قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والعشرون

رواية الطاووس الأبيض الجزء الثالث بقلم منال سالم الفصل الثالث والعشرون

بنفس القبضة القوية المحكمة حول عنقه، والغضب الذي لم يهدأ بعد، دفعه تميم دفعًا بخشونةٍ أمامه إلى خارج المنزل؛ وكأنه يُلقي بقمامةٍ مهملة، لا مكان لها هنا، ليضمن عدم عودته بعد مغادرة الجميع. حاول فضل المناص منه، فلم يقوَ على هذا، رغم كون الأخير في غير كامل قوته، ويستخدم ذراعًا واحدة، وبالكاد يسير باستقامة، أظهر فقط قدرًا مما يشحذه ضد سماجته المفرطة. لم يحرره، وصاح كأنما يحادثه:.

-عايزك في كلمة برا يا، راجل.

طريقة تلفظه بالكلمة الأخيرة عنت أنه أراد إهانته، وليس مدحه كما يظن البعض. أدار تميم رأسه للجانب، عل الحظ يبتسم له، ليحظى بفرصة أخرى لرؤية إشراقة حدقتيها، ذاك البريق الذي تلألأ فيهما بوضوحٍ، بعد أن أظهر جانبه الآخر المدافع عنها. وقد حدث ما رجاه، حيث كانت فيروزة في إثرهما لغلق الباب، تطلعت إليه بطريقة جعلت الروح تشتاق، والأحزان تذوي، شتته عنها قليلاً برطمة كتلة الغباء القابض عليه، أجلى صوته، وأمرها بإشارة مدعمة كذلك من عينيه:.

-اقفلي يا أبلة عليكم.
علقت عليه بنعومةٍ، رافقتها ابتسامة ممتنة، زادت من لهيب الأشواق:
-حاضر يا معلم.
وقبل أن توارب الباب تابع بلهجته الجادة، وعيناه قد تحولتا لتحدج فضل بقتامةٍ أرعبته:
-زيادة أمان، عايز أسمع صوت الترباس.

استجابت لأمره، وأغلقت الباب ليسمع بوضوحٍ حركة القفل فيه، عند تلك اللحظة ارتخت قبضته عن مؤخرة رقبة فضل، ليس لتحريره، وإنما لدفعه بظهر ساعده من عنقه نحو الحائط، حاصره برأسي عكازيه الطبيين، وضغط على مجرى تنفسه، ليقطع الهواء عنه، ثم بيده الأخرى أشهر مطواته، وجعل بريق نصلها الحاد ينعكس في عينيه المذعورتين، أخفض يده قليلاً ليلصق النصل المدبدب في جلد صدغه، همس له من بين أسنانه المضغوطة:.

-إنك تستقوى على الحريم مش مرجلة.

تلوى فضل بجسده محاولاً تحرير نفسه، والتقاط أنفاسه المقطوعة، على أمل الفرار من أمام شرارات غضبه الحارقة؛ لكنه كان عاجزًا تحت قبضتيه، مسلوب الإرادة والقوى. خفض تميم النصل للأسفل، ليغرزه طرفه الحاد عند بنطاله، وتابع تهديده الهامس له:
-عشان لو اتكررت تاني، هاشيلك الحتة اللي مخلياك تفكر نفسك كده!

نبرته الجوفاء، مع نظراته المظلمة، أكدت أنه لا يمزح مطلقًا في تنفيذ كلامه. استمر تميم في الضغط برأسي عكازيه على عنقه، حتى بات لون بشرته أزرقًا، حرره بعد أن سدد لكمة قاسية بركبته في أسفل معدته جعلته يسعل ويئن في ألم شديد، قبل أنه يكومه بجانب صندوق القمامة. نظر له باحتقارٍ مشمئز، ثم أمره مهددًا:
-قوم على حيلك، وامشي من هنا، بدل ما أنزلك بطريقتي.

طار من عينيه كل استبسال زائف ظن أنه فيه، زحف فضل على أطرافه الأربعة ليصل إلى الدرج، ثم رفع أحد ذراعيه ليمسك بالدرابزين محُملاً عليه ثقل جسده، بالكاد نهض وهو يهبط في عجالةٍ، فأوشك على الانكفاء على وجهه بطريقة مضحكة؛ لكنه استعاد اتزانه وفر سريعًا قبل أن يطاله الأذى. ابتسم تميم ساخرًا منه، على الرغم أن ذلك لم يكن مرضيًا بالكامل له، واستدار بعدها ليحملق في الباب الخشبي الذي يفصله عنها، مستشعرًا بقوة حضورها، آه لو تتبين مدى الشوق والحب الغارق فيه وجدانه نحوها! انصرف من المكان وقلبه يدق في لوعة، لم يعد يحتمل الابتعاد، وما زال مترددًا من الاقتراب.

من الناحية الأخرى، شهدت فيروزة ما فعله، وراقها للغاية تلقينه لهذا الدرس القاسي، شعرت بصدق أنها استردت عن طريقه جزءًا من كرامتها المهدورة، وإن لم يعلم بعد ما عانته من جبروت هذا الغليظ، وحينما استدار لينظر ناحية الباب، شعرت أن نظراته اخترقت الحاجز الخشبي لتصل إليها، خفق قلبها في ارتباكٍ، وارتجفت في خجلٍ لم تشعر به ناحيته من قبل، لولا يقينها بأن هناك فاصلاً بينهما لصدقت أنه يراها قبالته. ابتعدت عن الباب، وألصقت ظهرها بالحائط، وهي تشعر بتهدج غريب يجتاح صدرها، تحسست نبضاتها بيدها، وهي لا تستوعب الاضطراب المغري الذي اعتراها، لكنه كان مقرونا بشيء استلذته.

أمام مرآة تسريحتها، أجلست الصغيرة على مقعدها القديم، ووقفت خلفها وهي ممسكة بمشطها تصفف خصلاتها الطويلة برفقٍ، كانت تبتسم لها بين الحين والآخر، إلى أن شرد عقلها لبعض الوقت مستعيدة تفاصيل ذلك الحوار السابق الذي دار بين أمها وتوأمتها بعد عودتها من السفر، لإطلاعها عن الجديد من الأخبار؛ وإن لم تكن في أغلبها محمودًا، حينها عرفت عن كرب عائلة سلطان، والنوائب التي توالت على رؤوسهم؛ لكن ما أحزنها -بقدرٍ لا يخلو من التعاطف- مقتل خلود غدرًا، لن تنكر أنها لم تحبذ أسلوبها الفظ في استفزازها، واستثارة أعصابها بتعاليها ومعايرتها المتكررة لها في كل فرصةٍ تتاح لها؛ لكن أن تنتهي حياتها هكذا، كان أمرًا بشعًا لم يمكن تصوره!

علقت همسة آنذاك:
-بجد الواحد عاش أيام صعبة، ولحد دلوقتي هيثم لسه متأثر باللي حاصل، وأنا محتارة معاه.
ردت عليها والدتها تبرر تصرفاته:
-مش أمه وأخته.
أضافت بنوعٍ من الشفقة:
-اللي يقهر بجد إن اللي هاجمهم جوز بنتهم هاجر، اللي اسمه محرز...
ثم خاطبت توأمتها تسألها:
-عارفاه يا فيرو؟
أجابتها بفتورٍ:
-أه، أفتكر شكله.
أكملت همسة قولها بضيقٍ منزعج:
-لأ ومكتفاش بكده، كمان خطف ابنه في العزا، شوفتي الجبروت؟

ظهر الاستياء على تعبيراتها وهي تعقب:
-صعب أوي بجد.
تنهدت متابعة بلهجة جادة وهي تشير بيدها:
-بصراحة لولا تميم، وجوز صاحبتك اللي في البلد أسيف، الله أعلم كان ممكن يحصل للولد ده إيه.
التطرق لذكره جعل حواسها الخاملة تتيقظ بالكامل، اسمه بات على الدوام مقرونًا بالشهامة والمروءة، ابتسامة خفيفة استقرت على شفتيها وهي تقول باستحسانٍ:
-كويس إنه كان موجود.
مازال التجهم مسيطرًا على وجه همسة عندما أخبرتها:.

-تعرفي الزفت اللي اسمه فضل يومها مد إيده عليا، كام عايز ياخد نمرة على حسي قصاد الرجالة.
تبدلت تعابير توأمتها إلى الحنق في لمح البصر، وصاحت في استهجانٍ:
-قطع إيده، هو اتجنن في عقله؟ إزاي يعمل كده؟ وإنتي سكتي؟
جاوبت بابتسامةٍ راضية نسبيًا:
-الرجالة قاموا معاه بالواجب، وبالعافية هيثم سابوه.
هدرت أنفاس فيروزة وهي تعقب عليها، وبشرتها تشع حمرة غاضبة:.

-اقسم بالله سيرته تفور الدم، حاجة كده استغفر الله العظيم تحرق أعصابك.
استمرت همسة قائلة:
-حقيقي ساعتها حسيت بالسند والضهر.

تطلعت إليها فيروزة بنظراتٍ ساهمة؛ وكأنها شردت لوهلةٍ عنها، مستعيدة في عقلها ومضاتٍ خاطفة لوقوفه إلى جوارها في القسم الشرطي، أثناء اتهام زوجته السابقة لها بمحاولة الاعتداء عليها وقتلها. لم يكذبها مُطلقًا، آمن ببراءتها بلا دليلٍ يبرهن ذلك، دعمها في وقتٍ كان من المفترض أن يتخذ صفًا مضادًا لها. لم تعرف فيروزة أن شفتيها تقوستا بعفويةٍ لتظهر بسمة تشكلت لأجل ذكراه، أخفتها سريعًا وشقيقتها تتابع:.

-ربنا يزيحه من طريقنا.
زفرت معقبة بإيجازٍ:
-يا رب.
تساءلت آمنة باستنكارٍ:
-اللي الواحد مستغربه هو في بني آدمين كده عايشين وسطنا؟ يطعنوك في ضهرك وإنت مديهم الأمان؟ إزاي يقدروا يعملوا ده؟
أجابت فيروزة بلمحةٍ من الحزن في صوتها:
-في يا ماما كتير، بس للأسف الطيبين اللي زينا بيتخدعوا بسهولة.
تضرعت والدتهما قائلة برجاءٍ:
-ربنا رحيم بعباده، وينجينا من شر العالم دول.

جمعت همسة حقيبتها، وعلقتها على كتفها لتضيف وهي تنهض من مكانها:
-أنا هاقوم بقى، الوقت اتأخر، عايزين حاجة مني؟
ردت آمنة نافية وهي تهز رأسها:
-لا يا هموسة، خدي بالك من نفسك.
قالت مبتسمة:
-حاضر يا ماما...
ثم التفتت ناظرة إلى توأمتها التي وقفت تحتضنها، ربتت على ظهرها قائلة بتنهيدة مشتاقة:
-والله يا فيرو كنت مفتقداكي، رجعتك دي مش عارفة فارقة معايا إزاي.
تراجعت عنها لتنظر لها عن كثبٍ، وقالت:.

-حبيبتي، ربنا ما يحرمني منكم، أنا معنديش أغلى منكم.
ودعت همسة الصغيرة التي غفت خلال ثرثرتهن على الأريكة، بقبلة طبعتها على جبينها قبل أن تعتدل واقفة، حينها شعرت بدوارٍ غريب يجتاح رأسها جعلها تترنح في خطواتها، أسندتها فيروزة وهي تسألها في جزعٍ:
-مالك يا همسة؟
أجابتها بإعياءٍ بسيط:
-دماغي لفت كده فجأة.
ظلت ممسكة بذراعها، وأجلستها على الأريكة وهي تطلب منها:
-طب ارتاحي شوية.
قالت بابتسامةٍ لم تكن مقنعة:.

-أنا كويسة محصلش حاجة.
في حين عاتبتها والدتها بتزمتٍ:
-ما إنتي هارية نفسك، من هنا لهنا، ريحي شوية.
عقبت على أمها بتبرمٍ مزعوج:
-هو احنا بنلحق؟ إنتي شايفة يا ماما، كله جاي ورا بعضه، مش بإيدي والله.
لانت نبرتها المعاتبة، وأوصتها بحنوٍ:
-ربنا يقويكي، بس خدي بالك من نفسك، بدل ما تقعي من طولك.
في تلك الأثناء أحضرت لها فيروزة كوبًا من الليمون البارد، طلبت منه ارتشاف قدرًا منه، قبل أن تتكلم بقليلٍ من التعب:.

-حاضر يا ماما، والله أنا بقيت كويسة، سلامو عليكم.
انتشلها من شرودها صوتًا يناديها عاليًا، فأعادها لمحيطها الواقعي:
- فيروزة.
استدارت برأسها تنظر في اتجاه الباب، وهي ترد:
-أيوه يا ماما.
سألتها أمها في استغرابٍ:
-إنتي مش سمعاني ولا إيه؟
أجابتها متسائلة:
-في حاجة؟
أخبرتها بنوعٍ من الاسترسال؛ وكأنها تسرد عليها ما قامت به من خطواتٍ:.

-بأقولك أنا و ضبت هدوم خالك في الدولاب عندي، ونقلت الدواء بتاعه على الكومدينو، بكرة بإذن الله نروح نجيبه.
هتفت في حبورٍ:
-على خيرة الله.
أضافت تُعلمها:
-وكمان كلمت أختك، وقالتلي حماتها خرجت من المستشفى، وقاعدة عندها.
باقتضابٍ عقبت عليها:
-كويس.
تنهدت والدتها مكملة حديثها:
-عايزين نبقى نعدي نشوفها ونقوم بالواجب، اللي حصلها مش هين.

ورغم امتعاضها من تلك الزيارة، لوجود الخلافات السابقة، وما تحمله النفوس من ضغائن ربما لم تكن سببها، إلا أنها أبدت استعدادها بقولها غير المعارض:
-أكيد طبعًا.
ابتسمت والدتها متمتمة:
-خلاص هظبط مع أختك وأقولك.
-ماشي.
قالت تلك الكلمة وأناملها تعمل على خصلات رقية لتصنع منها جديلة طويلة، انتهت عند طرفها بعقدها برابطة صغيرة كانت تحوي طاووسًا أبيض اللون.

واربت الشباك الخشبي، وسحبت الستارة الخفيفة عليه، لتبدو الإضاءة معقولة، لا تزعج عينيها، قبل أن تنظر إليها مجددًا باهتمامٍ، وتتفقد انتظام أنفاسها. مسحت همسة بالمنشفة القطنية المبتلة كفي بثينة لتنظيفهما، ثم جففتهما بأخرى، قبل أن تشد الغطاء على جسدها، وبهدوء حريص انسحبت من الغرفة لتجد زوجها منتظرًا بالخارج، تحدثت بصوتٍ خافت، حتى لا تُفيقها:
-هي نامت بعد ما خدت الدوا، متقلقش عليها.

رد هيثم في ارتياحٍ:
-الحمدلله.
أشارت له ليتبعها بعد أن أغلقت الباب بهدوءٍ تام، ثم أخبرته مستخدمة يدها في الإشارة:
-بص أنا عملت كشف بمواعيد الأدوية بتاعتها، معلقاه على باب التلاجة عشان ناخد بالنا وماننساش، وربنا يجعله بالشفا.
حملق فيها بنظراتٍ ممتنة، احتوت على حبًا عميقًا، لا يضاهيه شيء، ناداها باسمها بتنهيدة حارة:
- همسة.
قالت بابتسامتها النضرة:
-أيوه يا حبيبي.

انخفضت يداه لتمسك بكفيها، داعبهما بإبهاميه، وعبر لها عما يشعر به الآن جراء مواقفها النبيلة، بصوتٍ غلفه الشجن:
-أنا مش عارف أقولك إيه، واحدة غيرك بصراحة، بعد اللي أمي عملته كانت آ...
قاطعته برقةٍ، وعيناها تحدقان فيه بمحبةٍ واضحة:
-متكملش، كفاية اللي هي فيه.
ترك يديها بعد أن جذبها إلى أحضانه، ضمها إلى صدره، وأسند رأسه على كتفيها وهو يواصل إخبارها:.

-ربنا يخليكي ليا، إنتي سندي في الدنيا، من غير وجودك في حياتي كان زماني ضعت...
وقبل أن تعلق بشيء، جدد اعترافه الصادق لها:
-أنا بحبك.
بوجهٍ ازداد خجلاً وإشراقًا نطقت هي الأخرى:
-وأنا كمان..
استلت نفسها من أحضانه الدافئة، وتابعت بحماسٍ؛ وكأنها تُدلله:
-طب تعالى معايا عشان أجهزلك الفطار قبل ما تنزل.
سألها بنشاطٍ:
-عايزة مساعدة؟ ده أنا شاطر في رص الأطباق.
ضحكت قائلة:
-ده إنت كده ملكش زي.

أضاف في زهوٍ وهو يشاركها الضحك:
-ده أنا أعجبك على الآخر.
استدارت تأمره بصوتٍ تصنعت فيه الجدية:
-طب بص آ...
بترت عبارتها قبل أن تكتمل، عندما شعرت بذلك الدوار المريب يضرب رأسها بقوةٍ، لاحظ هيثم شحوبها، وعدم اتزان حركتها، فسألها بمزاحٍ يخالطه القلق:
- همسة، في إيه؟ هو أنا حسدتك ولا إيه؟
نفت وهي تقبض على ذراعه لتستند عليه:
-لأ أنا كويسة، مافيش حاجة، وآ...

أحست في تلك اللحظة بظلام دامس يحتل وعيها، فغابت الصور عن عينيها، وسقطت في أحضان زوجها فاقدة للوعي، صاح هيثم في فزعٍ:
- همسة!
...

أغلق حزام بنطاله الجينز، وهندم من ياقتي قميصه ذي اللون الأزرق الفاتح، قبل أن يشمر عن ساعديه، ليضع بعدها ساعة يده التي قلما يرتديها؛ لكنه كان بحاجة إليها لمعرفة الوقت، ليكون على الموعد المتفق عليه. دقات متتابعة بشيء بدا صلبًا على باب غرفته، جعلته يعرج بخطواته في اتجاهه لفتحه في الحال، دهشة غريبة اعتلت ملامحه وقد رأى جده واقفًا خارج حجرته في تلك الساعة المبكرة، خاصة أنه في مثل هذا التوقيت يواظب على قراءة ورده اليومي من القرآن الكريم. سأله الجد مستأذنًا:.

-صاحي يا تميم؟ عايز اتكلم معاك شوية.
دعاه للدخول وهو يتنحى للجانب قائلاً:
-تعالى يا جدي، اتفضل، أنا خلصت لبسي، ونازل على الدكان.
سأله في اهتمامٍ بنبرته الجادة، بعد أن جلس على طرف الفراش:
-عامل إيه دلوقتي؟ هديت كده؟ مردتش أتكلم معاك وقت ما رجعنا.
على مضضٍ أجابه:
-يعني...
ثم تحولت نبرته للضيق الحانق وهو يتابع:
-بس والله لولا خاطرك، وأوامرك اللي فوق راسي، كنت نهيت عمره، مش بغل زي ده هيتنى ويتفرد علينا.

عقب في عدم اكتراثٍ:
-سيبك من راس العجل ده، وقولي..
نظر له مهتمًا وهو يسأله:
-خير يا جدي؟
جاءه سؤاله مباشرًا:
-بتحبها؟
راوغه في منحه الإجابة متنحنحًا:
-احم، مين دي؟
بملامحه الجادة وبخه، ولكن بلهجته المعتدلة:
-يا واد، متلفش وتدور على الشيبة دي، إيش حال ما أنا مربيك على إيدي.
لم يماطل تميم في التخبئة عليه، كان كالكتاب المفتوح له، يستطيع قراءة ما يُدون على الأسطر، لذا سأله برأس خفيض في حرجٍ:.

-هو أنا باين عليا أوي كده؟
ضحك الجد بخشونةٍ قبل أن يمازحه:
-لأ خالص، ده إنت ناقص تعلق إعلان في الحتة، ولا على باب الدكان، إياكش البُنية تاخد بالها.
جلس تميم إلى جواره، وحملق في وجهه متسائلاً بترددٍ:
-تفتكر هتحس بيا؟ ولا يمكن تفكرني مش مناسب ليها، أو مش أد المقام؟
قال سلطان ببساطةٍ، وهو يربت على فخذه:
-إنت تشرف أي حد، انوي بس خير وربنا ييسرلك كل عسير.
هتف في رجاءٍ:
-يا رب، أنا نيتي خير والله.

بنبرته الواثقة أخبره سلطان ؛ وكأنه متيقن من تحقيق ذلك:
-يبقى استنى فرج ربنا، هانت.
توسله في لهفةٍ:
-ادعيلي بالله عليك يا جدي.
مازحه من جديد بأسلوبه اللين:
-إنت كده مدلوق خالص، يا واد اتقل.
مال تميم برأسه على كتف جده، قبله مطولاً، ورد بسعادةٍ تخللت أوصاله:
-حبيبي يا جدي، ربنا يخليك ليا.

القليل من الاستغراب اعترى ملامحهما عندما سمع كلاهما دقات عنيفة على باب المنزل، مصحوبة بقرع متواصل للجرس، تساءل الجد في تعجبٍ:
-ده مين جاي السعادي؟
استقام تميم واقفًا، وقال بعزمٍ وهو يتجه خارج غرفته:
-مش عارف، هاطلع أشوف مين.
استوقف والدته قبل أن تصل إليه وهو يأمرها:
-استني يامه.
رددت ونيسة من خلفه في توجسٍ:
-ربنا يستر.

أدار تميم المقبض، وفتح الباب ليتفاجأ بوجود هيثم قبالته، وعلامات الذعر تنفر من وجهه، سأله في قلقٍ:
-خير يا هيثم؟ في حاجة حصلت؟
أشار له بيده وهو يجيبه بأنفاسٍ شبه لاهثة:
- همسة وقعت من طولها، ومش بتحط منطق.
جزع لسماع تلك الأخبار وهتف قائلاً:
-يا ساتر يارب.
تحركت ونيسة للأمام لتتجاوزه، وصاحت وهي تضع حجابها على رأسها:
-استنى أنا طالعالها.
بينما أضاف تميم وهو يخرج هاتفه المحمول من جيبه الأمامي:.

-وأنا هاطلبلك دكتور.
رجاه بخوفٍ شديد:
-بسرعة الله يكرمك.
دون تردد أكد عليه، واضعًا الهاتف على أذنه:
-على طول.

ببطءٍ حذر حركت رأسها للجانبين، وهي تحاول فتح جفنيها، في البداية كانت الرؤية مشوشة؛ لكن بعد لحظاتٍ أصبحت الأطياف المحاوطة بها واضحة المعالم. أدارت همسة عينيها للجانب، لتنظر إلى زوجها الجالس بجوارها، رأت على ثغره ابتسامة عريضة، أتبعها قوله المطمئن:
-حمدلله على سلامتك.
سألته في حيرةٍ:
-هو إيه اللي حصل؟
وقبل أن يجيبها تحولت أنظارها نحو ونيسة التي بادرت بإخبارها بهذا الخبر السار:.

-مبرووووك يا حبيبتي، ربنا يكملك على خير.
لم تستوعب مقصدها، وتساءلت ببلاهة:
-على إيه؟
تلك المرة انحنى هيثم على جبينها يقبله، وقال في ابتهاجٍ عظيم:
-الدكتور قالنا إنك حامل.
اعتلتها دهشة مصدومة، فردت في ذهولٍ غير مصدقة ما أملاه على مسامعها:
-حامل؟
قال مؤكدًا بإيماءة من رأسه:
-أيوه، والله العظيم حامل.
أدمعت عيناها تأثرًا، فأكمل بنفس اللهجة الغبطة:
-شوفتي كرم ربنا عامل إزاي؟

خرج صوتها مختنقًا، متقطعًا بشكلٍ محسوس، من بكائها الوشيك وهي تنطق:
-أنا، حامل؟
من جديد أكد عليها ويده تلوح في الهواء:
-أيوه، كلها كام شهر والبيت يتملى علينا بالعيال.
تمتمت همسة في امتنانٍ متضرع، وعيناها تتطلعان للأعلى؛ وكأنها تنظر للسماء:
-اللهم لك الحمد والشكر.
دعت لها ونيسة قائلة:
-ربنا يسعدك يا بنتي، ويراضيكي بالخير على كل اللي بتعمليه في أختي وابنها.

ضحكت وهي تبكي، ورفعت يدها تمسح دموعها المنسابة من طرفيها، أخبرها هيثم بنبرته المتحمسة:
-كلمي أمك عرفيها، أكيد هتفرح أوي لما تعرف.
-حاضر.
تطلعت همسة أمامها، وهي تكاد لا تصدق عطية المولى لها، تبددت كل أحزانها مع كم الخير الذي قدمته دون انتظار المقابل، لهج لسانها بالمزيد من الشكر، وعيناها تفيضان بالدمع:
-الحمدلله يا رب، وكذلك نجزي الصابرين فعلاً...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة