قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الرابع عشر

ذهب إلى منزل أسرته ليبدل ثيابه بالقديم الموجود في دولابه حتى لا يعود إلى زوجته وهو بتلك الحالة الرثة فيثير فيها الشكوك والتساؤلات الكثيرة، وهو حاليًا في غنى عن تحقيقها المستفز الذي لن يجني منه سوى استثارة أعصابه من جديد وتذكيره بما يحاول تجاوزه. سحب "تميم" منشفة قطنية نظيفة مسح بها وجهه بعد أن غسله بالماء والصابون، ثم اتجه إلى غرفته لينزل ثيابه الخارجية، تبعته والدته تسأله بعد أن أعدت له مشروبًا دافئًا:
-حصلك ده من إيه يا ابني؟

أجابها في اقتضابٍ وتلك الملامح المتجهمة ما تزال مرسومة على وجهه:
-ولا حاجة يامه.
أسندت الصينية الصغيرة على طرف التسريحة، وسارت في اتجاه الفراش لتجلس على طرفه، رفعت رأسها تتطلع إليه وهي تسألها بفضولها الأمومي القلق على أحوال فلذة كبدها:
-اتخانقت مع "خلود"؟
جاوبها بما يشبه التهكم:
-يامه دي غلبانة ولا تقدر تهش دبانة!

صمتت لحظة تفكر مليًا في حيرة، فابنها عاد متأخرًا في تلك الساعة وثيابه في حالة يرثى لها، وعلى وجهه تعبيرات غاضبة، لم يتشاجر مع زوجته، إذًا الدافع شيء آخر تخشاه، وبكل عفوية ونزق هتفت ونظرات الخوف متشكلة في عينيها:
-بس! يبقى إنت اتخانقت تاني مع حد من بلطجية السوق! ده اللي حصل ومش عاوز تقولي
استدار نافيًا:
-لأ
ألحت عليه بإصرارٍ ونظراتها بالكامل مرتكزة عليه:
-أومال إيه اللي بهدلك كده؟ قولي يا "تميم" وطمني!

جلس إلى جوارها على طرف الفراش، انتصب بكتفيه وأجابها بابتسامة لطيفة:
-دي حاجة بسيطة يا أمي، ما تحطيش في دماغك.
ردت بغير اقتناعٍ وقد وضعت يدها على صدغه تتحسه:
-شكلك رجعت لشغل اللبش تاني والخناقات ومش عاوز تقولي.
أكد لها بصدقٍ:
-أبدًا والله.
سألته في عتابٍ:
-أومال ليه عاوزني تتعبني معاك ومش مريح قلبي؟ شكل في نصيبة حصلت وإنت مخبي عليا! ده أنا أمك وقلبي عليك، متزعلنيش يا ضنايا!

أدرك "تميم" أنها لن تكف عن ملاحقته بأسئلتها إلى أن يجاوبها بما يثلج صدره، تنفس ببطءٍ ثم أوضح لها بسلاسة ودون أن يتعمق في التفاصيل:
-يا ستي والله أنا كنت مع "ناجي" صاحبي، سهرانين شوية، بس مشكلة كده بسيطة حصلت، وخلاص اتحلت وكله تمام
تنهدت "ونيسة" في ارتياحٍ، ثم قالت له وهي تربت على فخذه:
-كملها بالستر معانا يا رب، ده أنا مصدقت إنك رجعت تاني لحضني وبقيت جمبي وسندي، مش هاستحمل حاجة تجرالك.

انحنى ابنها ليمسك بكف يدها المجعد، رفعه إلى فمه ليقبله، ونظر إليها يقول لها ببسمة صغيرة:
-اطمني يامه، مافيش أي حاجة تخوف.
ثم نهض من جوارها ليمسك بالمشروب الدافئ ليرتشفه، تجرعه على مرتين، وتركه في مكانه بالصينية ملتفتًا نحو والدته، سألها في اهتمامٍ:
-قوليلي يامه فين أبويا؟
أجابته بتلقائيةٍ:
-جه أعد شوية مع اللواء "وفيق"، وبعد كده لفوا في البيت ونزلوا.

استغرب كثيرًا من حضور ذلك الضيف الذي لا يأتي دومًا إلا عند حدوث مشكلة خطيرة، مثل قضيته قديمًا، كذلك كانت كلماتها الأخيرة مُدعاة للتساؤل والحيرة، فماذا تعني بقولها أخذ جولة بأنحاء المنزل؟ دقق النظر فيها متسائلاً:
-ليه؟
شهقة خافتة خرجت من جوفها بعد أن انتبهت لما تفوهت به، حاولت الهروب من أنظار ابنها المسلطة عليها، وأدارت وجهها للجانب الآخر لتدمدم بتلعثمٍ ملحوظ:
-هه! م.. مافيش .. حاجة.

ساورته الريبة من طريقتها المكشوفة لتخفي عنه الأمور، سألها بجديةٍ وهو يدنو منها:
-إنتي مخبية عليا حاجة يامه؟
لعقت شفتيها مدعية كذبًا وقد شحب لون بشرتها:
-لا يا ابني.
تفحص وجهها المرتاب قائلاً لها بلهجته التي غلفها الجدية:
-شكلك بيقول غير كده، في إيه؟
لم تستطع النجاة من حصاره، فقالت في استسلام وهي توصيه بتلهفٍ خائف:
-أصل.. يعني .. بس بالله عليك ما تجيب سيرة لأبوك ولا تقوله إني عرفتك، أنا مش عاوزاه يضايقك
علق بنفاذِ صبرٍ:
-قولي يامه حصل إيه!

زاغت نظراتها قليلاً، حاولت أن تبدو جلدة، متماسكة، لكنها فشلت، فخوفها الغريزي ما زال موجودًا بها، لهذا أجابته بتردد وهي تزدري ريقها:
-يعني.. آ... من كام يوم كده واد ابن حرام .. سرقنا.
هتف في ذهولٍ غير مصدق ما تلفظت به:
-نعم، اتسرقتوا؟!
بررت له بصوتها المهتز:
-أيوه، بس أبوك مسكتش وتقريبًا عرف هو مين، بس مش عاوز يقول و...

اربد وجهه بحنقٍ شديد لإخفاء الأمر عليه، شعر بدمائه تثور عما كانت قبل قليل لمجرد تخيل اقتحام أحدهم للمنزل، وربما اعتدائه على من فيه بالقتل أو ما شابه، ثارت ثائرته، وقاطعها منفعلاً:
-وأنا كنت فين؟ وإزاي محدش قالي؟
نهضت من جلستها لتقف قبالته، طالعته بعينيها المتوترتين، وقالت له في يأس عل ثورته تخبو:
-بسيطة يا "تميم"، عدت على خير.
صرخ بها في هياجٍ مبررٍ له أسبابه:
-تتسرقوا وأنا ولا دريان وتقوليلي بسيطة يامه؟!

نظرت له في صمتٍ عاجز، فله كامل الحق في أن يغضب ويعاتبها، نكست "ونيسة" رأسها في حرجٍ منه، بينما استأنف "تميم" صياحه الغاضب يسألها في لومٍ شديد:
-طب وكنتوا مستنين أعرف من برا؟ للدرجادي أنا غريب عنكم؟
لامست جملته الأخيرة قلبها وبدت كالخنجر المسموم فوخزتها بقسوةٍ فيه، رفعت رأسها تنظر إليه في إنكارٍ، ثم دافعت عن موقفها قائلة بنظرات تحتبس الدموع:
-متقولش كده يا ضنايا، غريب إيه بس، متوجعنيش بكلامك ده، إنت بس كنت ملبوخ مع عروستك واحنا محبناش نقلقك ولا نزعلك في شهر العسل.

زاد وجهه احمرارًا من غضبه المتعاظم بداخله، واستطرد مرددًا بصوته المتعصب:
-محروق الجواز، إنتو أهم عندي.
ربتت على كتفه تتوسله:
-اهدى طيب.
نفخ في غيظٍ، ثم سألها مستوضحًا حتى لا يبقى غافلاً عما يحدث من وراء ظهره:
-وبلغتوا البوليس ولا عملتوا ايه؟
أجابته على حسب عِلمها:
-أبوك قال هيتصرف!

نظر لها بعينين مخيفتين، كان غضبه قد بلغ ذروته، تكالبت المصائب على رأسه فجعلته شبه فاقد للسيطرة على انفعالاته، اندفع في عصبيةٍ إلى خارج الغرفة، تبعته والدته لتلحق بخطواته المتعجلة وهي تسألها:
-إنت رايح فين دلوقت؟
أجابها دون أن يستدير نحوها:
-هانزل أشوف أبويا وافهم منه اللي حصل
أمسكت به من ذراعه لتستوقفه وهي ترجوه:
-لا بلاش، ده موصيني مقولكش، وحتى أختك لما عرفت حلفتها ما تجبلكش سيرة.

تطلع إليها في استنكارٍ، كان ما باحت به قد أذهله، غامت نظراته يعاتبها بخشونةٍ:
-يعني "هاجر" عرفت وأنا لأ.. وطبعًا النطع جوزها عارف بالحكاية، وأنا بقى اللي في الطراوة!
بدأت والدته في فاصلٍ من النواح، فقالت وهي تضرب على صدرها بكفيها:
-يعني دي غلطتي إني عرفتك؟ أعمل إيه بس يا ربي!
انزعج أكثر وساءت حالته المتشنجة من أسلوبها الباكي في استجدائه، ازدادت نبرته عصبيةٍ وهو يسألها:
-يامه يعني نسيب ابن الحرام ده يعلم علينا من غير ما نجيبه ونربيه؟!

ردت تجيبه عله يتراجع عما ينتوي فعله:
-وأبوك راح فين؟ ما هو مش ساكت، وقالب الدنيا
تقلص وجهه أكثر وهو يجاهد حتى يستعيد التحكم في انفعالاته الهائجة، أخرج زفيرًا بطيئًا من صدره قبل أن يسألها:
-والمبلغ اللي اتسرق كبير؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:
-لأ، ربنا ستر.. كانت حاجة بسيطة.
قال في استهجانٍ:
-بسيطة ولا كتيرة، ابن ال ... لازم يتجاب من قفاه!

التف سائرًا بخطاه المائلة للعدو نحو باب المنزل، سألته والدته من خلفه في تلهفٍ مرتعد:
-إنت رايح فين دلوقتي؟ إنت وعدتني متعرفش أبوك!
توقفت يده على مقبض الباب، أدار رأسه نحوها يقول:
-خلاص يامه
استعطفته بعينين تتلألأ فيهما العبرات:
-بالله عليك ما تعمل حاجة، الموضوع خلص يا "تميم".

بدا مترددًا في حسم قراره النهائي، استغلت "ونيسة" الأمر وضغطت عليه بطريقتها الناعمة التي تلين القلوب وتوسلته:
-ماشي يا ضنايا، ارجع بيتك ربنا يرضى عليك، أنا معنديش إلا إنت، ومش عاوزة أخسرك.
لم يجد "تميم" جدوى من الاستمرار في الحديث مع والدته التي وضعته في موقفٍ لا يحق له الاعتراض فيه، تركته ينهي زيارته الخاطفة لها بعد أن وعدها بترك الأمر لوالده، لكن ثورته المستعرة بداخله لم تهدئ بعد.

ذرع غرفة نومه جيئة وذهابًا ونظرات الغل والحنق تشع من عينيه؛ تارة يضرب كفه بالآخر، وتارة أخرى يسب بكلمات نابية، راقبته "حمدية" ببرودٍ ودون أن تتأثر بشيء، وكأن الأمر لا يعنيها حقًا، أمسكت بمبرد الأظافر تقلمهم بهدوءٍ وهي جالسة على أريكتها الموضوعة في زاوية الغرفة، ثم تطلعت إليه وتلك النظرة الجليدية تغطي صفحة وجهها، تنهدت تنصحه بسماجةٍ ضاعفت من عصبيته:
-بالراحة يا "خليل" ليطقلك عرق ولا تقع من طولك!

استشاط غيظًا من جمودها بعد أن سرد لها تفاصيل المشاجرة، فصب جام غضبه عليها يلومها:
-حبكت يعني أجيب أم الزفت الآيس كريم ده عشان تطفحيه!
زمت شفتيها في برودٍ أكبر، بينما تابع استرساله الحانق قائلاً:
-ما أنا لو كنت موجود، مكانش ده كله حصل، وكنت اتصرفت قبل ما المصيبة تكبر.
شهقت ترد في استنكارٍ وقد أخذتها حميتها:
-هو إنت هتلبسهالي؟ ما المحروسة بنت أختك هي السبب، أل مش قادر على الحمار بيتشطر على البردعة.

كور "خليل" أصابع يده ضاغطًا عليهم في عصبيةٍ وقوة حتى ابيضت مفاصلهم، ثم تمتم بنبرته المتحسرة:
-المصلحة كده طارت، وبقى ليهم عندنا حق!
أضافت "حمدية" بعدائية صريحة لتزيد من تعاظم غضبه:
-المزغودة في قلبها دي مالهاش كبير، ما إنت لو كنت واقفتلها وماسبتلهاش السايب في السايب من الأول وعرفتها إن الله حق مكانتش عملت كده.
نظر نحوها متسائلاً في حيرة:
-طب أعمل إيه دلوقتي؟ "تميم" مش هيسكت، وده قرصته والقبر!

بثقلٍ وتكاسلٍ استندت على مرفقي الأريكة لتنهض من مكانها، أحست بتنميلٍ طفيف أصاب ساقها، تحركت بحذرٍ نحو التسريحة لتضع مبرد الأظافر في مكانه بالكوب المعدني الذي ترص فيه أدوات التجميل، تغنجت بجسدها ومسحت عليه بيديها في تباهٍ، ثم سألت زوجها ونظراتها مثبتة على انعكاس صورته بالمرآة:
-أعملك العشا ولا هتنام خفيف؟
استبد به غضبه فزجرها قائلاً بصوته الحانق:
-وده وقت طفح؟ مش عاوز أتنيل أكل، سبيني في البلوى اللي أنا فيها دي.

ردت بعدم اكتراث وهي تضع أحمر الشفاه على فمها:
-ياخويا، بكرة تطلع الهلولة دي على الفاضي
انهار "خليل" جالسًا على الفراش وواضعًا رأسه بين كفيه، هتف مع نفسه بأنفاسٍ متهدجة من فرط انفعالاته الزائدة:
-دماغي هتنفجر، مش قادر أفكر، ده غير المأمورية اللي عندي من صباحية ربنا
وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خصرها وهي تستدير نحوه، هزت ساقها تسأله بوجهها الغائم ونظراتها المتسلطة:
-بأقولك إيه إنت هتسافر وتسيبني أنا وعيالك؟!

رفع وجهه إليها يجاوبها في بنبرة مستهجنة:
-هاعمل إيه يعني؟ هو بمزاج أهلي؟!
قالت حاسمة أمرها ودون أن تمنحه الفرصة للنقاش معها:
-طب خلاص، اعمل حسابك يا "خليل" أنا هاروح البلد اليومين اللي إنت مسافر فيهم اقعد مع أهلي، ولما تخلص تعالى خدنا من هناك، ما هو بصراحة مضمنش يحصل إيه وإنت مش موجود.
تتطلع إليها باستياءٍ قبل أن تتحول نظراته نحو نقطة ما بالفراغ ليقول في نفسه بأسفٍ مختلط بالحسرة:
-ليه كده يا بنت "آمنة"، بوظتي الدنيا كلها!

-ده إنتي ضربتي كرسي في الكلوب، أنا متوقعتش تعملي كده خالص!
رددت "همسة" تلك العبارة في إعجاب واضح على نظراتها وفي نبرتها وهي تسحب الغطاء على جسدها بعد أن ألقت بنفسها على الفراش لتستلقي عليه، نظرت لها "فيروزة" في زهو وغرور تستحقه بعد أن سحقت رجولة ذاك الغريب بجراءة وشجاعة تحسد عليها، لاحت بسمة صغيرة متغطرسة على زاوية فمها وهي تقول لها:
-يعني كنت أسكتله بعد ما قل أدبه؟
ردت نافية:
-لأ.

لكن ما لبث أن غلف صوتها القليل من القلق وهي تكمل:
-بس أنا خايفة عليكي يا "فيرو".
علقت عليها بثقةٍ وقوة تؤكد شجاعتها:
-الأشكال دي ماينفعش معاها إلا كده، وبعدين يا "هموس" الواد البلطجي ده سوابق ورد سجون.
سألتها في فضولٍ بعد أن استرعت كلماتها الأخيرة اهتمامها:
-وإنتي عرفتي منين؟

أجابتها ببساطة:
-افتكرت لما أمك قابلت أبوه من فترة واحنا في السوق، ملخص الحوار إنه كان لسه خارج من السجن، يعني اللي زيه هيخاف يرجع الحبس تاني!
ما زال ذلك الإحساس المزعج بالقلق ينتابها كلما مر طيفه بمخيلتها، ابتلعت ريقها وحذرتها بتنهيدة متوترة:
-برضوه مش مطمنة، فخدي بالك.
قالت بلهجة يشوبها القوة وقد أراحت رأسها على الوسادة:
-سيبك منه، ولا يقدر يعملنا حاجة! كمان أنا أخو واحدة صاحبتي ظابط، يعني لو فكر يتعرضلنا هطيره.
سألتها "همسة" بفضولٍ حائر:
-طب وخالك هيسيبنا نكمل شغل بعد اللي حصل؟

زفرت "فيروزة" ببطءٍ قبل أن ترد:
-أنا قولتله مش هافتح العربية يومين كده لحد ما نشوف الجو.
تقلبت أختها على جانبها لتنظر لها عن قرب وهي تسألها:
-وإنتي هتعملي كده فعلاً؟
ضحكت تجاوبها في استخفاف ساخر:
-لأ طبعًا، إنتي عاوزانا نخسر زبونا
بدا على وجهها تعابير أكثر قلقًا عن ذي قبل، اعتدلت في نومتها متسائلة:
-أومال؟ هتتصرفي إزاي؟

أجابت في ارتياحٍ وهي تشبك ذراعيها خلف رأسها:
-ولا حاجة، خالك وسط برطمته وندب حظه قال إنه طالع مأمورية، وأنا فهمته بالمحسوس إني هستناه لما يرجع
-وصدقك؟
-معرفش، خالك ده جبان، قطه جمل، هيطلع يطلع وينزل على مافيش، يومين بس وهتلاقيه عادي.
-ربنا يعديها على خير
علقت عليها "فيروزة" في تفاؤل وهي تتقلب على جانبها لتوليها ظهرها:
-إن شاءالله هتعدي، واللي جاي أحسن.

طرأ ببال "همسة" شيء ما فهتفت تقوله بابتسامةٍ عريضة مستعيدة المشهد الساخر في عقلها:
-صحيح شوفتي العقربة مرات خالك كانت هتموت واحنا شغالين، عينها كانت بتبظ على الآخر
تثاءبت أختها وهي ترد عليها:
-ربنا يكفينا شر عينيها
قالت لها "همسة"، وكأن اقتراحها كان مطروحًا للتنفيذ:
-مش كنا إدينها أي سندوتش ولا حاجة
نظرت لها من طرف عينها في ضيقٍ، ثم عقبت بتأففٍ:
-خسارة فيها اللقمة، دي واحدة ما بيطمرش فيها المعروف
-بس ...

وقبل أن تكمل جملتها كانت والدتهما تطل برأسها من باب الغرفة تسألهما:
-إنتو لسه ساهرنين يا بنات؟
بادرت "همسة" بالرد وتلك الابتسامة الناعمة تزين وجهها:
-خلاص يا ماما هنام.
أومأت برأسها في حركة تلقائية، وقالت:
-طيب يا حبايبي، تصبحوا على خير.

استرخت "همسة" على الفراش ترد عليها:
-وإنتي من أهله يا ماما
أغلقت "آمنة" الباب على كلتيهما بعد أن أطفأت الإضاءة، ساد الصمت للحظات قبل أن تقطعه "فيروزة" بصوتها المائل للنعاس وهي مطبقة على جفنيها:
-بأقولك إيه، تبات نار تصبح رماد، كله بيتنسى، فمتحطيش في بالك.
تنهدت أختها في رجاءٍ وقلبها القلق يدعو:
-يا ريت.

لم يتجه مباشرةً إلى منزله، بل تجول في المناطق المجاورة بغير وجهة محددة حتى تمكن التعب من قدميه، تلفت حوله باحثًا عن مقهى ما زال يستقبل زبائنه، لكن أغلب المحال قد أغلقت أبوابها بسبب برودة الطقس الذي كان كالنسمات على وجهه المشتعل، تطلع "تميم" إلى ساعة يده، كان الوقت قد تأخر بالفعل، لم يجد بدًا من العودة إلى زوجته، تلكأ في خطواته، وأثناء صعوده الدرج معتقدًا أنها ربما تكون قد استغرقت في النوم. وما إن دس المفتاح في قفله وفتح الباب حتى وجدها في استقباله، نكس رأسه مرغمًا حتى لا يرى نظراتها المعاتبة، لكن صوتها المتلهف اخترق أذنيه وهي تسأله:
-إيه اللي أخرك يا حبيبي؟

كان "تميم" فاقدًا للرغبة في مسايرة ما تُعايشه من أحلام يقظة وردية، لذا رد بفتورٍ وتعب:
-عادي.
استنكرت "خلود" رده المقتضب معها، ومع ذلك اقتربت منه تمسح على ظهره برفقٍ وحنو، أراحت رأسها على كتفه، وابتسمت له قائلة:
-ولا يهمك يا حبيبي، المهم إنك رجعتلي.
ثم انخفضت نظراتها لتتأمل ثيابه التي بدت مختلفة، سألته والدهشة تعتريها:
-إيه ده؟ هو إنت غيرت هدومك؟ في حاجة حصلت يا "تميم" وأنا معرفهاش.
أجاب بغموضٍ أربكها:
-متقلقيش.

ثم حرر نفسه من ذراعها المحاوط لكتفه ليسير نحو غرفة النوم، مشت خلفه تسأله في ضيقٍ وقد فاض بها الكيل من تجاهله لها:
-ماتسبنيش كده على ناري، قولي في إيه؟
نفخ أولاً بزفيرٍ مسموعٍ قبل أن يجيبها مضطرًا حتى تكف عن أسئلتها السمجة:
-مافيش، اتبهدلت في حوار كده، وعديت على أمي أغير هدومي بدل ما أمشي بمنظري ده في الشارع.
سألته كأنها تحقق معه:
-هو إنت اتخانقت تاني؟
أجاب بضيقٍ:
-ولا خناقة ولا نيلة، كبري دماغك.

سبقته في خطواته حتى اعترضت طريقه، سلطت أنظارها عليه وهتفت بإصرارٍ عنيد:
-لأ مش هاكبر، أنا...
صاح بها في قوةٍ وقد نفذت طاقته:
-"خلود"، كفاية، أنا مش ناقص خاوتة!
انتفضت من صوته المجلجل، حاولت أن تستخدم الرقة معه لتستنبط منه الحقيقة التي يخفيها عنه، اقتربت منه، ووضعت يدها على كتفه، تلمسته في رقةٍ حتى لامست أناملها جانب عنقه، أسبلت نظراتها الساهمة نحوه تقول له:
-أنا خايفة عليك يا "تميم"، لو حصلك حاجة هموت، وبعدين دلوقتي أنا مراتك، وليا لي حق عليك.

طالعها بنظرة غريبة ملتزمًا بصمته المريب، وكأن الكلمات تأبى الانصياع له ومجاراتها في مشاعرها المهتمة به، أولاها ظهره واستدار عائدًا نحو صالة المنزل، اندهشت من تصرفاته التي تدعو للاسترابة، لحقت به تسأله:
-إنت رايح فين دلوقتي؟
وجد نفسه يجيبها ودون أن يكلف نفسه عناء التطلع إليها:
-طالع السطح، مخنوق وهاقعد شوية لوحدي فوق.

هتفت من خلفه بما يشبه اللوم:
-أنا مشوفتكش طول اليوم، وحتى الساعة اللي هانقعد فيها سوا هتسبني لوحدي؟!
أمسك بالمقبض يديره، ثم قال بنبرة عازمة:
-معلش، سامحيني المرادي، أنا على أخري!
ثم حانت منه التفاتة سريعة من رأسه وهو يعدها:
-وهاعوضك بعدين.
لوت ثغرها قائلة بتجهمٍ كبير وامتعاضٍ يعبر عن عدم رضائها عما يفعله:
-طيب براحتك.

أضاف بجمودٍ:
-ولو عاوزة تنامي ف ...
قاطعته بما لا يدع مجالاً للنقاش:
-لأ هستناك، أنا مش جايلي نوم أصلاً.
هز رأسه في تفهمٍ وهو يرد:
-ماشي.
خرج "تميم" من المنزل صافقًا الباب بقوةٍ جعلت أطرافها تهتز لا إراديًا، وبنظرات غائمة ووجهٍ مكفهر حملقت "خلود" في شرودٍ، وذاك السؤال الحائر يتردد في عقلها:
-يا ترى إيه اللي حصل وشقلب كيانك كده يا "تميم"؟!

تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معه بعد أن اكتملت أجزاء الصورة الناقصة، خاصة وأن أحد رجاله قد أبلغه بعودته من السفر. وقف "بدير" أمام باب المنزل ينقر برأس عكازه عليه في قوةٍ، استقام في وقفته التي تعبر عن هيبته وسطوته منتظرًا مجيئتها لتفتحه له، وها قد صدق توقعه، ووجد "بثينة" تقف عند أعتابه تتأمله بنظراتها الناقمة على الحياة ومن فيها، وبكل غلظةٍ وخشونة سألها:
-المحروس ابنك شرف؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه:
-الناس بتقول سلامو عليكم الأول يا حاج "بدير"!
رفع عكازه أمامها ليشير به وليجبرها على التنحي للجانب حتى يمر، رمقها بنظرة غامضة وهو يرد عليها:
-لا سلام ولا كلام، ابنك البغل رجع من السفر؟
اغتاظت من شتمه له، وقالت على مضضٍ:
-أيوه، ونايم جوا يريح جتته من تعب السفر.
حدجها بنظرة أخرى عبرت عن ازدرائه لها، ثم اندفع نحو الردهةٍ مما استفزها، سألته من خلفه وهي تسابقه في خطواته:
-إنت رايح فين يا حاج؟
قال باقتضابٍ:
-هافوقه.

قطبت جبينها في اندهاشٍ حائر، لم تدع الفضول يأكلها فسألته بتعبيراتها الحادة:
-هو في إيه؟
تلك النظرة الاحتقارية التي تعلو وجهه كانت تستحقها، لم يرح بالها وأجابها بنفس الغموض المثير للأعصاب:
-ابنك عارف.
استاءت من تلاعبه معها فصاحت به:
-هو إنت هتكلمني بالألغاز، أنا لازم أفهم في إيه؟ جيتك السعادي مش طبيعية، وراها حاجة!
جلجل صوته وهو يحذرها:
-خليكي برا الليلة دي أحسن يا "بثينة"
-ليلة! يبقى الموضوع فيه إن!

تمتمت بتلك العبارة والشكوك ملأت صدرها، فحضور زوج أختها في ذلك التوقيت الشاذ يوحي بكارثة وشيكة، لحقت به تراقب ما يفعله، وجدته يلكز ابنها المسجى على الفراش في جانب جسده بقسوةٍ مستخدمًا عكازه مما جعله ينتفض مذعورًا وغاضبًا في نفس الآن، خاصة وهو يهينه:
-اصحى يا حرامي
كان على وشك سب من تجرأ وأيقظه من غفلته، لكنه تدارك نفسه بعد أن حلت عليه الدهشة واختلطت مع مخاوفه، همس بصوته المهتز الثقيل:
-هه.. جوز خالتي!

نظر له "بدير" في احتقارٍ، ثم أهانه بغيظٍ وهو يكز على أسنانه:
-نايملي ومدلدل كرشك يا كلب، قوم واتعدلي كده
مسح "هيثم" لعابه المنساب من جانب فمه بظهر كفه، ثم فرك رأسه متسائلاً في توترٍ ورائحة أنفاسه الكريهة تكاد تصل إليه:
-في.. إيه يا جوز خالتي؟

تأفف منه وهو يتفحصه في دقةٍ مُلاحظًا تلك الحمرة المريبة التي تحتل حدقتيه، مع فقدانه للاتزان، وجه عكازه نحوه ليلكزه بعنفٍ في صدره وهو يأمره بصوته الأجش:
-اقف على حيلك وأنا بأكلمك!
سألته "بثينة" والاستغراب يعتري كامل ملامحها:
-في إيه يا "بدير"؟ عاوز من ابني إيه.

التفت نحوها ينظر لها في حنقٍ، ثم أدار رأسه نحو "هيثم" يطالعه في غموضٍ قبل أن تمتد يده لتهوي على صدغه بصفعة قاسية مؤلمة تردد صداها في أركان الغرفة وجعلته يتأوه من شدة تأثيرها. هتفت "بثينة" في جزعٍ:
-ابني
اخشوشنت نبرة "بدير" وتحولت للشراسة وهو يوجه اتهامه نحوه:
-بتسرق بيت خالتك يا حرامي؟!
فرك "هيثم" جانب وجهه الذي تخدل من عنف الصفعة، وأنكر فعلته قائلاً بصوته الحانق:
-أنا مسرقتكش!
هدر به زوج خالته بقوةٍ:
-كداب.

تدخلت "بثينة" تدافع عن ابنها باستماتة وقد وقفت بجسدها تحول بينهما:
-إنت جاي تتبلى على ابني يا "بدير"؟ لأ وكمان بتضربه؟
أجابها بنفس الصوت الغاضب ونظراته المشمئزة مسلطة على "هيثم":
-هو عارف عمل إيه!
تفاجأت "بثينة" كليًا وشهقت مصدومة حينما قال ابنها بغتةٍ ومعترفًا بجريمته:
-أيوه عملت كده وسرقتك..
لطمت على صدغها تقول في دهشة وقد شخصت أبصارها:
-"هيثم"! إنت عملت إيه؟

أجابها صائحًا ورذاذ لعابه يتناثر في الهواء:
-أنا خدت حقي منه
رد عليه "بدير" مستنكرًا وقاحته:
-حقك؟ حق مين يا أبو حق؟
تابع "هيثم" هدره الناقم:
-حق أبويا اللي راح فداكم زمان!

للحظة توقف الزمن وعاد إلى الوراء، حيث تجلت المشاهد القديمة في ذهنه بوضوح مدهش، كان "غريب" والد ذلك الوقح لا يزال على قيد الحياة ويشكو مرارة العيش وصعوبة توفير النفقات، آنذاك جاء إليه يتوسله أن يقرضه المال لينفقه في إقامة مشروع صغير سيجني منه الأرباح ويسدد ديونه المتراكمة، واقترح عليه أن يفتتح محلاً لبيع الطلاء يكون مملوكًا له بعد سداد كامل قيمته، وفي المقابل يشاركه في الأرباح.

وافق وقتها ومنحه كل الدعم المادي ليقف على قدميه، ولم يطالبه بسداد الأقساط المستحقة إكرامًا لرجاء زوجته بالوقوف إلى جواره ودعمه، لكن أطماع "غريب" ورغبته في الثراء السريع جعلته يغش في تجارته، استبدل الجيد من مواد الطلاء بأخرى قليلة الجودة، وبالرغم من نصائح "بدير" المستمرة له -وتهديداته أحيانًا بإنهاء العمل وفض الشراكة- إلا أنه لم يرتدع أو يصغِ إليه، وأصر على ما يفعله ضاربًا بكل تهديداته عرض الحائط حتى حدثت الفاجعة والتهمت النيران كل شيء، وهلك هو معها، لتحل الخسارة على جميع الأطراف.. عاد "بدير" من سرحانه في تلك الذكرى غير السارة وقد توحشت نظراته وكذلك نبرته حينما هدر:
-أبوك موت نفسه بسبب غشه وطمعه، مش بسببنا، وبلاش تخلط الأمور ببعض.

رد عليه يلومه:
-عاوز تبرأ نفسك من دمه؟
هتف موضحًا بصوتٍ يشبه الرعد في قوته:
-احنا عملنا اللي علينا زمان وساعدناه، وسيبناه يشتغل زي ما هو عاوز، بس أبوك كان غشاش، مصانش النعمة، وكان ماشي ورا شيطانه لحد ما ضيع نفسه ...
ثم تحولت نظراته نحو "بثينة" وهو يتابع:
-وأمك عارفة بكده، متقدرش تنكر!
أنكرت الحقيقة فادعت كذبًا:
-إنتو اللي عاوزين تاكلوا حقنا، و...

أخرسها على الفور "بدير" رافضًا منحها الفرصة لتلفيق الأكاذيب بأسلوبها المبتذل في التلاعب بالأمور مستخدمًا عكازه في التلويح المهدد:
-حقكم خدتوه تالت ومتلت! ولولا العِشرة وصلة الدم لكنت رميتلك ابنك يتعفن في السجن!
تطلعت إليه بعينين ناريتين عاجزة لوهلة عن الرد عليه وقد أوقظ ذكريات الماضي بكل ما فيها، دب الرعب في بدنها وجحظت عيناها الحانقتين حينما هدد ابنها وبركان غضبه يثور فيهما:
-وإنت يا حرامي! هاعتبر الفلوس اللي إنت سرقتها من ورايا فدا عيالي، بس قسمًا بالله لو اتكرر ده تاني هخليك تحصل أبوك، وأدفنك بالحيا، سامعني!

نظرة أخيرة محملة بالكراهية والشر رمقها لكليهما قبل أن يتركها وينصرف من الغرفة، التفتت "بثينة" نحو ابنها تعاتبه:
-ليه كده يا "هيثم"؟ ليه خليته يبيع ويشتري فينا؟
وبوقاحةٍ وعدم احترامٍ دفع "هيثم" والدته من كتفها ليزيحها عن طريقه ليندفع نحو الخارج صارخًا بها وغضبه المستعر يتجمع في عينيه بسرعة البرق:
-ابعدي عني يامه!
لم تتمكن من استبقائه في المنزل بعد أن أطاحت عاصفة "بدير" بكل شيء، وقفت في مكانها تلطم على صدغيها حتى التهبا وهي تنوح في حسرةٍ وسخط:
-منك لله يا "بدير"، هتخسرني الواد اللي حيلتي ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة