قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والثلاثون

كان على فراشه الوثير مستلقيًا وفي حالة شبه مسترخية محاولاً استدعاء النوم الذي بات عزيزًا عليه حين اخترقت رنة صوتها الحادة أذنيه لتسأله مباشرة وبعصبية جلية عن ذاك المشبك الذي تناسى أمره كليًا في خضم ما مر به، فتح "تميم" عينيه ليحملق فيها مصدومًا لبرهة، وكأنه يتأكد مما يراه، اعتدل من رقدته ليتطلع إليها بصمتٍ، رمش بجفنيه وبريق ذلك المشبك ما زال ينعكس في حدقتيه، ودون بادرة كذب قرر أن يجاوبها بتعابيرٍ هادئة:
-بتاع الأبلة .."فيروزة"!

لم يدرك أنها المرة الأولى التي يتلفظ بها باسمها، وكأنه يختبر وقعه على مسامعه وبين شفتيه، كان حين نطق به بعفوية مُربكًا، موترًا، وخافقًا لقلبه، ولكن لسوء حظه كان أمام زوجته التي انفجرت غضبًا وغيظًا، أغيرها تنادي شفتاه؟ تنشطت ذاكرتها بذكرى منديل الرأس والمشبك القديم حين اكتشفته مصادفة وظنت والدته أنهما لها..،

عُقدت المقارنة في رأسها حين تكرر الأمر من جديد، وليست النهاية مرضية كما أخبرها من قبل بأنها متعلقاتٍ تخص لأخته لتنتهي القصة على خير، بل لأخرى غريبة عنه متلونة بشكلٍ أخافها، بالطبع تلك الشابة رأته وأملت نظراتها منه في غيابها، وتبادل هو معها الحديث وإن كان مقتضبًا، ثم أعطته أشيائها ليحتفظ بها وتحترق هي بنيران غيرتها عندما تكتشف الأمر، كان لذلك التفكير المؤلم آثارة عليها؛ حيث غطى الوجوم والحنق كامل وجهها، غلت الدماء في عروقها واندفعت بحممها الملتهبة لتغزي كامل جسدها، تشعبت بشرتها بحمرة ساخنة وظهر ذلك جليا عليها، احتدت نظراتها وصرخت تسأله وهي تدنو منه:
-بتقول مين؟!

لم تتغير نبرته حين أوضح لها بنفس الثبات الانفعالي، وكأنها لم تتعرف إلى هويتها:
-البنت إياها أخت "همسة" خطيبة أخوكي.. أقصد يعني اللي كانت خطيبته
تحولت تلك الرقيقة الناعمة معه -والتي تُباري قريناتها في الاستحواذ على زوجها بأساليب الحب المشروعة والملتوية- إلى امرأة شرسة غاضبة تكاد تفتك به بنظراتها المظلمة، اندفعت نحوه لتمسك به من ياقته، هزته في عصبية مفرطة وهي تعلق عليه بنرفزة أشد، وكأنها تستجوبه بطريقة غير لطيفة على الإطلاق:
-ما أنا عارفة هي مين، إنت مش محتاج توصفهالي البت دي، والزفت بتاعها ده بيعمل إيه في جيبك؟! ما تنطق!

أزاح -رغم ضيقه البادي عليه من أسلوبها الفظ في التعامل معه- قبضتها بعيدًا عن ياقته، كان إلى حد ما متفهمًا لانزعاجها بشأن ذلك المشبك، من البديهي أن تساورها الشكوك حول شيءٍ أنثوي يخص غيرها، لكنه لم يتوقع أبدًا أن تثور هكذا، نهض عن الفراش وهو يدفعها برفقٍ للجانب ليتمكن من المرور، لم يستدر نحوها وأجاب مسترسلاً ببرودٍ زائف:
-نسيت أديهولها لما وقع منها في الشارع.

دارت حوله لتغدو في مواجهة وجهه الجليدي، سددت له نظرات نارية قاتلة وهي تواصل الصراخ المنفعل:
-نعم .. نسيت؟!
تنفس "تميم" بعمقٍ ليثبط تلك المشاعر المنزعجة التي بدأت تتصاعد بداخله، وقال على مهلٍ وبأنفاسٍ شبه ثقيلة موضحًا لها طبيعة الموقف منذ البداية حتى لا يبدو كمن يخدعها:
-بصي أخوكي كان بيتخانق معاها وهيرتكب جناية وأنا لحقته ساعة لما شوفتها و...

لم تتحمل "خلود" أي تبرير، فقدت عقلانيتها وتمكن منها غضبها الأعمى، فقذفت بغيظٍ بالمشبك في وجهه ليخدشه عند جانب صدغه، وصرخت فيه لتقاطعه بتهديد عدائي:
-أنا اللي هارتكب جناية لو مفهمتش حالاً إيه علاقتك بالبت دي!
نظر لها بقوةٍ رافضًا ذلك الإتهام الباطل، وحذرها بلهجةٍ شديدة غير متسامحة بعد أن تغيرت معالم وجهه للحنق:
-خدي بالك من كلامك ده، مافيش بيني وبينها أي علاقة!
رمقته بنظرة جارحة من عينيها الغاضبتين، وقالت في استهجانٍ متعاظم:
-هو أنا هبلة عشان أصدقك؟ إنت كداب يا "تميم"...

اتسعت حدقتاه مذهولاً من إهانتها القاسية، بينما تابعت بنفس الأسلوب الهجومي المحتد:
-تلاقيك جايبه ليها وعامل الفيلم ده عليا عشان أصدقك!
زجرها بخشونةٍ وقد شخصت أنظاره:
-"خلود"!
دفعته بعصبيةٍ من صدره مواصلة إلقاء التهم عليه:
-طبعًا العانس دي مصدقت لاقت أختها اتخطبت وهي زي البيت الوقف، حبت ترمي شباكها عليك جايز الصنارة تغمز، وملاقتش إلا جوزي تجرب معاه، وإنت اديتها وش فساقت فيها.

نظر لها في استياءٍ ثم أولاها ظهره وتحرك في اتجاه النافذة ليفتحها حتى يستنشق الهواء قبل أن يختنق بحنقه المندلع بداخله، فلم يكن أيًا مما تلفظت به حقيقي بالمرة، بل على العكس كان مزيجًا من الإهانة والتجريح، ردد في عتابٍ علها تتوقف عن استفزازه:
-والله ما عارف أقولك إيه.. أكيد مافيش واحدة طبيعية هاتفكر بالشكل ده!

كانت في ذروة عصبيتها الهوجاء، اليوم اختبرت مشاعر الغيرة لديها أقصى درجات احتمالها، وفشلت في السيطرة عليها، انحنت "خلود" لتلتقط المشبك من على الأرضية، وكالمجنونة لحقت به لتمسك يده، وضعته عنوة في راحته وأضافت:
-خديه يا حبيبي، خليها تشبع بيه.
تحولت نظرات العتاب لديه للومٍ واستنكار، ثم قال لها محذرًا بنبرة أشد بأسًا:
-هي ضربت معاكي جنان على آخر الليل، ولو فضلتي على كده أنا هاسيب البيت وأمشي!

أمسكت به من ياقتيه تهزه بجنونٍ وهي تهدر بصوتها المرتفع الغاضب:
-عشان تروحلها؟! وأنا مش هاسيب واحدة زي دي تخطفك مني، ده على جثتي!
أشفق عليها وقال:
-إنتي مش في وعيك، مافيش حاجة من أساسه!

واصلت هزه بعصبيةٍ وهي ترد بعقلٍ مغيب، وكأنها تُعايش بكامل جوارحها ما رسمه خيالها من أوهام مخادعة لتعزز من تلك الأكذوبة:
-وأنا مش هاستنى أما يحصل بينكم حاجة، هاروحلها البيت وأوقفها عند حدها الصايعة خراب البيوت!
وضع "تميم" كلتا يديه على قبضتيها المتشنجتين، أبعدهما عن ياقته وحذرها بنبرته الخشنة، ودون أن يرف له جفن:
-فوقي يا "خلود"، مش هاتبقي إنتي وأخوكي هتشبكوا معاهم
اشتعلت الحمرة الحانقة في عينيها، وصرخت به تسأله:
-إنت بتحبني صح؟ رد عليا!

لم يجد من الكلمات ما يجيب به عليها ليعبر لها عن مشاعره الحالية نحوها بعد إساءتها غير المقبولة، تركها واتجه إلى الدولاب ليفتح الضلفة ويخرج منها سترة ثقيلة يرتديها على زيه الرياضي، في حين أكملت صياحها بنبرة بدت غريبة وكأنها تتسول عواطفه:
-إنت اتجوزتني عشان بتحبني أنا لوحدي، ومافيش واحدة غيري تملى عينك، أنا وبس اللي في حياتك، صح؟ قولي كده، إنت بتحبني؟
تنهد قائلاً في يأسٍ من حالها البائس:
-تصبحي على خير يا "خلود".

اعترضت طريقه ووضعت يديها على صدره تدفعه في عنفٍ للخلف، ركزت نظراته عليه متسائلة بحنقٍ:
-إنت رايح فين؟ عندها صح؟
فاض به الكيل من اتهاماتها، وصاح رافضًا ما تقوله:
-إنتي مجنونة؟ سامعة نفسك؟
لكزته في كتفه وهي تتابع صراخها المهتاج:
-رد عليا، إنت رايحلها السعادي، إنت سايبني ورايح عندها؟!

قال بجمودٍ وهو يزيحها عن طريقه حتى لا يفرغ بها شحنة غضبه التي يعجز عن مقاومتها حاليًا بعد أن بلغت أقصاها:
-ريحي نفسك، أنا هبات في الشارع!
عاجلته في خطواته السريعة لتلحق به متابعة صياحها الآمر:
-ماتمشيش يا "تميم"، استنى هنا.
توقف عن التحرك ليستدير نحوها، ثم رفع سبابته أمام وجهها قائلاً بتحذير:
-أما تحطي مخك في راسك وتوزني الأمور بالعقل نبقى نتكلم، لكن مش هاخد وأدي معاكي في حالتك دي!

اندفعت نحوه لتلتصق به، طوقت عنقه بذراعيها وتعلقت به، ثم هتفت تتوسله:
-ماتسبنيش يا "تميم"، خليك هنا، أنا بأحبك، متروحش عندها وتبعد عني!
أحكم قبضتيه على رسغيها وأبعدهما عنه ليقول كمن يبدو عليه النفور:
-سلام.

وبضيق غير قابل للوصف خرج "تميم" من المنزل صافقًا الباب خلفه، وذلك الإحساس المؤلم القابض للصدر يكاد يفتك بقلبه، لا يعلم إن كانت مشاعره تتضمن إشفاقًا على حال زوجته، أم تحمل أيضًا في طياتها تعاطفًا مع تلك التي نالت دون ذنبٍ نصيبها من الكراهية العمياء.

ارتمت "خلود" على الباب الخشبي تضربه بقبضتها في حرقةٍ، بكت كما لم تبكِ من قبل قهرًا على رحيله المفاجئ، شعرت وكأن هناك حاجزًا قد ظهر من العدم فجأة ليفصل بينها وبين زوجها، لامت نفسها بألمٍ وحسرة:
-أنا هببت إيه بس؟!

لطمت على خديها في لوعةٍ لعدة مرات حتى التهبت بشرتها من فرط عصبيتها، شل تفكيرها فلم تعد ترى أي منطقية فيما تفعله، بل وحجبت غيرتها أي بادرة للتفكير المتزن، ببساطة أحالت حياتها إلى الجحيم، ودون وعيٍ منها لجأت إلى مساعدة والدتها، أمسكت بهاتفها المحمول، وضغطت بعينين تكاد لا ترى بهما شيئًا من سحب الدموع الكثيفة التي ملأتهما على زر الاتصال بها، هتفت بصوتٍ مبحوحٍ لاهث لكنه هادر، وكأنه يأتي بصراخه الناري من قعر جهنم:
-ألوو! أيوه يامه، الحقيني .. أنا في مصيبة!

أربكها تلاحق الأحداث في الساعات الماضية وشوش تفكيرها عنه، تصارعت أفكارها وتخبطت، كان يُقاتل من أجل كلمة واحدة يعبر فيها لها عن ندمه، ومع ذلك رفضت الإصغاء إليه، وجلست تنتظر عودة توأمتها لتخبرها بمجيء "هيثم" غير المتوقع، لكنها تفاجأت بها تُعلمها ببقائه بالأسفل ليستعطفها أولاً قبل أن يخرج عن شعوره ويؤذي نفسه بشكلٍ بشع، استغرقت "همسة" في أفكارها محاولة الوصول لقرار محايد يريح ضميرها بشأنه، وكان الاقتراح المناسب الذي انتهى إليه عقلها هو لقاء خارجي معه في مكان عام بحضور طرفي العائلة كفرصة أخيرة للاستماع إليه .. سألتها "فيروزة" بجدية بعد أن أطلعتها على رغبتها:
-إنتي متأكدة؟

جاوبتها موضحة أسبابها بهدوء:
-أيوه، مش عاوزة أظلمه، جايز ندم فعلاً، وأنا هاتكلم معاه وبس، هاشوف عاوز مني إيه، وإيه اللي ممكن يعمله عشان يثبتلي إنه اتغير.
أكدت عليها شقيقتها:
-"همسة" عاوزاكي تفهمي إنه مهما عمل فده مش مبرر يخليكي ترجعيله تاني.
ردت عن اقتناعٍ، وتلك البسمة الباهتة تُزين ثغرها:
-أنا عارفة ده كويس، أنا حابة ضميري يكون مرتاح من ناحيته.

وبالرغم من امتعاض "فيروزة" من قرارها إلا أنها علقت عليها مظهرة دعمها لها:
-تمام، هاكلم الحاج قريبه بحيث يكون معانا، لأن خالك الصراحة مايضمنش.
مسحة من الرقة احتلت تعبيراتها وشفتيها وهي تقول مُرحبة:
-المناسب اعمليه.

تنهدت "آمنة" في حيرة وهي تتابع النقاش العقلاني بين ابنتيها، انسالت على صفحة وجهها مشاهد توسلات "هيثم" المقطعة لنياط القلوب، وإلى حد ما تعاطفت معه بسبب طيبتها المتأصلة فيها، ولهذا لم تعترض على رغبة ابنتها .. أجالت بنظراتها للسماء وتمتمت في تضرع:
-ربنا يهديلكم العاصي يا بناتي ويحفظكم ليا.

نظرة شاردة مليئة بالهموم والحزن دارت على تفاصيل المشبك الصغير وهو يتلاعب به بأصابعه في حركة متأنية حتى لا يسقطه قبل أن يضمه إلى راحته، ثم إذ به يفتح الدرج العلوي للكومود ويضعه في داخله إلى جوار منديل الرأس والمشبك الآخر اللذين وجدهما من قبل، ألقى نظرة أخيرة على ثلاثتهم قبل أن يعاود غلقه، استدار "تميم" برأسه للجانب حين سمع والدته تقول بابتسامتها المشرقة وهي تقلب بالمعلقة الكوب الذي تحمله في يدها:
-اشرب العناب ده يروق دمك.

تناوله منها قائلاً بامتنانٍ:
-شكرًا يامه.
جلس على طرف الفراش يرتشفه جرعة وراء الأخرى، وكأنه كان بحاجة ماسة إليه، أمعنت "ونيسة" النظر إليه، بدت ملامحه تعيسة بشكلٍ مقلق، لذا سألته بفضولها المهتم عله يفصح عما يجول في صدره:
-مقولتليش بردك إيه اللي حصل وخلاك تسيب فرشتك وحضن مراتك السعادي؟

ابتسم لها ليخفي ضيقه، وقال نافيًا:
-ولا حاجة، إنتي جيتي على بالي فقولت أعدي أطمن عليكي
كان فاشلاً في الكذب عليها، وظهر ذلك في طريقة هروبه من نظراتها الفاحصة له، وكأنه يخشى أن تكتشف ذلك، ومع هذا ألحت عليها بغريزتها التي تؤكد لها وجود ما يؤلمه:
-شكلك مخبي عليا حاجة، قولي يا ابني عشان ترتاح.

وضع الكوب على فمه ليتجرع ما فيه، كانت وسيلته المؤقتة للسكوت، ثم رد عليها متسائلاً باهتمامٍ مفتعل، قاصدًا بذلك التغطية على ما لا يريد الإفصاح عنه بحديث آخر:
-صحيح أخبار "هاجر" إيه؟ قربت تولد ولا لسه؟
تفقه ذهنها إلى ما يفعله، وردت تصارحه:
-بتحور عليا عشان ما تكلمش! ماشي يا "تميم" هاعديهالك، أختك بخير، ولسه هانشوف الزيارة الجاية الضاكتورة هتقولنا إيه.
تنهد معقبًا عليه وهو يسند الكوب الذي فرغ من شرب محتوياته على الكومود:
-ربنا يقومها بالسلامة، ويكرمها..

ثم نهض من جلسته متابعًا:
-يدوب ألحق أرجع البيت.
هبت واقفة من مكانها وتطلعت إليه في استغرابٍ قبل أن تسأله بصوتها المدهوش:
-إنت لحقت تيجي في إيه وتمشي في إيه؟!
لم يخلو وجهه من ابتسامته الفاترة حين أجابها:
-ما أنا قولتلك أنا جاي أشوفك يا ست الكل..

غلف نبرته قليل من الألم المعاتب جاهد لإخفائه وهو يواصل القول:
-وبعدين ماينفعش أتأخر على "خلود"، مابترضاش تتعشى من غيري.
تأملته بعينين تتحركان في قلقٍ، ونطقت عما يراودها من أحاسيس:
-والله قلبي بيقولي في حاجة حصلت، وإنت مداري عليا.

انحنى "تميم" ليقبل رأس والدته، ثم ربت على كتفها برفقٍ موصيًا إياها:
-خدي بالك من صحتك، سلام يامه
تبعته في حيرةٍ إلى أن أوصلته للخارج وقلبها قلق على أحواله، ودعته بأدعيتها التي لا يتوقف لسانها اللاهج عن الدعاء له بها، ثم عادت إلى غرفتها ووضعت يدها على أسفل فكها تُحادث نفسها بنبرة عازمة:
-بكرة أكلم البت "خلود" أفهم منها في إيه!

جاب مطولاً بسيارته الشوارع الخالية والمزدحمة آملاً أن تخف وطأة ذلك الحزن الغامض الذي ملأ قلبه، في النهاية لم يكن هناك مفرٌ من العودة إليها .. وإن كانت غاضبة منه فلها أسبابه التي وجب عليه أن يتفهمها، هي تعشقه بجنونٍ وإخلاص، لم ينتقص شغفها أبدًا بالرغم من جفاء مشاعره، انتظرته لسنوات كما لم تفعل غيرها ممن يتخلين في أول فرصة تتاح لهن عن أزواجهن إن وضعوا بالحبس، تفعل كل ما في وسعها لإسعاده..،

تتلهف لتزيح آلامه، لما لا يعفو لها إساءتها وهي ضحية حبها المتيم به؟ أعاد ما اتهمته به في عقله مرارًا وتكرارًا ليدرك أنه الوحيد المخطئ في الأمر، حين منح جزءًا من تفكيره لغيرها والتهى عنها، وكأنه بذلك يخونها ضمنيًا، زوجته بكل ما تبذله من جهد لنيل محبة متبادلة بينهما تروي بها عطشها إليه لا تستحق تجاهله.. لن يكون من الإنصاف أو العدل ازدراء عواطفها الوالهة!

قرر "تميم" أن يتغاضى عما بدر منها الليلة من تجاوزات وإساءات تقديرًا لمشاعرها المخلصة له، سيحتوي غضبها ويعوضها عن ألم قلبها وإن كان ذلك على حساب نفسه، أوشكت تلك الرسائل المزعجة والاتصالات المتكررة من والدتها أن تفسد ما خطط له، أرغم نفسه ألا يلتفت إليها حتى لا يزداد شعوره بالكدر، دس المفتاح في قفله وفتح الباب ليجد "خلود" متكورة على نفسها على أقرب أريكة للمدخل، تضم ركبتيها إلى صدرها وتحاوطهما بذراعيها، نظر لها مليًا قبل أن يبادر قائلاً بتنهيدة بطيئة:
-سلامو عليكم.

لم تصدق أذنيها حين سمعت صوته يجلجل بالمنزل، رفعت عينيها المتورمتين إليه تنظر له بصدمةٍ، وكأنها استبعدت أمر عودته، قالت بنبرة أقرب للبكاءِ، وبقلبٍ خافق وصدر متهدج:
-حبيبي إنت رجعت، حقك عليا.
احتضنته وشددت من ضمها له لتلتصق أكثر به، ثم استكانت في أحضانه ومرغت رأسها في صدره لتتابع بندمٍ:
-أنا غلطانة، متزعلش مني.

جرفها طوفان الغيرة الحارق إلى مناطق مظلمة أجبرتها على استباحة أي شيء من أجل الإبقاء عليه، حاولت أن تستميل قلبه نحوها، واعتذرت:
-أنا أسفة يا حبيبي، بس صدقني ده كان غصب عني، لما شوفت الدبوس ده في جيبك مخي طار ومابقتش في وعيي.
رد بهدوءٍ متفهم:
-أنا مقدر ده.
شبت على قدميها لتلتقم شفتيه ومنحته قبلة طويلة حبست فيها أنفاسهما قبل أن تبتعد عنه وتهمس لاهثة:
-أنا بأحبك أوي.

رسم بسمة صغيرة على وجهه، وقال بصوته الهادئ وهو يمسك بيدها:
-تعالي معايا يا "خلود"، هانتكلم في أوضتنا، مش عاوزين نعمل دوشة، ماتنسيش أخوكي نايم هنا
ردت وهي تهز رأسها بخنوعٍ:
-حاضر يا حبيبي، كل اللي إنت عاوزه هاعمله.

خللت أناملها بين أصابعه لتشبك يديهما معًا، وأحنت رأسها على جانب ذراعه لتنام على كتفه، وتعلقت بيدها الأخرى في ذراعه ليظن من يتطلع إليهما أنهما عاشقين..
ولج الاثنان إلى الغرفة، وشرارات الحب تنطلق من عيني "خلود"، لم تترك زوجها وهو يغلق الباب، ظلت متشبثة به تأبى الابتعاد عنه، وكأنها ترتعد من فكرة رحيله، بصعوبة جعلها تتخلى عن الالتصاق به لتتمكن من الجلوس بجواره على حافة الفراش.. أمسك بكلتا راحتيها بيديه، وداعب جلدهما بإبهاميه، ثم نظر لها مليًا وبصمتٍ للحظات قبل أن يقطع حاجز السكون متسائلاً:
-فاكرة أول كلام قولتهولك إيه؟

هزت رأسها تجيبه بتنهيدة لاهثة:
-أيوه.
سألها بغموضٍ ليبدو كمن يمتحن ذاكرتها:
-كان إيه؟
تخبطت لوهلة في أفكارها وقد عقدت حاجبيها معًا، ابتلعت ريقها وأجابته بتلعثمٍ محاولة خلق جملة مفيدة:
-إننا .. نكون الأمان لبعض وإنك وعدتني هتراعي ربنا فيا وتعاملني كويس و...
حرك رأسه متقبلاً إجابتها وهو يعقب عليها:
-ده مظبوط...

لكن نبرته كانت متشنجة نسبيًا رغم هدوئها عندما تابع:
-بس مكانش أول حاجة طلبتها منك!
أصابها التجهم المصحوب بالتوترٍ وشعرت بتقلصات مزعجة تعتصر معدتها، لعقت شفتيها وسألته في عصبيةٍ وهي تحاول سحب كفيها:
-إنت بتختبر حبي ليك يا "تميم" ولا إيه؟
ظلت قابضًا عليهما وهو يرد بالنفي:
-لأ يا "خلود"، مافيش امتحان ولا غيره!

نظرت له في حيرة، فأكمل بما يشبه العتاب، وذلك الألم يحاول التسلل إلى عينيه:
-بس أنا طلبت منك لو في بينا مشاكل أو حتى خلاف صغير محدش يعرفه، مظبوط؟
ارتبكت وعلقت عليه:
-أيوه..

ترك يديها، وأخرج من جيبه هاتفه المحمول، ثم رفعه أمام وجهها لتنظر إلى شاشته التي امتلأت بعشرات المكالمات الفائتة من والدتها، لم تكن بحاجة لتفسير ما يُلمح إليه، وهتفت مبررة كذبًا وقد انتفضت واقفة:
-دي أمي اتصلت بالصدفة تسأل على "هيثم" وعرفت من صوتي إني كنت بأعيط وفضلت ورايا لحد ما قولتلها.
وضع يده على ذراعها وجذبها منه برفقٍ لتجلس إلى جواره مجددًا وهو يرد باقتضابٍ:
-تمام..

جمدت نظراتها عليه، وسألته بصوتٍ قاتلت ليبدو مختنقًا باكيًا:
-إنت زعلان من اللي عملته صح؟ صدقني ده كان غصب عني؟ دي أول مرة أصلاً أقولها حاجة، وبعدين أنا كنت هاتجنن لما لاقيت الدبوس ده ومعرفتش أتصرف إزاي!
رد بتنهيدة بطيئة دون أن يظهر ضيقه من كذبها الواضح كالشمس في كبد السماء:
-ماشي يا "خلود"، حصل خير، وعرفي أمك إن المشكلة اتحلت.
ضاقت نظراتها متسائلة بتوجسٍ:
-يعني عاوز تفهمني إنك مش مضايقك مني؟!

أجابها ببساطة:
-هايفرق في إيه؟ ما إنتي خلاص حكيتلها...
شعرت بالندم لتسرعها في اللجوء لوالدتها، لكن ماذا كانت تفعل وغيرتها تأكلها؟ أخرج "تميم" زفيرًا بطيئًا من صدره، وطلب منها بما يحمل الرجاء:
-بس مش عاوز الموضوع يكبر، خليه بينا..

تلك الغصة المؤلمة التي تكونت في حلقها ضاعفت من إحساسها بالذنب وهي التي أساءت له في غيابه وتحاملت عليه مع والدتها لتظهر بمظهر الضحية، وتضعه في قالب الزوج اللعوب، لم تتحمل ذلك الشعور المهلك، فبادرت تهاجمه لتقتل ما يراودها من أحاسيس معاتبة:
-يا "تميم" إنت مش مقدر حبي ليك، أنا استنيتك كتير أوي، مش يوم ولا اتنين، دول 7 سنين .. حلمت بحياتي اللي جاية كلها معاك، ده.. أنا مافيش راجل دخل في حياتي بعد أخويا إلا إنت، محبتش غيرك، قدر مشاعري ناحيتك!

تلمس جانب عنقها بكفه وداعب جلده بإصبعه ليخفف من غضبها، ورد مبتسمًا:
-أنا مقدر ده كله، وعارف إنك ضحيتي عشاني، ويعلم ربنا إني بأحاول أرضيكي.
اقشعر بدنها من لمساته الحنون، وهمست بصوتٍ مضطرب خجل كانت واثقة أنه سيؤثر به:
-أنا مش عاوزة رضا منك، أنا عاوزاك تحبني زيي وأكتر، عاوزاك تبقى ليا لوحدي وبس..

أغمض عينيه للحظة مقاومًا ما يتخلل وجدانه من ضيق وتخبط، ثم فتحهما ليرد راجيًا:
-لو تديني وقتي عشان افهمك ه...
قاطعته وهي ترتمي في أحضانه:
-أنا بأحبك ومش شايفة حد تاني غيرك، هاموت لو بعدت عني.

لم يكن لدى "تميم" أي اختيار أمام اعترافات قلبها المخضب بحبه إلا ضمها إليه، أراد منها فقط أن تستوعب تفكيره، أن تعطيه الفرصة لمبادلتها نفس المشاعر الصادقة دون مبالغة أو خداع، أن يمنحها ما يمليه عليه قلبه ووجدانه دون استجداءٍ منها قبل عقله وإرادته، كان يشعر بالضيق الشديد حين يدعي عكس ما يشعر به نحوها، ما زال يقف عند منطقة المشاعر المبهمة ناحيتها، ومع ذلك قرر أن يفعل المستحيل للشعور بها، تنفس بعمقٍ مرة أخرى قبل أن يستطرد ممازحًا بلطافةٍ:
-كفاية كده جرعة نكد، أنا خدت كفايتي النهاردة، ممكن نكمل بكرة؟

رفعت رأسها لتتطلع إليه بعينين ناعستين وهي تلح عليه:
-اوعدني إنك مش هاتسيبني أبدًا.
أسبل عينيه مداعبًا إياها بكلماته الطريفة:
-وأنا هاروح منك فين إلا لو ربنا خدني!
رددت مستعيذة بقلب منقبض:
-بعد الشر عنك يا حبيبي، إن شاءالله اللي يكرهوك.
سألها بوجه لا يعلم إن كانت لاحظت تعاسته الخفية أم لا:
-طيب ممكن نتعشى ولا هنام خفيف؟

عضت على شفتيها السفلى، واشرأبت بعنقها نحو أذنه لتهمس له بتنهيدة أرادت أن تصل فيها حرارة أنفاسها إلى جلده:
-عشا بس.. حاجة تانية لأ، يومين كده ونستأنف!
هز رأسه مبتسمًا وقد فطن لتلميحها المتواري، منحها قبلة صغيرة على شفتيها، وتابعها وهي تبتعد بنظراتٍ مهتمة إلى أن خرجت من الغرفة، أراح ظهره على الفراش وأسند يده خلف رأسه ليقول بنفسه بتثاؤب وذلك الإنهاك يسري في عضلاته:
-يكون أحسن برضوه، أنا حيلي مهدود... !

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة