قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث والثلاثون

فُرض عليها دون تكليف أن تكون الراعي -الذكوري- لأسرتها في غياب الأب المنوط بتلك المسئوليات الشاقة، تولت خلفًا للراحل هذا الثقل القاسم للأظهر دون شكوى أو كلل، كانت كدرع الحماية لأمها وتوأمتها، فكلتاهما تتشاركان في سمة ترفض أن تتصف هي بها؛ الخوف من المواجهة، تنفست "فيروزة" بعمقٍ وأعادت ترتيب أفكارها في رأسها لعشرات المرات حتى لا تنسى ما اتفقت عليه مع أختها قبل بضعة أيام..،

أرادت أن تكون الأمور واضحة منذ البداية حتى لا يُساء فهمها، أو يظن الطرف الآخر أنها تنازلت عن حقها وفرطت في كرامتها، جابت بنظراتٍ متفحصة الواقفين عند الدكان، لم تجد بينهم الحاج "بدير"، وقفت حائرة تفكر فيما ستفعله، رغبت في الحديث معه هو فقط أولاً ليكون شاهدًا على ما سيحدث لاحقًا، تشجعت وقررت السؤال عنه، وبخطى ثابتة تقدمت نحو مدخل الدكان متسائلة بصوتٍ تعمدت أن يكون قويًا:
-سلامو عليكم.

تصلب جسده، وإن كان لا ينظر نحوها، بمجرد أن رنت نبرتها المميزة في أذنيه، لا يعرف ما الذي ينتاب كيانه حين تطل عليه بغتةً، وكأن تيارًا كهربيًا قوي الشحنة يسري في أوصاله، تشبث "تميم" بكلتا يديه بالقفص الذي يحمله رافضًا الاستدارة ناحيتها، بينما دنت هي منه لتناديه:
-يا معلم.. "تميم" .. صح؟

لعبت على أعصابه بتلفظ اسمه لا إراديًا، شعر بتلك الرعشة تجتاحه، أليس من الغريب أن يكون لوقع صوتها فقط كل هذا التأثير المهلك عليه؟ وبمجهودٍ ذهنيٍ خارق التفت برأسه نحوها مقاومًا رغبة عينيه في تأمل وجهها، بلع ريقه وتساءل بصوتٍ مال للخشونة:
-خير.. في حاجة؟

سألته بوجهٍ شبه عابس، ونظرات ضيقة:
-الحاج "بدير" فين؟
أجابها وهو ينظر في أي شيء إلا عينيها:
-في مشوار وجاي.
ضغطت على شفتيها وكأنها تبتسم بصعوبة لتضيف بعدها:
-طب أنا هستناه.

أحس بخفقة موترة تداعب قلبه وتغازل مشاعره غير المفهومة نحوها، حبس أنفاسه وقد خانته عيناه وتركزتا مع ملامحها الحادة، تنفس الصعداء حين استدارت وبحثت عن مقعد شاغر لتجلس عليه حتى لا ترى تلك الربكة الظاهرة على محياه، اتجه إلى الخلف وهو لا يزال حاملاً القفص بيديه، ثم نادى على أحد عماله ليأمره بصوت خفيض لكنه صارم:
-هات حاجة ساقعة للأبلة، دي مستنية الحاج "بدير"، وخليك قريب منها عشان لو عازت حاجة.

رد وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا معلم.
نظرة أخيرة من الخلف ألقاها "تميم" عليها، عاد هاجسه المعاتب ليؤنب ضميره من جديد، كيف يولي الاهتمام لغير زوجته؟ لم يطقه مطلقًا، ولهذا ترك عمله هاربًا من الدكان حتى لا يظل محاصرًا في ذلك التخبط المُربك والذي على ما يبدو بات غير محتملٍ بالنسبة له.

معاملة جيدة تلقتها "فيروزة" من قبل الحاج "بدير" الذي لم يدخر وسعه لإرضائها بغض النظر عن سبب زيارتها له بمجرد أن عاد إلى الدكان ووجدها به، أصر على تناولها للحلوى الطازجة المخبوزة في الفرن القريب مع كوبٍ من الشاي الساخن قبل أن يتطرقا إلى أي موضوع، شكرته على حسن ضيافته، واسترسلت قائلة بجدية:
-شوف يا حاج "بدير"، أنا جيتلك بعيد عن خالي عشان نتكلم بصراحة.

حرك براحته عكازه دون أن يزيحه من مكانه، ثم رد مبتسمًا وقد استقام في جلسته على كرسيه الخشبي:
-وأنا جاهز أسمعك يا بنتي.
تشجعت وقالت بتمهلٍ حتى لا تنسى ما تدربت عليه جيدًا:
-دلوقتي أختي معندهاش مانع تسمع لقريبك، هي مش هترجعله، بس هتديله فرصة تشوف إن كان اتغير فعلاً ولا لأ، وبعدها هتقرر إن كانت تكمل أوتسيبه.
هز رأسه في استحسانٍ معقبًا عليها:
-عين العقل.

تابعت بنفس اللهجة المتشجعة:
-كل المطلوب منك يا حاج إنك تكون أمين معانا وتراقبه، اعتبر "همسة" زي بنتك و...
قاطعها "بدير" مشيرًا بيده:
-من غير ما توصيني، لو الكلب ده ماتظبطش أنا مش هاقولك هاعمل فيه إيه، كفاية كسفة المرة اللي فاتت
ابتسمت تقول له في امتنانٍ:
-ده العشم برضوه.

واصل القول مؤكدًا:
-متقلقيش من حاجة، طالما أنا محشور في الموضوع فاطمني.
شعرت بالارتياح يغمرها من دعمه وتحفزت للمضي قدمًا في حديثها، لم تفتر ابتسامتها الرقيقة وهي تستطرد بتهذيبٍ:
-وهستأذنك تبلغه إننا هنتقابل بكرة في مطعم "..." هو عارفه!
رد ببساطة:
-حاضر، وأنا هاكون معاه عشان يعرف إن ليكم سند من طرفنا بردك ويعملي مليون حساب.

زاد إحساسها بالطمأنينة، وشكرته بتنهيدة حملت في خباياها آلمًا عميقًا:
-شكرًا على ذوقك يا حاج، يا ريت كان في حياتنا ناس زيك، كان هيفرق كتير معانا.
وكأنه استشعر ما يختلج صدرها من أحزان فتقوست شفتاه ببسمة ودودة وهو يخبرها بصدقٍ:
-دي إنتي بنتي، سواء بنسب أو من غيره.

اكتفت بتبادل الابتسام معه، ونهضت من على مقعدها مستأذنة، لم يُصر عليها وودعها بنفس الأسلوب المرحب المليء بالألفة .. لمحتها "خلود" وهي تنحرف عند الناصية فاتسعت حدقتاها في ارتعابٍ، تسمرت في مكانها للحظاتٍ لتتأكد أنها هي، شعرت بالحرقة تضرب أحشائها، كزت على أسنانها بقوة وهي تحاول السيطرة على التشوش الذي أصابها..،

كانت قد قررت الذهاب إلى الدكان لتفاجئ زوجها بعد خبزت له فطائر شهية لم تنسَ أن تدس له فيها مسحة ضئيلة من مسحوق الدواء لتشعل به الرغبة، لكن صدمتها لرؤيتها أفسدت نهارها وأصابتها بالكدر، اُضطرمت الغيرة الحاقدة في قلبها فأعمت بصيرتها، واندفعت بغضبٍ محمومٍ تصاعد في رأسها إلى مدخله، ثم تساءلت بأنفاس شبه لاهثة تعبر عن انفعالٍ واضح وهي تشير بيدها نحو الناصية التي اختفت عندها "فيروزة":
-البت أخت "همسة" كانت بتعمل إيه هنا يا عمي؟ هي متعودة تيجي على طول ولا إيه؟

ثم اشرأبت بعنقها للأعلى لتجول كالمذعورة بين أوجه المتواجدين داخل الدكان وهي تتابع في عجالةٍ:
-و"تميم" فين؟ كان معاها ولا آ... ؟!
قاطعها "بدير" بانزعاجٍ مستخدمًا يده الممسكة بالعكاز في التلويح لها:
-ابلعي ريقك يا "خلود"، مالك داخلة على الحامي كده ليه؟!
تنفست بعمقٍ لتحجم من أعصابها التي اهتزت وثارت وتوشك على فقدان السيطرة عليها، ضغطت على شفتيها قائلة له بصوتٍ بدا مضطربًا:
-مقصدش، بس غريبة إنها تيجي هنا؟ وبعدين فين "تميم"؟ أنا مش شيفاه!

أجابها بزفيرٍ مطول:
-عنده شغل بيخلصه من بدري برا الدكان.
وضعت "خلود" يدها على صدرها الناهج لتتحسس نبضات قلبها المتلاحقة قبل أن تنطق بتضرعٍ:
-الحمدلله.
حاولت أن تستعيد هدوئها، لكن ظل وسواسها الهوسي ينخر في عقلها ويزرع الشكوك في قلبها نحو "فيروزة"، لذا رسمت تلك الابتسامة الزائفة على وجهها وهي تتساءل بخبثٍ ونظراتها يغلفها ذلك الوميض الغامض علها تستدرجه فيخبرها بما يؤكد أو ينفي ما يدور بداخلها:
-على كده يا عمي البت دي كانت جاية في إيه؟

ودون وعيٍ منها أجابت مباشرة وعيناها تحتدان بشكلٍ مريب:
-ل "تميم"؟ مظبوط؟
رد "بدير" في استنكارٍ، وتلك النظرة المستهجنة تكسو وجهه:
-وهي مالها وماله؟! دي كانت جيالي أنا عشان موضوع أختها وأخوكي المفضوح.
عادت لتتنفس بأريحية بعد أن بددت هواجسها المزعومة، وقالت بتبرمٍ:
-مكانتش غلطة يا عمي، هو اتعلم خلاص الدرس من اللي حصل، مافيش داعي نكبره!

نظر لها بضيقٍ، وكأن ما فعله "هيثم" من تجاوزات لا أخلاقية يرضيها، لم يتوقع ردة الفعل الباردة منها، وأضاف على مضضٍ وبتعابيرٍ بدت منزعجة:
-طيب.. قوليله يعمل حسابه ي ... آ..
بتر عبارته عن قصدٍ لينهي الحوار معها مرددًا:
-ولا أقولك أنا اللي هاكلمه بنفسي، مالهاش لازمة نحشر الحريم!

نظرت له باستغرابٍ مستشعرة تبدل معاملته قليلاً، أدركت أنها أخطأت في التصرف بتبلدٍ أمامه، وحاولت تلطيف الأجواء معه، وقالت برقةٍ:
-ماشي يا عمي، الصح اعمله، ده إنت كبيرنا.
لم يكترث بتملقها الزائف، وتركها ليلج إلى الدكان، وقبل أن يلتهي بالأعمال سألها بعينين تنفذان إليها:
-إنتي كنتي جاية ليه؟
ارتبكت وأجابته وهي تشير للعلبة البلاستيكية التي تحملها في يدها:
-كنت.. جايبة ل "تميم" فطير أنا عملاه بإيدي و...

عاد إليها ليأخذ العلبة منها قائلاً بابتسامة متحمسة:
-رزق الرجالة اللي شقيانين من الصبح
انقبض قلبها بتوترٍ رهيب، وحاولت منعه مرددة باعتراضٍ:
-استنى يا عمي، ده أنا عملاه مخصوص ل "تميم" وآ...
هتف مقاطعًا بإصرارٍ:
-مالوش نصيب المرادي، ابقي اعملي غيره، اتوكلي على الله ولما جوزك يرجع هبلغك.

فغرت ثغرها في ذهولٍ وذاك القلق الكبير يعتريها، حتمًا ستحدث كارثة غير أخلاقية بين صفوف الرجال إن تناولوه، تابعته "خلود" بنظراتٍ مترقبة آملة ألا ينادي عليهم، لحسن حظها رن هاتفه المحمول فترك العلبة على مكتبه، استغلت فرصة انشغاله بالمكالمة وابتعاده عن المكتب الخشبي لتدلف للمكان خلسةً وعن عمدٍ أسقطت العلبة بعد أن نزعت غطائها ليتبعثر ما فيها ويتمخض بالتراب والأوساخ،

انسحبت متسللة كما جاءت وهي تبتسم لنفسها في انتشاءٍ بعد أن أنقذت الجميع من تأثير ذلك الدواء المنشط، كتمت ضحكاتها الهيسترية بصعوبة إلى أن سارت في اتجاه الناصية، حينئذ اقتحمت صورة "فيروزة" رأسها ومعها عشرات الأسئلة المتواترة، ماذا لو كان زوجها يلتقي بها في غفلة منها؟ أليس من المحتمل أنها تحاول استمالته لتوقعه في شباكها فيغرم بها؟ غامت نظراتها وغطى تعبيراتها وجومًا ممتعضًا، ثم قالت لنفسها بنبرة لا تبشر بخير:
-شكل رِجلك خدت على المكان وأنا نايمة على وداني في البيت! من هنا ورايح هحطك في دماغي، ما هو اللي يقرب من جوزي أنا أكله بسناني!

استغرقت في أفكارها السوداوية وقررت ألا تسأل زوجها عنها حتى لا يستريب في أمرها إلى أن تتأكد مما يدور في رأسها، لن تدعها لشأنها أبدًا، ستزيحها عن طريقه مهما كلفها الأمر، وإن تطلب ذلك استغلال ظروف أخيها لصالحها غير عابئة بتبعات تهورها، فليحترق مَنْ دونها من يحترق، وليمت كمدًا من يمس عشقها الأول والأخير.

تناولت القرص المسكن ليقتل تلك الآلام التي بدأت في مهاجمتها منذ ليلة أمس، ظنت أنها تعاني من مغصٍ ما، لكن حدة الوخزات لم تكن مُحتملة، ومع هذا تحاملت على نفسها لتخرج إلى تلك المقابلة الهامة التي سيتحدد عليها مصير علاقتها القادمة ب "هيثم"، لم تتكلف "همسة" في ثيابها، وارتدت ثوبًا مزركشًا أغلب ألوانه داكنة، ووضعت عليه سترة من خامة الجينز الثقيلة لتمنحها الدفء، حتى أنها وضعت القليل من مساحيق التجميل لتعطيها لمحة هادئة .. اقتربت منها "فيروزة" وسألتها:
-ها جهزتي يا "هموس"؟

أجابتها وهي تخفي إحساسها بالألم:
-مش ناقص غير أتسرح، وأعمل شعري ديل حصان وأبقى تمام.
حركت رأسها تثني على جمالها الطبيعي:
-من غير حاجة إنتي زي القمر.
اكتفت بالابتسام لها، وتحسست جانبها الأيمن وهي بالكاد تفتح عينيها، تأملتها "فيروزة" في اندهاشٍ وسألتها:
-إنت كويسة؟
فتحت جفنيها، وأجابت مدعية الابتسام:
-يعني جمبي واجعني شوية، بس دلوقتي يروق.

بادرت توأمتها مقترحة عليها:
-لو حاسة إنك تعبانة مش مهم نروح، هاكلم الحاج "بدير" وأعتذرله وآ...
ردت مقاطعة بعنادٍ:
-لأ أنا تمام، احنا أصلاً مش هنطول، هاقول الكلمتين اللي عندي وأمشي
نفخت معقبة عليها على مضضٍ:
-اللي يريحك
أبعدت "همسة" يدها عن جانبها وبحثت عن العطر لتنثر القليل منه على ثيابها، جاهدت لتبدو طبيعية حتى لا تُشعر أسرتها بالقلق، خاصة "فيروزة" التي تبحث عن أي حجة لإلغاء اللقاء.

بوَجْدٍ وشغفٍ لا يستطيع وصفهما كان "هيثم" جالسًا في المقعد المقابل لها على المائدة الثنائية التي جمعتهما، لم يبعد أنظاره عن تأمل وجهها المتقلص قليلاً أو عن عينيها الخجلتان، غمرته حماسة عظيمة أعادت له بسمته المفقودة، كما أنها انتشلته من قاع بؤسه لترفعه إلى عنان السماء حين أُخبر بموافقتها على الالتقاء به، كان كمن بُعث من الموت .. تلبك، واضطرب، وضلت الكلمات الطريق على شفتيه، استجمع نفسه وبادر يقول بربكة عظيمة:
-أنا مش عارف أقولك إيه، أنا أصلاً مش على بعضي، ومش مصدق إنك قصادي.

عضت "همسة" على شفتها السفلى محاولة كتم تأويهة متألمة تريد الخروج لتصرخ بألمها الذي تضاعف، سحبت نفسًا عميقًا وقالت:
-يا ريت تكون اتغيرت فعلاً.
هتف يوعدها دون ترددٍ:
-اقسم بالله ما هيحصل تاني، المدعوق ده أنا توبت عنه، وربك شاهد عليا!
قالت في رضا وهي تومئ برأسها:
-تمام، عشان صحتك مش عشاني
نظر في عينيها مباشرة، وسألها بابتسامة متسعة:
-إنتي خايفة عليا؟

تورد وجهها من جملته الصريحة، وأجابت بحيادية وهي تتحاشى النظر نحوه:
-احم.. يعني طبيعي الواحد يحافظ على نفسه.
قال عن اقتناعٍ مزج فيه بين الجدية والدعابة:
-معاكي حق، وخصوصًا لما نكون داخلين على جواز.
شعرت بالحرج من تلميحاته المتوارية، وصححت له:
-على فكرة أنا موافقتش أرجعلك لسه، كل الحكاية إني هاديك فرصة تانية!

رفع كفيه معلقًا عليها بحبورٍ:
-وماله، أي حاجة منك ترضيني.
ثم دس يده في جيبه ليخرج ميدالية صغيرة مطلية باللون الفضي، قدمها إليها قائلاً بتهذيبٍ:
-اتفضلي
قطبت جبينها متسائلة دون أن تلمسها:
-ايه ده؟
أجاب ببساطةٍ:
-ميدالية بحرف ال H
التوت زاوية فمها بابتسامة متعجبة، وأضافت:
-ما أنا عارفة، ودي بمناسبة إليه؟

وضعها على الطاولة أمامها ثم دفعها برفقٍ للأمام لتغدو قريبة من يدها المسنودة على الطرف الآخر، وتابع من تلقاء نفسه:
-أصل أنا خدت بالي إننا عندنا نفس الحرف، فقولت أجيب حاجة ليكي تنفعك، وفي نفس الوقت تفكرك بيا.
نظرت له في اندهاشٍ، لم يأتِ ببالها أنه سيدرك تشابه الحرف الأول لاسميهما، بدا الأمر مستبعدًا عن تفكيرها لسبب وجيه، معظم الشباب واقعي غير حالم كالفتيات .. لاحظ "هيثم" ترددها، فقال برجاءٍ يحمل قدرًا من المزاح حتى لا ترفض هديته المتواضعة:
-بالله ما ترفضيها، دي مش غالية، ب 10 جنية بس!

علقت ساخرة:
-أدفعهوملك يعني؟
اتسعت ابتسامته الطريفة حتى ظهرت نواجذه، وقال في حبورٍ:
-لأ.. اعتبريني محوشهم معاكي.

على الجانب الآخر من المطعم، ضمت طاولة كبيرة أفراد العائلتين .. لم يكن ليحدث ذلك اللقاء دون حضور قطبيه "بدير"، و"خليل"، وبالطبع جاءت "حمدية" مع زوجها لتشبع فضولها الجائع وتقف على رؤوس الأشهاد، وكذلك آتت "بثينة" مع ابنتها "خلود" ليكونا في قلب تطورات الأحداث، وإن كانت الأخيرة تحتفظ لنفسها بمخططاتٍ أخرى شريرة لم تفصح عنها بعد، حتمًا إن نفذتها ستنهي خطبة أخيها قبل أن تبدأ،

لكنها ستضمن سطوتها المطلقة على من أسلمت له قلبها، أما عن "تميم" فلم يحبذ التواجد بأي حال في مكانٍ يجمعه مع "فيروزة" حتى لا يخلق المشاكل من العدم بناءً على ما اختبره من وساوس زوجته في تلك الليلة العصيبة، اختفى عن الساحة نأيًا بنفسه عن أي التزامات قد تضعه في مواجهة غير محمودة مع كلتيهما إن حدث ما يخشاه، وأخيرًا وليس آخرًا استقرت في مقعدٍ شبه منزوٍ "آمنة" وإلى جوارها ابنتها الأخرى.

لم تتوقف "خلود" عن التطلع إلى من نصبتها عدوتها، ارتكزت عيناها عليها منذ أن وطأت المطعم، رمقتها بنظراتٍ حانقة كارهة لها، كذلك نمت لديها مشاعر الحقد نحوها بشكل مبالغ فيه، فكرت في احتقارها لتروي رغبتها الانتقامية التي تتعطش للفتك بها، وفي نفس التوقيت تحصل على ما يلزمها من معلومات تخص طبيعة علاقتها بزوجها، لذا قالت كتمهيدٍ مدروسٍ بما يشبه فحيح الأفعى بعد أن انتقلت من مقعدها لتجلس إلى جوارها:
-أقولك على حاجة وما تزعليش مني.

ردت "فيروزة" ببرودٍ وقد انتبهت لها:
-إنتي بتكلميني؟
علقت بنوعٍ من الاحتقار، وتلك النظرة الدونية تعلو عينيها:
-محدش عمره هيبصلك وإنتي كده!
رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى بعد أن اعتدلت في جلستها، وقالت بتحفزٍ ظاهر عليها:
-مش فهماكي؟!
تصنعت الدلال، وقالت بغنجٍ هامس:
-الرجالة بتحب البنات المدلعين، اللي زيي كده، أو حتى أختك، لكن المسترجلة اللي عاملة فيها دكر لأ!

اعتبرتها "فيروزة" إهانة مباشرة موجهة لشخصها، خاصة وضحكات "خلود" الكتومة توحي بأنها المنشودة، لذا بكرامةٍ واستعلاء ردت تهاجمها:
-أفندم؟ الكلام ده ليا؟
هزت رأسها مؤكدة:
-أيوه.
هتفت "فيروزة" في تهكمٍ:
-ده باعتبار إنك شايفة الشنب طاير على وشي مثلاً؟
وبتأفف منفر منعكس عليها، أضافت "خلود":
-أنا عن نفسي بأحاول أبلعك بس بصراحة إنتي مش نزلالي من زور
ردت ساخرة منها:
-ابقي اشربي بيبسي جايز أهضم معاكي!

عمدت إلى اللعب بالنيران لتستفزها، فاستطردت مجددًا بقسوةٍ:
-أنا بأقولك الحقيقة ومن غير زعل، يمكن أنا حاولت أتقبلك.
احتقنت دمائها من تطاولها الصريح، وردت بوقاحةٍ:
-وأنا المفروض أضايق وكده؟

أرادت "خلود" استيضاح نواياها المخبأة، فلجأت للتلميح الكاذب على لسان زوجها علها تكشف أمرها، لذا مالت نحوها لتقول بهمسٍ وقلبها يدق في توترٍ:
-أصل جوزي كمان من الآخر مابيطقكيش خالص، ومرضاش يجي النهاردة بسببك مع إني استرجيته وعمي الحاج غلب يضغط عليه، بس هو كان مصمم، يعني ما تأخذنيش في صراحتي معاكي، بس عشان ما تضايقيش لما يشوفك ومايعبركيش!

ثم تراجعت برأسها للخلف لتنظر بتمعنٍ مترقب لردة فعلها، شعرت بنشوة كبيرة تنتابها وقد رأت علامات الغيظ جلية على قسماتها، أصبحت شبه متأكدة من نجاحها في إيجاد ذلك العداء الوهمي بينهما، ابتسمت بانتشاءٍ لتزيد من استفزازها لها، وبكل حقدٍ علقت "فيروزة عليها:
-ده الحال من بعضه يا مرات المعلم الكبير!

ردت جملتها الأخيرة وقد انتفضت واقفة، رأت تلك النظرة المتغطرسة تتراقص في حدقتيها، شعرت بالغل وقررت أن تناطحها في الرد لاستحقاقها ذلك، لذا رمقتها بنظرات احتقارية تليق بها قبل أن تقول بوجهٍ ممتقع وبما يشبه التهكم المحتقر قاصدة التلكؤ في كل كلمة تتلفظ بها لتشعرها بمدى دونيها ووضاعتها بالمقارنة بها:
-تعرفي! يا زين ما .. فتوة الحتة نقى واختار عشان يتجوز! ده مش حسد على فكرة!

تطلعت إليها "خلود" بفمٍ مفتوح والبلاهة تظهر على تعبيراتها وهي تحاول فهم مغزى كلماتها، فتابعت "فيروزة" بابتسامة مزهوة وهي تشير بسبابتها إليها، وكأنها بذلك تحتفل مقدمًا بانتصارها عليها في تلك الجولة الكلامية:
-بس فعلاً إنتو Couple (ثنائي) غريب، ورغم كده لايقين على بعض! بصراحة صعب حد يجمع التوليفة دي سوا؛ زوجة غلاوية دمها سخيف ويلطش، وزوج منفسن من واحدة مايعرفهاش، بس إنتو أبهرتونا! وده مستواكم... !

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة