قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثلاثون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثلاثون

لحظات من التشتت الذهني عاشها بمفرده، وهو يسترجع شريط الذكريات، وكأنه يُنشط ذاكرته بما أراد تناسيه بعد وفاتها. إحساسه بالندم، وتأنيب الضمير اضمحلا بدرجة كبيرة، حتى شعوره بالإشفاق عليها لقتلها بشكلٍ مأساوي أصبح غير موجودٍ، فمن كانت في يومٍ ما زوجته، لم تملك نية الإخلاص في البوح بالحقائق المصيرية التي تخص كلاهما، متجاهلة حقه الشرعي في معرفة ذلك، ربما كان في موتها رحمة للجميع!

جعلته صدمة المفاجأة حانقًا على ما هو متعلق بها، بدا تميم ناقمًا على كذبها وخداعها، بل والأسوأ من ذلك، قدرتها العجيبة على إلقاء التهم الباطلة على الأبرياء، غير عابئة بالظلم الواقع على غيرها. زاد الاشتعال في صدره، وجعل معدته تتقلص من الاحتراق، تنفس بعمقٍ ليهدئ من الانفعالات الثائرة المتجمعة بداخله، طوى الأوراق الموجودة بين يديه، وخاطب نفسه في سخطٍ:
-مالوش لازمة العتاب واللوم.

ضغط على شفتيه كاتمًا أنفاسه الغاضبة، ثم حررها دفعة واحدة، وتابع حديث نفسه:
-كل واحد خد جزائه في الآخر.
انتصب بكتفيه، وبحرصٍ ما زال يلازمه نهض عن الفراش برويةٍ، ليتحرك بعدها في اتجاه التسريحة واضعًا الأوراق بأحد الأدراج العلوية. عقد تميم النية على تجاوز تلك المرحلة المتخمة بكل تلك الأحداث الموجعة، وأكد لنفسه من جديد، كنوعٍ من التحفيز المعنوي:
-خلينا نركز في اللي جاي.

تلقائيًا تجسد طيف وجه طاووسه في مخيلته، جاعلاً البسمة تزحف على شفتيه، خاصة مع اعتصاره لعقله ليستعيد ذكرى رؤياها عن قربٍ، فكانت السلوى له في عزلته الإجبارية، وهونت عليه ما اعترى صدره من آلام وأحزان. تلاشت صورتها الناعمة حينما ورده اتصالاً هاتفيًا من والدته، فأخذ نفسًا عميقًا يشحذ به قواه استعدادًا لمكالمة طويلة يسرد لها عبرها عن تفاصيل يومه المشحون بأحداثٍ وهمية، على أمل أن تنطلي عليها حجة انخراطه في العمل.

إلحاحه العنيد، وتمسكه بتلك الرغبة الغريبة في الزواج بابنة عمه، بدلاً من رأب الصدع مع زوجته السابقة، جعل والده يستنكر محدودية تفكيره، وانسياقه وراء ما اعتبرها نزواته اللحظية. حدجه اسماعيل بنظرة دونية مليئة بالغل، وهدر به يوبخه بصوته المرتفع:
-إنت اللي جوا دماغك ده فِجل مش مخ.
عبس فضل بملامحه، ورد في تبرمٍ:
-ليه بس يا حاج؟ هو الجواز بقى حرام اليومين دول؟
جاءه رده مباشرًا ومحملاً بالاستهجان:.

-حرام للي زيك، يتجوز، ويطلق، ويرمي عياله لغيره يربيهم.
هتف مستنكرًا كلامه المنطقي:
-ده بدل يابا ما تشكرني إني بلم عرضنا، ولحمنا.
سأله في غيظٍ:
-واللي رميتهم دول مش لحمك وعرضك؟
انبعجت شفتاه عن تعبير ناقمٍ، بينما تابع والده توبيخه:
-المفروض تصلح الغلط اللي عملته بدل ما بتفكر تتجوز تاني، روح رجع مراتك ولم عيالك في حضنك، ده الأهم دلوقتي.
غمغم في استياءٍ، ووجهه ما زال متجهمًا:.

-يادي أم السيرة الفقر، يابا أنا معنتش عايزها، دي دماغها فاضية، ماتنفعنيش...
تمادى في إساءته لزوجته السابقة، وتابع:
-وبعدين الولية اللي جاية من ورا الجاموسة تمامها كده معايا.
رمقه اسماعيل بنظرةٍ مشتعلة غير راضية عن وقاحته، وعلق عليه في تهكمٍ ساخر:
-وإنت جاي بقى من ورا إيه؟ ده الطينة واحدة يا فضل!
إهانة لاذعة نالت منه، وأصابت هدفها في مقتلٍ، لم يتحملها بالطبع، ودمدم في انزعاجٍ:.

-ليه بس الغلط يابا؟ المفروض تقف معايا وتكبرني، و...
قاطعه والده بلهجةٍ متشددة:
-الرجالة بتكبر بتصرفاتها، بأفعالها، مش بلعب العيال والهبل اللي إنت عامله ده.
تطلع إليه فضل بعينين حانقتين، في حين أكمل أباه وصلة الاستهزاء به:
-بس إنت مفكر نفسك فوق الكل، واللي بتعمله بيصغرك في عينين الناس، وبيعرفهم نوعك إيه؟
صاح في تنمرٍ:
-ده أنا طالب حلال ربنا، إيه الحرام في كده؟ ولا الناس هتتبسط لما أمشي بطال؟

رد عليه بنفس الأسلوب الصارم:
-حلال ربنا بالأصول، مش بالافترا، والتفريط في عيالك وأمهم.
وكأنه لم ينصت لكلمة مما قالها، وأردف معقبًا عليه:
-طب بص يا حاج، احنا مش هنتكلم في ده دلوقتي، أنا عارف إنك لسه مضايق، لكن وقت ما تهدى وتفكر بالعقل، وتحسبها صح هتعرف إني باتستر على عرضي، وباحفظ اسم العيلة.
تقوست شفتاه ببسمة خبيثة وهو يضيف:
-وعلى رأي المثل جحا أولى بلحم توره.

نظرة يائسة يتخللها النفور والإنكار حدجه بها، قبل أن يستدير مغادرًا المكان وهو يردد:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.

بنشاطٍ ظاهر عليها، وتطلعات كبيرة نحو مستقبلٍ مختلف عن ذي قبل، تحركت فيروزة في اتجاه دكان عائلة سلطان، لتلتقي بالحاج بدير. استقبلها الأخير بحفاوة معتادة، وأجلسها على المقعد الخشبي المجاور له، ثم التفت آمرًا أحد عماله ليحضر لها ما لذب وطاب من الفواكه الطازجة، بالإضافة إلى مشروبٍ بارد تنعش به معدتها. شدد عليها تناول ما قدمه بلهجة جمعت بين الأبوة والحزم:.

-ماتقوليش بقى عاملة دايت، وبايت، والحاجات الغريبة اللي بنسمع عنها اليومين دول، إنتي تاكلي كل اللي قدامك ده كله.
ابتسمت في رقةٍ وهي تشكره:
-تعيش يا حاج.
أضاف بصوته الجاد:
-والواد أنا بعته عند البيت بحاجات بسيطة كده للجماعة عندك.
تحرجت من كرمه السخي، وقالت مجاملة:
-مالوش لزوم التكاليف دي.
عاتبها بلطفٍ:
-هو في بين العيلة تكاليف؟ ده إنتي في مقام هاجر بنتي، وأنا باجيب لبنتي مش لحد غريب.

شكرته بنفس الوجه المبتسم:
-ربنا يخليك لينا يا حاج بدير...
سحبت الهواء سريعًا إلى رئتيها، وطردته لتخبره بعدها بنوعٍ من الجدية:
-عشان معطلش حضرتك، أنا كنت عايزة منك طلب.
دقق النظر إلى ملامحها المهتمة، وقال:
-أؤمري يا بنتي.
قالت على مهلٍ:
-الأمر لله وحده، هو الموضوع يخص الدكان بتاعنا.
سألها بترقبٍ، وهو يتفرس في تعابير وجهها الغامضة:
-ماله؟
بتريثٍ أفصحت له عن نواياها:.

-أنا كنت عايزة أكمل باقي توضيبه عشان يشتغل، ومحتاجة من حضرتك توصلني بنجار شاطر وبوهيجي وآ...
قاطعها بزفير ارتياحٍ:
-ده أنا افتكرت حاجة مهمة، ماتشليش هم الحكاية دي، هايكون متشطب من كافة شيء.
شعرت بالسعادة لمساعدته، وانعكس ذلك بوضوحٍ على قسماتها، سرعان ما كسا تعبيراتها طابعًا جديًا عندما سألها:
-بس مقولتليش إنتي هتعملي بيه؟ في حد عايزه للإيجار؟
دون ترددٍ أعلمته بنبرةٍ عازمة:
-لأ، أنا هاقف فيه.

حلت الدهشة عليه، وارتفع حاجباه للأعلى، قبل أن يسألها في ذهولٍ:
-إنتي؟
ردت مؤكدة بإيماءةٍ من رأسها:
-أيوه.
استغرب من تفكيرها في تلك المسألة، وعرض عليها بلهجةٍ غير مازحة:
-قوليلي لو ناقصك حاجة بدل ما تتبهدلي وآ...
للحظةٍ شعرت بالحرج من عرضه الكريم، وقاطعته بإصرارٍ، وعزةِ نفسٍ واضحة، رافضة التواكل على غيرها:
-كتر خيرك يا حاج، أنا مش حابة حد يساعدنا مهما كان مين.
صحح لها مبينًا حُسن نواياه:.

-دي مش مساعدة، احنا أهل وعيلة واحدة.
علقت فيروزة مظهرة تشبثها برأيها بتمسكٍ أشد:
-معلش يا حاج بدير، دي رغبتي، وأنا بحب أعتمد على نفسي، وبعدين دي فرصة اشتغل في حاجة ملكي، بدل ما أروح عند الغريب.
نظر لها مليًا، دون أن ينبس بكلمةٍ؛ وكأنه يكتشف صفات جديدة لم يكن يعلمها عنها. سألته بعينين شبه متوترتين:
-ها، حضرتك قولت إيه؟ هتساعدني؟
هز رأسه مبديًا موافقته وهو يخاطبه:.

-حاضر يا بنتي، كل اللي عايزاه هيتعمل، وعلى أحسن حاجة.
أكدت عليه مجددًا:
-تمام، والتكاليف كلها هدفعها...
ثم وضعت يدها داخل حقيبتها، وأخرجت مغلفًا أبيض اللون، بداخله مبلغًا ماليًا. مدت يدها به نحوه، وقالت:
-اتفضل يا حاج بدير، ده جزء من التكاليف، يعني زي ما بتقولوا كده عربون.
تبدلت نظراته للضيق، وأشار لها بيده رافضًا أخذه:
-شيلي فلوسك في شنطتك يا بنتي.
أصرت عليه بعنادٍ:.

-معلش، الشغل شغل يا حاج، ودي حاجة متزعلش حد.
أتاها رده عائمًا في تلك الجزئية:
-ربنا يسهل، هنشوف ده بعدين، رجعيهم دلوقتي مكانهم.
حاولت بشتى الطرق إقناعه بقبول النقود؛ لكنه كان أكثر عنادًا منها، فما كان منها إلا أن استسلمت أمامه، وأعادت المظروف إلى حقيبتها وهي تشكره:
-ربنا يكرمك يا رب.

رفعت المعلقة إلى فمها، ونفخت بلطفٍ في الحساء الموجود بها، لتخف سخونته قليلاً، قبل أن تنفرج شفتاها لتتذوق طعمه. بدت همسة راضية عن مذاقه الشهي، وأعادت وضعت الغطاء على الوعاء، ليحتفظ بنفس درجة السخونة، قبل أن تغلق الموقد، ثم استدارت بعدها نحو الجهة المقابلة وهي تبتسم في غبطة، شهقت في فزعٍ، وسقطت الملعقة من يدها المرتجفة، عندما رأت بثينة تقف على بُعد خطوتين منها، وفي يدها سكين تقطيع اللحم. حبست أنفاسها المرتعبة داخلها وقد بدأت في رفعه للأعلى ليغدو نصب عينيها، ظلت تحملق فيها بارتعابٍ شديد، ومع هذا حاولت ضبط رجفتها، والسيطرة على اهتزازة صوتها وهي تسألها:.

-أساعدك، في حاجة يا طنط؟
ما زالت أنظارها الخائفة معلقة بالنصل الحاد، وقد تجرأت لتطلب منها بحذرٍ:
-عنك يا، طنط، السكينة..
بلعت ريقها وواصلت كلامها المتلعثم:
-إنتي بس شاورلي على اللي عايزاه، وأنا، هعملهولك على طول.

ترقبت بتوجسٍ ردة فعلٍ متهورة منها، وحدث ما توقعته، حينما أرخت بثينة أصابعها عن السكين، فسقط على الأرضية، مسببًا صوتًا مزعجًا، ونظراتها الغامضة مثبتة عليها. انحنت همسة لتلتقطه سريعًا قبل أن تلحق الضرر بها، أو بنفسها، واعتدلت في وقفتها لتجدها ما زالت تنظر لها بعينين فارغتين من الحياة، وذلك التعبير الجامد مسيطر على كافة ملامحها. رفعت نبرتها منادية، وعيناها مرتكزة على حماتها:.

-يا هيثم، تعالى، بسرعة، يا حبيبي.
جاء الأخير على صوتها المنادي متعجبًا من تواجد والدته بالمطبخ، فقبل قليل كانت غارقة في سباتٍ عميق. أشارت همسة له بنظراتها، وأخبرته بهدوءٍ زائف:
-شوف كده لو، مامتك عايزة حاجة، عشان، كانت ماسكة السكينة، وأنا، خايفة عليها، و...
لعقت شفتيها، واستأنفت بكلماتٍ موحية:
-ده ميعاد الدواء بتاعها، خليها تاخده.
اندهش من تصرف أمه المريب، وحاوط كتفيها بذراعه متسائلاً:.

-خير يامه؟ إنتي ناقصك إيه؟
وبتريثٍ حثها على التحرك على خطوته، فسحبها إلى خارج المطبخ متابعًا كلامه معها:
-خليكي مرتاحة، وكل حاجة هتتعمل وتيجي لحد عندك.
اصطحبها إلى غرفتها، وأجلسها على الفراش، ثم خاطبها وهو يفتش عن أقراص الدواء التي تتناولها بين المجموعة الموضوعة على الكومود إلى جوارها:
-كلنا هنا عشان نخدمك ونريحك.

وجد ضالته، فابتسم في ارتياحٍ، والتفت نحوها ليناولها إياه، بعد أن ملأ كوبها بالقليل من الماء وهو يقول:
-خدي يامه دول.
التقطت بثينة القرص من راحته، ودسته في فمها، ثم أخذت الكوب وارتشفت رشفة واحدة منه، لتعيده بعدها إلى ابنها الذي أسنده في مكانه. أحنى هيثم رأسه على جبينها، وقبلها بحنوٍ وهو يرجوها:
-الله يكرمك يامه، بلاش تعملي حاجة تخوفنا عليكي، إنتي اللي بقيالي.

تراجع عنها لينظر إلى عينيها الغريبتين، فابتسمت له، ورفعت يدها لتمسح على صدغه، استقام في وقفته، وأشار بيده نحو الباب قائلاً:
-أنا هاجهزلك الأكل في صينية وهاكلك بنفسي، ماشي؟
هزت بثينة رأسها كتعبيرٍ عن موافقتها، فاتسعت ابتسامته أكثر، تحرك مبتعدًا عنها، فانتظرت انصرافه لتبصق القرص من فمها، وتلك النظرة العدائية تغطي كامل نظراتها.

نهارٌ انقضى، وتبعه آخر، ليلاحقه ثالث ورابع، قبل أن يمضي النهار الخامس، ومن بعده السادس، والعمل يجري على قدمٍ وساق في الدكان الذي بدا كخلية نحلٍ، بسبب تزاحم العمال بداخله، لإعادة توضيبه في وقتٍ قياسي. ظلت فيروزة جالسة على مقربة من دكانها في كرسيها الخشبي، متشحة بالسواد، تراقب بحماسٍ ما يتم الانتهاء منه، ليزداد شغفها لليوم الذي سيعلن فيه عن افتتاح مشروعها. التفتت برأسها نحو بدير، وقد شرع في مخاطبتها بنوعٍ من العتاب:.

-بردك مصممة تقعدي كده كل يوم؟ هو أنا قصرت في حاجة؟
نهضت واقفة وهي ترد نافية بتحرجٍ طفيف:
-لأ يا حاج، متقولش كده، ده حضرتك قايم بالواجب وزيادة.
لمحت بطرف عينها أحد العمال وهو يحضر المقعد له، فشكره الأخير قبل أن يجلس عليه، جلست هي الأخرى إلى جواره، واستمرت في إظهار عرفانها بصنيعه:
-الصراحة محدش من أهلي كان ممكن يعمل زي حضرتك كده.
من جديد أكد عليها:
-ده إنتي في غلاوة بنتي.

عاد الصمت ليسود بينهما، وتفكيرها مشحون بمسألة محددة، فإلى الآن ظل يرجئ أخذ النقود منها بحججٍ لم تكن مقنعة لها؛ لكنها لم تتوقف عن المحاولة، حتى انتهى بها المطاف إلى سؤاله مباشرة دون تمهيدٍ:
-هو حضرتك مش عايز تاخد مني الفلوس ليه؟
تطلع إليها بثباتٍ، ولم يعلق بكلمةٍ، فاسترسلت قائلة:
-وحتى لما جيت أحاسب المقاول برضوه مرضاش، وقالي أستنى للآخر.
حافظ على سكوته، مما دفعها لإخباره:.

-يعني أنا عايزة أعرف التكاليف هاتكون في حدود أد إيه، عشان أظبط أموري، وماتفاجئش.
حاد ببصره عنها، وراح يخبرها بصوته الرخيم:
-لما نيجي وقتها.
ضغطت عليه بإلحاحها، ونظرة الشك تكسو حدقتيها:
-يا حاج بدير، أنا مش هاقبل حد يصرف عليا مليم أنا مستحقوش، والناس اللي شغالة ليل نهار أكيد محتاجين فلوس، ده غير إن اللي زيهم بيشتغلوا باليومية، إزاي بقى موافقين على كده؟
استدار ناظرًا إليها وهو يخاطبها:.

-ماتشغليش بالك بالحاجات دي، حقهم مضمون.
ردت بعندٍ:
-خلاص خليهم ياخدوا جزء من حقهم.
رفع ذقنه للأعلى قليلاً، وقال بتعابيرٍ مرتخية:
-سبيها على الله، كله في النهاية هيتراضى.
لم تسترح لرده العائم، ومماطلته الغريبة، التي أوحت لها أنه يساعدها في الخفاء، وهذا ما كان يزعجها بشدة!

على الجانب الآخر، وعند مسافة لم تكن بعيدة عنهما، توقفت سيارة النصف نقل أمام دكانه، ليترجل منها تميم بشموخٍ، ورأس مرفوع للأعلى في اعتزازٍ، مسح المكان الذي اشتاق إليه بنظراتٍ شاملة، حانت منه نظرة سريعة نحو سراج الذي تبعه، صاح أحد العمال مهللاً ومرحبًا بوجوده بعد غيابٍ قد بدا طويلاً، فتجمع على إثر إعلانه البقية، ورحبوا به باستقبالٍ حار. مرر تميم نظراته من جديد على داخل الدكان وهو يتساءل في دهشة حائرة:.

-أومال الحاج بدير فين؟ أنا مش شايفه هنا؟ هو منزلش النهاردة ولا إيه؟
أجابه واحد من العمال وهو يشير بذراعه للأمام:
-ده موجود في الدكان التاني مع المقاول.
قطب جبينه مرددًا في اندهاشٍ أكبر:
-دكان تاني؟
أومأ برأسه مانحًا إياه المزيد من التوضيح:
-أيوه يا معلم، اللي على الناصية، قصاد البقالة.
عرف أين يتواجد، فأشار للعامل بالانصراف، وزوى ما بين حاجبيه في استغرابٍ، متسائلاً مع نفسه بصوتٍ خفيض:
-بيعمل إيه هناك؟!

انتشله سراج من سرحانه السريع بسؤاله:
-عايز مني حاجة تانية يا معلم تميم؟
استدار نحوه يشكره بامتنانٍ كبير:
-لأ يا سراج، تعيش يا خويا، وقفتك معايا دي مش هنساها، وإن شاءالله نردهالك.
عاتبه بابتسامةٍ ودودة تنم عن ألفة طيبة:
-عيب ماتقولش كده، أنا معملتش حاجة.
بادله الابتسامة وهو يرد:
-ابن أصول.
استأذن سراج بالانصراف وهو يشير نحو سيارته:
-أسيبك بقى تشوف مشاغلك، سلام يا معلم.
ودعه بعد مصافحة حارة باليد:.

-في حفظ الله.
ظل تميم واقفًا في مكانه يراقبه إلى أن غادر بسيارته المنطقة، ثم التف بجسده نحو الناصية، مُركزًا بصره على الدكان الذي تحدث عنه العامل، وقد غاب عن ذهنه كليًا نقل ملكيته. همَّ بالتحرك؛ لكن استوقفه أحد العمال متسائلاً:
-نبعت نجيب القهوة بتاعتك يا معلم؟
رد نافيًا:
-لأ، مش دلوقتي...
عاد لينظر أمامه وهو يكمل:
-أنا رايح أشوف الحاج.

وفقًا لإحساس قلبه النابض -والذي بات بوصلته مؤخرًا- شعر بحضورها الطاغي على ما حولها، قبل أن يتأكد حقًا من وجودها هناك. علا الضجيج المتحمس في صدره، وانتشرت وخزات غريبة من نوعٍ لم يعهده مسبقًا في أنحاء جسده، تحفزه، تستثيره، وتستحثه على الركض إليها. بجهدٍ متعاظم تحكم تميم في انفعالاته المتحمسة ليبدو هادئًا.

ارتفع دبيب فؤاده حتى صم أذنيه، عندما رأها تُحادث والده، وضحكة رقيقة تنير الوجه قبل الشفاه. خانته تعابيره الصارمة، وارتخت باستسلامٍ متلهف أمام طوفان نعومتها غير المتكلفة. لاق اللون الأسود بها كثيرًا، منحها فخامة وقوة، جعلته يتقين أنها لا تستحق سوى الأفضل في كل شيء، فمن يريد الظفر بها، عليه أن يبذل الغالي والنفيس لأجلها، ومع هذا لا يمكن مقارنة اللون الأسود بالأبيض، فالأخير يضاهيه في جماله عليها؛ وكأن ذلك اللون النقي اقترن بها، فأصبح لا يراها مثالية الجمال في أي لونٍ غيره.

منحه القدر فرصة أخرى ذهبية، غير مرتب لها، للتمتع برؤية نظرة التلهف في بحر الفيروز، عندما ناداه والده بترحيبٍ لا يخلو من المفاجأة السارة:
- تميم، حمدلله على السلامة يا غالي...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة