسها المتدلي على كتفها:.

-اتفضل.
نظر إليها مليًا، قبل أن يخبرها على مهلٍ:
-اللي بأعمله معاكي، بأعمله مع أي حد بيفتح دكان جديد من التجار حبايبنا، بنسانده لحد ما يقف على رجليه، ويشم نفسه كده، ويبيع ويشتري، والزبون يروح ويجي على دكانه، ويبقى معروف في السوق، وبعدها بقى نقعد ونتحاسب.

ما زالت ملامحها تعكس عدم رضائها الكامل عن تصرفه السخي معها، وإن لم تنطق بهذا حاليًا، حاولت إثنائه عن رأيه بطريقة أخرى، فاستطردت بصوتٍ عبر عن تحفزها:
-اللي حضرتك بتقوله ده تمام، ومقدراه جدًا...
بلعت ريقها وأخبرته صراحةً:
-بس مافيش ورقة ولا إيصال يثبت حقك، أو حتى يضمنه.
بوجهٍ شبه مبتسم علق واثقًا:
-الكلمة في عرفنا اتفاق، مش محتاج لعقود.
دون ترددٍ ألحت عليه بعنادٍ:.

-طب يبقى على الأقل أمضيلك على إيصال أمانة.
أصبحت ملامحه إلى حدٍ ما جادة وهو يرفض اقتراحها بلهجةٍ لم تكن لينة نسبيًا:
-وأنا مقبلش بكده، معمريش عملتها مع الغريب، هعملها معاكي إنتي؟ وبعد العمر ده كمان؟!
شعرت بالحرج من نفسها بعد موقفه النبيل، وحاولت تبرير تصرفها:
-بس يا حاج أنا آ...
قاطعها بحزمٍ، ونظراته تتجه نحو أحد العمال المقبل عليه:
-اهتمي باللي ناقص في محلك وبس، وماتشغليش بالك بالحاجات البسيطة دي.

نطق الأخير وهو يشير بيده نحو الخارج:
-يا حاج، المعلم عوف واقف برا عايزك.
نهض بدير من مكانه قائلاً:
-أنا جايله.
بدورها نهضت فيروزة هي الأخرى من مقعدها، وقالت بتهذيبٍ رقيق،
-هستأذن أنا، وأرجع لحضرتك بعدين.
أشار لها بيده لتمكث وهو يرد:
-طب استني هبعت معاكي واد من هنا بحاجات لخالك.
تنحنحت معترضة في لباقةٍ:
-يا حاج خيرك مغرقنا.
قال وبين شفتيه ابتسامة ودودة:
-ده لخالك، مش ليكي، عشان عارفك حنبلية.

قالت بوجهٍ تورد قليلاً من الحرج لتطرقه إلى سمة متأصلة فيها:
-أنا مش بحب أبقى تقيلة على حد.
علق مادحًا حُسن أخلاقها الكيسة:
-يا ريت كل الناس زيك.
ردت مجاملة:
-الله يكرم حضرتك يا رب.
التفت بدير آمرًا العامل بصوته الصارم:
-تعالى يا واد جهز من كل صنف خمسة كيلو، وحطهم في أقفاص، المفعص لأ، عايز فرز أول، وأوام مع الأبلة لبيتها.
هز العامل رأسه قائلاً في امتثالٍ:
-تؤمر يا حاج.

نظرت فيروزة إلى ما يضعه العامل من أصناف مختلفة من الفاكهة في أقفاص بلاستيكية متنوعة، بعينين متسعتين، وشعورها بالحرج متمكن منها، حاولت اعتراض طريق العامل، والإشارة له بالتوقف عن ملء الأقفاص:
-كتير يا حاج، كفاية كده.
بوجه تبدل للابتسام طلب منها:
-ميغلاش على الغالي، خليكي مرتاحة لحد ما يخلص.
لم تجد ما تنطق به أمام سخائه وكرمه، فتراجعت خطوتين للخلف وهي ترمقه بنظراتها الممتنة.

على الجانب الآخر، صف تميم سيارته بمحاذاة الرصيف المقابل للدكان، ليفسح المجال للشاحنة الكبيرة عندما يدور بها السائق، ويخرج من الزقاق الضيق نحو الشارع الرئيسي، ترجل بعدها واتجه إلى العمال المنهمكين في عملهم يشجعهم:
-الله ينور.
مسح بنظراته البوابة الأخرى للدكان، فوجد والده يتحدث مع عوف، اتجه إليهما مرحبًا بالأخير بحرارة:
-صباحك فل يا حاج عوف.
بادله التحية بعشمٍ غير زائف:.

-صباح العسل يا تميم، عامل إيه يا ابني؟ عاش من شافك، جيت كذا مرة وملاقتكش.
قال وهو يرفع يده للأعلى، ليمسح على رأسه:
-مصالح بخلصها.
ربت عوف على كتفه قائلاً:
-الله يقويك.
أمره بدير بهدوءٍ مستخدمًا يده في الإشارة:
-هاتلي الدفتر من جوا يا تميم، عشان نقيد فيه البضاعة اللي طالعة.
هز رأسه هاتفًا في طاعة:
-عينيا يا حاج.
امتدح عوف ما يقوم به رفيق الكفاح:
-شغلك طول عمره على مياه بيضا، لا بتغش في كِيلة ولا ميزان.

بثقةٍ تامة، ورضا لا حدود له رد عليه بدير:
-احنا عايشين ببركة الحلال.
استدار تميم نحو المدخل الآخر للدكان، لكون الأول مزدحمًا بعشرات الأقفاص الخشبية المُعدة للتحميل، ومع هذا وجد العمال مشغولين في قذف الأقفاص، واحدًا تلو الآخر بحرفية ومهارة لنقلها من مكانها، وضمها للبقية الممتلئة بالمطلوب من بضائع طازجة، حذرهم وهو يتراجع برأسه للخلف، ليتفادى قفصًا بالكاد كان على وشك لمسه لانخفاض مستواه عن البقية:.

-حاسب يا ابني الأقفاص.
رد العامل بثقة:
-متقلقش يا معلم.
رد ممازحًا بنوعٍ من التحذير:
-لما يلبس في وشي ساعتها إنت اللي هتقلق.
ابتسامة عريضة حلت على وجهه والعامل يرد في توجسٍ، محاولاً بتملقه اتقاء غضبه إن اندلع:
-رقبتي فداك يا معلم.

بقيت تلك الابتسامة الضاحكة على وجه تميم، وزادت اتساعًا وقد وقعت عيناه على فيروزة، لام قلبه الذي لم يتنبأ ككل مرةٍ بوجودها؛ ورغم ذلك لم ينتقص من فرحته شيء، بدا وكأنه طفل صغير تلقى مكافأة غير متوقعة، حتمًا يومه سيصبح أكثر تشويقًا! كانت الأخيرة مشغولة بالنظر إلى هاتفها المحمول، لذا لم تره في البداية، فتنحنح مناديًا؛ وكأنه يخاطب أحد العمال:
-رص الحاجة كويس يا ابني.

حينها رفعت عينيها لتنظر إليه، فتضاعفت السعادة بداخله، أي شيء آخر يريده غير هذا؟ نظرة واحدة منها كفيلة بقلب كيانه! تقدم نحوها مرحبًا بها بلسانٍ تحول للتعلثم؛ وكأنه يتعلم النطق من جديد:
-صباح، الخير.
بادلته ابتسامة صغيرة رقيقة وهي ترد:
-صباح النور.
الرقة مع الجمال الفطري معادلة يصعب عليه تحملها، لعق شفتاه، وأخبرها مجددًا ترحيبه:
-منورة ال، الدكان.
قالت في اقتضابٍ:
-شكرًا.

سألها وهو يحك مؤخرة عنقه، محاولاً ألا يطيل النظر إليها، احترامًا لوعده لأبيه:
-في حاجة، نقصاكي ولا حاجة يا، أبلة؟
أجابت نافية:
-لأ، كله تمام.
سألها في اهتمامٍ، كمحاولة جادة منه، لاستطالة الحوار معها:
-أخبار دكانك إيه؟
ردت في استرسالٍ:
-المحل؟ تمام، وكله بصراحة بفضل الحاج بدير بعد ربنا.
بعفويةٍ قال لها، علها تفهم تلميحه الضمني:
-أبويا عمره ما يتأخر عن حد احتاجه في حاجة، ما أنا طالعله.

هزت رأسها قائلة بهمهمة خافتة:
-أها.
واصل كلامه معها بحماسٍ غريب اجتاحه كليًا:
-وإن شاءالله يكون فاتحة خير عليكي.
تنحنحت قائلة ببسمة كانت شبه مصطنعة:
-يا رب، عن إذنك.
تنحى للجانب لتمر، وهو يقول بتعابيرٍ شابها القليل من الحزن تأثرًا بذهابها:
-اتفضلي.
وقبل أن تخطو نحو الخارج هتف آمرًا العمال، حتى لا تتعرض دون قصدٍ للإيذاء:
-إنت يا ابني، خد بالك، استنى لما، الأبلة تعدي.
رد عليه العامل بصوته المرتفع:.

-تمام يا ريسنا.
بصعوبةٍ أبعد نظراته الساهمة عنها، وتحرك في اتجاه الثلاجة، ليبدو غير مهتم بمتابعتها، فلا يظن أحدهم بها السوء، إن لاحظ مدى اهتمامه بها، وادعى انشغاله بالنظر لما يوجد بداخل الثلاجة للحظاتٍ، ليضمن مغادرتها لمحيطه، ثم اتجه إلى المكتب ليحضر الدفتر لأبيه، ويده الأخرى تختطف ثمرة تفاح لامعة، كانت موضوعة على المكتب، قربها من شفتيها، وقطم قطعة منها، ليحادث نفسه وهو يتلذذ بمذاقها الطيب:.

-أحلى صباح على التفاح.

-بتعملي إيه يا فيروزة؟
تساءلت آمنة بتلك العبارة، وعيناها الحائرتان تراقبان ما تفعله ابنتها أمام المرآة، بهذا الكم المتنوع من أغطية الرأس. التفت تتطلع إليها، واستلت الدبوس المعدني من بين شفتيها، لتعقد به طرفي الغطاء عند عنقها، ثم أجابتها وهي تعاود التحديق في انعكاسها على السطح الزجاجي، لتضبط مقدمة حجابها:
-بأحاول أظبط شكل الطرحة عليا.
سألتها والدتها في تلهفٍ فرح:
-خلاص نويتي يا حبيبتي؟

أجابت مؤكدة:
-أه يا ماما، الفترة اللي فاتت كنت بأعود نفسي عليه، صحيح اتأخرت في الخطوة دي كتير، بس خلاص هعملها.
دعت لها في سعادة كبيرة:
-ربنا يزيدك من فضله.
-يا رب.
دنت آمنة من فراشها، وجلست على طرفه، ثم ركزت بصرها عليها، قبل أن تسألها في جدية:
-مش ناوية تقلعي الأسود؟ عدتك قربت تخلص خلاص.
بعد لحظات من الصمت المتردد تكلمت وهي تتنهد مطولاً، رافضة السماح لعقلها بالانخراط في ذكرياتها الحبيسة في أعماقها:.

-أنا كده مرتاحة.
اعترضت على ما قالته بملامح مزعوجة:
-يا بنتي إنتي لسه صغيرة، هتحبسي نفسك جوا اللون الأسود؟
أعطتها مبررًا منطقيًا، قد يبدو مقنعًا لها:
-معلش، ده أحسن، وعشان محدش من الناس يتكلم عليا، ويقولك دي مصدقت.
راحت ترد في ضيقٍ:
-مالناش دعوة بيهم، هما هيتحكموا في حياتك؟ صحيح كله قضاء ربنا، بس ده ماينفعش لو جت فرصة آ...
قاطعتها فيروزة بجديةٍ شديدة:
-ميعاد دوا خالي جه يا ماما.

تلقائيًا ارتفعت عيناها نحو ساعة الحائط، وقالت وهي تنهض من مكانها:
-أه صحيح، هاروح أديهوله...
وقبل أن تخرج من الغرفة، أشارت لها بسبابتها قائلة:
-بس هنتكلم تاني.
تصنعت الابتسام وهي ترد:
-إن شاءالله.
استمرت في التحديق بالمرآة متأملة الحزن المتسرب إلى وجهها، ولفظت الهواء محدثة نفسها في ألمٍ، لم يختبر قساوته سواها:
-محدش عارف اللي فيها، خليني مدارية فيه.

ابتلع القرص كاملاً، رغم نصيحة زميله بأخذ نصفه فقط؛ لكنه تجاهله، وانساق خلف رغبته في تنشيط جسده الساكن. خرج فضل من المطبخ متجهًا إلى حيث تجلس والدته، وجدها تستند بوجهها على كفها المضموم وهي تجلس على المصطبة، يبدو الهم جليًا على ملامحها الغائمة؛ وكأن تعاسة الدنيا بأكملها قد تجمعت أمام عينيها، لتزيد من إحساسها بالبؤس. زفيرٌ طويل أعقبه آخر، وهي ما زالت تدمدم بكلماتِ الندب البائسة. رفعت سعاد أنظارها تجاه الباب، حينما أقبل عليها ابنها، تطلع إليها الأخير بنظراتٍ متعجبة، قبل أن يستطرد متسائلاً:.

-مال بوزك شبرين كده ليه يامه؟
أجابته بغموضٍ:
-مادرتش باللي حاصل؟
سألها ساخرًا، قبل أن ينفجر ضاحكًا، مستهينًا بحرمة الموت
-في إيه؟ العمدة مات؟
نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بتبرمٍ:
-لأ يا فلحوس، سها، أم عيالك، هتتجوز.
فاجأها برده الوقح غير المكترث:
-يالا في داهية، أهوو غيري يلبس في النحس...
سرعان ما تبدلت نبرته المتهكمة للتهديد وهو يكمل:.

-بس لو عاملة كده عشان تحدف العيال عليا، لأ تنسى، هي أخرها معايا مصروفهم، ما أنا بردك عايز أدلع نفسي وأتجوز.
حملقت فيه سعاد بنظراتٍ مستهجنة، وسألته في استنكارٍ شديد:
-هترمي عيالك يا فضل؟
كان رده الفظ صادمًا لها:
-هما أعدين في الشارع؟ ما هما عند أهلها اللي عايشين زي ضربة الدم.
عنفته لأسلوبه المستفز:
-يا ساتر عليك.
وقبل أن تتمادى في تكديره بالأخبار السخيفة، رفع سبابته أمام وجهها ينذرها:.

-بأقولك إيه؟ أنا مروق دماغي، مش ناقص عكننة تطير المزاج بتاعي.
نهضت من مكانها، وألقت عليه نظرة آسفة لسوء تربيتها له، وهتفت في امتعاضٍ:
-ربنا يهديك لنفسك.
لوح بيده أمام رأسه معلقًا في سخطٍ:
-متشكرين يامه.
انتظر ذهابها ليفرك صدره مخاطبًا نفسه في نشوةٍ متحمسة:
-المفروض كده المسائل تشعشع.

أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وانزوى في ركنٍ هادئ، ليشاهد المقاطع الإباحية الجديدة التي ملأ بها ذاكرة هاتفه، وتحفز لتجديد إحساسه بتجاوبٍ يسري في عروقه؛ لكن خاب مسعاه، فاشتاط غضبًا، كز على أسنانه مدمدمًا في نقمٍ:
-لأ، كده كتير، شكلها جابت ضرفها معايا ولا إيه؟

استبد الغضب الممزوج بالغيظ في صدره، وطفحت آثاره على وجهه، فالأقراص المنشطة التي ابتاعها تعد قوية المفعول، وسريعة التأثير، كلفته الكثير من الجنيهات، احتدم حنقه الحاقد بداخله، ليردد بعدها ملقيًا اللوم على واحدةٍ بعينها، اعتبرها المتسببة في إصابة مصدر رجولته بالعطب:
-كله منك يا بنت الكلب، لو كنت قصيت لسانك ساعتها مكانش الحيوان ده عَلم عليا.

أغلق الهاتف، وقبض عليه بأصابعه في تشنجٍ، حتى ابيضت مفاصله، ثم واصل وعيده لها، وقد غامت نظراته بشكلٍ سوداوي مخيف:
-بالله ما هسيبك، هاجيبك تحت رجلي بالعافية، حتى لو وصلت للخطف...
فحيح ملوث بأنفاسه الكريهة خرج من فمه وهو يختتم ما قطعه على نفسه من عهدٍ واجب النفاذ:
-وساعتها هاخد حقي منك...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة