قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الخامس عشر

لا يعرف كم دخن من السجائر لينفث بها عن حنقه المكبوت والمشتعل في رأسه، ناهيك عن الأحاسيس الجديدة التي اُضطرمت بداخله وزادت من تأجج غضبه غير المفهوم، لم يكن السبب فقط موضوع السرقة الذي أُخفي عنه، بل إهانة تلك الفتاة الثائرة له. استثاره أنها لم تهابه، ولم ترتدع من سمعته التي ربما تجعل البعض يفكر مرتين قبل أن يقترب منه، كانت على النقيض من بني جنسها من النساء، أنثى قوية، شجاعة، لا تهتز بسهولة، وقادرة على الدفاع عن نفسها بشكلٍ يثير الإعجاب والفضول. أحس "تميم" بدبيب شيء ما يناوشه من بعيد، لكنه لم يفقه إليه بعد، ورغم ذلك ما زال حانقًا لعدم إفراغ غضبه..

كان وجهها المتشنج بنظراتها النارية لا يزال محتلاً لمخيلته، وكأنها طيف حي يزداد سطوعًا مع استمرار تفكيره فيها، قاوم تلك الأحاسيس الغامضة التي استحوذت عليه مستعيدًا موقفها الأخير بإلقاء الماء العكر في وجهه أمام الحاضرين، استغله ليقضي على تلك اللمحة المحيرة التي تشوش ذهنه وتجعله غير قادر على اتخاذ موقفًا صارمًا .. نفخ في غلٍ، ردد مع نفسه في استنكارٍ مستهجن وكأنه يُفكر بصوتٍ مسموع:
-مش أنا اللي يتعمل فيا كده، مين دي أصلاً؟!

قذف بقدمه حجرًا مهملاً كان موجودًا على مقربةٍ منه، ثم تقدم خطوة نحو السور المنخفض لسطح منزله، ورفع قدمه ليستند به عليه، تطلع بغير هدى في الفراغ المعتم أمامه بعينين تقدحان شررًا وقد أدرك أنه في حيرةٍ من أمره، فليس من شيمه أن يقتص لحقه من النساء، وإن كانت مذنبة، فهذا يناقض ما نشأ عليه، فلو كانت رجلاً لأبرحه ضربًا ولجعله عبرة لمن في المنطقة، لكنها امرأة! عاد ليفكر مليًا وبعمقٍ فيما فعلته مختلقًا لها الأعذار، ربما لم تكن كما اعتقد وأساء الظن بها، وما تطاولت به عليه كان دفاعًا مشروعًا عن حقها في الحصول على لقمة العيش، لكن ليس من المعتاد أن تمتهن النساء بتلك الأعمال المثيرة للريبة.

خاصة وأنها تمتد لساعات متأخرة من الليل، كذلك هو رأى بعينه تجمعات مختلفة لمجموعات من الشباب الضاحك المحتشد بجوار عربتها، ناهيك عن وجود بدائل أخرى من الأعمال النسائية مما لا تثير الشبهات، عاد تفكيره ليدينها وقد ظن أن ذلك ربما يكون ستارًا خفيًا لاصطياد الرجال وارتكاب المحرمات تحت غطاء العوز والفقر، كور قبضة يده وضغط عليها بشدةٍ حتى ابيضت مفاصله، همس مع نفسه في ضيقٍ مزعجٍ:
-أنا كده متكتف، هاتصرف معاها إزاي؟

في تلك الأثناء، ضجرت "خلود" من انتظارها غير المجدي بمفردها في المنزل تضرب أخماسًا في أسادسٍ تترقب عودة زوجها إليها، أحست بضرورة وجودها إلى جواره حتى وإن كان معترضًا، ومع تغلغل تلك الرغبة فيها فقدت آخر ذرات صبرها، لذا قررت الذهاب إليه متحملة تبعات تلك الخطوة، ربما تنجح بدلالها وغنجها الأنثوي في امتصاص عصبيته وتثبيطها، ومن ثمَ استدراجه ليبوح لها بأسراره..

لفت الوشاح الصوفي حول كتفيها، وأحكمت ربط حجاب رأسها ثم سحبت مفتاح المنزل ودسته في حافظتها الجلدية الصغيرة، أغلقت الباب خلفها واتجهت للدرج، كانت تعدو صعودًا بأنفاس متهدجة، وقفت عند مدخل السطح تتطلع إليه بعينيها الساهمتين، خُيل إليها أنه هدأ قليلاً بعد مكوثه لساعات بالأعلى، لكنها سمعته يهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، دنت منه بهدوءٍ تام عل أذناها تلتقط ما يقوله، باتت على بعد خطوتين منه، ولم تستمع إلا لأصوات أنفاسه الغاضبة وسبابٍ حانق يلعن به أحدهم، سألته بتلقائيةٍ:
-إنت بتكلم نفسك يا حبيبي؟

انتبه لوجودها فتقلص وجهها الحانق أكثر، رمقها بنظرة لا تبشر بخيرٍ وهو يسألها في عصبيةٍ:
-"خلود"؟ بتعملي إيه هنا؟
ضبطت نبرة صوتها حتى لا تظهر قلقها عليه قبل أن تجيبه:
-جيت اطمن عليك يا حبيبي...
ثم أراحت رأسها على كتفه، وتابعت مُبدية اهتمامها به:
-الجو مش برد عليك؟
أبعد رأسها عنه وكأنها حية تلدغه، ثم أمرها بخشونة:
-انزلي الشقة وماتطلعيش تاني!

تطلعت إليه في انزعاجٍ واضح، لم تصغِ إليه وسألته بوجهٍ اكتسب ملامحًا جادة:
-مالك يا "تميم"؟ إيه اللي مغيرك؟
هدر بها بصوته المتشنج:
-يوووه، هو إنتي لازم تعصبيني كل شوية؟
انتفضت من صراخه بها وتراجعت لا إراديًا خطوة للخلف لتكون في مأمن من غضبته، ازدردت ريقها وهتفت بما يحمل العتاب:
-"تميم"، اهدى، في إيه لكل ده؟ أنا مراتك مش حد غريب!

لانت نبرتها قليلاً حينما أكملت موضحة:
-وبعدين أنا قلقت عليك وخوفت يجيلك برد فطلعت أشوفك، ما أجرمتش يعني؟
نظر لها بشكلٍ غامض، كانت محقة في أسباب قلقها. اختفت الجدية من صوت "خلود" ليحل الاختناق عليه وهي تلومه مستشعرة بقوةٍ أنه لا يبادلها أي نوعٍ من المشاعر المهتمة:
-ليه دايمًا بتحسسني إنك مُجبر عليا؟ وإني حد غريب عنك؟
رد بجمودٍ:
-أنا حابب أكون لوحدي، مش حكاية يا "خلود"!
-لأ يا "تميم" حكاية ورواية كمان!

وجدت صعوبة في إكمال جملتها بصلابةٍ، حتى كلماته لا تشفق عليها ولا تظهر أي نوعٍ من التعاطف معها، وكأنها مخلوق من حجر لا يتأثر ببرودة مشاعره، انسابت دموعها ونكست رأسها في خذلانٍ وهي تستطرد:
-أنا.. قولتلك من الأول.. لو مش عاوزني متكملش!
كالخنجر الحاد طعنته جملتها في صدره وأشعرته بتأنيب الضمير، لماذا وحدها تتحمل جرائر انفعالاته وهي التي تكاد تموت شوقًا لكلمة ناعمة منه؟ استنشق الهواء البارد حتى يستعيد انضباط أعصابه، عليه أن يصلح ما أفسده، تنهد بقنوطٍ، بدت حركة قدميه ثقيلة وهو يخطو ناحيتها ليعتذر منها:
-متزعليش.

تراجعت قبل أن يلمسها تصرخ فيه بمرارةٍ ووجهها أُغرق بالكامل بدموعها الحارقة:
-مش كل مرة كده، أنا بيصعب عليا نفسي وأنا بأحاول بكل الطرق أرضيك وإنت ...
انفجرت باكية فعجزت عن مواصلة الحديث، إحساسه بالذنب وخز وجدانه أكثر، خطا نحوها وامتدت ذراعه لتمسك بها من معصمها، وبحركة واحدة قوية جذبها إليه وخبأها في أحضانه، بكت "خلود" بشهقات متقطعة على صدره، في حين مسح برفقٍ على ظهرها وقبل أعلى جبينه متابعًا اعتذاره النادم:
-أسف يا "خلود"، معلش استحميلني شوية.

رفعت وجهها الباكي إليه، تطلعت إليه في ألمٍ، ثم ردت عليه:
-أنا معنديش مانع أصبر العمر كله، بس معاملتك تتغير معايا، أنا ماستهلش ده منك
وجد صعوبة في الابتسام وهو يقول:
-حاضر يا حبيبتي، كل اللي إنتي عاوزاه هيتنفذ، بس متعيطش!
تنفست بعمقٍ لتسيطر على نوبة بكائها، كذلك حاول "تميم" استرضائها بمنحها قبلة ناعمة على وجنتها، وداعب بإصبعه أنفها، نظرت له بحبٍ شغوف متناسية آلامها المعنوية، كفكفت بظهر كفها عبراتها وسألته:
-ها .. هتنزل معايا ولا آ...؟

أجابها دون تفكيرٍ:
-نازل يا ستي، مبسوطة
حركت كتفيها في غنجٍ، ثم عضت على شفتها السفلى وهي ترد:
-شوية.
حاوطها من ظهرها وضمها إليه وسار معها نحو باب السطح فأحست بالدفء يغلف جسدها، تنهدت في ارتياحٍ صامت، ونظرت له عن قرب وهي تهمس له ويدها تتلمس صدره النابض بقوة:
-ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
ربت على جانب ذراعها دون أن ينبس بكلمةٍ آملاً في نفسه ألا يستبد به الغضب من جديد فلا ترى هي -أو غيرها- وجهه الخفي الذي يحاول كبحه.

سهرة ذكورية متأخرة أقامها أعلى سطح منزله الذي يقطن فيه بمفرده، ولكن بصحبة أتباعه ليقوموا بخدمته وتلبية احتياجاته من إحضار المشروبات الكحولية، وتجهيز نارجيلته كلما انطفأ حجرها. التزم "ناجي" الصمت أغلب الوقت -وكأنه يحيا في عالمٍ خاص به- مكتفيًا بإخراج سحب الدخان الكثيفة بعد أن تنتهي مهمتها في إحراق رئتيه من جوفه وفتحتي أنفه، لم يكن رائق المزاج أو كعادته المعروفة في إلقاء النكات السمجة أو القبيحة ليلهب الأجواء. جثا "شيكاغو" على إحدى ركبتيه ليضع الفحم المتقد في مكانه بالنارجيلة متسائلاً في فضولٍ وعيناه تجولان على وجهه:
-مالك يا ريسنا، في حاجة معكرة مزاجك؟

أجاب باقتضابٍ زاد من الفضول:
-يعني..
سأله مبتسمًا، وكأنه يملك عصًا سحرية قادرة على فعل المستحيل:
-طب إيه المطلوب ونعدل المزاج يا كبير؟
لوح له بخرطوم النارجيلة قبل أن يجيبه:
-مالوش لازمة!
ومن الخلف تساءل "حمص" في اهتمامٍ:
-أومال الريس "تميم" فين؟ مش هيسهر معانا ولا إيه؟
رد عليه "شيكاغو" بما يشبه المزاح:
-شكل الجواز هيجي على دماغنا.
علق عليهما "ناجي" بزفيرٍ ثقيل، وكأن شيء ما يجثم على صدره:
-لأ مش كده، بس انسوه خالص اليومين دول!
ارتفع حاجب "حمص" للأعلى متسائلاً:
-ليه بس؟

أجابه دون وعيٍ بعد أن لعب الدخان غير البريء برأسه فأصبح غير قادر على التحكم فيما يتفوه به:
-أصل شوية بنات شوارع عكننوا عليه مزاجوا، ومش طايق حد.
توهم "شيكاغو" أنه يتحدث عن مشاجرة شديدة ربما تكون قد وقعت بين "تميم" وإحدى الساقطات اللاتي يتخذن أماكن معينة في بعض المناطق من أجل الحصول على متعة غير شريفة في مقابل حفنة من النقود، فقال عارضًا خدماته:
-لأ دول معروف تمامهم إيه، إدينا بس الإشارة!
عقب عليه في فتور وقد شعر بالثقل يجتاح رأسه:
-بعدين، غيرلي الحجر لأحسن مش عاجبني!

تحول في لحظةٍ إلى التابع المطيع وهو يرد مبتسمًا بابتسامة سخيفة أظهرت اتساخ أسنانه:
-أوامرك يا كبير.
أجاد ما يفعله معه، واسترسل معه بمكرٍ عله يحصل على معلومات مفيدة ربما يوضفها لصالحه بعد أن طرأ بباله فكرة جهنمية، وما إن انتهى منه حتى تركه يستمتع بالتدخين ليعود إلى رفيقه الذي كان يبتلع الطعام بشكلٍ مقزز، مال عليه يسأله بصوتٍ خفيض:
-إيه رأيك ياض يا "حمص" لو خدنا بونط ووجبنا مع الريس "تميم"؟

رد متسائلاً والرذاذ المختلط باللعاب يتناثر من فمه:
-هنعمل إيه يعني؟
غمز له بطرف عينه، ثم لكزه وهو يرد بصوتٍ خفيض:
-هفهمك بعدين، بس أشوف ريسنا!

نهض من رقدته حاملاً طبقًا مليئًا بالسوداني وبعض المكسرات ليضعه بجوار "ناجي"، تأكد من عدم حاجته إليه ليرجع إلى صديقه، تبادل معه حوارًا هامسًا أطلعه فيه على ما يدور في رأسه بعد أن تشكلت فكرته العبقرية، حيث راودته فكرة السعي للانتقام ل "تميم" والاقتصاص له بعد أن باح له "ناجي" في غير وعي منه عن حنق الأول مما صار معه ورغبته في إهانتها بعد أن عبثت بهيبته في مقابل نيل مبلغ مالي كبير يسد به كليهما عوزهما، ونجح بحنكته اللئيمة في أن يحصل على بعض المعلومات الأساسية عن تفاصيل المشاجرة مع الفتاة. رد عليه "حمص" بوجه تظهر عليه علامات التفكير:
-مالوش لازمة، بت إيه اللي هنتخانق عشانها؟ إنت شكلك لسعت!

رد عليه بعقلانية حتى يقنعه بالاشتراك معه في رسم تلك الخطة:
-ياض مايبقاش مخك ضلم، هنطلعلنا بقرشين كده منه، وهو فلوسه حلوة وكتيرة، خلينا نروق على نفسنا، والحكاية مش هتاخد مننا غلوة، احنا بس نفكر ونرتب هنعملها ازاي وامتى.
حك طرف ذقنه يفكر في العرض الشيطاني، ثم ما لبث أن سأله مستفهمًا وقد راقت الفكرة له:
-وهنعرف البت دي منين؟

جاوبه في انتشاءٍ مغتر:
-بسيطة، صاحبك معلم وبيعرف يجيب أرار أي حاجة!
هز رأسه في استحسانٍ متابعًا تعليقه عليه بما أكد له موافقته الصريحة على الاشتراك فيما يريد فعله، وتلك النظرة الغامضة الوضيعة تتوهج في حدقتيه:
-على رأيك، وأهوو نستفيد بأي حاجة بدل ما الدنيا مأشفرة على الآخر معانا، دوس يا برنس وأنا معاك!

لوح بيده لأحد عماله ليكمل تعبئة الأقفاص بالخضروات الموضوعة في الأجولة، ثم استدار سائرًا نحو المكتب الخشبي ليسحب المقعد الجانبي، حمله "تميم" في خفةٍ وبيد واحدة ووضعه على مقربة من والده الجالس بالخارج ومنهمك في تناول قهوته ومطالعة الصحيفة، كنهج يتبعه يوميًا. جلس بجواره ونظراته المعاتبة تغطي وجهه، تنهد في ضيقٍ، وتطلع إليه بترددٍ ليقول مستهلاً حديثه معه:
-ينفع كده يا حاج، أبقى أنا آخر من يعلم بالسرقة اللي حصلت؟

في البداية لاذ "بدير" بالصمت، وسدد له نظرة غريبة قبل أن يقول بامتعاضٍ ظاهرٍ على قسماته:
-هي أمك برضوه انسحبت من لسانها وقالتلك؟
رد بهدوءٍ ادعاه:
-أنا اللي ضغطت عليها عشان تقولي، هي مالهاش ذنب يابا، بس كان المفروض تعرفوني وأنا هاتصرف!
ترك "بدير" فنجان قهوته ليحتج بنبرة تميل للضيق، وقد تملك منه الانزعاج لانفلات لسان زوجته وإفشائها للسر:
-هو أنا مش مالي عينك؟!

لعق ابنه شفتيه وضبط صوته حتى يحافظ على هدوء نقاشهما حينما قال:
-لأ يابا، مش القصد، بس بردك آ...
قاطعه والده بلهجته الصارمة منهيًا الحوار في ذلك الموضوع تحديدًا:
-خلاص يا "تميم"، موضوع وراح لحاله.
رفض ترك الأمر وسأله مستوضحًا بإلحاح عنيد:
-يعني إنت عرفت اللي سرقنا؟
لوى ثغره يجيبه بتحفزٍ:
-أيوه، وخد جزاته خلاص!

لم يرغب "بدير" في نبش تفاصيل السرقة حتى لا يوغر بينه وبين زوجته ويفسد علاقتهما بسبب أخطاء الغير، خاصة أن الأمر يمس شقيقها وأمها. وبخبرته الحياتية الطويلة عِمد إلى تغيير النقاش فيه فأمر ابنه بما لا يقبل المجادلة:
-انساه، وخلينا نشوف الطلبيات اللي ورانا، مش هانفضل نلُك كتير في حاجات مالهاش تلاتين لازمة!
كان مدركًا لطبيعة والده في إنهاء النقاش حينما يحتدم، رد مستسلمًا بالرغم من تذمره الظاهر عليه:
-حاضر يابا، اللي يريحك.

نهض من مقعده واستعد لإعادته إلى مكانه حينما سمع صاحب الصوت الرجولي المألوف يهتف:
-سلامو عليكم.
التفت "تميم" برأسه للجانب ليجد أحد أصدقائه الأعزاء ممن جمعهم العمل في البداية بسبب الأباء قبل أن يتحول الأمر بين الأبناء إلى ود وصداقة أعمق بالرغم من سنوات الحبس، ترك المقعد، واتجه إليه ليصافحه وهو يرحب به بحرارةٍ شديدة:
-وعليكم السلام! منور الدكان والحتة كلها يا "منذر"!

(( "منذر طه حرب" هو أحد الشخصيات الرئيسية في رواية <الدكان>، والتي سبق نشرها الكترونيًا عام 2018، في ذلك المشهد يحل ضيفًا على عائلة "سلطان"، حيث تربطهما روابط الصداقة والعمل والتي تعود لجيل الأباء .. كذلك كانت زوجة "منذر" الأولى خلال تلك الأحداث متوفية، ولم يكن قد التقى بعد ب "أسيف"؛ معشوقته))

بادله "منذر" المصافحة والحضن الرجولي رابتًا على ظهره بقوة قبل أن يبتعد عنه ليتابع باهتمامٍ:
-منور بأصحابه، وحسكم دايمًا فيه، إزيك يا حاج "بدير"؟ عامل إيه؟
رد عليه الأخير بلطفٍ وتلك الابتسامة الهادئة مرسومة على شفتيه:
-يا أهلاً وسهلاً بالغالي ابن الغالي، أنا الحمدلله في نعمة.
وقف "منذر" قبالته مكملاً ترحيبه المهتم وهو يمسح على كتفه بودٍ كنوعٍ من التوقير له:
-والحاج "سلطان" أخباره إيه؟

-بخير والحمد لله.
تلفت حوله باحثًا عنه وهو يسأله:
-هو فين يا حاج؟ أنا مش شايفه.
أجابه "بدير":
-شوية وهينزل الدكان يقعد معانا.
ابتسم معلقًا عليه:
-ربنا يديه الصحة، ده بركتنا كلنا.

دنا "تميم" من صديقه، وضع المقعد الخشبي أمامه ليدعوه للجلوس عليه، ثم استطرد متسائلاً:
-إيه يا ابن العم، جاي في مصلحة ولا زيارة؟
تنحنح "منذر" في خفوتٍ قبل أن يجيبه بنبرته القوية الرنانة:
-الاتنين، عندي شغل قريب منكم هنا، فقولت أعدي أسلم على الحبايب.
رد "بدير" في امتنانٍ وتقدير:
-الله يسلمك، ابن أصول وفيك الخير .. والحاج "طه" أخباره إيه؟ و"دياب"؟
تنهد وهو يرد:
-كلنا تمام وفي فضل من ربنا.

مال "بدير" نحوه يسأله وقد استند بكفيه على رأس عكازه:
-إيه مش ناوي تتجوز زي أخوك؟
بدت آثار المفاجأة السارة جلية على ملامحه، التفت في بهجة نحو رفيقه يهنئه بعد أن نهض من مكانه ليحتضنه مجددًا:
-مبرووك يا "تميم"، بالله ما أعرف، والله فرحتك أوي.
رد الأول مجاملاً:
-الله يبارك فيك يا صاحبي، مش ناوي تعملها إنت تاني؟

قال معترضًا على الفور وتلك النظرة المهمومة بائنة على تعابيره:
-لا يا سيدي، كفاية مرة، وأديك شايف لعنة الجواز عاملة فينا إيه!
علق عليه "بدير" بنبرته الرزينة:
-ربنا يصلح حال عباده، بكرة تقابل بنت الحلال اللي تستاهلك يا "منذر".
قال له بصوتٍ فيه مسحة من الأسى:
-أنا راضي بنصيبي بعد المرحومة.

أصر عليه:
-الله يرحمها، بس دي سنة الحياة، الأمر مايسلمش من واحدة تاخد بالها منك، تراعيك وتشوف شئونك، وتجيب عيال يشيلوا اسمك ويكونوا امتداد ليك.
ضغط "منذر" على شفتيه قليلاً، وقال:
-اللي فيه الخير يقدمه ربنا.
هتف "تميم" عاليًا ومستخدمًا يده في الإشارة:
-هاطلبلك شاي ولا تحب أجيب قهوة، ولا أقولك، نجيب فطار أجدع من ده كله و...
قاطعه معتذرًا في لباقةٍ:
-لا الله يكرمك، أنا تمام التمام، أنا بس جيت أرمي السلام وماشي.
رد مدهوشًا وقد تبدلت تعابيره للضيق قليلاً:
-هو إنت لحقت يا "منذر"؟

تنحنح يقول له بابتسامةٍ مهذبة:
-معلش يا صاحبي، ورايا مصالح كتير متعطلة، ويدوب الوقت يكفي، ده غير إن ورايا مشوار سفر طويل، خليها وقت تاني.
-طب عاوز أشوفك، هنتقابل إزاي؟
-على تليفون بقى، إن أنجزت بدري هاعدي عليكم.
أخرج زفيرًا بطيئًا من جوفه قبل أن يرد:
-ماشي يا ريس.
لوح "منذر" بيده يودعهما:
-أشوفكم على خير، مع السلامة!
-في حفظ الله!

راقبه "تميم" بعينيه حتى توارى عن أنظاره واختفى في الزحام، انتبه لجملة والده حينما استطرد يشكر مجيئه لزيارتهما:
-فيه الخير ابن "طه".
رد "تميم" يؤيده في مدحه والثناء عليه:
-عيلة "حرب" كلها ولاد أصول ويعرفوا في الواجب يابا.
-معاك حق.
رفع "تميم" يده ليضعها أعلى رأسه ليفركها بحركة دائرية وهو يقول بنبرة عازمة:
-طيب يابا، أنا هاروح أقف على إيد العمال، وأشوف الطلبية اتقفلت ولا لسه
أومأ برأسه يرد عليه:
-ماشي يا ابني.

مضى اليوم على كلتيهما بهدوءٍ ودون أن يعكر صفوه أي شيء، فخالهما "خليل" سافر في مأمورية عمل، وزوجته -الحشرية- غادرت أيضًا لتذهب في زيارة قصيرة لعائلتها بالبلدة، وبالتالي ترك لهما المجال والحرية لمزاولة عملهما بعربة الطعام، مع فارق بقاء والدتهما "آمنة" بالمنزل لشعورها بالإعياء. لم تجد الفتاتان أي وقت لإضاعته وعملتا بجدٍ لإرضاء الزبائن وتحصيل النقود، وضعت "فيروزة" السندوتش الآخر الذي انتهت من تغليفه في الكيس الورقي، وأضافت معه بعض المناشف الورقية لتدير رأسها في اتجاه أختها، ثم استطردت تقول بلهجةٍ جادة:
-بأقولك إيه عاوزين نقفل بدري شوية عشان نشوف ماما، شوفتي شكلها عامل إزاي النهاردة، طول اليوم مأريفة.

لم ترفع "همسة" عينيها إليها، بل بقي تركيزها منصبًا على قلي شطائر اللحم وهي ترد عليها:
-شكلها خدت دور برد.
عللت التعب الذي أصاب والدتها قائلة:
-ما ده الموسم بتاعه، وناس كتير تعبانة...
توقفت للحظة عن الكلام لتسلم الطلب لزبونها وابتسامة عملية تزين وجهها، ثم تابعت بصيغة آمرة ويدها تمسح بمنشفة نظيفة الرخامة الملطخة ببقايا المسطردة:
-المهم خلصي اللي في إيدك عشان أسلمه ونرجع لماما.

هزت رأسها وهي تقول:
-ماشي .. على طول.
لم تلاحظ إحداهما هذين الشابين المرابطين في نقطة تواجههما مباشرة، وكأنهما يتربصان بهما بشكلٍ مريب ويدعو للقلق. نفخة خفيفة لبقايا السيجارة الزهيدة الممسوكة بين إصبعيه قام بها "شيكاغو" قبل أن تتحول نظراته نحو "حمص" الذي سأله بتأهبٍ:
-هما دول؟
أجابه وهو يلفظ الدخان من بين شفتيه:
-على حسب كلام المعلم "ناجي" مافيش إلا هما في المنطقة.

سأله من جديد كإجراءٍ احترازي حتى لا يتسببا في إحداث الفوضى دون داعٍ:
-يعني إتأكدت منهم ولا هنعمل فورتينة (مشكلة) على الفاضي؟
قال بنفاذ صبرٍ وهو يلقي بعقب سيجارته ليدعسه تحت قدمه بحذائه القديم:
-يا ابني أنا لفيت الكورنيش كذا مرة ومافيش إلا هما، ده غير إني سألت كام واحد من اللي واقفين بيبيعوا بالمحسوس عن اللي حصل مع الريس "تميم"، وقالوا عن اللي شافوه، والكل قال هي البت دي.

توجهت نظراته نحو "فيروزة" التي تناول أحدهم كيسًا مليئًا بالطعام، فرك "حمص" كفيه معًا وقال بنبرة توحي باستعداده:
-مية مية، كده احنا في السليم، جاهز يا بونط؟
تبدلت نظرات "شيكاغو" للشراسة على نحو مخيف قبل أن ينطق:
-جاهز يا برنس، بينا.

وجهٌ قميء منفر رمقها بنظرة غريبة تعكس شرًا وخبثًا وهو يدنو من العربة حينما حدقت نحوه بتلقائية من النافذة أمامها، كان ممسكًا بعصاه غليظة؛ أو ما يطلق عليها "شومة". راودها شعورًا غير مريح تجاهه، فله تعابير شيطانية تبعث الانقباض، لم تستطع إبعاد أنظارها عنه، ولكن اكتسى وجهها بتعابيره الجادة حينما بات في مواجهتها مباشرة، وبرسمية بحتة بادرت "فيروزة" قائلة له:
-معلش احنا قفلنا الأوردرات و...

قاطعها "شيكاغو" بابتسامة وضيعة، وتلك النظرات الملبكة للأبدان تجتاح عينيه:
-احنا مش جايين في أوردر يا حلوة.
عبست ملامحها، وقطبت جبينها مرددة في استغرابٍ لا تنكر أنه وتَّرها:
-نعم؟
انتبهت "همسة" للكلام المريب الذي شحنت به الأجواء وقد كانت في البداية منهكمة في غسل أدوات الطهي، تحركت حدقتاها لتتجول على وجه الرجل الآخر الملاصق لذاك الفظ حينما استطرد:
-سمعتي عن المثل اللي بيقول اللي مالوش كبير بيشتريلوا كبير؟

نظرت "فيروزة" لكليهما شزرًا قبل أن ترد بلهجتها المزعوجة:
-أفندم؟! إنتو جايين تهزروا هنا؟
تجاهل عبارتها ليضيف بكلمات موحية بشرٍ قادم وهو يرفع عصاه عاليًا ليلوح به:
-وإنتو غلطتوا في كبيرنا!

كانت طريقته مستهلكة في بث الخوف، لكنها فعالة في التأثير على النفوس، وبالرغم من تلك الرجفة التي تسللت إليها إلا أنها قاومت شعورها بالخوف ووأدته في مهده قبل أن يتمكن منها لترد ببسالةٍ:
-كبيركم مين ده؟ هو احنا نعرفكم أصلاً؟!
قست نظراته عندما جاوبها:
-لأ متعرفوناش! بس احنا رجالته، واللي يمسه يمسنا.

استجمع جأشها وتغلبت عن خوفها الذي تضاعف قليلاً لترد بهدوءٍ حذر:
-طب امشي من هنا، والله يسهلك، احنا مش عاوزين مشاكل مع حد
أولته ظهرها لتستدير نحو أختها، ثم دمدمت بصوتٍ خفيض، وكأنها بذلك تطرد الخوف قبل أن يتمكن منها:
-هي ناقصة بلاوي على آخر الليل، شكلهم مبلبعين حاجة.
على عكسها كانت "همسة" تتطلع إليهما في ارتعابٍ، لعقت شفتيها مرددة بصوتٍ مهتزٍ:
-قلبي مقبوض يا "فيروزة"، حاسة إن ...

لم تكمل جملتها للأخير، فقد لمحت واحدًا منهما يرفع عصاه في الهواء ليضرب بها نافذة العربة، فتهشم زجاجها، وكردة فعل تلقائية مذعورة جذبت أختها نحوها وهي تصرخ منادية إياها في هلعٍ حتى لا تتناثر القطع الحادة على ظهرها:
-حاسبي يا "فيروزة"!

وبأعجوبة شديدة نجت الأخيرة من ضربة قاسية كادت أن تطالها من طرف العصا، استدارت "فيروزة" تنظر في حنق لذلك الوغد الذي شرع في تدمير حلمها بتحطيم واجهة العربة وتمزيق الإعلانات الملتصقة بها، انتابتها نوبة من الهياج فصرخت به لتذود بشراسة منقطعة النظير عن خاصتها:
-إنتو اتجننتوا، إيه اللي بتعملوه ده؟

على الفور ترجلت من العربة لتواجههما بمفردها وصرخات أختها المذعورة التي تتوسلها بالابتعاد عنهما تصدح من خلفها، كانت مغيبة فلم ترَ سوى تصرفهما الشنيع. انهال "حمص" بعصاه على جانب العربة ليُحدث التواءً جسيمًا ببدنها، حاولت إيقافه فاندفعت تلكم ظهره بقبضتيها وهي تلعنه، لكنه دفعها من كتفها بخشونة فارتدت للخلف وسقطت على ظهرها، جثت "همسة" على ركبتيها أمامها ترجوها باستماتة وهي تجاهد لمنعها من العودة إليه:
-لأ يا "فيروزة"، احنا مش أدهم!

صرخت بهيسترية:
-سبيني عليهم.
ردت ببكاءٍ مفزوع وصارخ:
-بلاش عشان خاطري، هيأذوكي
تفاجأ المتواجدون بالمكان بما يحدث من تخريب للعربة، حاول بعضهم التدخل لإيقافهما لكن تهديد "شيكاغو" شديد العدائية والمقترن بإشهار سلاحه الأبيض ذو النصل الحاد في يده الأخرى أجبر أشجع الرجال على التراجع بعد أن تلاشت بوادر الشجاعة، دار في المكان وهدد صائحًا بصوته الجهوري:
-محدش يتدخل لنجيب كرشه على الأرض!

ولكونه ذائع الصيت في تصرفاته الإجرامية، لم يتجرأ أحدهم على إيقافه، وإلا لتحول لجثة هامدة، وتركوه يفعل ما يحلو له، صرخت "فيروزة" مستنجدة بمن حولها علها تجد من يتصدى لهما:
-الحقونا يا ناس، هاتسيبوهم كده؟

ولكن لا حياة لمن تنادي، الكل خذلها في لحظة، انعدمت الشجاعة في نفوسهم، واختفت المروءة فأداروا لها ظهورهم خوفًا على أعمارهم مما سحقها تمامًا، احتضنتها "همسة" بكل قوتها وجثمت عليها حتى لا تتحرر منها وتتورط بتهورها في تلك اللحظات المصيرية في كارثة قد تودي بحياتها، امتزجت أصوات صرخاتهما مع بكائهما المرير، وفي دقائق معدودة كانت النيران تضرم في العربة لتحترق روح "فيروزة" معها. وما إن انتهى "شيكاغو" من عمله حتى استدار نحوهما، رفع عصاه الغليظة أمام وجهيهما يلوح لهما بها وصوته الخشن يجلجل عاليًا لينذرهما:
-ده درسك ليكم عشان لما تتعاملوا مع أسيادكم تعرفوا مقامكم وتلزموا حدودكم!

وضع "حمص" يده على كتف رفيقه وهو يقول بنبرته المزهوة:
-الريس "تميم" مش هافية عشان شوية نسوان كسر تعلم عليه، لأ وراه رجالة ينسفوا اللي يقرب منه!
كركر "شيكاغو" ضاحكًا قبل أن يبتر ضحكته فجأة ليهينهما:
-سلام يا بياعين الكبدة!

رحل كلاهما تاركين ألسنة النيران تلتهم العربة وتقتلع روح "فيروزة" معها، رأت بأم عينيها ما سعت لتحقيقه يذهب سدى ويتحول إلى رماد، لم تتحمل قساوة الأمر، كان لزامًا عليها أن تنتقم ممن أحرقها حية، دفعت أختها عنها بقوة مستخدمة كفيها، أسقطتها إلى جوارها ونهضت تركض في اتجاه الطريق، تأوهت "همسة" من الألم، وصرخت تناديها:
-رايحة فين يا "فيروزة"، استني عشان خاطري!

قاومت الألم الشديد ولحقت بها، اعترضت طريقها لتستوقفها، ورجتها بأنفاسٍ متهدجة:
-وحياة أغلى حاجة عندك تخليكي هنا!
كانت مدركة أن أختها حينما تنال منها عصبيتها العمياء تتحول للجنون، وتطيح بكل شيء خلال غضبها الأهوج، تملصت "فيروزة" منها صارخة بلا وعي، وغضبها يتعاظم في عينيها كحمم البركان الملتهبة:
-ابعدي عني، والله لأوريه "تميم" ده، قسمًا بالله لأحرق قلبه زي ما حرق عربيتي، مش هاسيبه إلا لما أرجعه السجن اللي جه منه!

كالمجذوبة، والفاقدة لأهليتها، اندفعت عبر الطريق غير عابئة بحركة السير فيه، قطعته عدوًا وبشكلٍ جنوني وسط أبواق السيارات المتذمرة لرعونتها، فشلت "همسة" في إيقافها، فما كان منها إلا اللحاق بها وهي تصيح بها كرجاء أخير بائس حتى بح صوتها:
-يا "فيروزة" استني!

ركضت في اتجاه دكان عائلة "سلطان" الذي يطل على ناصيتين؛ إحداهما للزقاق الجانبي، والآخر لطريق فرعي يصل في نهايته للشارع الرئيسي، كانت كامل نظراتها المحتقنة مسلطة على وجه "تميم"، وقفت قبالته وهو جالس أمام المدخل وصدرها ينهج علوًا وهبوطًا، مسحت بيدها عبراتها التي انسابت بلا توقفٍ، حدجته بنظرة مميتة خالية من الحياة، ثم نادته عاليًا بنبرة أقرب للصراخ بصوتها المجروح:
-إنت يا رد السجون، يا خريج اللومان!

تفاجأ "تميم" من النداء الأنثوي الفج وقد كان مشغولاً بمراجعة الفواتير مع والده، التفت برأسه نحو صاحبة الصوت ليتطلع لها في استنكارٍ وغضبه قد بدأ في الظهور على ملامحه، عرفها بمجرد التطلع إلى وجهها .. علامات الاستهجان غطت تعابيره .. كذلك ضاقت نظراته وهو يتأمل الحالة الفوضوية المسيطرة عليها، تبادل مع والده نظرات حائرة حينما كررت ندائها:
-إنت أطرش؟ رد عليا يا بلطجي!

كانت الحركة شبه هادئة في المنطقة في ذلك التوقيت الليلي بعد انصراف الأغلب ليعودوا إلى منازلهم، لكن بصوتها المرتفع والجلبة التي أحدثتها بدأ القليل في التجمع ليتابعوا بفضولٍ ما يدور. وبتشنجٍ وغيظ نهض "تميم" عن مقعده بعد إهانتها الوقحة التي تكررت على مسامعه، استدار متجهًا إليها ليصبح في مواجهتها، حدجها بنظرة شرسة، ثم سألها بشكلٍ مباشر:
-مين ده اللي بلطجي؟ إنتي بتكلميني أنا؟

لوحت بيدها مهينة إياه:
-أيوه إنت يا معدوم الرجولة! يا حيوان! بتحرقلي عربيتي ومفكرني هاسيبك؟
استقام "بدير" في وقفته لينظر إلى تلك الشابة بنظراته الدقيقة المتفحصة، تنشطت ذاكرته وعرفها دون عناء؛ إنها ابنة جارتهم القديمة "آمنة". انزعج من تطاولها على ابنه، ومع هذا سألها بصوته الرخيم وبهدوءٍ حذر حتى لا يقود ذاك الجدال المحتدم غير مفهوم الأسباب لمنحنى آخر:
-هو في إيه بالظبط؟

جاوبته بصراخٍ:
-اسأله الكلب ده!
نعتت "تميم" بما لا يليق فاستشاط غضبًا، ولولا وجود والده لكان له كلام آخر يردع به لسانها المنفلت، تساءل "بدير" بوجومٍ:
-إيه اللي بيحصل يا "تميم"؟
أجابه بحنقٍ وعروقه تنبض بدمائه التي طالها الهياج:
-مش عارف يابا، أهي بلاوي على آخر الليل!

خطوة جسورة تقدمت بها "فيروزة" نحوه شحذت معها قواها الغاضبة بالكامل، ودون سابق إنذارٍ رفعت يدها في الهواء لتهوى به على وجه "تميم" لتصفعه في غفلة منه قبل أن تتهمه علنًا:
-باعتلي شوية بلطجية يحرقوا عربيتي يا جبان، بتردهالي يا حشاش!
باغتته بصفعتها المهينة وعبثت برجولته، احمر وجهه واِربد بالمزيد من الغضب المحموم .. كما اندفعت الدماء الثائرة تغزي عروقه .. همَّ بالانقضاض عليها والإطباق عليها من عنقها ليخنقها وهو يهدر بها في عصبية مبررة:
-إنتي اتهبلتي يا بت!

ولكن وبكل مهابةٍ وقوة ضرب "بدير" بعكازه الأرضية صائحًا في ابنه ليوقفه قبل أن يتهور ويبادلها صفعة حتمًا ستؤخذ عليه:
-عندك يا "تميم"!
لم يهتز ل "فيروزة" جفن، ولم ترتعد أو تندم من فعلتها تلك، بل شعرت أنها شفيت جزءًا من غليلها بإيلامه هكذا بوقاحةٍ تليق به، وبالانتقاص من كرامته بإحراجه وإذلاله بذلك الشكل المهين. هدر "تميم" يقول لوالده بصوته اللاهث من الغضب وقد استبد به جنونه وسيطرت عليه انفعالاته الجامحة:
-دي بتمد إيدها عليا وسط الخلق وعاوزني أسكت؟

أنذره "بدير" بصياحه الآمر به ونظراته التي تعكس سطوته:
-ولا كلمة، وقفتي مش عجباك؟
كبخ غضبه مرغمًا ليرد:
-على دماغي يا حاج، بس آ...
إشارة أخرى من عيني والده جعلته يصمت مضطرًا، وجه حديثه إلى "فيروزة" يعاتبها بلهجةٍ جمعت بين الشدة والحزم:
-مايصحش اللي عملتيه ده؟ لو ليكي حق عنده تعاليلي، لكن مافيش حُرمة بتمد إيدها على راجل و...

قاطعته متعمدة احتقار ابنه وإهانته بقساوة أكبر:
-ده لما يكون راجل أصلاً!
استفزته عبارتها تلك وأخرجته عن شعوره، لذا صاح بها بعصبيةٍ جمة وهو يهددها بيده التي تكاد تطالها لتفتك بها وتحطم عظامها وعيناه تقدحان بالشرر المستطر:
-أنا راجل غصب عن اللي خلفوكي، ما تلمي نفسك يا بت إنتي وإلا هاقتلك!

ردت بجراءة تتحداه فيها معبرة عن غضبها المندلع وهي تلهث من فرط انفعالاتها الثائرة:
-مش خايفة منك يا قتال القتلة، وأنا والله ما سيباك، وخلي الناس دي كلها تشهد عليا، أنا هاحبسك تاني، ومش هتنازل عن حقي لو فيها موتي يا بلطجي!
ثم حدجته بنظرة نارية قبل أن تتركه يحترق كمدًا في مكانه، ارتبكت "فيروزة" في حقه -وهي في قمة غضبها- خطئًا جسيمًا لن يغفره، وقبل أن يتصرف برعونة أمسك به والده من ذراعه ليستوقفه قائلاً له بصرامةٍ:
-مكانك يا "تميم"!

هتف بتشنجٍ، وجسده ينتفض من شدة غضبه:
-مش سامع يابا بتغلط فيا إزاي وبترمي بلاها عليا بنت ال ... دي؟! أنا مش هاسيبها!
شدد أباه من قبضته عليه وجره رغمًا عنه إلى داخل الدكان وهو يقول له:
-سيبها دلوقتي
-إنت هتصدقها يابا وتسيبها تمشي كمان! ومين هايجبلي حقي منها بعد الجُرسة دي؟
رد حاسمًا الأمر:
-أيوه هاسيبها...

ثم تابع موضحًا أسبابه:
-ما هو مش طبيعي اللي عملته ده، أكيد في حاجة حصلت وإنت ليك يد فيها!
نظرة استنكارٍ كست وجهه عقب لومه المتواري، أحس بغليان يأكل جسده الذي تصلب وانتفض، ثم هتف مدافعًا عن نفسه بصوته الذي اكتسب نبرة هائجة:
-ده أنا جمبك طول اليوم يا حاج متنقلتش من مكاني!
غامت عينا "بدير" وهو يعقب عليه:
-يبقى الحكاية فيها إن! واهدى كده خلينا افهم إيه أصل الموضوع!

كور "تميم" قبضة يده وضرب بها الحائط في جنونٍ حتى لا ينفجر من شدة غيظه، شعر بأحشائه تحترق، بلهيب ساخن يندفع من عينيه، وبأنفاسٍ هادرة صاح يتوعدها وقد حل الإظلام على قسماته:
-وأنا مش هاسيبها ...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة