قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثاني والعشرون

انتقاله لزيارة أحدهم بالخصوص، يعني أن ذاك الشخص عزيزًا لديه، وإلا لاستدعاه للقدوم إليه احترامًا لمقامه وسنوات عمره الطويلة. لم يدخر سلطان وسعه في مساعدة من لجأت إليه بعد نضوب جميع الاختيارات لديها، صعد إلى الطابق العلوي، ورفع عكازه ضاربًا به الباب الخشبي، وصوته ينادي:
-افتح يا واد لجدك.

كرر خبطه على الباب بقوةٍ أكبر ليثير انتباه هيثم، لحظاتٍ انقضت عليه قبل أن يسمع وقع خطواته القادمة، فتح له الباب ورحب به بوجهه المتجهم، وذقنه المهملة:
-اتفضل يا جدي، نورت البيت.
أمره بأسلوبه الصارم وهو يلكزه بعكازه في كتفه:
-فسح كده خليني أدخل.
رد عليه هيثم بصوته الناعس وهو يفرك شعره المهوش:
-بيتك يا جدي.
نظر له سلطان بنفورٍ، لاويًا ثغره، ليوبخه بعدها:.

-وبعدين إيه اللي إنت عمله في نفسك ده؟ أخد جمب، وعازل نفسك عن الكل، حتى مراتك.
سأله بضيقٍ:
-هي اشتكيتلك؟
أجابه ببساطةٍ:
-أه اشتكتلي، ما أنا زي جدها، هتروح لمين يعني لما تلاقي حالك مايل بالشكل ده؟
تحرك الجد في اتجاه أقرب مقعدٍ، وجلس عليه، بينما ألقى هيثم بجسده الكسول على الأريكة المجاورة له، ثم أخبره بزفيرٍ بطيء، وشعوره بالخذلان متمكن منه:
-يا جدي أنا فيا اللي مكفيني، مش ناقص نأرزة من حد.

-وإنت عملت إيه عشان تاخد جمب كده؟
-مقهور يا جدي على اللي حاصل.
-ليه هو إنت اللي كنت خططت مع أمك ونفذت؟
-لأ، بس أنا ابنها، والكل هيلومني على اللي عملته
-يا ابني ربنا بيقول ولا تزر وازرة وز أخرى، ليه هنشيلك ذنب حاجة إنت معملتهاش من الأساس؟
-مش لازم تقولوها في وشي، كفاية أشوفها في نظراتكم ليا.
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هو إنت شوفت مننا حاجة تقولك كده؟ معاملتنا ليك اتغيرت في أيتها شيء؟
-الشهادة لله لأ.

-أومال بتقولنا وتعودنا حاجات معملنهاش ليه؟ غاوي تجيب لنفسك النكد؟
-يا جدي..
-بس يا واد، اسمع الكلمتين اللي فيهم الخلاصة.
-حاضر
-أمك حقها عليك تراعي ربنا فيها بما يرضي الله، ماتسمعش كلامها لا في معصية ولا في حاجة تغضب ربنا، وده اللي إنت عملته مظبوط؟
-أيوه.
-واللي حصل كان مقدر ومكتوب، ربنا كاتب تشوف ده في حياتها، إنت عليك تراعيها وتاخد بالك منها لحد ما السر الإلهي يطلع.

-وأختك خلود جايز ربنا أراد إنها تاخد منزلة الشهادة في موتها، وعشان كلنا ندعيلها بالرحمة والمغفرة، مش أحسن ما كانت تأذي غيرها؟ وإنت عارف أختك كانت عاملة إزاي، وناوية على إيه، وساعتها كان الكل هيدعوا عليها، أنهو الأفضل بقى اختيارنا ولا اختيار ربنا؟
-رد يا واد.
-اختيار يا ربنا طبعًا.
-يبقى تقول الحمدلله على كل حال، وقوم كده فوق لنفسك ولمراتك، ده إنت ربنا رزقك بواحدة بنت أصول، متربية، ومافيش زيها.

-ماتبقاش نكدي وغاوي هم وغم.
-حاضر.
-وقوم هوي البيت كده، أنا عارف إنت طايق الكمكمة دي إزاي؟
-اللي تؤمر بيه يا جدي.

انقشعت مؤقتًا غيمة الحزن عنها، لتلتهي بحديثها مع الصغيرة الجالسة إلى جوارها على فراشها القديم. أمعنت فيروزة النظر في وجه ابنة خالها، وشعرت بعاطفة حانية نحوها، لا تنقُص في مقدارها عما شعرت به تجاه من فارقوا الحياة، بل زادت عليها بمحبةٍ أكبر. سألتها رقية وهي تعبث بدميتها الصغيرة:
-إنتي هتنامي جمبي؟
أجابتها بابتسامة لطيفة:
-أيوه، ما هو ده كان سريري زمان، ودي كانت أوضتي مع همسة.

بعفويةٍ استرسلت الصغيرة متحدثة معها:
-أنا كان عندي أوضة كبيرة أوي عند ماما قبل ما تروح لربنا.
شعرت بغصة تؤلم حلقها تأثرًا بها، وضمتها من كتفيها إلى صدرها وهي تشدد عليها:
-حبيبتي، كل حاجة موجودة هنا بتاعتك، وأنا هاجيبلك كل اللي إنتي عايزاه.
على الفور طلبت منها بعينيها ذات اللون الزيتوني:
-أنا عايزة ماما.

لم تجد من الكلمات المناسبة ما ترد به عليها، فزادت من ضمها لها، وكبتت قدر استطاعتها نوبة بكاء مهددة بالظهور. حاولت فيروزة أن تغير من الموضوع بسؤالها:
-تحبي أحكيلك حدوتة؟
ردت متسائلة في اهتمامٍ:
-عن إيه؟
أجابتها بسؤالٍ آخر:
-إنتي بتحبي تسمعي إيه؟
هزت كتفيها قائلة في حيرة:
-مش عارفة.
مطت شفتيها للحظةٍ قبل أن تخبرها بنوعٍ من الحماس الزائد:
-طيب تعالي نفكر سوا هنحكي عن إيه.

منحتها مع كلماتها ابتسامة صافية، لم تكن لتحمل ضغينة أبدًا لها، فابتسمت لها رقية وهي تطالعها ببراءة، مستشعرة معها بمودةٍ حقيقية، وكان الشعور متبدلاً بصدق.

غاب عن دكانه أيضًا لليوم التالي، ولم يتواجد في وقت الغذاء، وأصبح حضوره مقتصرًا على وقت المبيت ليلاً، مما استرعى انتباه والده الذي اعتقد في وجود خطب ما به، انتظره ريثما عاد للمنزل، وتبعه إلى غرفته، ليجلس على المقعد الفردي المتواجد بها، ثم سأله في اهتمامٍ يشوبه القلق:
-كنت فين يا ابني طول اليوم؟ وامبارح بردك مكونتش معانا.
تنحنح بحشرجةٍ خفيفة، وأجابه بنوعٍ من المراوغة:
-شوية مشاوير بأقضيها.

عاتبه بدير بتبرمٍ:
-وإنت ناقص تعب؟ ما الرجالة موجودين في الدكان، شوف ناقصك إيه ويعملوه.
هز رأسه معقبًا عليه بهدوءٍ:
-أنا عارف يا حاج، بس في حاجات ماينفعش تتعمل إلا بوجودي.
زفر مطولاً قبل أن يرد عليه محذرًا:
-الله يقويك، بس لازمًا تاخد بالك من صحتك، إنت قايم من بهدلة.
بنفس التعابير الهادئة خاطبه تميم:
-ربنا المعين.
استقام والده واقفًا، وشرع في التحرك تجاه باب الغرفة؛ لكنه استدار ليخبره:.

-بأقولك إيه، احنا هنكلم جماعة بيت خليل، نعرفهم إننا جايين بعد كام يوم، يعني عشان نعمل واجب العزا في جوز بنتهم، أمك عرفتني بده، وقالتلي أستنى شوية يرتبوا أمورهم.
بريق غريب اجتاح نظراته، حتى قسماته تلبكت إلى حد ما وهو يقول:
-واجب يا حاج.
أضاف بعد تنهيدةٍ:
-شوف نفسك ساعتها، لو فاضي ابقى تعالى معانا.
لم يرغب أن يبدو عليه الاستعجال في حضرته، فأعطاه ردًا عاديًا؛ وكأنه لا يهتم:
-بإذن الله.

أما عن داخله فكان متشوقًا بلهفةِ صغير ينتظر ليلة العيد لهذا اللقاء الرسمي، لم يشكل فارقًا معه، فخلاله سيملي عينيه برؤيتها الشافية لأي أوجاع.

بضعة أيامٍ مرت على استقرارها في منزلها، وهي تسعى بجهد جهيد لاستعادة ما افتقدته في حياتها السابقة، محاولة تخطي تلك الفترة البائسة، والتي منحتها تعاسة أبدية لا يمكن محوها بسهولة. ولتمضى قدمًا دون الشعور بالخزي من نفسها، أو حتى الحصول على شفقة وتعاطف الآخرين، اكتفت بالادعاء كذبًا أن وفاة زوجها ناجمة عن سكتة قلبية مفاجئة، دون الخوض في تفاصيل مأساتها، لتظل أسرارها المؤلمة مدفونة في أعماق روحها المنتهكة. وعلى حسب الميعاد المتفق عليه، أتت إليها رفيقتها لمواساتها، فاستقبلتها بنفس الود السابق، حتى لا ترتاب في أمرها. احتضنتها علا، وقالت بعينين دامعتين:.

-البقاء لله يا فيرو.
ردت بتعابيرٍ جامدة، لا يظهر عليها التأثر رغم محاولتها العكس:
-الدوام لله وحده.
تابعت علا قائلة بصوتها المختنق:
-أنا اتقهرت أول ما عرفت، مصدقتش ماهر لما قالي، إزاي ده حصل؟ عُمر آسر ما كان بيشتكي من حاجة، والله موته فرق معانا.

لم يكن شقيقها راضيًا عما يسمعه، ولكونه لم يطلعها على حقيقته الصادمة، بقي مكتوف الأيدي، عاجزًا عن إفساد صورته في عقلها، لذا كانت على سجيتها في التعبير عن تأثرها بوفاته؛ لكنه ضجر في النهاية من ثرثرتها المحرجة، فهتف بها بلهجةٍ صارمة:
-خلاص يا علا، مالوش لازمة الكلام ده، هو أجله جه كده.
ناظرته بعينين منزعجتين، وعاتبته:
-المفروض إنت تزعل عليه أكتر مني، ده كان صاحبك.
هتف في تزمتٍ:
-أنا زعلي كده.

لاحظت فيروزة توتر الأجواء بينهما، فتدخلت قبل أن تزداد حدة بقولها المجامل:
-شكرًا لتشريف حضرتك يا ماهر بيه.
استدار محدقًا فيها، واستطرد متسائلاً:
-على إيه بس يا فيروزة، قوليلي أخبارك إنتي إيه دلوقتي؟
جاوبته وهي ترسم بسمة صغيرة على ثغرها:
-الحمدلله أحسن.
باهتمامٍ واضح عليه سألها:
-عملتي إيه في موضوع إعلام الوراثة؟
أعطته ردًا حاسمًا، بوجهٍ عابس التعبيرات:
-احنا اتكلمنا قبل كده فيه، مش عايزة حاجة.

وقبل أن يضغط عليها بأسئلته، صدح رنين هاتف شقيقته، أخرجته من هاتفها معتذرة بنعومةٍ، ثم قالت بنحنحة بسيطة:
-هستأذنكم بس هارد على التليفون.
علقت عليها فيروزة وهي تشير بيدها نحو الشرفة لتتجه إليها:
-خدي راحتي هناك.
انتظر ماهر انصرافها، لينحني للأمام بجذعه نحوها يلومها بصوتٍ خافت:
-ميراث إيه اللي مش عايزاه؟ ده حقك الشرعي.
خفضت من نبرتها لتخبره بألمٍ:
-يا ماهر بيه حضرتك وأنا عارفين كويس مصدر الفلوس دي إيه.

شدد عليها بلهجته الجادة:
-أنا باتكلم عن أملاكه اللي هنا، اللي كان أصلاً وارثها عن أهله.
أصرت على رفضها قائلة:
-مش عايزة حاجة منه.
رفع إصبعه أمام وجهها يحذرها بضيقٍ:
-ما تركبيش دماغك يا فيروزة، إنتي محتاجة فلوس تساعدي بيها نفسك قبل عيلتك.
لوهلةٍ شعرت بالإهانة المبطنة من كلماته؛ وإن كانت غير متعمدة. بلعت غصة جارحة في حلقها، وقالت بعزةِ نفسٍ:
-مستورة والحمدلله يا ماهر بيه.
تدارك زلة لسانه، واعتذر منها:.

-سوري، ده مكانش قصدي، بس آ...
توقف عن إتمام جملته عندما انضمت شقيقته إليهما مجددًا، وهي تعلل سبب مكالمتها الطارئة:
-أسفة، كانت زبونة بتأكد عليا على ميعاد استلام حاجتها.
علقت فيروزة بتفهمٍ:
-ولا يهمك.
سألتها رفيقتها في اهتمامٍ:
-ناوية تعملي إيه يا فيرو الفترة الجاية؟
تهدل كتفاها في فتورٍ وهي تخاطبها:
-لسه مش عارفة.
اقترحت عليها برقةٍ:
-طب ما ترجعي تقفي معايا في المحل، بجد إنتي ممتازة وآ...

رفضت عرضها بلباقةٍ:
-بلاش يا لولو، اعفيني.
استدارت تتكلم مع شقيقها تحثه على دعمها:
-ما تقولها إنت يا ماهر.
خالف توقعاتها، واحترم رغبتها بتأيده لها علنًا:
-سبيها على راحتها يا علا، ماتزهقيهاش، هي محتاجة وقت.
منحته فيروزة نظرة امتنانٍ صامتة، لتشرع بعدها في تغيير الحديث لأشياء أخرى غير تلك التي تخصها، فيكفيها ما تجرعته من مرارة وآلام خلال ما مضى.

نظرة تعاطفٍ مصحوبة بحزنٍ سددتها لتلك الراقدة على فراشها بالمشفى، فبعد أن كانت بثينة رمزًا للوقاحة، والإساءة للآخرين بلسانها السليط، أصبحت الآن لا حول لها ولا قوة، بالكاد تستطيع التماسك وتدبر أمورها، ومع هذا اقترحت همسة على زوجها، أن يأتي بها إلى منزلهما، لتكون تحت أنظارهما، كبديلٍ عن إبقائها بالمشفى وحيدة، وتعيسة، لا تفيق من لوم نفسها، فربما بتواجدها معهما تتحسن حالتها النفسية، خاصة بعد إشارة الأطباء لحاجتها للمتابعة مع أحد المتخصصين لتجاوز تلك الأزمة الخطيرة.

وما إن رأى هيثم والدته غافلة، حتى تحدث إلى زوجته بصوتٍ خافت يوصيها:
-خليكي معاها هنا لحد ما أدفع الحساب.
قالت بإيماءة موافقة من رأسها:
-ماشي يا هيثم.

بقيت إلى جوار فراشها، جالسة على المقعد، وكامل نظراتها المهتمة عليها. لم تتوقع همسة أن يصيبها كل هذا الضرر في وقت قصير؛ ولكن على الباغي تدور الدوائر، تنهدت في أسفٍ، ورغم هذا دعت لها بالشفاء. تحفزت في جلستها عندما وجدتها تفتح عينيها، مالت ناحيتها لتقول ببسمة لطيفة:
-حمدلله على سلامتك يا طنط.
ثم ربتت برفقٍ على ذراعها المسجي إلى جوار جسدها، وتابعت:
-إن شاءالله تبقي كويسة.

حاولت بثينة التكلم، لم يسعفها لسانها الناقص، بدا صوتها كالأنين الباكي، وتشنج ذراعها بانفعالٍ وهي تتحسس به وجهها. انتفضت همسة واقفة، وسألتها بقلقٍ مهتم:
-عايزة إيه أجيبهولك يا طنط؟ شوريلي بس.
تضاعف تشنجها مع عجزها عن النطق بما تريد، فصاحت همسة مستغيثة:
-يا جماعة، حد يلحقني.
على إثر صوتها المرتفع، تجمعت بضعة ممرضاتٍ -وقبلهن الطبيب- لإسعافها، دفعتها إحداهن للخارج قائلة لها بلهجةٍ بدت آمرة:.

-معلش انتظري برا شوية.
استجابت مرددة في توجسٍ:
-طيب.
فركت همسة كفي يديها معًا، شاعرة بارتفاع معدل نبضاتها، ظلت تتمتم بتضرعٍ:
-عديها على خير يا رب.
بعد دقيقتين، جاء إليها زوجها، ألقى نظرة حائرة عليها، قبل أن يسألها باستغرابٍ:
-إيه اللي حصل؟ واقفة هنا ليه؟
زمت شفتيها للحظة، ثم أجابته:
-مامتك تعبت شوية.
انخلع قلبه في خوفٍ، وسألها:
-من إيه؟
ردت وهي ترمش بعينيها:
-مش عارفة...
ثم وضعت يدها على جانب كتفه تطمئنه:.

-دلوقتي هيطلعوا يطمنونا، ادعيلها يا حبيبي.
إحساسًا مرعبًا انتابه في تلك اللحظة، خشي ألا يتحمل قلب والدته –أو عقلها- صدمة خسارة شقيقته بسبب طمعها الجشع. شحب وجهه من هواجسه المتواترة؛ لكن بقيت ابتسامة همسة الصافية، دليله الحسي الملموس بأن الأمور ستصير على ما يرام!

زيارتها له كانت ضرورية، رغم تأجيلها لبضعة مراتٍ، بسبب بعض الظروف الطارئة؛ لكنها أرادت رؤيته، والاطمئنان عليه، تناسى القلب كل الحزن والضغينة تجاهه، حين وقعت الأنظار على ذلك العاجز، أحست بصدرها يعتصر ألمًا عليه. وقفت فيروزة إلى جوار فراش خالها بالمشفى، مسحت بيدها على جبينه، وانحنت تقبله، قبل أن تحييه:
-سلامتك يا خالي.

فتح عينيه بثقلٍ، ونظر إليها نظرة البائس العاجز، لا يصدق أنها موجودة معه، تعامله بإحسانٍ، وعطف. محبتها لم تكن مزيفة، ومشاعرها كانت مليئة باللهفة والحزن. مسدت ابنة شقيقته على كتفه بحنوٍ، وأضافت بصوتٍ اجتهدت ألا يظهر مختنقًا لحسرتها على مُصابه:
-إن شاءالله تعدي منها على خير.
ثم ابتسمت وهي تتابع:
-ومتقلقش على رقية، دي أختي الصغيرة، هحميها وأخد بالي منها لحد ما تقوملنا بالسلامة.

حملق فيها مليًا بعينيه الكسيرتين، وبادلته نظرات عكست صفاء نيتها. حرك خليل شفتيه ليناديها بصعوبةٍ:
- ف، ير، وزة.
ردت باهتمامٍ شديد:
-أيوه يا خالي.
رأت في عينيه العبرات النادمة محتجزة فيهما، بلعت غصتها، وكبحت دموعها عندما ردد بنفس الصوت المتلعثم:
-س، ام، حين، ي.
انحنت على رأسه تقبله، وهي تقول دون تفكيرٍ:
-مسمحاك يا خالي...
بالكاد سيطرت على رغبتها بالبكاء المتأثر، وهي تستكمل جملتها:.

-قوملنا إنت بالسلامة، عايزينك معانا.
اعتدلت بعد ذلك في وقفتها، ومسحت بظهر كفها العبرات المتسللة من طرفيها، وأخبرته بحماسٍ:
-احنا هنظبط البيت عشان تنام معانا، مش هنسيبك لوحدك، كلنا موجودين حواليك ومعاك.
لم يستطع التعليق سوى بالانخراط في نوبة بكاءٍ نادمة، شعرت خلالها بالأسى عليه، ترجته بقلبٍ موجوع:
-خلاص يا خالي، هو أنا بأقولك كده عشان تزعل؟ والله هاعيط جمبك، وهخلص علبة المناديل دي.

ثم حولت حزنها إلى مزاحٍ وهي تدعي الضحك:
-خليني أقولك عن رقية والشقاوة اللي بتعملها، ماهي شكلها طلعالي.

سحبت المقعد لتلصقه بفراشه، واستطردت تحكي له عن ابنته بحماسٍ، غير غافلة عن أدق التفاصيل، ليشعر وكأنه لم يتركها ليومٍ، خلال حديثها المستفيض، تغلغل داخله ندمًا أشد، فرغم ظلمه المجحف، ومعاملته القاسية لها على الدوام، إلا أنها بيّنت له طبية لا حدود لها، لا تخلو من أنهر من المحبة، رغم توهمه أنها جاءت لإظهار شماتتها فيه، خاب ظنه، وأدرك حينئذ أن النبتة الطيبة أصلها طيب وثابت.

انسحب من أسفل المظلة الجالس تحتها، ليتحرك بعيدًا عن الرجال المجتمعين حوله، حتى يتكلم بأريحية تامة، دون أن يرهف أحدهم السمع لمكالمته الهاتفية، فينقل أخباره لأهل البلدة، كعادة المعظم هنا في تناقل الشائعات بإضافة الكثير من المغلوطات دون دقة. تبدلت قسمات اسماعيل المرتخية للوجوم، ونظراته للعبوس، بعد سماعه لهذا الخبر المشؤوم من زوجة شقيقه المتوفي. حرر زفيرًا مزعوجًا من صدره، قبل أن يعقب بحسم:.

-احنا هنيجي عندك في أقرب وقت.
على ما يبدو اعترضت على إرهاقه بالقدوم، فأصر عليها:
-دي الأصول والواجب.
صمت للحظةٍ، وتابع:
-عزيها بالنيابة عني، سلامو عليكم.
التفت اسماعيل بجسده ليجد ابنه مقبلاً عليه، تفرس الأخير في وجهه متسائلاً بتطفله الاعتيادي:
-في إيه يا حاج؟
أجابه بزفيرٍ مهموم:
-دي مرات عمك، بتبلغني إن بنتها فيروزة رجعت.
علق فضل هازئًا:
-على طول كده؟ تلاقي جوزها طفش من زنها، وقرف.

صحح له نافيًا، والاستنكار يبدو ظاهرًا على ملامحه:
-لأ يا فالح، ده جوزها ربنا افتكره في الغربة.
جحظت عيناه هاتفًا في ذهولٍ يتخلله القليل من الشماتة:
-إيه ده مات؟
بنفس الأسلوب المنزعج اقتضب في رده عليه:
-أيوه.
حك فضل مؤخرة عنقه، وغمغم بسماجة مرفوضة:
-الصراحة ومن غير زعل، بنات عمي أقدامهم فقر على نسايبهم.
نهره والده بغلظة:
-إيه الكلام الخايب ده؟
بوقاحته الفجة تفوه بالمزيد:.

-خايب إيه بس؟ إنت مش شايف يابا سرهم الباتع.
صاح اسماعيل في نفاذ صبر:
-استغفر الله العظيم.
سأله فضل ببسمة ماكرة:
-وناوي تعمل إيه؟ هتروحلهم؟
أجابه دون أن يستغرق لحظة في حسم أمره:
-أه طبعًا...
ثم حدجه بتلك النظرة المستهجنة وهو يزجره:
-أومال يعني هاقعد جمبك ألت وأعجن زي الحريم؟
فرك طرف ذقنه، واقترح عليه بنظراته الخبيثة:.

-طب ما تخليك وأنا أروح بدالك، ورانا شغل كتير في الأرض، والأُجرية عايزين فلوس أد كده، وإنت بتعرف تتفاهم معاهم.
كشف أمره بسؤاله المباشر:
-أسيبك تروح لوحدك عشان تعك الدنيا زي تملي؟
تلجلج وهو يبرر له:
-يابا أنا هاقوم بالواجب وراجع على طول، مش هالحق أعمل حاجة يعني.
رمقه بطرف عينه، ثم عبر له عن تشكيكه في نواياه:
-أنا مش ضامنك يا فضل.
غمغم بنظراته المتنمرة:.

-ليه بس كده؟ وبعدين ما احنا أخدين السِكة قياسة، كل يوم والتاني عندهم، وأنا هسد مكانك.
صاح منهيًا النقاش معه:
-بأقولك إيه هي كلمة، مش هتتنقل من هنا إلا معايا، أنا مش ناقص مشاكل.
على مضض ادعى انصياعه؛ وكأنه يسكته فقط:
-طيب، اللي تشوفه.

نظراته الطويلة نحوه عكست نوايا لئيمة، وإن لم يفصح بذلك علنًا؛ لكنه عقد عزمه على الذهاب إلى منزل عمه بمفرده، لإثبات أنه الآمر الناهي الوحيد في هذه العائلة، بعد فناء جميع رجالها، وإن كان خالها ما زال حيًا؛ لكنه اعتده عاجز الجسد والعقل، غير قادر على اتخاذ القرارات الصائبة.

احترامًا للعادات والتقاليد، تم إعلام نساء المنزل قبل القدوم بوقتٍ كاف للاستعداد كفاية لاستقبال عددهم الكبير في منزلهم، رغم عدم حاجتهم لأي ترتيب مسبقٍ، بسبب المصاهرة بين العائلتين؛ لكن بدير أراد أن تتم الأمور بهذا الشكل تقديرًا للظروف الراهنة. بعد صلاة العشاء، توافد أفراد عائلة سلطان على المنزل، استقبلتهم آمنة بترحابٍ حار، واستضافتهم في صالون منزلها، فجلس الجد على أريكة منفردة، وعلى المجاورة له جلس تميم، أما بدير فاستقر إلى جوار زوجته على أريكة ثنائية، واتخذت هاجر مكانها عند الجانب الآخر مع رضيعها، لتتبقى الأريكة الواسعة شاغرة، إلى أن احتلتها آمنة وإلى جوارها الصغيرة رقية.

وحده كانت أنظاره معلقة بالباب، ينتظر تلك اللحظة التي تطل فيها عليه، لهفة قلبه أوحت أنه لم يأتِ لتقديم واجب العزاء، وإنما لتجديد عهد الحب النابض في فؤاده. تسارعت دقاته عندما لمحها تأتي بثيابها السوادء، أحس بشيءٍ يناوش مشاعره، ويستحثه بشدة، لإطالة النظرات نحوها بجراءةٍ غير معهودة، وأمام عائلته. خجل تميم من نفسه، وأخفض عينيه في حرجٍ، قبل أن تقبل فيروزة عليهم؛ وكأنه لم يرها.

ولحسن حظه جلست قبالته، فلا مهرب لعينيه الحالمتين من نظراتها الشاردة. حاول أن يركز انتباهه مع والده وجده؛ لكنه وجد صعوبة في تحقيق ذلك، فكامل حواسه أبت الانصياع لإرادته، خاض قتالاً صامتًا، كان الفوز فيه من نصيب جوارحه، استقرت عيناه على وجهها الناعم وصوت أبيه يعزيها:
-البقية في حياتك يا بنتي.
قالت بصوتٍ هادئ:
-الدوام لله وحده.
هتفت آمنة قائلة في حسرةٍ:.

-الواحد مابقاش ملاحق من المصايب اللي نازلة فوق دماغه، مش عارفين نقول إيه؟
رد عليها الجد بصوته الرخيم، وهو يدير عصا عكازه بين أصابع قبضته في حركة دائرية:
-نقول الحمدلله على كل حال.
تنهدت مرددة بإيماءة قنوعة:
-الحمد والشكر ليك يا رب.
قالت ونيسة كنوعٍ من الدعم:
-ربنا حاططنا في ابتلاء صعب، بندعيه نعدي منه على خير.
وافقتها آمنة الرأي، وردت عليها:
-ونعم بالله.

استمرت الأحاديث والهمهمات الجانبية بين المتواجدين، تشارك فيها فيروزة أحيانًا، وفي كثير من الوقت بقيت صامتة. قرع الجرس المفاجئ أجبر رأسها على الاستدارة، وقبل أن تنهض أشارت والدتها لها وهي تأمرها بصوتها الخافت:
-خليكي إنتي.

تحركت آمنة خارج الغرفة متجهة إلى الباب، فتحته وهي تتأكد من ضبط حجاب رأسها بلزمةٍ لا إرادية، حلت علامات المفاجأة على تعبيراتها عندما أبصرت فضل واقفًا على الأعتاب، حركت فكها متسائلة في دهشة:
- فضل إنت جاي ليه السعادي؟
حدجها بنظرةٍ غير مستساغة، وقال بشفاه مقلوبة:
-جرى إيه يا مرات عمي؟ هو ممنوع ولا إيه؟
أخبرته نافية:
-لأ، بس أبوك قايلي إنكم جايين على بعد بكرة، فأنا مستغربة.
بسماجته الزائدة حادثها:.

-لاقيت نفسي فاضي، قولت أعدي عليكم.
ودون انتظار سماحها له بالدخول، اندفع مقتحمًا الصالة، مجبرًا إياها على التنحي للجانب وهو يتساءل في فضولٍ:
-إيه الدوشة دي؟ هو إنتي عندك ضيوف؟
أجابته بصوتها الخافت:
-عيلة الحاج سلطان جاية تعزي في وفاة المرحوم آسر.
عنفها بخشونةٍ بالرغم من انخفاض نبرته:
-ومحدش يقولي ولا يديني خبر؟
ردت بعتابٍ، وقد ضاقت نظراتها:
-يعني هانقول للناس لأ ماتجوش؟ دي مش الأصول.

شمر عن ساعديه، وكأنه يستعد للشجار، ليقول بعدها بنيةٍ غير محمودة:
-طب أنا داخلهم.
استبطأت حركته بالتعلق بذراعه، وطلبته منه:
-بالراحة يا ابني، الناس في بيتنا.
بوجهٍ قاتم، ونظرة حادة هسهس بفحيحٍ كالأفعى:
-هو أنا غريب؟ ده أنا صاحب مكان.
حذرته من جديد بانزعاجٍ ظاهرٍ على ملامحها، وفي نظراتها أيضًا:
-خلاص يا فضل، لم الدور.
دفعها للجانب وهو يتحرك قائلاً بتصلبٍ:
-ملكيش دعوة يا مرات عمي.
تبعته هامسة بتوجسٍ:.

-استر يا رب، هو احنا ناقصين فضايح.
بكل ما فيه من قباحة النفس وشرورها، ولج فضل إلى الصالون صائحًا بصوتٍ تعمد أن يكون خشنًا وجافًا:
-سلامو عليكم.
أتاه الرد متفرقًا من جميع المتواجدين بالحجرة:
-وعليكم السلام.
بدا النفور ظاهرًا على وجه فيروزة، لم ترحب بابن عمها، ونهضت خارجة من الغرفة لتجد والدتها تضم يديها معًا في توترٍ ملحوظ، سألتها باستغرابٍ، وهي ترفع حاجبها للأعلى:.

-في إيه يا ماما؟ واقفة على جمب كده ليه؟
بصوتٍ قلق همست لها:
- فضل ناوي يشبك مع الجماعة اللي عندنا.
استشاطت غضبًا على الفور، وهتفت مهددة باندفاعٍ:
-والله ما هسكتله، هو اتجنن في عقله، بصفته إيه أصلاً؟
حاولت والدتها استبقائها، وترجتها بخوفٍ مرتبك:
-استني يا فيروزة.

تجاهلتها مرغمة لتنضم للبقية الحاضرة، وهي في حالة تحفزٍ شديد، منتظرة اللحظة التي يظهر فيها وقاحته لتهاجمه بما يعتريها من غيظٍ وغضب. ونال مراده عندما استطرد هاتفًا باستهجانٍ هازئ:
-ماشاء الله عليكم، منورين البيت.
لم تنتظر التعليقات المجاملة، وبادرت بردها على الفور، ونظرتها الاحتقارية طالته من رأسه لأخمص قدميه:
-البيت طول عمره منور بأصحابه واللي فيه.

في حالةٍ من الغليان راقب تميم ما بينهما، كابحًا بصعوبة منع نفسه من التطاول -لفظيًا وجسديًا- على كتلة الشحم الغبية الحاضرة معهم، وكعادة فضل المستفزة كانت إهانته فجة عندما زجر ابنة عمه:
-اتركني على جنب كده، وخليني أقول البؤين اللي عيزهم.

تصاعد غضب تميم إلى ذروته، حتى عروقه باتت تنتفض بقوةٍ؛ وكأنها ترجوه للانقضاض عليه والفتك به. اختلجت بشرته بحمرةٍ شديدة، كأن جلده يفح نارًا، بينما هاجمته فيروزة بزمجرةٍ غاضبة:
-بصفتك إيه إن شاءالله؟
التفت فضل ناحيتها يلوح لها بذراعه، ولسانه يسبقه:
-بأقولك إيه...
بلغ صبره منتهاه، والسكوت لم يعد خيارًا متاحًا، هدر تميم يقاطعه بنبرة اخشوشنت على الأخير؛ وكأنه على وشك الاقتتال معه:.

-إنت يا ابني اتكلم معايا أنا.
على إثر صوته المحموم بكل درجات الغضب، انتفض الجميع في جلستهم، وركزوا أنظارهم معه، بادر الجد بتهدئته بأمره بصرامةٍ، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة:
-استنى يا تميم، وخليني أتكلم.
وأيده بدير بلهجته المتشددة:
-اسمع الكلام.
بعينيه الناريتين، ووجهه المشتعل قال بنبرة محملة بأنفاسه الهادرة، ودون أن تحيد نظراته عن وجه فضل:
-أوامرك يا جدي.

توجهت عينا سلطان إلى الضيف الثقيل، وسأله ببرود؛ وكأنه نكرة:
-كنت عايز تقول إيه؟
غاص في مقعده، ورفع ساقه فوق الأخرى، كما لو كان حقًا شخصية هامة لها اعتبارها، ثم لفظ الهواء ببطءٍ، وقال وهو يلوي ثغره:
-يعني هو يصح تيجوا وراجل البيت مش موجود؟
كلماته المستفزة استثارت فيروزة، فصاحت به بعصبيةٍ:
-ومين نصبك راجل علينا؟
أدار فضل رأسه ناحيتها، ورفع ذراعه عاليًا يهددها علنًا:
-اخرسي بدل ما أسفخك قلم أرقدك فيها.

هنا تدخل تميم في الحوار ينذره بصوتٍ أجوف قاتم، اجتمعت فيه شراسة سبعة أعوامٍ عجاف، في سجنٍ لا يظهر أدنى شفقة للضعفاء:
-طب جرب ترفع إيدك عليها، وأنا هكسرهالك نصين، ما هتعرف ترجعها مكانها تاني، وده قبل ما أدغدغ عضمك كله.
صوت سلطان كان نافذًا وهو يأمر حفيده:
-اهدى!
ثم أمر فيروزة بلهجته الجادة:
-وإنتي استني يا بنتي شوية...
تحولت أنظاره نحو فضل ليخاطبه بتحفزٍ واضح:.

-وكلمني أنا كبير الأعدة، بس الأول تنزل رجلك لتحت.
ولكز بعكازه الأرضية بقوةٍ جعلت ساق هذا الأرعن تنخفض خوفًا من هيئته، تنحنح في خفوت، وادعى ثباته قائلاً بغطرسةٍ مصطنعة، وكأنما يحفظ ماء وجهه:
-نعم يا، حاج.
استقام الجد بكتفيه في شموخٍ مهيب، ثم سأله بما يشبه الازدراء:
-قولي إنت كينونتك إيه هنا؟
بنبرة متعالية أجابه، كما لو كان شخصًا فريدًا من نوعه:
-أنا فضل، ابن الحاج اسماعيل، عمهم الكبير.

عامله الجد باستحقارٍ عندما سأله:
-أيوه يعني، إيه ميزتك في الكون؟
رد بتشنجٍ وهو يبلع ريقه:
-ما أنا قولتلك يا حاج إني ابن عمهم.
سأله بنفس اللهجة المهينة له:
-غيره، بني آدم مهم يعني؟ ماسك منصب واحنا منعرفش؟
رد عليه بوقاحةٍ:
-جرى إيه يا حاج؟ إنت جاي تهزقني في بيتي؟ لأ تقف عوج وتكلم عدل.
مع ختامه لجملته هاج تميم ينعته بشراسةٍ، وقد تخلى عن عكازيه ليقف باستقامةٍ، ودون أن يوجد ما يعيقه عن قتله:.

-عندك يا (، )، هاطلع ميتينك النهاردة.
انتفض فضل واقفًا، وتراجع خطوتين للخلف، ليقف إلى جوار آمنة، خوفًا من بطشه الأعمى، فنظراته القاتلة أكدت نيته التامة على تنفيذ قوله، دون إبداء ذرة ندمٍ واحدة، لأن العائلة كانت ولا تزال خطًا أحمرًا لا يمكن المساس به.

دهشت فيروزة من حميته، كانت مرتها الأولى التي تراه على تلك الحالة الثائرة، ولأجل من؟ لأجلها ودفاعًا عنها دون وجود ما يربطه بها، أو حتى الدافع للقيام بهذا، أظهر خلال تلك الدقائق المنصرمة استعدادًا كاملاً، للخوض في معركةٍ دامية لا تخصه، من أجل حمايتها من أقل ضرر، خفق قلبها لهذا، وتطلعت إليه ملء عينيها، لحظتها لم تكن ترى سواه، وإن لم يلمح نظراتها المثبتة عليه.

حلقت بعينين سارحتين في فضاء هيمنته الحاضرة بقوة، فرأت بالإضافة إلى استبساله، شهامته، صلابته، اعتزازه بعائلته قبل نفسه، دفاعه المستميت عنهم، وتضحيته غير المشروطة لحماية الضعيف، دون أن يطلب منه المساعدة. لامس ما فعله مشاعرها، ونفذ كالسهام الموجهة إلى قلبها، فشعرت بتلك الخفقة التي أنعشت ما كان كامنًا، لتدرك في أعماقها أن هناك ما يجذبها نحوه؛ وإن أنكرت واستنكرت هذا. أفاقت من تحديقها فيه، على صياح والدتها اليائس، غير متوقعة نجاحها في تهدئة الوضع بعد وصوله لذروته:.

-اهدوا يا جماعة وصلوا على النبي، مش كده.
رد عليها فضل بوجهه المتقع، بنفس الأسلوب المهين:
-مش لما يعرفوا في الأصول الأول يبقوا يتكلموا.
عنفه تميم بلهجته القاتمة، وقبضته المتكورة تأكله لتحطيم فكه:
-الأصول عارفينها غصب عنك يا بغل.
هتف فضل بصوته المهتز، وقد تحرك تلك المرة ليقف خلف آمنة:
-اغلط كمان، ما إنت مش متربي.

همَّ بالتحرك بما يجتاحه من ثورة ثائرة؛ لكن استوقفته قبضة أبيه الموضوعة على ذراعه قبل نبرته الآمرة:
- تميم، اهدى.
ومن خلفه هتف جده يأمره:
-خليك واقف.
بزمجرةٍ محتجة صاح تميم مهددًا:
-أدوني الإذن وأنا هانيمه زي الدبيحة.
رد عليه الجد يهدئه:
-احنا جايين نقوم بالواجب، مش نتخانق، وأدينا قومنا بيه، يالا بينا.
قاطعه معترضًا بزفيرٍ متشنج:
-بس آ...
منعه بدير من الاحتجاج بصرامته الواضحة:
-جدك قال كلمته، متجادلش.

خنع بصعوبةٍ لكليهما، ودمدم بصوته الغاضب:
-ماشي كلامكم.
وزعت فيروزة نظراتها عليهم، وقالت وعيناها تحدقان في اتجاه تميم، الذي كان مسلطًا كامل أنظاره على الوغد المختبئ خلف النساء:
-أنا أسفة جدًا على اللي حصل.
أخبرها الجد وهو ينهض واقفًا:
-الغلط مش عندك يا بنتي، الغلط معروف مع مين.
شتت نظراتها عن تعابيره المتشنجة، لتحملق في الجانب، ناحية بدير الذي ربت على كتفها وهو يؤكد عليها أيضًا:.

-شدي حيلك واحنا معاكي في أي حاجة، احنا مش نسايبك وبس، لأ أهلك كمان.
شكرته بابتسامةٍ بسيطة:
-تسلملي يا رب.

من تلقاء نفسها أدارت وجهها للأمام، لتجده واقفًا على بُعد خطوةٍ منها، أنفاسه المنفعلة تكاد تلفح بشرتها، رعشة خفيفة انتابتها لاقترابه غير المتوقع، كما شعرت بخفقةٍ مباغتة تصيب تلك العضلة النابضة فيها، فازدادت خفقانًا كما لم يحدث من قبل. تلبكت وأحست بحمرةٍ ساخنة -غير غاضبة- تطفر على صفحة وجهها، نظرته العميقة نفذت إليها عندما أكد لها بصوته الجاد:
-لو حد اتعرضلك يا أبلة قوليلي...

حادت عيناه عنها للحظة لترتكز من جديد على وجه فضل، وهو يكمل تهديده:
-بالله ما هيشوف نفسه إلا وهو مدفون حي في قبر محدش يعرفله طريق جرة.
هلل فضل متسائلاً بعصبيةٍ؛ كما لو كان يحاول رد كرامته المبعثرة:
-هو يقصدني أنا؟ عايز يموتني؟ لأ ده أجيبله البوليس.
صاحت فيه آمنة بصبرٍ نافذ:
-هو إنت بتخانق دبان وشك؟ اسكت بقى.

عادت عيناه الهائمة تنظر إليها عن قربٍ مغرٍ، ليجد قطعتي الفيروز ازدادتا وهجًا، صوتها الناعم غمر كيانه كاملاً، فجعل وخزات الحب والشعور تعمل بكامل طاقتهاوقد قالت باقتضابٍ ممتن يصحبه ابتسامة رقيقة، كانت خصيصًا له:
-شكرًا.

يا لقرع الطبول الآن في قلبه! فقط لو تعلم ما الذي يكنه لها، ابتهجت روحه، وطربت، وسرَّت، وفرحت، وسعدت كما لم تسعد من قبل. حافظ تميم على ثباته ليخبرها بلهجته التي هدأت، وإن لم تخبت صلابتها، مؤكدًا عليها من جديد، عزمه الشديد على تنفيذ تهديده لحظيًا، فقط إن منحته الإشارة بهذا:
-مش بأهزر، إنت بس قولي.
رمشت بعينيها قائلة بوجهٍ شبه متوتر:
-كتر خيرك.

تحرك مبتعدًا عنها، وعيناه تُلقي نظرة مودعة عليها، بما تحتويه من شغفٍ ودفء، وعدٌ بلقاءٍ قريب تعهد به قلبه في صمتٍ. واصل سيره، دون الاستعانة بعكازيه، متحملاً بعض الألم في ساقيه، تعمد تميم الوقوف أمام فضل ليحدجه بنظراته الميتة، فانكمش الأخير على نفسه، كادت تنفلت منه شهقة مذعورة حين رفع ذراعه يدعي تهديده به، قبل أن يخفضه ليسنده على كتفه، ضغط بأصابعه بخشونةٍ عليه، حتى كاد يعصره، وقال له باستهجانٍ:.

-الرجالة نازلين يا، راجل، جاي، ولا هتكمل ليلتك مع الحريم؟
أجابه بذبذبةٍ وهو يحاول إزاحة قبضته المتشبثة به:
-لأ قاعد.
أخبرته آمنة بوجومٍ ناقم:
-واحنا بقى هنقفل وننام بدري، بالسلامة يا فضل.
لو كان مثيله يملك إحساسًا، لما ظهر بوجهه مجددًا، بعد ما تلقاه من إحراجٍ متعاقب، تنحنح قائلاً وهو يزيح يد تميم القابضة عليه:
-ماشي يا مرات عمي.

وقبل أن ينفذ بجلده هاربًا منه، أمسك به تميم من مؤخرة عنقه، يعتصر فقراته بشدة، فتأوه بأنينٍ، ولم يستطع المناص منه. اقترب من أذنه يهمس له:
-حاسب على أيامك كويس...
نبرته الهامسة زادت قتامة، وأشعرته بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من الهلاك الحتمي مع إتمام جملته:
-عشان يومك قرب يا، بغل.!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة