قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الرابع والثلاثون

حز في قلبه بشدة، أن يراها تتألم، وهو يقف كالعاجز، لا يقوى على تقديم أدنى مساعدة لها، ينعم بحريته، وهي حبيسة أربعة جدران. رفض الطبيب المتابع لحالتها العقلية السماح ل هيثم بزيارة والدته، رغم تردده على المشفى لأكثر من مرة؛ لكون الأخيرة بحاجة للبقاء معزولة عن الآخرين لفترة من الزمن، حتى لا تعرض غيرها للضرر بسبب تصرفاتها غير المتوقعة. عاد إلى منزله مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه، بالكاد يمسح دمعاته الهاربة من طرفيه، استقبلته زوجته بكل حنوٍ وود، حاولت تهوين الأمر عليه، واحتواء أحزانه المتمكنة منه بعاطفتها الجياشة.

مال هيثم برأسه على كتفها، وانتحب يشكو لها ما يضمر في صدره:
-صعبانة عليا أوي يا همسة.
مدت يدها لتمسح برفقٍ على ذقنه النابتة بحركة متكررة، بينما استمر في استرساله المليء بالأسى:
-كل ما أروحلها يمنعوني من الزيارة، بيقولوا حالتها ماتسمحش تستقبل حد.
حاوطته بذراعها من كتفه، وقالت كنوعٍ من المواساة:
-إنت عملت اللي عليك وزيادة.
بدا في حالة بائسة للغاية عندما أخبرها:
-أنا مش عايزها تفتكر إني رميتها.

ردت مصححة له بصوتها الهادئ:
-مين قال كده؟ إنت فكرت في اللي فيه مصلحتها، اللي يفيدها مش يضرها، وأكيد لو كانت أذت حد تاني مكونتش هتسامح نفسك.
أبعد رأسه عن كتفها، وتطلع إليه بعينيه التعيستين متسائلاً:
-تفتكري هي مسمحاني على ده؟
ردت بابتسامة ناعمة علها تطمئن قلبه الملتاع ألمًا عليها:
-أي أم بتسامح ولادها مهما عملوا.
حاولت الحفاظ على عذوبة بسمتها وهي تضيف:
-وبعدين بكرة تبقى أب، ونشوف هتعمل إيه مع ولادك.

بادلها ابتسامة باهتة وهو يقول لها:
- همسة، أنا مش عارف أقولك إيه..
رمشت بعينيها في اهتمامٍ، وقد رأت الصدق بازغًا في نظراته نحوها. تنهد مكملاً على مهلٍ، كأنما يجدد اعترافه النادم لها:
-إنتي أكتر حد وقف جمبي في كل أزماتي، أنا مكونتش البني آدم العِدل، بالعكس ياما عملت مصايب وكوارث، كنت ماشي بدماغي، باستسهل عمايل الغلط، وحتى خطوبتي منك مكانتش وقتها برضايا.
قابلت كلامه بعباراتٍ ذات مغزى، عنت له الكثير:.

-ساعات الخير بيبقى موجود جوا الشر، بس مستنينا نفتش عنه، وإنت كان جواك الخير ده، والحمد لله لاقيته.
أقبل عليها يحتضنها، وهو يعلق في حبورٍ شديد:
-إنتي الخير كله يا حبيبتي.
كفكف العالق من دموعه، وتابع داعيًا المولى:
-ربنا يخليكي ليا، ويقدرني أعملك كل حاجة بحلال ربنا.
ضمته إليها مستشعرة ثقله على صدرها، وقالت مؤمنة على دعوته:
-حبيبي، ربنا ما يحرمني منك.

-نثبت على كده يا أوستاذة؟
تساءل المقاول الواقف على يسارها بتلك العبارة المهتمة، وهو يوجه تعليماته بيده للعاملين الواقفين على سلمين خشبيين متقابلين، ليتمكنا من وضع اللافتة الجديدة في المنتصف بالضبط، أعلى مدخل الدكان بعد توضيبه. أمعنت فيروزة النظر فيها، قارئة بهمسٍ بالكاد تحرر من بين شفتيها:
-محل الفيروزة لتغليف الهدايا وتجهيز لوازم السبوع والمناسبات.

اعتلى ثغرها بسمة فرحة، وأخبرته بإيماءة موافقة من رأسها:
-أه تمام كده...
ثم التفتت ناظرة إليه، وتابعت تبريرها:
-أصلها في الأول كانت معوجة شوية.
علق بنبرة عادية:
-اللي تؤمري بيه، خدامك.
شكرته على سعة صدره، وصبره الطويل معها، فقالت:
-الله يكرمك يا رب.
وجه من جديد تعليماته للعاملين:
-ثبتوا اليافطة على كده.
رد أحدهما بامتثالٍ، وهو يرفع الشاكوش للأعلى:
-حاضر يا ريس.

في تلك الأثناء، كان الشوق يستحثه للذهاب إليها، ليتأكد مما رأه قبل يومين، فلم تكن كعادتها تطرح غطاء الرأس على رأسها، بل كان تلك المرة معقودًا، يلف وجهها كجوهرة ثمينة، جاهد بعزمٍ من حديد ليرجأ ما يطلبه القلب؛ ولكن كلما قاوم أكثر، كلما ازدادت رغبته فيها. اشتهى تميم رؤية وجهها، فغلبته عواطفه، وانهزم صموده أمام لوعة الاشتياق، ومع هذا كان يقدم قدمًا ويؤخر الأخرى، حبه يدفعه للتقدم نحوها، وعهده لأبيه يلزمه بإبقاء مسافة بينهما!

علق تميم في المنتصف بين الآمال والالتزامات، فجال بخاطره أن يدعي شرائه لقداحةٍ جديدة من الكشك المرابط عند الناصية، والذي يبعد بضعة أمتار عن مدخل دكانها، ربما بهذا يتمكن من لمحها دون أن تراه فعليًا. وقف عند بقعة أتاحت له الرؤية من منظوره. لحظه العثر لم تكن واقفة، اشرأب بعنقه محاولاً البحث عنها، ومع هذا بدت غير مرئية له، أصابه الإحباط الشديد، وتسرب اليأس إليه؛ لكن سرعان ما تبدل الضيق لفرحة اجتاحته، أطلت بحجابها الأسود المعانق لقديها، وملامحها المشرقة فتبددت كل الهموم.

سارت فيروزة بخيلاء وعزة، وإلى جوارها المقاول المكلف بإتمام العمل هناك، دقق النظر فيهما، فوجد الأخير يلوح لها بيده، وكأنه يشرح لها أمر ما، لوهلة شعر بالغيرة لكونه يحظى بما حُرم منه، تحامل على نفسه، وتغاضى عن الأمر متصنعًا الجدية.
بصعوبةٍ أبعد عينيه عنها، وحملق في اتجاه صاحب الكشك عندما سأله باحترامٍ:
-طلباتك يا معلم؟
أجابه بإيجازٍ:
-عايز ولاعة.
هز رأسه وهو يبحث عن الغرض المطلوب:
-حاضر.

بعد لحظةٍ، أعطاه الأخير القداحة، وناوله تميم ثمنها، فأصبح بلا حجةٍ للبقاء، لذا فكر في ادعاء تحدثه في الهاتف، وحتى لا يُكشف أمره، وضع الهاتف على خاصية الصمت، ورفع من نبرة صوته قائلاً:
-أيوه يا حاج، سامعك.

تحرك مستندًا على أحد أرفف الكشك، وسلط كل نظره على فيروزة، مراقبًا ما يحدث، ارتفعت عيناه للأعلى عندما رأى اللافتة، وتلقائيًا تشكلت ابتسامة مبتهجة على ثغره لرؤية اسمها ينير المكان، أحس بالمزيد من السعادة تطوقه، وبذل مجهودًا يفوق الطبيعي ليبدو غير متأثر بما يراه، حمحم من جديد بصوتٍ شبه متحشرج، وقال:
-تمام، اللي تطلبه هايكون جاهز.

لم يطل البقاء في مكانه، وانسحب بعد اختطاف نظرة أخيرة سريعة نحوها، أرسل معها تنهيدات حارة، تشتاق للتمتع بضحكة نضرة، تفتت ما حاوط القلب من جمود.

بأوداجٍ منتفخة قليلاً، وبشرة تميل للحمرة؛ بسبب ارتفاع حرارة الجو إلى حد ما، ترجلت فيروزة من سيارة الأجرة، تضع نظارة شمسية على عينيها، وحاملة بكلتا يديها أكياسًا بلاستيكة، ممتلئة بالكثير من البطاقات المطبوعة التي استلمتها من المطبعة. ساعدها السائق على إخراج الباقي من المقعد الخلفي، وناولها إياه، شكرته باقتضابٍ بعد إعطائه أجرته:
-تسلم.
رد في رسمية:
-العفو.

اتجهت نحو مدخل بنايتها القصيرة، وهي تحاول ألا تفلت شيئًا من يديها، زوت ما بين حاجبيها، وحدقت أمامها في فضولٍ مهتم، عندما لفت أنظارها وجود بضعة أشخاصٍ غرباء، مستندين على حافلة صغيرة، يقفون على بُعد عدة أمتارٍ من المدخل، نظروا جميعهم إليها كما لو أنه يتم فحصها تحت المجهر.
لم تستمع فيروزة لسؤال أحدهم العابر، ونظراته الجريئة تتجول على تفاصيلها؛ وكأنها تجردها من ثيابها:
-هي دي يا رجالة ولا لأ؟

همس له زميله الواقف على ميمنته:
-لأ، هو قال مش محجبة، وأنزوحة في نفسها.
بينما أضاف آخر كنوعٍ من التخمين:
-شكلها واحدة جايبة بضاعة تصرفها.
حذرهما ثالث بلكزة خفيفة على صدر الأقرب إليه:
-خلاص ماتبصوش أوي عليها، ألا تاخد بالها.
أبعدوا نظراتهم المتطفلة عنها، ليعودوا إلى همهمتهم الصاخبة مع بعضهم البعض، استنكرت تسكعهم هنا، وتابعت سيرها للداخل وهي تبرطم في ضيقٍ:
-ده اللي ناقص، شوية صيع يقفوا هنا.

التقطت أنفاسها اللاهثة بصعوبةٍ، بعد مجهودٍ مضاعف منها، لصعود الدرجات التي بدت لا تنتهي، لتصل إلى عتبة باب منزلها، تركت كل شيء على الأرضية، مستشعرة الأنين الصارخ في ذراعيها، فركتهما بحنوٍ، وحفزت نفسها المتعبة بكلماتٍ مشجعة:
-هانت يا فيرو، دي آخر حاجة، الباقي سهل.

بحثت في حقيبة ظهرها الجلدية عن مفتاح المنزل، أخرجته من جيب صغير بها، ودسته في القفل، ثم انحنت لتجمع الأكياس، وأدخلتهم للبهو وصوتها يهلل مرحبًا:
-سلامو عليكم، أنا رجعت يا ماما.

كانت مشغولة بوضع الأكياس على أقرب طاولة، لذا لم تنتبه للضيف غير المرحب به المتواجد في صالون المنزل، وعلى ما يبدو ينتظرها منذ وقت طويل. عرجت فيروزة أولاً على المطبخ تبحث عن والدتها فيه وهي تواصل استرسالها عن تفاصيل يومها بصورة عفوية:
-كلها كام يوم ونقفل كل حاجة، ويبقى المحل جاهز على الافتتاح.
اتجهت من تلقاء نفسها نحو الردهة الطويلة، لتقع أنظارها على والدتها الجالسة بحجرة الصالون، سألتها في دهشة:.

-ساكتة ليه يا ماما؟ في حاجة حصلت.
نظراتها الممتعضة أوحت لها بوجود خطب ما، وقبل أن يتبادر لذهنها أي هاجس مأساوي، هتف فضل من ورائها بعد أن عاد من الحمام:
-إزيك يا بنت عمي؟
التفتت كالملسوعة لتنظر إليه في سخطٍ وكره، ثم سألته في وجوم:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
أجابها وهو يفرد كتفيه في زهو لا يليق به أبدًا:
-جاي عشان أخدك معايا.
غامت ملامحها، وتحولت تعبيراتها للشراسة وهي تهاجمه برفضٍ عدائي:.

-نعم، إنت اتجننت؟ ولا شكل مخك جراله حاجة؟ تاخد مين معاك؟
ببرودٍ سمج كرر إجابته عليها؛ وكأنه يتلذذ باستفزازها:
-زي ما سمعتي، هاخدك معايا يا بنت عمي.
حضر من ورائه على مقعده المتحرك خليل، أدار الكرسي المدولب في اتجاهه لينظر إليه في استنكارٍ، ثم نطق بتلعثمٍ يعبر عن عدم رضائه:
-ب، تق، ول إيه، يا، فضل؟
صاحت آمنة في صدمةٍ وقد هب واقفة هي الأخرى على قدميها:
-إيه التخاريف دي؟

عادت فيروزة لتخاطب والدتها متعمدة الاستهزاء بتصريحه:
-سامعة يا ماما الهبل اللي بيقوله؟
مرر أنظاره عليهم، وقال مؤكدًا بسماجةٍ لزجة:
-ده مش هبل يا عروسة...
لم تكن نبرته بالمازحة وهو يخبرهم بحسمٍ:
-إنتي هتفضلي في بيت عمك، لحد ما تخلص عدتك وأتجوزك.
شخصت فيروزة بعينيها في ذهولٍ حانق، وأنكرت آمنة ما ألقاه في وجوههم كالقنبلة:
-إيه الكلام ده؟
بينما رد خليل رافضًا بصوته المتقطع:
--مش، ه، يح، صل.

أهانه فضل بوقاحةٍ فجة وهو يرمقه بتلك النظرة الاحتقارية:
-اركن إنت على جمبك يا خال، بدل ما أنا مش فاهملك كلمة.
استوعبت فيروزة ما قاله بعد لحظة من الشلل في تفكيرها، واندلع غضبها كالبركان، خاصة مع توجيهه الإهانة لخالها العاجز، فصرخت فيه:
-احترم نفسك يا حيوان، والله شكلك كده شارب حاجة على الصبح.
امتدت يده لتقبض على ذراعها، هزها بعنفٍ وهو يتوعدها:
-بتغلطي فيا؟ أنا هعرف أربيكي بطريقتي.

بغضبها المستعر فيها نفضت ذراعها مزيحة قبضته عنها وهي تعنفه:
-إياك تلمسني يا حيوان.
نظر لها باستخفافٍ، وتابع تهديده:
-اغلطي كمان، احنا نرجع البلد الأول، وبعدها هاشوف هاعمل معاكي إيه.
تراجعت خطوة للخلف تاركة مسافة بينهما، وردت عليه بتحدٍ وهي تشير بسبابتها:
-مش هايحصل، وأنا هوديك في داهية.
قال بازدراءٍ صريح:
-داهية عشان هتجوزك، وأتستر عليكي، وعلى فضايحك اللي ريحتها فاحت؟!

قابلت اتهاماته الباطلة بوابلٍ من السباب العنيف:
-إنت بني آدم سافل ومنحط...
ما لبث أن أصبح صوتها أكثر حدة وانفعالاً وهي تكمل:
-أنا أشرف من أي حد، ويكون في معلومك، لو كنت آخر راجل في الكون كله، مش هاتجوزك.
رمقها بنظرة دونية قبل أن يعلق باستحقارٍ:
-إنتي مالكيش رأي أصلاً، إنتي هتنفذي اللي بأقوله، والجزمة في بؤك، ولا عايزاني أركب قرون، عشان تتسرمحي مع كل من هب ودب؟!

لم تتحمل إجحافه الظالم في قذفها بالباطل من الاتهامات، فتقدمت نحوه بكل ما يستعر فيها من غلٍ وغضب، رفعت يدها للأعلى، وهوت به على صدغه تصفعه في شراسةٍ وهي تلعنه:
-إنت أوطى خلق الله...
لم تهاب عينيه المتقدتين كالجمرات، وطردته باستبسالٍ دومًا يظهر فيها عند الشدائد:
-امشي اطلع برا.
كز فضل على أسنانه مرددًا بأنفاسٍ محمومة:
-بتمدي إيدك عليا؟

بقدمين ثابتتين، وأنفٍ مرفوعٍ للأعلى في كبرياءٍ وعزة، ناطحته الرأس بالرأس، وواصلت إهانتها له:
-دي أقل حاجة يا بغل، امشي غور من هنا.
بات السبيل الوحيد لرد اعتباره، بعد انتقاصها لرجولته، أمام الاثني، هو كسر نعَرتها، ودعس عنقها بقدمه، لذا قبض على رأسها بيده الغليظة، ولواها بعنفٍ قاصدًا إيلامها وهو يهدر بها:
-أنا هوريكي.
تدخلت آمنة متعلقة بذراعه، ومحاولة انتزاع يده من على ابنتها، وصوتها يصرخ به:.

-ابعد عن بنتي.
حرك خليل مقعده، ليضرب به ساقه فيدفعه عنوة للخلف، ثم هتف بما يستطيع من طاقة، عله يردعه:
-س، يبها، ما، تقرب، ش منها.
حاول فضل إزاحته عن طريقه؛ لكنه فشل، فخالها بقي حائلاً بينه وبينها، ووالدتها استمرت في اعتراض المسافة المتبقية للمرور إليها، ارتفعت نبرته المهددة، وعيناه تقدحان بالشرر:
-قسمًا بالله ما هتباتي فيها يا فيروزة...

نجح في تجاوز آمنة، ووصل إلى ابنتها، قبض على ذراعها، وحفر أظافره في لحمها المغطى بالثياب، ليلويه خلف ظهرها، يريد حقًا إيذائها بلا رحمة، ثم دفعها أمامه، واستطرد يخاطبها بما يحرق أحشائه من حقدٍ متعاظم:
-مش نازل من هنا إلا وإنتي معايا.
صرخت فيروزة مقاومة إياه:
-ابعد إيدك يا قذر، ماتلمسنيش.
رد بعدائيةٍ، وهو يزيد من ضغطه على ذراعها الملتوي:.

-إيه مفكراني مش هاقدر عليكي؟ ده أنا جايب رجالة معايا يجرجوكي من شعرك لهناك.
سريعًا استعادت فيروزة في ذهنها صورة المتسكعين بجوار مدخل المنزل، ورددت بأنفاسٍ منفعلة:
-إنت بتقول إيه؟
قرب فمه من أذنها، وأخبرها بنبرته الحانقة:
-هترجعي معايا دلوقتي، ولو قتلت فيها الكل.
استعانت آمنة بالمزهرية المصنوعة من الفخار لتضرب بها على عضده، فنجحت في تحرير ابنتها، وهتفت تزود عنها بمشاعرٍ أمومية مقاتلة:.

-حاسب إيدك عن بنتي.
على الفور استغلت فيروزة الفرصة لتهرب من براثنه، وقفت عند عتبة مدخل غرفة الصالون، واستدارت تواجهه بوجهها المتقد غضبًا:
-إنت مجنون رسمي.
صاح بها يتوعدها:
-مش سايبك النهاردة.
هتفت فيها أمها ترجوها، وهي تلوح بالمزهرية مرة أخرى أمام وجه فضل، كنوعٍ من التهديد الظاهري له، وإن لم يكن كافيًا لردعه:
-اجري يا فيروزة، ابعدي عن خلقته، واطلعي عند همسة.

فهمت دون عناءٍ الإشارة المبطنة من والدتها للذهاب عند توأمتها والاختباء لديها، فالأخيرة قد عادت لمنزلها منذ يومين، وربما تصريحها بذلك يجعل فضل يعتقد أنها ستختبئ بالطابق العلوي على أقصى تقدير.
في حين سد خليل المدخل بكرسيه، ليعوقه عن اللحاق بها، وصوته المتلعثم يأمرها بخوفٍ حقيقي:
-ام، شي، بس، رعة.

تلك المرة لم تعارض أيًا منهما، فبحسبةٍ عقلية صغيرة، الكفة لن تكون راجحة لصالحها، والغلبة حتمًا له، لو استعان بالأوغاد الذين استأجرهم، خاصة بعد إمساكه ليد والدتها التي انهالت على مقدمة رأسه بالمزهرية.

قررت فيروزة أن تعمل عقلها، وتصرفت بسرعة بديهة، لذا هرولت ركضًا نحو باب المنزل، فتحته وخرجت منه مغلقة إياه بهدوءٍ، ثم أسرعت هابطة درجات السلم بتعجلٍ، كفرار غزالٍ شريد من ضبع جائع يُجاهد للحاق به لافتراسه.

توقفت عند مدخل البناية تلتقط أنفاسها اللاهثة، ثم تابعت سيرها للخارج؛ لكنها سرعان ما تراجعت مختبأة، فقد انتبهت لوجود هؤلاء الغرباء على مقربة من المدخل، اجتهدت لتضبط انفعالاتها وتستعيد هدوئها، لئلا تثير الريبة حينما تخرج من جديد، وبالتالي تسهل عليهم الفرصة للقبض عليها. تنفست فيروزة بعمقٍ، وهي تطل برأسها لتلقي عليهم مرة أخرى نظرة مختلسة، همست مرددة في تساؤل حائر مع نفسها:
-هعمل في دول إيه كمان؟

لحسن حظها كانوا منهمكين في ثرثرتهم، لذا تشجعت للمضي قدمًا في سيرها، متسللة تحت أنظارهم غير المنتبهة لها، جاهدت لتبدو عادية في مشيتها، أولتهم ظهرها، وانتصبت خلال خطواتها المتزنة، متخذة الطريق المعاكس مسارًا لها. تابعت المشي حتى نهاية الرصيف، حينها فقط ركضت بأقصى ما تستطيع محاولة عبور الطريق للجهة المقابلة، وحتى لا تضيع الوقت أوقفت سيارة أجرة لتستقلها هاربة من الجحيم الملاحق بها، أخبرت السائق بأنفاسها المتسارعة:.

-اطلع بسرعة.

خليط من الغضب، الحقد، السخط، والكراهية استبد به، فلم يعد يضع في اعتباره أي شيء! اقتحم فضل غرف المنزلين كالمجنون، باحثًا عن فيروزة دون مراعاة لخصوصية أصحابه، احتد غضبه عندما لم يجدها، فقط تسبب بهوجائيته في إيقاظ الصغيرة رقية، ومع هذا لم تسلم من بطشه، أطبق على عنقها، ورفعها عن الفراش مهددًا:
-هاتقولولي خبتوها فين وإلا هاموتها!
صرخت به آمنة في ارتعابٍ:
-إنت اتجننت؟!

بكت رقية مستغيثةً، وهي تمد ذراعها نحو أبيها العاجز، طالبة النجدة منه:
-بابا!
تجمد الأخير بمقعده في مكانه، يتطلع إلى طفلته الوحيدة بنظراتٍ مذعورة خائفة، وبصوته المتلعثم صاح:
-س، يب، بن، تي.
استمر فضل في تهديده المجنون هادرًا بهما:
-انطقوا، وديتوها فين؟
أجابته آمنة بوجهها الخائف:
-منعرفش.
بعد لحظة من التفكير، استجمع شتات أفكاره، ونطق عن شكوكه الدائرة في ذهنه:.

-يبقى أكيد راحت عند اللي ما تتسمى أختها، ما هي مش موجودة هنا، تبقى معاها.
سعلت الصغيرة رقية من قبضته التي تضغط على مجرى الهواء، فخشيت أن يزهق روحها في غمرة هياجه الثائر، صاحت مجددًا به، وهي تتقدم خطوة نحوه:
-سيب البت يا فضل، هي معملتش حاجة.
وضع يده الأخرى على فم وأنف الصغيرة، ليقطع كليًا الهواء عنها، وهددها بفجورٍ:
-هاتي عنوانها، وإلا أقسم بالله هارميها من الشباك، بعد أخد روحها.

صرخت به في فزعٍ، وقلبها ينتفض خوفًا على الطفلة:
-حرام عليك، إنت شيطان ولا إيه؟
حمل فضل الصغيرة بذراعٍ للأعلى، وتحرك في اتجاه النافذة مكملاً تهديده:
-شكلك فكراني بهزر
في جزعٍ هتفت به ترجوه:
-استنى، هاقولك.
أرخى قبضته عن الصغيرة وألقاها أرضًا، لتتكوم عند قدمي عمتها، ثم رفع إصبعه متابعًا كلامه معها بنبرة التهديدية:
-لو بتكدبي عليا هادبح بنتك، معنديش اللي أخاف عليه.

-أيوه يا اللي بتخبط.
هتفت همسة بتلك العبارة، وهي تسرع الخُطى في اتجاه باب منزلها، بعد سماعها للدقات القوية المتلاحقة عليه، فتحته لتتفاجأ بوجود توأمتها أمامها، نظرت إليها ملء عينيها في دهشة فرحةٍ، ورحبت بها بابتسامةٍ عريضة:
- فيروزة، حبيبتي آ...
قاطعتها الأخيرة بصوتها اللاهث، وهي تدفعها نحو الداخل، حتى تتمكن من غلق الباب خلفها:
-اقفلي بسرعة يا همسة.

أوصدت القفل الخارجي مثلما طلبت، والتفتت نحوها تلاحقها بأسئلتها:
-في إيه؟ هو حصل حاجة؟ إنتي بتنهجي كده ليه؟
على أقرب أريكة ألقت فيروزة بثقل جسدها المنهك من فرط المجهود العضلي الذي بذلته في فترة وجيزة، ثم أخبرتها بصدرٍ ينهج في توترٍ:
-الكلب فضل عايز ياخدني معاه بالعافية للبلد.
انفرجت فتحتا فمها في صدمة ناكرة، وصاحت مستهجنة:
-نعم؟ إيه الكلام الفارغ ده؟
تابعت فيروزة كلامها بلمحة من السخرية:.

-لأ، ومأجر ناس زي العصابات عشان يخطفني.
علقت في ذهولٍ، لا يخلو من الاستنكار الشديد كذلك:
-ده اتجننت.
سحبت فيروزة شهيقًا عميقًا ثبطت به النهجان المسيطر على صدرها، وقالت بعد لحظاتٍ:
-فلت منه بالعافية، بس مش ضامنة إن كان هيعرف يوصلي هنا ولا لأ.
أمسكت همسة بهاتفها المحمول، وردت بتحفزٍ:
-أنا هكلم هيثم يجيلنا بسرعة يوقفه عند حده.

رفعت توأمتها ذراعها ووضعته على جبينها، ظلت أنفاسها غير منتظمة، وهي تخبرها بما يجول في عقلها من هواجس قلقة:
-ربنا يستر ومايكونش عمل حاجة في ماما ولا خالك.
ردت عليها تطمئنها:
-مش هايقدر رأس العجل ده.
خفضت فيروزة ذراعها، وسلطت نظراتها المحتدة عليها مؤكدة لها:
-والله لو مس شعرة منهم لأوديه في داهية.
أشارت لها همسة بيدها عندما سمعت صوت زوجها على الطرف الآخر، وخاطبته مستطردة في عجالةٍ:
-ألو، أيوه يا هيثم.

لم تكن المسافة بالبعيدة ليستغرق وقتًا للوصول إليها، وبمساعدة الحافلة متوسطة الحجم، بلغ وجهته في زمنٍ قياسي. أشار فضل لأحد أتباعه بإيقافها عندما لمح البناية المنشودة، وضرب بيده على الباب الخارجي لها قبل أن يترجل منها آمرًا من معه:
-ورايا يا رجالة، هنطلع هنا.
سأله من يبدو أنه زعيمهم في جديةٍ، بوجهه الذي يعلوه ندبة لجرحٍ عميق:
-لو الحكاية قلبت عوأ نتصرف على طريقتنا؟

أجابه بابتسامةٍ متباهية؛ وكأنه بهذا يثبت قدرته على شراء ما لا يستطيع بالمال:
-معاكو كل الصلاحيات، وكله بحسابه.
فرك الرجل كفيه معًا في نشوةٍ، وقال بحماسٍ ظاهر عليه:
-زي الفل يا كبير.

على غير المتوقع، تفاجأت فيروزة من وصوله إلى البناية بعد أن لمحته من النافذة، فهرعت إلى شقيقتها تطلب منها إغلاقه بالمفتاح والقفل لضمان عدم اقتحامه للمنزل، خاصة في غياب هيثم، والذي تعذر عليها الوصول إليه بسبب سوء شبكة الاتصالات وانقطاع المكالمة بمجرد إجابته على اتصالها. قفزت كلتاهما في توترٍ يشوبه الخوف، مع بداية الدقات العنيفة على باب المنزل، احتضنت همسة توأمتها، كأنما تحميها، وهتفت في ذعرٍ غمر كامل بدنها:.

-أنا خايفة أوي.
دمدمت من بين شفتيها في غيظٍ:
-ده جبان، متحامي في شوية كلاب زيه.
ضربة أخرى على الكتلة الخشبية تبعها تهديده العالي:
-افتحي يا فيروزة، أنا عارف إنك جوا، مش هاسيبك النهاردة.
ردت عليه بنفس الأسلوب المهدد:
-امشي أحسنلك بدل ما أطلبلك البوليس.
هتف مستخفًا بها:
-ده لو لحقوكي يا حلوة.

استمر في دقه العنيف، قاصدًا خلع الباب، أو تحطيمه، هنا أسرعت فيروزة نحو المطبخ باحثة عن أداة تستخدمها في الدفاع عن نفسها، وحماية توأمتها أيضًا، لم يكن أمامها سوى السكين، استلته من الدرج، وعادت إلى البهو حيث نجح الوغد فضل في خلع الباب من مكانه بمعاونة من معه، ولج أولاً للداخل وزهوة الانتصار تعلو ملامحه، ثم رفع يده للأعلى مشيرًا لأتباعه بالتوقف، ليبدو وكأنه قائدهم الهُمام في مشهد هزلي مثير للتأفف. من تلقاء نفسها أبعدت همسة شقيقتها عن مرماه بصراخه المرتعب:.

-حاسبي يا فيروزة.
لوحت الأخيرة بالسكين مهددة بشجاعةٍ تُحسد عليها:
-هاموتك لو قربت.
حدجها بنظرة متعالية لينطق بعدها هازئًا منها:
-ارمي البتاعة دي يا بت.

بدون سابق إنذار حركتها في خفة ليلمس نصلها الحاد وجهه، فمنحته جرحًا مباغتًا جعله يستشيط غضبًا، نعتها بسبابٍ نابٍ، قبل أن يناوله أحد الأتباع عصا خشبية غليظة، ليستعين بها في مواجهتها. ضرب معصمها بقوةٍ جاعلاً السكين يسقط من يدها، ومسببًا لها الألم الشديد، ارتفع صراخها الموجوع، واختلط بصوت همسة المستنجد، والذي لم يتوقف للحظة منذ اقتحامه مسكنها:
-الحقونا يا ناس!

وقبل أن تفيق فيروزة من الصدمة قبض فضل على عنقها بيده، أحنى رأسها للأمام بطريقة مذلة، وسحبها معه بالإجبار خارج المنزل.

في تلك الأثناء، كان اثنان من عمال الدكان مُكلفان بشراء وإيصال احتياجات العائلة لمنزل الحاج بدير، اندهش كلاهما من الغرباء الذين ولجوا إلى المدخل في خطوات متعجلة ومتلاحقة؛ وكأنهم قد جاءوا للقبض على أحدهم، تبادلا النظرات المستريبة، وبادر أحدهما متسائلاً:
-مين دول؟
رد عليه زميله في توجسٍ حائر:
-مش عارف، بس شكلهم مش مريحني.
حذره بلهجةٍ جادة:
-طب خد بالك، لأني حاسس كده إنهم جايين يعملوا قلق هنا.

هتف في سخريةٍ وهو يفرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين:
-يبقى وقعتهم مهببة، ومش هاتقوملهم قومة من تاني.
ثم جمع الأكياس في يدٍ واحدة، وأخرج هاتفه من جيب بنطاله الجينز وهو يخبره:
-أنا هبلغ الحاج.
رد في استحسانٍ:
-يكون أحسن.
وقبل أن يسمع رده على الجانب الآخر، انتبه الرجلان لصوت الصراخ النسائي المستغيث، فتركا ما بأيديهما على الجانب ليركضا نحو الداخل في تحفزٍ كبير.

كان ما يحدث على درجات السلم، كالبلاء الذي حل بأرضٍ عامرة بالبشر، تزاحم الجيران المتجمعين على إثر الصرخات العالية لإبعاد هؤلاء الغرباء عن الشابة العالقة بينهم، مما اضطرهم لاستخدام العنف المفرط معهم، لتفريقهم، إزاحتهم عن طريقهم؛ كان من بين هؤلاء ونيسة، تفاجأت بأحدهم يجرجر فيروزة على السلم، وهو يسحبها من عنقها خلفه، ليجبرها على القدوم معه رغم إرادتها، أسرعت تعترض طريقه صارخة به:.

-إنت بتعمل إيه فيها؟ سيبها يا جدع إنت.
استنجدت بها فيروزة بصوتها المتألم:
-الحقيني يا طنط.
حاولت تخليصها من قبضة فضل المحكمة عليها؛ لكنه لكزها في كتفها وهو يهدر بها:
-حاسبي يا ولية لأزرفك قلم أكومك.
صراخ العامل المستثارة دمائه لتهجمه على السيدة الوقورة مع إهانتها جعلته يقفز عليه دون تفكيرٍ، وباندفاعٍ جنوني ليطرحه على الدرجات وصوت هتافه يرج المكان:
-إنت اتجننت يا (، ).

تسابق مع العامل الآخر في ضربه، مما جعل أتباع فضل يهرعون إليه لمساعدته، فمنح ذلك ونيسة الفرصة لانتشال فيروزة المتكومة أرضًا، وأدخلتها إلى منزلها. ظهر الجد سلطان وإلى جواره هاجر، هتف الأول بصوته الأجش يتوعده:
-يا ويلك يا ديل الكلب، مش هتتساب النهاردة.
في حين تساءلت هاجر في رعبٍ:
-إيه اللي بيحصل هنا؟ دول بيعملوا كده ليه؟

قيل في الأمثال الشعبية الدارجة أن الكثرة تغلب الشجاعة، وللأسف الشديد مالت كفة الميزان لصالح فريق فضل الإجرامي، فتكالبوا على العاملين وأبرحوهما ضربًا بكل قساوةٍ وعنف. خافت هاجر على جدها من الأذى، فسحبته نحو الداخل وهي ترجوه:
-تعالى يا جدي بسرعة.
ظل ثابتًا، صلبًا في مكانه، لم تهتز عضلة في وجهه، ولم يبدُ عليه أدنى بادرة خوفٍ أو تردد، رفض التحرك، وضرب بعكازه الأرضية الصلبة، صائحًا بقوةٍ وبإصرارٍ عنيد:.

-مش سلطان اللي يجري زي الفيران قصاد شوية (، ) عاملين نفسهم رجالة.

بخوفٍ لا يمكن إنكاره، اقتادتها ونيسة نحو الداخل، وأوصلتها إلى أول غرفة كان بابها مفتوحًا، دون أن تهتم إن كانت لابنها البكري أم لغيره، فالموقف متأزم للغاية، وبالنسبة لها بدت الملجأ الآمن حاليًا، لحمايتها من بطش عديمي الشرف. أمسكت فيروزة بيدها المتورمة، ونظرت إليها في قلقٍ، فشددت عليها ونيسة:
-اقفلي عليكي الباب، وماتخرجيش مهما حصل.
ردت بإيماءة طائعة:
-حاضر يا طنط.

انتظرت خروجها لتوصد الباب خلفها، وتلفتت حولها ملقية نظرة مشتتة على المكان المحبوسة به، كانت فاقدة للتركيز، وانتابتها رجفة باردة جعلت كامل بدنها يرتعش بشدة، لذا جلست على طرف الفراش محاولة لملمة شتات نفسها المبعثرة، تأوهت بأنين موجوع عندما لمست معصمها المنتفخ، لكن صوت الصراخ المرتفع بالخارج جعلها تتلبك بشدة، وتتجاوز عن ألمها.

خشيت فيروزة من نجاح فضل في اقتحام الغرفة، لهذا فكرت في البحث عن شيء تستعين به في الدفاع عن نفسها إن لزم الأمر، فما كان منها إلا أن مدت ذراعها الآخر، وفتحت درج الكومود الأول، لتفتش فيه عن شيءٍ تستخدمه لهذا الغرض؛ لكن أبصرت عيناها ما لم تتوقع إيجاده مُطلقًا...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة