قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

رواية الطاووس الأبيض للكاتبة منال سالم الجزء الأول

رواية الطاووس الأبيض الجزء الأول للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

ثالث طبقٍ ينزلق من أصابعها المبتلة في الحوض ليتهشم إلى قطعٍ صغيرة وهي تحاول غسله لتُلهي عقلها عن التفكير في زوجها الذي اختفى ليتركها تتآكل بنيران غيرتها، أليس من المفترض أن يعوضها عن إساءته المهينة لها أمام الغرباء حين همَّ للدفاع عن تلك الحقود؟ ما زالت آثار أصابعه محفورة على خدها الذي تلقى صفعته القاسية، ولم تحاول إخفائها بكريم مرطب..،

أرادت "خلود" أن تتركها عن عمدٍ لتشعره بالذنب وتأنيب الضمير حين يتطلع إليها، ولتكن أيضًا سلاحها للولوج إلى مشاعره العميقة واستنزافها لصالحها، فمن المفترض أن يدعم زوجته، لا أن يتطاول عليها بذلك الشكل المهين، وأمام من؟ تلك الوقحة الحقيرة! كم تمنت لو أطبقت على عنقها حينئذ وخنقتها حتى أزهقت روحها! شعورٌ استلذته بشدة ورغبت في تنفيذه لترتاح منها نهائيًا.

حسنًا ليدرك زوجها أنه المخطئ في تلك القضية الخاسرة، لكن كيف سيتم الأمر؟ عاد عقلها ليعمل بكامل طاقته، اقترح عليها أن تعاتبه على طريقتها المتدللة -وربما المغرية والمثيرة للشهوات- حتى يلين، بالطبع سيستجيب أمام المغريات الفاتنة، وبين متعة الحب ومذاقه سيذوب في عشقها، وبالتالي ستتملك كامل قلبه من جديد .. وربما قليل من العتاب واللوم خلال طقوس علاقتهما الحميمية سيحز في نفسه ويتدارك خطأه، فلا يكرر فعلته الهوجاء مرة أخرى، ارتضت "خلود" لتلك الفكرة الهوسية، ثم مسحت برسغها دموعها الحارقة المتجمعة عند طرفيها، وقالت لنفسها بتوعدٍ مميت ووجه "فيروزة" المقيت يتجلى في خيالها:
-القلم ده هردهولها، بس في وقته!

لم تتمكن من غسل باقي الصحون، وتحركت مبتعدة عن الحوض المبتل وجسدها يرتجف من شدة عصبيتها، أمسكت بمنشفة المطبخ القطنية وجففت بها يديها، خرجت منه وأنفاسها تتسارع، وكأنها تعدو في سباقٍ طويل الأجل، عضت على أناملها بتوترٍ مغتاظ وتابعت معبرة عما يستعر في نفسها:
-"تميم" ده جوزي، ومن حقي أنا بس!

هكذا رددت لنفسها عشرات المرات حتى باتت مقتنعة بسطوتها المطلقة عليه وأحقيتها في الحجر على مشاعره واستئثارها بالكامل لأجلها فقط، كركرت ضاحكة بطريقة هيسترية وقد توهمت نجاحها في فعل ذلك.

استيقظت في حالة شنيعة على الصوت الذكوري الذي اقتحم إدراكها وأطلق شارات الإنذار في عقلها لتستفيق من غفوتها وتتنبه له، لم تتبين ما الذي قاله، لكن انتفض جسدها بالكامل وقد رأته قريبًا منها مركزًا نظراته المهتمة عليها، لم تستسغ ذلك الأسلوب الغريب منه، لذا رمقته بحدةٍ وذلك الوجوم يحتل كافة خلجاتها، لم يبتسم "تميم"، وتنحنح متسائلاً في اهتمام:
-إنتي كويسة يا أبلة؟

هبت "فيروزة" واقفة، وهدرت فيه بعصبيةٍ:
-إنت بتعمل هنا إيه؟ ورجعت تاني ليه أصلاً؟!
وقف هو الآخر قبالتها، وسألها باهتمامٍ مبالغ فيه من وجهة نظرها:
-لو حاسة إنك تعبانة أشوفلك ضاكتور هنا ولا هنا.
كانت رافضة لأي دعمٍ منه أو من غيره، ودون ترددٍ صاحت بنرفزةٍ وهي تشيح بيدها في وجهه:
-أنا مش عايزة منك ولا من غيرك أي مساعدة، ماتسبونا في حالنا!

ورغم إحراجها له إلا أنه رد بتهذيب علها تلين وتغير الفكرة السيئة التي تتصورها عنه:
-حاضر.. بس عاوز أقولك حاجة.. يعني لو ده هيريحك شوية...
نظر بعمقٍ في عينيها أولاً قبل أن يتابع في ربكةٍ طفيفة:
-فأنا أسف ..

استغربت للغاية من اعتذاره غير المتوقع، والذي بدا غير اعتيادي بالنسبة لها، أتبع ذلك ببسمة صغيرة يشوبها القليل من الحزن، جعلته نظراتها الحائرة يزداد ربكة وتخبطًا، لماذا وحدها القادرة على قلب كيانه بشكل يجعله فاقدًا للسيطرة عليه؟ أطبقت على شفتيها ونظرت له بنظرات تتفرس فيه، أسبل عينيه ولم ينتظر ردها، وإنما استدار ليشرع في السير، ظلت مدهوشة للحظات محاولة استيعاب ما فعله للتو، أحقًا اعتذر منها؟ بررت لنفسها الأمر:
-على الأقل حد عنده دم في العيلة الغريبة دي!

هزت رأسها لتنفض تلك المسألة المحيرة عن ذهنها، ثم أحنت جسدها لتلتقط حقيبة يدها، أرادت عدت النقود التي بحوزتها لتستخدمهم في تأجير سيارة أجرة لتُقل توأمتها ووالدتها إلى المنزل، تفاجأت حين عبثت بحافظتها بالكومة الموضوعة بداخلها، أخرجتها لتنظر للرزمة المطوية وتأملتها بفمٍ مفتوح، احتدت عيناها وتساءلت في ذهولٍ:
-إيه اللي جابهم هنا؟

على الفور فطنت لتلك المحاولة الذكية من "تميم" لإعادة النقود لها، بالطبع استغل غفوتها المؤقتة وأعادهم، فمن غيره سيتجرأ على فعل ذلك؟ لم ترتضي بفعلته واستنكرتها بشدة، هرولت راكضة بطول الممر لتلحقه قبل أن يختفي، استوقفته عند منتصف الدرج وهي تهبط عليه بتعجلٍ منادية إياه بصوتها المنزعج:
-ثواني يا معلم.

اعتاد على تمييز رنة صوتها وسط أي جلبة، وكأن حواسه السمعية قد تم إعادة برمجتها لتتعرف عليها بسهولة، استدار بجسده نحوه، ويده لا تزال ممسكة بالدرابزون، كانت وسيلته لكبح تلك العواصف الشعورية التي تطيح بثوابته، هبطت باقي الدرجات حتى أصبحت في مواجهته، وبنظرة غاضبة سألته وهي ترفع النقود نصب عينيه:
-ممكن تقولي إيه دول؟ بيعملوا إيه هنا في شنطتي؟

أخفض نظراته نحو يدها الموجهة إليه، وبجمود يكسو تعابيره أجابها ناكرًا:
-معرفش!
قالت مباشرة غير مصدقة نكرانه المكشوف لشكها الحتمي فيه:
-إنت رجعت لي الفلوس تاني، مظبوط؟
تلك النظرات المحملة بالغضب والجراءة، بالإقدام والشجاعة أصابته في مقتل، وتلقائيًا لاحت بسمة عذبة على شفتيه حين استطرد قائلاً عن ثقةٍ ليزيدها حيرة:
-أنا خدت حقي خلاص، معرفش حاجة عن دول.

رفعت حاجبها للأعلى، وعلقت في تهكمٍ:
-والله، أومال هما رجعوا لواحدهم؟! زهقوا من أعدتهم في جيبك فنطوا في شنطتي!
كانت تمتلك حسًا فكاهيًا يثير إعجابه بشكل كبير، وبصورة لا يتخيلها وحدها كانت قادرة على إزاحة أي هموم تحتل قلبه وإن كانت لا تدرك ذلك .. ظل "تميم" محافظًا على تعابيره الهادئة قبل أن يهز كتفيه معقبًا بنفس الابتسامة التي أشرقت أكثر على وجهه:
-جايز.. ما هو المال الحلال مابيضعش.

قطبت جبينها بانزعاجٍ وهي ترد بابتسامة شبه ساخرة:
-يا سلام!
خفقة مداعبة للفؤاد هزته حين لانت نبرتها وارتخى جفنيها، كانت رغم ما تمر به من ظروف قاسية متماسكة، ذات شموخ يليق بها، وبصدقٍ استطرد يمتدحها:
-وعلى فكرة إنتي بنت جدعة أوي.
حملقت فيه في اندهاشٍ، فأكمل بتنهيدة بطيئة:
-دي الحقيقة..

ثم أملى عينيه بنظرة أخيرة ساهمة لوجهها المتجهم، آه لو رأه يبتسم مجددًا مثل ليلة خطبة أختها، فتنته آنذاك بنعومتها غير المتكلفة، ضحكاتها احتلت فراغات الهواء وبقيت آثارها ترن في أذنيه كلما غاص في أحلامه المحرمة، استحوذت تلك الذكرى الجميلة على مخيلته وهو يتأملها عن كثبٍ، أفاق من تفكيره الحالم سريعًا ليستنكر بشدة شروده غير الجائز فيها، فجأة تبدلت تعابيره للوجوم، وقال منهيًا الحوار:
-أشوفك على خير.

ابتلع غصة مريرة في حلقه وهبط الدرجات بخطواتٍ متلاحقة، كأنه يفر منها قبل أن تكتشف الارتباك البائن الذي يعانيه في وجودها، لكن بقيت شفتاه ترددان في ألم يوخز صدره ويحز بشدة في قلبه:
-يا ريتني قابلتك من زمان!

عاونتها على السير بضعة خطوات حتى وصلت إلى أعتاب الغرفة، لكنها لم تتحمل المزيد، فقدت "همسة" كامل قواها وتضاعف إحساسها بالألم، لذا لجأت "فيروزة" للاستعانة بكرسي مدولب لتنقلها به إلى الخارج، وبحرصٍ واضح أجلستها عليه، وقامت بدفعها بتمهلٍ نحو المصعد، ومنه هبطت بها إلى الطابق السفلي حيث انتظرتهما "آمنة"، وما إن رأت ابنتيها حتى أقبلت عليهما، ثم هتفت تقول في حيرة:
-أنا كلمت خالك كذا مرة بس ما بيردش، هنعمل إيه دلوقتي؟

ردت "فيروزة" بسخطٍ:
-ده الطبيعي بتاعه، مش مستغربة بصراحة.
حاولت الابتسام لتخفي ضيقها، وقالت:
-ما تقلقيش يا ماما، أنا هاطلع أوقف تاكسي من على ناصية الشارع وأجيبه لحد هنا، هي كام خطوة بس هتمشيها "هموس" لحد ما نطلع برا.
ثم مالت على توأمتها تستأذنها:
-معلش يا قلبي هتعبك.
ردت "همسة" بوهنٍ:
-المهم أرجع البيت!
قبلتها والدتها من رأسها، وأضافت مؤكدة:
-هانت يا حبيبتي، فات الكتير، كلها شوية ونبقى في بيتنا.

تركتهما "فيروزة" على مقربة من الاستقبال لتخرج بخطوات شبه متعجلة من المشفى متجهة إلى الطريق الرئيسي باحثة عن سيارة أجرة مناسبة، لم تنتبه بسبب تركيزها الشديد في هذا الأمر إلى السيارة المرابطة عند الباب الرئيسي، حيث كان "تميم" ينتظر بداخلها، فقد عَلم من توأمتها مسبقًا بمسألة خروجها، وحثته شهامته على البقاء لتقديم المساعدة لثلاثتهن حتى النهاية، لمحها وهي تعدو نحو ناصية الشارع فترجل من السيارة ليناديها..،

لكنه انزعج من مناداتها باسمها علنًا، انحنى نحو المقود لينزع مفاتيحه من مكانها، ثم اعتدل في وقفته وبدأ يسير في اتجاهها لكن اعترض طريقه مصادفة "هيثم"، كان الأخير في حالة يائسة، عضلات وجهه متقلصة، نظراته غائمة، أوقفه عنوة ممسكًا به من كتفيه ليسأله بنبرته الجادة:
-"هيثم"، جاي ليه دلوقتي؟

أجابه بصوته الأجوف ونظراته مثبتة على باب المشفى:
-عاوز أطمن على "همسة" يا "تميم".
ظل متشبثًا به حتى لا يتحرك، وقال:
-مش هاينفع.
هتف بحرقةٍ ونظراته تزداد إظلامًا:
-ليه بس؟ أنا معملتش فيها حاجة؟ ليه أتاخد بذنب غيري؟

رد بعقلانية حتى لا يزيد الطين بلة بالضغط عليها في ذلك التوقيت الحرج:
-أنا عارف كل ده، بس صدقني الوضع مش مناسب للكلام.
استطاعت عيناه أن تبصراها وهي تجلس متألمة بالقرب من المدخل، هتف بلوعةٍ وقد احتبست العبرات في مقلتيه:
-هي هناك أهي، سيبني أروحلها.
أمسك بمعصمه ليحثه على التماسك وعدم الاندفاع قائلاً له بما يشبه الرجاء:
-معلش، اهدى، إنت كده هتبوظ فرصتك معاها!
دفعه بعصبيةٍ ليناديها:
-"همسة"!

وكأن قدماه ركبت الريح فركض في اتجاهها، قطع الطريق في لمح البصر، ووقف عند كرسيها يلتقط أنفاسه، تطلعت إليه في صدمة، لكنه جثا أمامها يرجوها بصوته الباكي:
-اسمعيني يا "همسة"، اديني فرصة أشرحلك اللي حصل!
ردت وهي تحاول لملمة كرامتها التي تبعثرت على يد والدته:
-معدتش في بينا حاجة
صرخ بهيسترية:
-أنا ماليش ذنب اقسم بالله، ومش فارق معايا حاجة، كل اللي عاوزه إنتي وبس!

أمسك به "تميم" من ذراعيه ليبعده عنها، وقال مبررًا:
-متأخذوناش يا جماعة، هو في حالة مش طبيعية.
هتفت فيه "آمنة" تتوسله:
-خده من هنا يا ابني، احنا مش ناقصين مشاكل، كفاية كده
عادت "فيروزة" لتتفاجئ بوجودهما فصاحت منفعلة في "هيثم" لتطرده:
-إنت بتعمل إيه هنا؟ ابعد بقى عن أختي!
التفت "تميم" يقول مبادرًا ليطمئنها:
-متقلقيش يا أبلة، أنا هامشيه، صدقيني معرفش إنه جاي تاني.

نظرت له شزرًا وبغل، ظنت أنه يقف وراء تلك المحاولة الرخيصة لاستجداء مشاعر أختها والتأثير عليها، وذلك ما ترفضه قطعيًا، تجمع غضبها على وجهها وهتفت تتهمه قاصدة كشف تضليله لها:
-إنت كداب!
رد "تميم" مدافعًا عن نفسه بصوتٍ قوي:
-إنتي غلطانة يا أبلة! موصلتش لكده!

دمدم "هيثم" بصوته المختنق مستعطفًا الجميع، ومبرئًا لساحته:
-أنا ماليش ذنب اقسم بالله، والله ما أعرف أي حاجة.
اتجهت "فيروزة" خلف توأمتها، ووضعت يدها على مسند الكرسي ثم قامت بدفعه وهي تأمرهما:
-وسعوا إنتو الاتنين..
ثم تابعت بحزمٍ:
-دي صفحة اتقطعت من حياتنا.

لم يشعر "هيثم" بالخجل من نفسه وهو يستجديها، ليبذل أقصى ما يستطيع حتى تقتنع بمشاعره الصادقة، لذا اعترض طريق سيرها، وانحنى بغتة على الكرسي ليوقفه بقوته المتشنجة من مسنديه، شهقت "همسة" في قلقٍ من اقترابه الشديد منها، وحدقت فيه بعينين تائهتين، بينما نظر مباشرة في عينيها معترفًا لها بأنفاس مضطربة:
-أنا عاوزك إنتي، ومش فارق معايا حد غيرك إنتي وبس.

التفتت ناظرة إلى والدتها في خوفٍ، واستنجدت بها:
-ماما خليني أمشي من هنا.
وضعت "آمنة" قبضتيها على ذراعه محاولة انتزاعه، وهتفت بصلابةٍ
-وسع يا ابني لو سمحت.
اقترح "هيثم" بصوته اللاهث محاولاً معها حتى الرمق الأخير:
-طب تعالي هنوصلك بدل بهدلة المواصلات..
والتفت برأسه نحو "تميم" متابعًا باقي جملته:
-"تميم" ابن خالتي هنا، والعربية آ...
قاطعته "فيروزة" بصرامة وعيناها تطلقان شرارات الغضب:
-مش هايحصل، ابعدوا عننا!

قالتها ونظراتها ارتكزت على "تميم" الذي لم ينقصه إلا وجود ذاك السمج ليكتمل غيظ يومه، حيث كان "آسر" في تلك الأثناء يخترق البوابة حاملاً باقة من الورد بين ذراعيه، لفت أنظاره التجمع القريب منه، لكن وحدها كانت محط اهتمامها، هندم نفسه، وصاح مناديًا وهو يدنو مبتسمًا منها:
-آنسة "فيروزة".

سدد له "تميم" نظرة نارية محتدة، وتقلص وجهه بشكلٍ عظيم وهو يمر بجواره .. تفاجأت "فيروزة" بحضوره كالبقية، رفرف جفناها بشكلٍ لا إرادي غير مرحب به، واحتفظت ملامحها بتأففها، لعقت شفتيها ورددت:
-أستاذ "آسر".
مرر نظراته على المتواجدين، وبلطفٍ لزج أزعج "تميم" تحديدًا استطرد يقول:
-الحمدلله إني لحقتكم، حمدلله على سلامة أختك يا آنسة "فيروزة".

ثم انحنى على أختها ليناولها باقة الورد وتلك الابتسامة الصغيرة مرسومة على محياه، وضعتها "همسة" في حجرها ونظرت في حيرة إلى توأمتها قبل أن ترد الأخيرة عنها:
-الله يسلمك.
أشار "آسر" بيده للخلف متابعًا بودٍ غريب قاصدًا به "آمنة":
-أنا معايا العربية، اتفضلي يا أمي أوصلك.
اعترضت "فيروزة" فورًا:
-شكرًا، مش محتاجين عربية، أنا جبت واحدة خلاص.
أصر عليها وقد أسبل نظراته عليها:
-والله ما ينفع يا آنسة "فيروزة"، مش هاقبل بالرفض، دي حاجة بسيطة خالص...

وقبل أن تعارضه تابع موجهًا حديثه إلى والدتها حتى يقنعها فتضغط على البقية بالقبول:
-وبعدين حضرتك يا حاجة بتفكريني بوالدتي الله يرحمها، يعني مقدرش أسيب أمي في موقف زي ده، أنا كده مش هاكون مبسوط، العربية موجودة، وأنا مش هاتعب في أي حاجة.

ظهرت علامات التردد على "آمنة"، ونظرت في حيرة إلى ابنتها التي رمقتها بنظرة تخبرها فيها بإعلامه برفضها، لكن الحالة المؤلمة التي كانت عليها "همسة" أجبرتها على الاختيار، فقالت مستجيبة لاقتراحه:
-خلاص يا "فيروزة"، مش هيجرى حاجة، خلي الأستاذ يوصلنا.
انفرجت أسارير "آسر" وهتف في سعادة:
-اتفضلوا..

ثم بلباقةٍ واضحة عليه استأذن من "فيروزة":
-عن إذنك، أنا هازوئها، كفاية إنتي تعبانة طول اليوم معها.
لم يمهلها الفرصة للاعتراض عليه، أزاحها برفقٍ بوضع يديه على مقبضي الكرسي مما اضطرها لسحب كفيها والابتعاد عنه .. تابع كلاً من "هيثم" و"تميم" العرض الرخيص الذي قام به ذلك الشخص الغريب، تصاعدت الدماء في وجه الأول واِحمر غضبًا، بينما شعر الثاني باحتقانٍ يسري في كامل أوصاله، وقبل أن يهم ابن خالته باللحاق بهم شد على معصمه ليثبته وهو يأمره بصوتٍ غلفه الضيق:
-خليك مكانك!

رد "هيثم" يسأله بغيظٍ مضاعف:
-هي رايحة فين؟ ومين اللطخ ده؟!
تنفس بصعوبة وببطء حتى لا يفقد أعصابه، ثم أردف قائلاً بخشونةٍ ونظراته تتبع "فيروزة":
-سيبهم يا "هيثم"، مش هنعمل مشكلة على الفاضي!

غمغم الأخير لاعنًا ذلك الغريب بكلمات غاضبة وقد اندلع غضبه، لكنه لم يشعر بتلك النيران التي استعرت في صدر "تميم" وانتشر لهيبها الحارق في خلاياه، وكأن ذلك التبلد الذي صاحبه طوال الفترة الماضية -قبل أن يتعرف أكثر ل "فيروزة"- قد تحول لنوع مغاير من المشاعر الغريبة، لكنها حتمًا ستلازمه كثيرًا... !

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة