قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الثالث عشر

بخطواتٍ متهادية بطيئة وحذرة اتجهت "هاجر" إلى الأريكة لتستلقي عليها وقد بدا بطنها المنتفخ متدليًا بشكلٍ لافت للأنظار، وضعت صحن الفاكهة الذي قطعت ثماره إلى قطعٍ صغيرة في حجرها، وبدأت في تناوله واحدة تلو الأخرى، شعرت بعدم الراحة لجلوسها هكذا وساقيها تتدلى، لذا ثنيت ساقها اليسرى ووضعتها أسفل منها، وتطلعت إلى والدتها بنظرات عادية قبل أن تقول لها بلومٍ وفمها ممتلئ بالفاكهة التي تلوكها:
-إنتي غلطانة في الحكاية دي يامه، كان لازم تبلغوا البوليس!

زمت "ونيسة" شفتيها قائلة في حيرة وضاربة بظهر كفها على الآخر:
-وأنا كنت هاعمل إيه وأبوكي مصمم على اللي في دماغه؟!
قالت وبقايا الطعام تتناثر من جوفها:
-كنتي تقوليلنا واحنا نتصرف.
بدت أمها كما لو لسعتها حية فانتفضت بجزعٍ تقول:
-إنتي عاوزاه يغضب عليا؟
ثم التقطت أنفاسها لتهدئ من حالتها المرتاعة لتضيف في ندم:
-بقى دي جزاتي إني حكيتلك؟
-لأ يامه، بس احنا خايفين عليكي.

ردت بصوتٍ متهدج متذكرة إحساسها الشديد بالارتعاب لمعايشة تلك الذكرى من جديد، حتى وإن كانت متجسدة في مخيلتها:
-متفكرنيش يا "هاجر"، ده أنا حالتي كانت حالة، ولسه وحياتك لحد دلوقتي!
تجشأ "محرز" بصوت مزعج بعد أن انتهى من تجرع زجاجة المشروب الغازي على دفعتين وهو يستدير في اتجاه حماته ليعلق بسخافةٍ، وكأن الأمر يعنيه حقًا:
-يا حاجة كده احنا ادينا الحرامي ده فرصة يعلم علينا، والكلام لو اتنتور واتعرف في الحتة شكلنا مش هايبقى حلو.

أدارت رأسها في اتجاهه لترد عليه:
-عمك الحاج هيتصرف
استطرد متسائلاً وهو ينظف ما بين أسنانه بظافر إصبعه الصغير:
-و"تميم" يعرف على كده؟
اتسعت عيناها تحذره بلهجةٍ جادة:
-بالله عليك ما تقوله يا "محرز"! احنا مش عاوزين نعكنن عليه وهو لسه عريس جديد بيشم نفسه مع مراته، مش هايبقى محطوط في مشاكل من أولها!
رد على مضضٍ:
-ما هو هيضايق لما يسمع من برا، ويجي يعتب علينا!

قالت مؤكدة عليه في نبرة أقرب للرجاء حتى لا يتسبب في إحداث مشكلة دون داعٍ:
-ما أنا قولتلك محدش يعرف، وإنت ماتقولوش خالص، ولا كأن في حاجة حصلت، ماشي يا ابني؟
بينما هتفت "هاجر" توصيه هي الأخرى ومدعمة لوالدتها في رغبتها:
-خلاص يا "محرز"، هما أدرى بمصلحتهم.
هز رأسه بإيماءة مستسلمة يقول لهما:
-ماشي يا حماتي، اللي يريحك.

نظرت له "ونيسة" في امتنانٍ بالرغم من القلق الذي اعتراها بعد أن أطلعتهما على ما حدث في المنزل من سرقةٍ قبل بضعة أيام، دعت الله في نفسها ألا يتفوه أحدهما ولو مصادفة بشيء ل "تميم" أو والده فتتعرض هي للتوبيخ، أشاحت بعينيها بعيدًا عن وجه "محرز" لتنظر إلى ابنتها متسائلة في اهتمامٍ:
-هننزل امتى نشتري حاجات النونو؟

أجابها بتنهيدة متعبة:
-يومين كده ولا حاجة يامه، أكون بس شديت حيلتي شوية.
حركت رأسها في تفهم، وابتسمت تدعو لها:
-على خيرة الله، ربنا معاكي ويقويكي، ويرزقك بساعة سهلة من عنده.

مسحت بمنديل ورقي اللوح الرخامي الممتد أمامها حتى تزيح أي بقايا لزجة عالقة به فور أن عبأت السندوتشات في الكيس الورقي لتكتمل مهمتها في تجهيز الطلب وإعداده للاستلام قبل أن ترفع رأسها وتنظر إلى ذاك الشخص المرابط أسفل نافذة العربة، دققت "فيروزة" النظر في ملامحه المألوفة، عرفته دون عناءٍ في التفكير، إنه العريس الذي دُعيت والدتها لحضور حفل زيجته منذ أيام، وبابتسامةٍ روتينية بحتة سألته:
-أيوه .. أؤمر حضرتك، إيه طلباتك؟!

انتصب "تميم" في وقفته الرجولية المهيبة يجوب بنظراته شكل العربة من داخلها وخارجها وكأنه مفتش من الصحة يبحث عن النواقص والعيوب قبل أن يكتب تقريره النهائي، تأملته "همسة" في خوفٍ مبرر، فسكوته ونظراته المريبة تؤكد لها وجود خطب ما، ناهيك عن معرفتها الجيدة بحمية أختها وتعصبها الزائد لما يخصها، تضرعت بتوسلٍ للمولى أن يمر الأمر على خير، خاصة أن اللقاء السابق معه لم يبشر بخير. أطاح "تميم" برجاواتها حينما هتف متسائلاً بوقاحةٍ منقطعة النظير مستخدمًا يده في الإشارة:
-إنتو بقى اللي مدورين الليلة دي كلها؟

وضعت "همسة" يدها على جوفها لتمنع شهقة مصدومة من الخروج عقب جملته الموحية تلك والتي حتمًا ستشعل جذوة الشجار، كانت مرتعدة من ردة فعل أختها التي لن تقبل بتلميح صريحٍ ومسيء كهذا، التفتت نحو "فيروزة" لتجدها قد جحظت بعينيها في ذهولٍ مستنكر لتلاعبه بالألفاظ والإشارة لكون الاثنتين تفعلان ما يشين، احتدت نظراتها نحوه ورمقه بنظرة عدائية شرسة قبل أن تصيح في وجهه بصوته مرتفع وغاضب:
-ما تحترم نفسك يا جدع إنت! إيه الكلام ده؟ يعني إيه مدورينها؟

أجابها ببرودٍ وقد قست نظراته هو الآخر:
-يعني زي ما فهمتي يا أبلة!
استشاطت حنقًا من اتهامه الباطل الذي يمس سمعتها دون وجه حق، فتشنج صوتها، ولوحت بذراعها وهي تهاجمه وقد انحنت من النافذة نحوه:
-اخرس، قطع لسانك إنت واللي زيك، إنت جاي تقل أدبك علينا هنا؟
بدا فجًا للغاية وهو يتابع وكامل نظراته المزدرية تدور في المكان بشكل ينم عن نفوره:
-أومال تسمي اللمة اللي هنا دي؟ دي معجنة! حريم على رجالة، والسايب في السايب.

اشتعل وجهها واربد بغضبه المستعر، اعتقدت أنه واحدًا من المتسكعين اللزجين الذين يظهرون وقاحتهم مع الناس لترتعد، ردت تحذره بحديةٍ حتى توقفه عند حده، فلا يتمادى معها:
-لأ عندك، أنا مسمحلكش!
ثم اتجهت إلى باب العربة دافعة أختها للجانب لتتنحى عن طريقها، توسلت لها الأخيرة باستماتة والرعب يشع من عينيها المذعورتين:
-بلاش يا "فيروزة"، خليكي معايا، ده شكله بلطجي!
ردت حاسمة أمرها ودون أن تلتفت لها:
-مش سيباه برضوه!

هبطت عن العربة لتغدو في مواجهته، لم تكن بصاحبة القامة القصيرة لتخشاه، بدت أقرب طولا إليه، تطلعت إليه في عدائية بائنة، وهتفت مدافعة عن نفسها بقوةٍ وذراعها يلوح في الهواء:
-الكل واقف باحترامه هنا، محدش يجرؤ يعمل حاجة غلط، ولا حتى يقدر...
قست نظراتها أكثر نحوه حينما استأنفت جملتها قاصدة إهانته بشكلٍ فج يليق بتصرفه:
-بس في ناس تفكيرها قذر.. زيك كده .. مفكرة الكل مش مظبوطين!

نظر لها شزرًا وقد احتقنت عروقه بدمائه الثائرة، حدجها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها وهو يسألها بلهجةٍ ذات مغزى:
-وإنتي بقى اللي مظبوطة؟
صرخت فيه تهدده بسبابتها وعيناها تطقان شررًا:
-اخرس قطع لسانك، انسان مش محترم!
ثم ما لبث أن هددته بعدوانية يستحقها:
-اقسم بالله لو ما مشيت من هنا لأفرج عليك الناس وأمسح بكرامتك الكورنيش ده كله وألبسك مصيبة وقتي!
هتفت "همسة" لها من بعيد وقد تخلت عنها شجاعتها:
-سبيه يا "فيروزة".

لم تستدر نحوها وظلت تحملق فيه بقوة لا تعرف من أين أتتها، لكنها تخرج دومًا في الوقت الصحيح حينما يتم استفزازها، وبالرغم من استبسالها في الدفاع عن خاصتها إلا أنها كانت متوترة من ردة فعله المجهولة، وباتت هواجسها عن كونه أحد أولئك المتعاطين للمواد المخدرة كبيرة، فحينما يلعب المخدر برأس أحدهم يصبح في حالة جنونية وغير واعية، وبالتالي يفتعل المشاجرات مع الأبرياء من أجل مساومة حقيرة، أو فرض رسوم جباية لا حق لهم فيها ليحصل على الأموال التي يريدها بطريقة سريعة وغير شريفة. تحلت بشجاعتها وأخفت قلقها لتنظر له في تحدٍ وقوة، تقوست شفتا "تميم" قليلاً لتظهر بسمة تهكمية قبل أن يرد عليها عن ثقة مُربكة لها:
-هانشوف مين هايمشي، لأنك مش هاتفضلي هنا كتير.

لوحت بيدها في وجهه تصيح بنبرة مستهجنة:
-إنت مين أصلاً عشان تتكلم ولا تهددني؟
ثم أطلقت ضحكة ساخرة قبل أن تستهزأ به:
-أيوه صح، إنت عريس الغفلة!
هددها بسبابته وهو يكز على أسنانه:
-لمي نفسك معايا.
ردت غير مبالية:
-غلطان وبتبجح؟

لم تعبأ بمظهره الغاضب وتعابيره المحمومة ووقفت له الند بالند حتى لا يستضعفها، حانت منها نظرة سريعة خلف كتفه فرأت بعض الشباب مجتمع في الخلف، ربما إن تطور الأمر لرفعت نبرتها واستعانت بهم ليبعدوه، أشعرتها تلك الفكرة بالارتياح قليلاً، في حين أحس "تميم" بالمزيد من الغيظ يتعمق فيه مع كلماتها التي تنتقص من قدره، وتهينه بشكلٍ قاسٍ.

أمعن النظر فيها والحيرة تداعب عقله، وخاصة فيما هو متعلق بجراءتها الأنثوية التي تناقض كليًا طبيعة زوجته الساهمة المستكينة التي تكاد تفني عمرها لأجل الحصول على ابتسامة صغيرة منه. عاد من شروده السريع على صوتها المكمل وقد استبد بها حنقها:
-أنا ورقي كله قانوني، وماشية سليم! ولو مفكر بالشبورة اللي إنت عاملها دي هخاف تبقى غلطان، أنا أد عشرة من عينتك! ويا ريت تبطل الهباب اللي بتشربه ده
ابتسم لها في استخفافٍ بعد آخر ما تلفظت به، يا للسخرية! هي تظنه متعاطيًا لأحد السموم البيضاء، اندلع غضبها أكثر منه، ولم تعد تتحمل استهانته بها، لذا وجدت "فيروزة" نفسها تتلفت حولها باحثة عما يمكن أن تستخدمه لتضربه بها حتى تزيحه عن طريقها.

توقفت أنظارها عندما وجدت دلوًا مليئًا بمياه غسل أدوات الطهي، على الفور تحركت ناحيته لتحمله، ثم قذفته دون تفكير في وجهه لتغرقه به وهي تطرده:
-اتطرأ من هنا، السكة اللي تودي.
تفاجأ "تميم" بفعلتها غير المتوقعة تلك، وانتفض كليًا مع إغراق ثيابه بالمياه المتسخة، هدر بها في هياجٍ مبرر:
-إنتي اتجنني!

لطمت "همسة" على صدغيها في هلع، وقد تفاجأت هي الأخرى بتصرفها، ارتدت خطوة للخلف تقول في نفسها أن حربًا ضروسًا اندلعت بينهما، ولن يوقفها أحد .. صاحت "فيروزة" وابتسامة انتصار ممتزجة بالشماتة تتراقص على محياها ودون أن يبدو عليها أدنى بادرة ضعفٍ أو تراجع:
-خلي المياه الوسخة تنضف الأشكال الضالة وتشيلها من هنا.

صعد معه الدرجات في تمهلٍ متبادلاً معه حديثًا مقتضبًا قبل أن يصل إلى الطابق الكائن به منزله، بدا ضيفه مشغولاً بدراسة المكان وفحص كل زاوية وركن بعناية فائقة، حتى أن هيئته كانت تعبر عن اشتغاله بوظيفة في جهاز حساس بالرغم من تقلده لبدلة عادية. دس "بدير" يده في جيبه ليخرج مفتاحه منه، ثم وضعه في القفل الخاص به ليديره وينفتح الباب، ثم تنحنح عاليًا بصوته المميز ليعلن عن وصوله قبل أن يبادر مرحبًا بضيفه:
-اتفضل يا باشا.

تأهبت حواس "ونيسة" مع سماعها لصوت زوجها، وعدلت من وضعية حجاب رأسها عليها، رسمت ابتسامة لبقة على شفتيها تقول في ودٍ وقد رأت اللواء "وفيق" يمرق للداخل:
-يا مرحب بالضيف الغالي، أديلنا زمن ماشوفنكش يا باشا
قال مجاملاً:
-إزيك يا حاجة، إنتي عارفة ورايا أشغال كتير، واللي زينا مالوش راحة.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يقويك وينصرك على مين يعاديك يا سعادت الباشا
تساءل "بدير" في اهتمامٍ وعيناه تمسحان المكان:
-أومال أبويا فين؟

جاوبته مسترسلة في ردها:
-صلى العشا ونام، و"هاجر" وجوزها كانوا هنا من شوية ونزلوا.
أومأ برأسه في تفهمٍ:
-طب تمام.
أضاف "وفيق" يطلب منها وهو يمسح على شاربه الكث ليهندمه بلزمة التصقت به:
-معلش يا حاجة هنتعبك شوية، عاوزين فنجانين قهوة كده مظبوطين!
ردت على الفور:
-عينيا، دقيقة ويكونوا عندكم في الصالون، اتفضل ارتاح.

هز رأسه في تهذيبٍ واستدار متجهًا إلى غرفة الصالون حيث قام زوجها بإضاءة أنوارها ليجلس فيها بصحبته، دقائق وعادت زوجته ومعها فنجانين من القهوة وضعتها على المائدة الرخامية المستديرة التي تنتصف الأرائك، ثم انصرفت في هدوء ليبدأ بعدها "وفيق" في تناول خاصته وهو يستأذن بهدوءٍ يعكس جديته:
-عاوزك يا حاج "بدير" توريني أوضة النوم، محتاج أشوف الدرج اللي اتكسر وأعاين المكان.
وافق دون نفاش مشيرًا بيده:
-اتفضل، اعتبر البيت بيتك.

تناول رشفة أخرى من فنجان قهوته، واستند على مرفقيه لينهض من جلسته الاسترخائية ليسير عبر الردهة متجهًا إلى غرفة النوم، قام بفحص الشفونيرة بتأنٍ وهو يسأل "بدير" بضعة أسئلة تحقيقية، وأجابه الأخير بكل ما يعرفه، وما إن فرغ منها حتى طلب الذهاب إلى المطبخ للنظر إليه، فكعادة أغلب اللصوص دومًا يقتحمون المنازل من نوافذ المطابخ أو الحمامات، لأن تلك الأماكن مهملة إلى حد كبير من قبل سكان البيت، وتعد بمثابة نقطة الضعف التي يستغلها السارق للولوج للداخل. تساءل "وفيق" بلهجة اكتسبت طابعًا رسميًا وأنظاره مرتكزة على بقعة ما بالأسفل:
-في حد بيستخدم البلكونة دي؟

أجابه نافيًا:
-لأ معتقدش
مط فمه يفكر في أمر ما، ثم عاد يسأله:
-مين غريب بيجي عندك يا "بدير"؟
استغرقه الأمر لحظة ليجيبه مستفهمًا:
-زي مين يعني؟
أجابه ببساطة:
-واحدة بتيجي تنضف مثلاً، عامل بتبعته بطلبات البيت، آ..
أجابه مستفيضًا في الرد.

-لأ مافيش، أنا اللي بأجيب الحاجة بنفسي، يا ابني "تميم" ببعته بالطلبات كل أسبوع، وحتى "أم علي" الست اللي بتيجي تساعد الحاجة "ونيسة" في تنضيف البيت كل فترة بتبقى الحاجَّة واقفة على إيدها لحد ما تخلص وتمشي.
هز رأسه معقبًا عليه:
-مفهوم.
سأله "بدير" ليطلع على ما يدور في رأسه من تفكير محلل للأحداث:
-رأيك ايه يا "وفيق" بيه؟

تنحنح مجيبًا إياه بعقلانية:
-واضح أوي من المعاينة يا "بدير" إن الحرامي دخل من هنا...
ثم أشار بيده نحو الزاوية المهمشة ليسير الاثنان نحوها بجوار الشرفة، تقدم "وفيق" أولاً ليقوم بفتحها بعد أن أزاح ما يعيقه، اعتلى ثغره ابتسامة ساخرة حينما رأى بقايا آثار أقدام موجودة في الأنحاء وتحدد بوضوح كيف جاء وانصرف اللص، وذلك بسبب تراكم الأتربة التي تحولت لطين بفعل الأمطار الغزيرة، أومأ بعينيه نحوها يقول:
-بيتهيألي إنت شايف اللي أنا شايفه، رجليه باينة إزاي هنا وهنا، وده معناه إنه طلع من المنور ونط لفوق عشان يوصل للبلكونة دي، ومنها دخل للشقة
علق في غيظٍ:
-ابن الأبلسة.

التفت نحوه متابعًا تفسيراته الشرطية وقد بدا على وجهه علامات التفكير العميق:
-هو أكيد عارف المنطقة كويس عشان يقدر ينط من هنا ويوصل للي عايزه بدون ما يعمل قلق، أو حتى حد يشك فيه لو شافه طبعًا، ده غير إنه عارف كمان إن مافيش حد فيكم كان موجود السعادي في البيت.
-مظبوط.

-قولتلي إن الحاجة كانت إيدت قريبك اللي شاكك فيه فلوس؟
-أيوه، ده الوحيد اللي دخل الأوضة، وبعدها حصلت السرقة
-عارف إنت لو كنت بلغت عنه كان اتقبض عليه
رد على مضض وقد اربد وجهه بتعبيراتٍ متأففة:
-مكانش ينفع، بس أنا عارف أربيه إزاي!

أوصاه "رفيق" بلهجة يشوبها الجدية:
-عمومًا لازم تاخد بالك عشان مايتكررش الموضوع ده تاني معاك، وأمن المكان كويس
رد دون جدال وعيناه تجولان على وجهه:
-هيحصل إن شاء الله!

دقائق غاب فيها من أجل شراء المثلجات لزوجته اللحوح حتى تكف عن تذمرها المستمر؛ والذي أصاب رأسه بالصداع. اصطحب معهما أخته كنوع من إظهار لطفه لها قبل أن يوصلهما للمنزل ليعود ويجد ذاك المشهد المتأزم نصب عينيه، سقط كوب المثلجات عن يده وتبعثرت محتوياته على الرصيف ليهرع بعدها نحو "فيروزة" التي على ما يبدو تتشاجر مع أحدهم، تساءل "خليل" بصوته العالي الذي سعى ليكون خشنًا متحشرجًا:
-في إيه بيحصل هنا؟

تسمرت قدماه وتصلب في مكانه مصدومًا وقد رأى وجه "تميم" الغاضب أمامه، كما تلاشى تفكيره لحظيًا، ابتلع "خليل" ريقه الذي جف وارتجفت أوصاله وقد جاء صوته مهددًا بقوةٍ:
-هتتحاسبي على ده.
انخفضت نظرات "خليل" نحو ثيابه المبتلة، أدرك أن ابنة أخته قد ارتكبت كارثة خطيرة، وعبثت مع من لا يجب المزاح معهم، اقترب منه محاولاً استرضائه وهو يعتذر منه لاعقًا شفتيه بصوته الذي كان يهتز توترًا منه:
-"تميم"، هو إنت؟ معلش يا ابن الكبير، حقك عليا أنا، ده اللي ما يعرفك يجهلك، وإنت سيد الناس.

اغتاظت "فيروزة" من وقوفه في صفه واعتذاره النادم منه دون أن يفهم حقيقة الأمر؛ وكأنها هي المخطئة، فهتفت تعاتبه بحدةٍ مشيرة بإصبعها في احتقار ل "تميم":
-إنت هتعمل لده قيمة يا خالي؟
برزت حدقتاه خوفًا من بشاعة هجومها الضاري عليه، رمقها بنظرة حانقة يصرخ بها والخوف زاده توحشًا معها:
-يا بت اسكتي وابلعي لسانك! احنا هنروح في داهية كده!
قالت في احتقارٍ أكبر، وتلك النظرة المستهزأة تعلو وجهها:
-مع ده؟ ولا يقدر يعمل حاجة!

بقيت أنظارها النارية عليه وهي تتابع:
-ده أنا هوديه في داهية وهاعمله محضر عشان يتربى.
تمالك "تميم" أعصابه المحتقنة حتى لا ينفجر فيها ويحرق الأرض بمن عليها ليخمد ثورته، لم يستطع وصف مشاعره التي جمعت بين الكثير من التناقضات في نفس الآن بسبب تهورها الأرعن؛ خليطٌ عجيب من الذهول، والغضب، والمهانة، والانتقام. كتم غضبه قائلاً لها بما لا يدع مجالاً للشك أنه سينتقم وبقساوة:
-اللي عندك اعمليه!

تدخل "خليل" يرجوه:
-امسحها فيا أنا، دي بت غبية مابتفهمش.
نظر له "تميم" بعينين غائمتين تنذران بشررٍ مستطر، ولكن صوت "فيروزة" المرتفع أفسد محاولته البائسة لتحجيمه عندما رددت غير مكترثة بتبعات جريرتها:
-ماتعتذرلوش يا خالي؟ ده واحد بجح وشارب، جاي يقول شكل للبيع ويخانقنا ويقول هتتحاسبي وكلام فارغ مالوش معنى!
ثم وضعت يدها أعلى منتصف خصرها متابعة تحديها له:
-طب وريني هتعمل إيه يا سبع البورمبة! البلد فيها قانون يفرف يلم اللي زيك ويحطهم في السجن!

بذل "تميم" مجهودًا خارقًا ليحجم من غضبه الذي خرج عن السيطرة وانعكست بوادره في نظراته القاتمة، زجرها قائلاً وقد همَّ بالانصراف:
-الأيام بينا، وهتشوفي!
تحرك بعدها مبتعدًا عن ساحة الكورنيش التي امتلأت بعشرات المتابعين ونظرات "خليل" المذعورة تتبعه، التفت نحوها قابضًا على ذراعها يهزها منه بعنف وهو يصرخ عاليًا:
-إيه يا بت اللي عملتيه ده، احنا كده وقعنا في مشاكل مع عيلة "سلطان"!
ردت غير مبالية وهي تنفض ذراعها لتتخلص من قبضته:
-يوريني، وأعلى ما في خيله يركبه!
ازدرد "خليل" لعابه بصعوبة وغمغم مع نفسه في ضعفٍ واضح أزعج "فيروزة":
-استر يا اللي بتستر، كل حاجة كده ضاعت!

استطردت ترد عليه:
-متقلقش منه، أنا ...
هدر في عصبيةٍ:
-بس، اسكتي خالص، إنتي مش عارفة النصيبة اللي وقعتينا فيها.

-ايه اللي حصل هناك؟
تساءل "ناجي" في فضولٍ يأكله بعد أن رأى مقتطفات من المشاحنة التي دارت بين رفيقه وتلك الفتاة التي تعمل بالعربة دون أن تتضح الصورة لهن اتخذ موقفًا محايدًا حتى يعود إليه ويتقصى عن الأسباب، في البداية تجاهله "تميم" ولم يرد عليه واستمر في سيره المتعصب ليبتعد عن المنطقة قبل أن يستفزه أحدهم بتعليق مازح يجبره على الفتك به، وهو بالكاد قاب قوسين أو أدنى من التصرف برعونة ورد الصاع صاعين لمن يتجرأ على العبث معه. ألح عليه "ناجي" حتى يشبع رغبته في معرفة التفاصيل، لكن ثمة غمامة مخيفة بدت ظاهرة في صوت رفيقه وهو ينهره مقتضبًا في حديثه:
-قولتلك بعدين.

شعور مزعج راح يضرب كيانه فأصابه بالتخبط والانزعاج، لم يجد التفسير له، لكنه وضعه في حالة ذهنية غير تلك التي اعتاد عليها، ناهيك عن إحساسه المتقد بالغضب الأعمى. اقترح عليه صديقه بطيش حينما تأمل ما يجيش على وجهه من تعابير مخيفة:
-لو عاوزني أربي البت اللي قلت أدبها عليك دي، فأنا جاهز و...

توقف "تميم" عن المشي ليدير رأسه في اتجاهه، ثم قاطعه بصوته المائل للتشنج ونظراته الصارمة مثبتة عليه:
-وأنا من إمتى بأخد حقي من الحريم يا "ناجي"؟!
رد عليه غير مبالٍ بما هو متبع في عُرفه الملتزم بالأصول:
-خلاص، سيبني أنا أتعامل بطريقتي، وملكش دعوة.
حذره بحزمٍ صريح وقد اشتدت نظراته قتامةً وشراسة:
-متدخلش يا "ناجي"! مفهوم؟

هز رأسه بغير اقتناعٍ ليرضيه مؤقتًا، لكنه كان عازمًا في قرارة نفسه على الاقتصاص له، ومع هذا قال له ليريحه:
-ماشي يا صاحبي.
-سلام، هاكلمك تاني
-مستنيك يا كبير.
كالبركان الثائر قطع "تميم" طريقه عدوًا ليتجه إلى منزل عائلته حتى يبدل ثيابه، فإن ذهب إلى زوجته وهو في تلك الحالة المريبة حتمًا لن يسلم من تساؤلاتها التي ستجدد غضبه وبقوة، وربما يضطر لصبه فيها وتصبح هي ضحية إفراغ شحنته المكبوتة، لذا الأسلم لها وله أن يأخذ فاصلاً بعيدًا عنها حتى يستعيد زمام أمره...!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة