قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة وستة

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة وستة

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل مئة وستة

أسرعت تستقل إحدى الحافلات المتجهة إلى بلدتها البعيدة، لم يبقَ أحد لمساعدتها سوى هي، وعليها التصرف حتمًا قبل فوات الآوان، فأي دقيقة تمر ربما تشكل فارقًا في حياة ابنتها، فصرامة الحاج كامل وشدته معروفة للجميع، ولن يتهاون في التفريط في حق العائلة طالما أن الأمر يمس سمعتها المهيبة، لم تتوقف عن الدعاء طوال الطريق آملة أن يرفق بها وألا يؤذيها، وصلت مع ساعات الصباح الأولى، فاستأجرت سيارة خاصة لتوصلها إلى منزله المعروف، حبست أنفاسها متوقعة الأسوأ، وبدت في وضع لا تحسد عليه حينما رأته يخرج من باب منزله، ازدردت ريقها هاتفة بحرج:.

-حاج كامل!
التفت الأخير برأسه نحو صاحبة الصوت الأنثوي المعروف، رمقها بنظرات مشمئزة وهو يقول بجمود متهكم:
-البشاير هلت
دنت منه هاتفة بتلهف وهي تبتلع ريقها في حلقها الجاف: -بنتي يا حاج كامل، عملتوا فيها إيه؟
رد عليها بجفاء وهو يشير بإصبعه: -رجعت عند عمها، احنا أولى بلحمنا!
انحنت شادية على كفه تقبله وهي تستعطفه بتوسل شديد: -أبوس ايدك ارحمها، دي أم وعندها ابن، حرام يتيتم و..

قاطعها ساحبًا يده من بين راحتيها: -ساعتها لسه ماوجبتش!
تنفست الصعداء بعد جملته تلك، فتابعت متسائلة: -يعني هي لسه عايشة؟
أجابها قائلاً: -أيوه، بس خلاص مالكيش حكم عليها
أومأت برأسها خانعة لقراره الصارم وهي تتابع بقلب ملتاع: -أنا راضية بحكمك بس أشوفها وأطمن عليك
نظر لها مطولاً بتأفف حتى ظنت أنه سيرفض رجائها لكنه تنهد قائلاً بعبوس مقتضب: -أخرج تكلمي مع الحاجة وهي تطمنك!

لم تجد بدًا من الاعتراض على حكمه، فارتضت بمحادثة زوجته علها تطمئنها عليها فيهدأ خوفها المبرر.
مذلة ما بعدها مذلة، أن تتحول حياتك فجأة من الترف والبذخ إلى النقيض تمامًا، لم تتصور أن تصبح بين عشية وضحاها في وضع متردٍ كذلك، أفاقت من ألامها على تلك الرائحة المنفرة التي تقتحم أنفها بقوة، أصدرت أنينًا موجوعًا وهي تتقلب بألم على جانبها محاولة النهوض، اختنقت أكثر بتلك الرائحة المثيرة للغثيان.

فتحت ولاء عينيها ببطء محاولة رؤية ما حولها، تأملت المكان بنظرة شمولية رغم تورم عينيها وعرفت من الأصوات القريبة منها أين هي، استندت على مرفقيها محاولة النهوض من رقدتها المتعبة، وسحبت ساقيها إلى صدرها لتنزوي بعيدًا عن البهائم التي كانت تتحرك حولها، بكت بقهر متحسرة على ما آلت إليه الأمور معها، انتفضت في جلستها مذعورة حينما سمعت صوت إحداهن يصيح عاليًا:
-فاقت يا حاجة!

ظنت أنهن سيتطاولن بالضرب عليها، فصرخت بهلع: -حرام والله اللي بتعملوه فيا!
ولجت إليها زوجة عمها كامل، فرمقتها بنظرات احتقارية أشعرتها بوضاعتها، ثم أردفت قائلة بجمود:
-اللي اتعمل فيكي قرصة ودن يا بت شادية، ولولا إن الحاج عمل خاطر ليا كان زمانته بيدفنك ولا من شاف ولا من دري
سألتها بصوت مختنق وهي ترتجف: -ليه كل ده؟
أجابتها بحدة وهي تنظر لها بازدراء: -مفكرانا مش دارين في البلد باللي بتعمليه في البندر!

اقتحم عقلها سيلاً متداخلاً من مشاهد مختلفة لمقتطفات متفرقة من حياتها؛ اتفاقات حقيرة مع سليل عائلة أبو النجا للإيقاع بغريمه بدياب، مشاحنات عنيفة معه بعد وقعه في المحظور وجره لحبائلها الخبيثة، توريطه في مسألة الزيجة وما تبعه من حمل وإنجاب، ثم انكشاف المستور وطلاقهما الحتمي، علاقات خفية مع مازن، وانصياع تام لأطماع وشهوات دونية، أفاقت من شرودها المشين قائلة بارتباك:
-أنا.

وكأن زوجة عمها قد قرأت أفكارها، فقاطعت بنفور: -اتطلقتي من ابن الأصول وقولنا نصيبها كده، عرفنا بعدها إنك فجرتي، وقلعتي، مفكرة بكده إنك مالكيش أهل شوهتي سمعتهم!
تجمدت الكلمات على طرف لسانها فلم تستطع الدفاع عن نفسها، تابعت الأخيرة مضيفة بقوة:
-حاشنا عنك الحاج طه!

ارتفع حاجبي ولاء للأعلى في ذهول تام، بدت علامات الاندهاش جلية على قسماتها المتورمة، لم يطرأ ببالها أن يقوم حماها السابق بزيارة سرية إلى عائلتها، فقط لوأد الخلافات قبل أن تتطور وذلك حرصًا على مصلحة ابنها آنذاك، رأت زوجة عمها تعبيراتها المصدومة فأكدت حديثها موضحة:
-ايوه، جه زمان عندنا ووصانا منتعرضش ليكي!

شعرت بخيبة الأمل لكونها فرطت في عائلة ذات أخلاق متأصلة فيها بروعونتها وتفكيرها الأحمق، أضاعت كنزًا ثمينًا من بين أصابعها بسبب غبائها الشديد، واصلت زوجة عمها مكملة بتعنيفٍ قاسٍ:.

-ابن أصول! خرجتي عن طوعنا وعن سلو بلدنا وقولنا أهو كله لنفسها، طالما مش بتعمل العيبة، خبيتي عنا خبر جوازك وعرفناه بالصدفة، وعديناه، ما انتي بقيتي في عصمة راجل تاني يلمك، بس طالما رماكي واتطلقتي تاني يبقى مالكيش عندنا إلا البُلغة!
توالت صدماتها بعد كشف الستار عن كل ما يخصها، فتسائلت بخوف: -انتو عرفتوا ده منين؟
رمقتها زوجة عمها بنظرات قاسية وهي ترد: -مافيش حاجة بتستخبى!

تملكها إحساس الندم والخزي، أدركت أنها ارتكبت من الأفعال المشينة ما يجعلها تخجل لما تبقى من حياتها، إن كان الأقرباء يعرفون عنها كل ذلك وتنكروا لها، فماذا عن صغيرها إن شب وكبر وعرف ماضيها المسيء؟ تخبطت في أفكارها التي أنهكت عقلها إلى أن سمعت صوتها يضيف بغموض أصاب جسدها بالقشعريرة:
-وعرضنا هنلمه، وبالأصول!
سألتها بتوجس كبير: -قصدكم ايه؟
-إنتي ونصيبك بقى.

قالتها باقتضاب لتثير هلعها قبل أن تتركها في حظيرة البهائم لتعاود أدراجها للداخل، حاولت ولاء النهوض من رقدتها المتألمة لتلحق بها، لكن كانت عظامها تئن بشراسة، فتعذر عليها الوصول إليها، توقفت عن الزحف وأجهشت ببكاء مرير، نكست رأسها بحسرة كبيرة متوجسة مما سيحدث لها لاحقًا.

قابلتها بفتور رغم الألفة المعهودة بينها، هي تلقت تعليمات صارمة من زوجها – والذي يعد كبير العائلة- بعدم الاسترسال في الحديث الودي معها، لذلك حرصت على أن يكون أسلوبها جافًا ورسميًا، نظرت لها شادية قائلة بعتاب:
-بعد كل ده؟
ردت قائلة بقسوة: -ده أخري، ويبقى بجميلة كمان!
هتفت فيها بحدة: -دي بنتي؟ يهون عليكم تعملوا فيها كده؟

ردت بجفاء دون أن يرتد لها طرف: -ده ذنب وبيخلص، احمدي ربنا إنه مدفنهاش حية في قبر أبوها!
فغرت فمها مدهوشة وهي ترد باستنكار: -للدرجادي
قست نظراتها موضحة: -ريحتها فاحت يا شادية، وهي مش عاملة اعتبار لحد، خليها عندنا تتربى وتعرف إن الله حق
كانت محقة في ذلك، فابنتها تخطت حدود المقبول في تصرفاتها المتجاوزة، طأطأت رأسها مرددة بخزي:
-ماشي، بس ماتموتهاش، وأستسمحك تخليني أشوفها!

صمتت للحظات قبل أن تقول بقوة جامدة: -لأ، الحاج كامل رافض!
انقلع قلبها في صدرها لمجرد منعها من رؤيتها وهي على بعد خطوات منها، هتفت بنبرة مختنقة وقد أوشكت على البكاء أمامها لتستجديها:
-يرضيكي أتحرم من طلتي على بنتي؟!
ردت بقسوة متعمدة الإشارة إلى صمتها عن أفعالها المسيئة: -شوفي إنتي عملتي ايه ووصلتيها لده!
-مغطلش معاها بس..
-اللي أقدر أخدمك فيه إني أقولك الحاج كامل هيسترها وتتجوز الكلاف بتاعنا.

اتسعت مقلتاها في صدمة، وهتفت مرددة: -ايه؟
تابعت موضحة بجمود وكأن أمرها لا يعنيها: -مابيخلفش ومش بيدور على خلفة ولا عيال، عاوز واحدة تخدمه وتقوم على طلباته، وده اللي يليق ببتك
-ليه كده بس؟ حرام والله
هبت الأخيرة واقفة من مكانها لتضيف بجمود جاف: -شرفتي يا شادية، مانجلكيش في حاجة وحشة!
أولتها ظهرها متابعة بصياح جهوري: -واد يا مسعود وصل الست شادية للمحطة قبل ما يفوتها القطر!

حركت شادية رأسها للجانبين وهي تبكي بحرقة على فراق ابنتها الإجباري ومصيرها المجهول مع زوج مستقبلي لن تعرف عنه شيئًا، لم يعد بمقدورها التصرف، انفلتت زمام الأمور منها، فوقفت مكتوفة الأيدي عاجزة حتى عن رؤيتها، وضعت كفيها على رأسها تضغ عليها بحسرة، آهٍ لو تم تحذيرها من قبل لردعت ابنتها قبل أن تخرج المسائل عن السيطرة، خشيت أن تعاند فتتسبب في تبعات جمة تعرضها للخطر، لذلك استسلمت بيأس كبير لقرار العائلة الغير قابل للنقاش بتزويجها بعد انتهاء العدة الشرعية، وجرجرت ساقيها للخارج ملقية نظرة وداع أخيرة على المنزل، همست لنفسها بانكسار:.

-ربنا يسترها عليكي يا بنتي وينجيكي من المستخبي!

تابعت سيرها المتخاذل متجهة نحو الطريق الرئيسي باحثة عن وسيلة مواصلات تقلها لمحطة القطارات لتعود إلى المدينة وحيدة، ظلت شاردة أغلب الوقت تفكر فيما ستفعله في المستقبل، لا يمكنها أن تتخلى عنها في ذلك الوقت الحرج وتبقى في معزل جاهلة بما يحل بها، بقى أمامها خيارًا واحدًا، ألا وهو العودة إلى البلدة لتكون إلى جوارها، لم تفكر كثيرًا وحسمت أمرها بتنفيذ ذلك والانتقال إلى هنا، فقط عليها أن ترتب لذلك لتعود سريعًا إليها.

ارتعش جسدها لمجرد سماع صوته يأتي من خلفها، وانتفض قلبها بقوة من كلماته المادحة، لم تتوقع وجوده مطلقًا في تلك الساعة المبكرة، والأهم من ذلك هي خروجها أمامه مرتدية ثيابًا كاشفة لأجزاء من جسدها، جحظت عيناها بصدمة جلية عندما أدركت ذلك الموقف الحرج الذي وضعت فيه، التفتت عفويًا برأسها للخلف لتجده يطالعها بأعين لامعة وتلك الابتسامة المغرية مرتسمة على ثغره، شهقت بسمة مفزوعة ووضعت يدها على مفاتنها تخبئها صائحة بتوتر رهيب:.

-إنت بتعمل إيه هنا؟
رد مبتسمًا بثقة وهو يشير بحاجبيه: -والله أنا محظوظ، مكتوبلي أشوفك! شوفتي القدر؟

رغم كونها المرة الأولى التي ينظر لها بجرأة بعد عقد قرانهما إلا أنها انزعجت من نظراته التي تخجلها، شعرت بأنها عارية أمامه، بأنه يخترقها بسهولة، بلا تردد نزعت سريعًا منشفتها القطنية عن شعرها المبتل لتغطي به كتفيها وهي ترمقه بنظرات حادة، لم تعطه المزيد من الوقت ليتأملها، فتحركت مبتعدة من أمامه وهي تزفر بصوت مسموع، اعترض دياب طريقها مرددًا بضيق:
-استني بس، رايحة فين؟

عبست أكثر بوجهها قائلة بتجهم آمر وهي تتحاشى الاقتراب منه: -وسع من سكتي!
أشار لها بكفه محتجًا: -ليه بس؟!
نفخت دون أن تجيبه، فتحرك صوبها متعمدًا تقليص المسافات بينهما، أضاف بخفوت لكن بكلمات موحية:
-ده حتى كل حاجة حلوة النهاردة، و..
فهمت مقصده الضمني الذي يتغزل فيه بجمالها الطبيعي، قاطعته مستنكرة وهي قاطبة لجبينها:
-إنت قليل الأدب، عيب كده!

عقد ما بين حاجبيه مزعوجًا من أسلوبها الحاد معه مرددًا بعتاب لطيف: -ينفع الغلط طيب؟
تحركت بسمة للجانب قائلة بجدية تحمل التهديد: -حاسب، ماما لو شافتنا كده مش هايحصل طيب!
اتسعت ابتسامته العابثة أكثر وهو يرد بتسلية: -يا ريت! حتى أقولها عاوز أكمل نص ديني عملي، وأنا متأكد إنها مش هتمانع!

كان محقًا في ذلك، فوالدتها ستفرح كثيرًا إن أسرعت هي في إتمام الزيجة، بدت أكثر اضطرابًا من طريقة نظراته التي تثير أعصابها، شعرت بتورد وجهها، وبارتباك أنفاسها، فهتفت محذرة ومحاولة إخفاء توترها:
-بلاش تستفز أعصابي
نظر لها متحديًا وهو يواصل اقترابه منها قائلاً بصوتٍ هادئ لكنه واثق: -هتعملي ايه يعني؟

تراجعت بتعجل للخلف وتلفتت حولها باحثة عن شيء تقذفه به، وقعت عيناها على مزهرية قريبة –صغيرة الحجم- فالتقطتها بيدها ثم ألقتها في وجهها، انحنى دياب ليتفادى ارتطامها به قائلاً بذهول:
-يا بنت المجانين!
نظرت له بأعين محتقنة وهي ترد بغيظ: -أحسن.

استغل فرصة التهائه عنها لثوانٍ لتتمكن من الفرار من أمامه متجهة إلى غرفتها، أوصدت الباب خلفها كي لا يلحق بها، فتجمدت أنظاره عليه، وضع إصبعيه على طرف ذقنه يفركه قليلاً، أخرج تنهيدة حارة من صدره هامسًا بتشوق:
-ليكي يوم!
حرك يده لمؤخرة عنقه متابعًا بإعجاب: -بس وربنا بردك قمر!

استدار بجسده عائدًا نحو غرفة الضيوف ليجلس بها، فالتقى بعواطف في طريقه وهي تحمل صينية بها القهوة الساخنة وبعض الحلوى مرددة بابتسامة أمومية:
-اتأخرت عليك يا ابني!
تنحنح بخشونة قائلاً بحرج طفيف: -احم، منورة يا حماتي!
أشارت بيدها متابعة: -هاروح أشوفلك بسمة
هز رأسه مبتسمًا بهدوء: -خدي راحتك
لاحظت نظراته الدافئة وطريقته المتحمسة التي كانت واضحة للعيان، فابتسم متمتمة مع نفسها بخفوت:
-يا قرب البعيد بينكم!

مسحت بأناملها المرتجفة التجمعات البخارية التي تحجب رؤية انعكاس وجهها في المرآة، حدقت في بشرتها المتوردة بحيوية نضرة بنظرات راضية، هي تحيا سعادة غامرة لم تظن أنها ستحظى بها بعد كل ما مرت به من أحداث عصيبة، تخلت عن ذلك الحزن القابع في حياتها ليحل محله مفهومًا جديدًا وعميقًا في حياتها، تنهدت مطولاً وهي تتمط بكتفيها محاولة تخفيف ذلك الألم الطفيف الذي يعتريها، بالطبع كل ما تمر به طبيعيًا فهي عروس جديد تخوض تجارب مثيرة لأول مرة تسحبها إلى عوالم خاصة بها أعمق المشاعر وأقواها.

أكملت ارتداء ثيابها الجديدة -ذات اللون الأحمر- متأملة هيئة جسدها المثير الذي بدا مغريًا من أسفل القماش الشفاف، تحرجت للغاية من كونها ستظهر هكذا أمام زوجها، هي لم تعتد على تلك الأمور بعد، أغمضت عينيها للحظات مستجمعة جأشها، ثم فتحت جفنيها وهي تتنفس بتمهل، سارت بخيلاء خارج المرحاض فوجدت منذر في انتظارها ينظر لها بضيق زائف وهو يقول:
-كل ده يا حبيبتي؟

رمشت بعينيها بخجل بائن أغراه للتودد إليها، تعمدت سحب أطراف ثوبها الحريري للأسفل بيدها لتغطي فخذها المكشوف أمامه لكنه لم يستر إلا عدة سنتيمترات، راقه ما تفعله ببراءة فتأملها بنظرات حنونة مطولة جابت جسدها وفحصته بدقة، شعرت بسخونة قوية تنبعث من بشرتها فتأكدت من كون وجهها قد تحول لثمرة البنادورة، اقترب منها منذر ممددًا يده نحو كفها ليلتقطها، أسبل عينيه نحوها هامسًا:
-لسه بتتكسفي مني؟

عضت على شفتها السفلى وهي تحرك رأسها بالإيجاب بإيماءة خفيفة خجلة، سحبها إلى أحضانه محاوطًا إياها من خصرها بذراعيه، استندت بقبضتيها على صدره، وتلألأت عيناها بوميض الحب وهي تتأمل عينيه، تابع بصوت خفيض وهو يرمقها بنظرات والهة:
-إنتي أحلى حاجة حصلت في حياتي!
ردت نبرة ناعمة وهي تتحسس صدره برقة: -وإنت كمان!
تقوس فمه للجانب قائلاً: -طب يالا على المطبخ عاملك مفاجأة حلوة.

رفعت حاجبها للأعلى متسائلة بفضول: -بجد؟ طب ايه هي؟
ظل محاوطًا إياها بذراع واحد وهو يتجه بها نحو المطبخ قائلاً بغموض: -هاتعرفي دلوقتي!
ولج الاثنان إلى داخله فتأملت بنظرات جادة ما أعده لها من إفطار بسيط، حدقت في صحن مليء بالجبنة، وأخر بالمربى وبعض الخبز، التفتت برأسها نحوه متسائلة بابتسامة ناعمة:
-انت مجهز الفطار؟
أجابها عفويًا: -ده اللي قدرت عليه، مش عارف بصراحة مكان الحاجة، فقولت أخدم.

ضحكت برقة مغرية واضعة يدها على صدغه تمسح عليه، رمقته بنظرات عاشقة وهي تقول: -ولا يهمك يا حبيبي، كفاية تعبك!
وضع قبضته على كفها ليقربه من فمه فقبله قائلاً: -بأحبك!

سحبت يدها من راحته متجهة نحو البراد لتبحث فيه عما يمكن استخدامه في إعداد طعام الإفطار، انحنت دون أن تنتبه لأعينه المسلطة عليها وتصرفت بتلقائية أهلكت أعصابه فورًا، شعرت بيد تحاوطها من الخلف فانتفضت في مكانها وهي تعتدل في وقفتها، عاتبته بدلال:
-منذر، ماينفعش كده!
حاولت إبعاد ذراعه عنها مرددة بإلحاح: -مش هاعرف أجهز الفطار!

زادت ضمته لها وهو ينحني برأسه على أذنها ليهمس لها بتنهيدة ساخنة أصابت جسدها بالقشعريرة لكنها استمتعت بها:
-سيبك من الأكل دلوقتي، وتعالي أقولك حاجة!
قاومته بدلال مثير بعد أن فهمت مقصده، وجاهدت لتحرر نفسها منه هامسة بثقل: -مش وقته! نفطر و..
قاطعها مبتسمًا بإصرار: -خلاص أنا نفسي اتفتحت على حاجات تانية أهم!

أدارها نحوه ببطء دون أن يفلتها لينال من على شفتيها قبلة شغوفة، استسلمت لحرارة مشاعره الفياضة وتجاوبت معه أكثر، فانحنى بجذعه قليلاً ليحملها بين ذراعيه ليكملا سويًا معزوفة حبهما الخاص.
-إيه اللي حصل؟
تساءلت بها نيرمين بصوت واهن وهي تعاود فتح وغلق جفنيها لتعتاد على الإضاءة بغرفتها، ابتسم لها الطبيب نبيل الذي ظل مرابطًا بجوار فراشها وهو يجيبها:
-حمدلله على سلامتك، كده تخضينا عليكي!

تجمدت أعينها عليه بغرابة شديدة فتابع موضحًا بهدوء: -الحمدلله عدت على خير!
تذكرت ما مرت به بالأمس من آلام مهلكة كانت تودي بحياتها بسبب ذلك المرض اللعين الذي ينهش في خلايا جسدها، لمعت عيناها بقوة، وأخرجت تنهيدة متعبة من صدرها تحمل الكثير، لن تنتهي معاناتها أبدًا، لن يشعر بأوجاعها أحد، تنهدت مرة أخرى لترد بعدها باستياء:
-يعني أنا لسه عايشة؟!

تجهمت قسمات وجهه مزعوجًا من أسلوبها التشاؤمي الذي يؤثر بالسلب على صحتها ويؤتي بنتائج عكسية مع علاجها المكثف، هتف معنفًا بلطف:
-ليه بتقولي كده؟ والله أزعل منك!
ضاقت نظراتها أكثر متعجبة طريقته معها، همست بصوت مرهق: -تعبت من كل حاجة، وزهقت، عاوزة أموت خليني أرتاح من ده كله!

باغتها بالإمساك بكفها وضمه براحتيه لتشعر بسخونة دمائه على بشرتها الباردة، انفرجت شفتاها مشدوهة من حركته تلك، وحدقت فيه بنظرات أكثر حدة، لم يهتم بردة فعلها، وتابع قائلاً بجدية وهو يضغط على كفها برفق:
-حتى لو فاض بس ساعة واحدة في عمرك، اوعي تفقدي الأمل وتستسلمي، في ناس يهمها أمرك يا مدام نيرمين!

شعرت بجفاف شديد في حلقها، لأول مرة تجد من يهتم بها خارج نطاق الأسرة، من يشعرها بأهمية وجودها في الحياة، من يبث في نفسها روحًا إيجابية تعيد بعث التفاؤل في روحها المستهلكة، رأت ابتسامة عذبة تتشكل على ثغره وهو يكمل بصوته الرخيم:
-سعيد إني اطمنت عليكي، وإنك فوقتي واتكلمتي معايا!
هزت رأسها بإيماءة خفيفة كتعبير عن امتنانها له، أسند كفها إلى جوارها متابعًا بنفس الابتسامة اللطيفة:.

-هاستأذنك هامشي، مطبق من بالليل، والشيفت بتاعي خلص من بدري، مهانش عليا أسيبك لوحدي!
استغربت كلماته كثيرًا، هي لم تعهد مثل ذلك الاهتمام المكثف من قبل، ناهيك عن المعاملة الرقيقة التي يستخدمها معها، ارتسم على وجهها الذابل ابتسامة باهتة مرددة:
-كتر خيرك
لمعت عيناه وهو يقول بتأكيد: -هاشوفك تاني، وعشان خاطري بلاش تشاؤم، اتفقنا؟
ردت بحذر: -ماشي
تابع محذرًا بجدية وهو يشير بعينيه: -خلي بالك من نفسك
-طيب.

-وأنا موصي الممرضة، هتابع معاكي وأنا هاكلمها أول بأول عشان أطمن
لم تصدق أذنيها، هو يعبأ لأمرها حقًا، ليست أوهامًا بفعل تأثير العلاج القوي الذي تحقن به أوردتها، وليست خيالات وردية اختلقها عقلها لها، أفاقت من شرودها هامسة بامتنان:
-تسلم على تعبك
رد بمرح: -تعب ايه بس، كل حاجة تهون عشانك!
عمق نظراته نحوها قائلاً بنبرة جادة وهو يلوح بإصبعيه: -عن إذنك!

صمتت نيرمين ولم تعقب عليه، لم يكن لديها من الكلمات ما ترد عليه به بألفة وتهذيب، بدت في حالة غريبة لبعض الوقت محاولة استيعاب الموقف وتفسيره، هو مازال يحاصرها بعباراته التي تربك حواسها، بالإضافة إلى نظراته المتطلعة لها باهتمام، حافظت على ابتسامتها الباهتة حتى خرج من الغرفة، فتلاشت من على ثغرها وهي تتسائل باندهاش:
-مش معقول، هو فعلاً بيقولي أنا الكلام ده..؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة