قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل المئة

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل المئة

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل المئة

أدركت في لحظة معينة من حياتها أنها وصلت إلى مفترق الطرق، إلى الختام حيث وجب عليها أن تصحح المسار، أن تضع لمسة أخيرة يذكرها الجميع فيها بالخير علها تحصل على الرضا والسلام الداخلي، لم تعبأ بتلك العبرات الساخنة المنهمرة من طرفي مقلتيها وهي تلح قائلة:
-لازم تتجوزوا!
نظرت لها أسيف بصدمة محاولة استيعاب ما قالته توًا، أحقًا تطلب منها ذلك في خضم ماهي فيه من معاناة قاسية، اعترضت قائلة بنبرة شجية:.

-مش هاعمل حاجة وإنتي كده، أنا..
قاطعتها نيرمين بإلحاح: -اسمعي الكلام، اتجوزي سي منذر واسعديه!
التفتت أعينها الباكية نحوه لتتابع من جديد بانكسار ملحوظ: - هو يستاهلك، وبيحبك!
بدت نبرتها أكثر اختناقًا وهي تتابع صعوبة: -مافيش راجل زيه أبدًا، هو واحد وبس!

كانت صادقة في ذلك، أصابت في رأيها وهي تمدح صفاته بلا توقف، فشعر منذر بالضيق والعجز لكونها تفصح باسترسال عن مشاعرها نحوه بصورة غير مباشرة في نفس الوقت الذي لا يستطيع هو فيه أن يمنحها شيء، قلبه خفق لواحدة فقط هي زوجته أسيف، فلا يحق له أن يعطي غيرها ما لا يملك.
تنهدت بحرارة لتسحب بعدها نفسًا عميقًا قائلة بوهن: -معلش تعبتكم
اعترضت أسيف بعتاب محبب وهي تمسح على جبينها برفق: -ماتقوليش كده، احنا..

أشارت لها بسبابتها المرتعشة لتقاطعها بهدوء: -هاطلب منك تنادي بسمة أكلمها!
هزت أسيف رأسها بالإيجاب فتابعت بتريث: -يا ريت أسمع خبر الفرح قريب
ردت عليها بابتسامة باهتة: -إن شاء الله!
تحركت رأسها ببطء نحو منذر لتطلب منه برجاء: -ده طلبي الأخير منك يا سي منذر لو كان ليا عندك خاطر، اتجوزوا وافرحوا
ضغط على شفتيه مرددًا: -ربنا يسهل، ويعينك على اللي انتي فيه!
ابتسمت له هامسة: -يا رب!

أخفضت أسيف كفها لتمسك بيدها وربتت عليه بكفها الأخر قائلة: -احنا برا، وهابعتلك بسمة على طول
أومأت نيرمين برأسها إيماءة خفيفة مرددة باقتضاب: -متشكرة!

تحرك منذر أولاً وصدره مثقل بالهموم والأحزان، فليس من السهل أن ترى قريبًا كنت تحدثه وهو في كامل صحته وعنفوانه على شفا الموت، لابد أن يكون في ذلك عظة، حكمة من المولى كي لا يتجبر الإنسان وينسى نفسه في لحظة، أخرج تنهيدات مكتومة من صدره محملة بالكثير رافضًا الحديث مع أي شخص، توجست عواطف خيفة أن يكون أصاب ابنتها خطب شديد فسألته بتلهف وهي تتفرس في ملامحه المشدودة:
-بنتي كويسة؟ طمني يا ابني!

رفع بصره في وجهها ليتأمل تعبيراتها المكلومة، ورد عليه بهدوء: -الحمدلله بخير
تبعته أسيف ماسحة أنفها بالمنشفة الورقية لكن لم تتوقف عيناها عن البكاء، دنت منها عمتها متسائلة:
-اطمنتي عليها يا أسيف؟
ردت عليها بحذر: -ايوه، وهي عاوزة تشوف بسمة وتكلمها!

انتفض جسدها حينما سمعت اسمها يلفظ على شفتي ابنة خالها وانقبض قلبها بقوة، جفاف شديد اعترى حلقها فشعرت كأن به علقم مر يزيد من نغصتها، كانت ترتجف وهي تنهض من مكانها حاملة للرضيعة الصغيرة، اقتربت من أسيف مرددة بصوت متقطع:
-نيرمين كويسة صح؟
حركت أسيف رأسها إيجابًا وهي تجيبها بألم: -هي بخير، بس عاوزاكي شوية!

ضمت بسمة الرضيعة إلى صدرها أكثر، وتابعت قائلة: -أنا هاخد رنا معايا، هي بنتها ومحتاجة حضن أمها شوية!
ردت أسيف بإيجاز: -براحتك
ربتت عواطف على ظهر ابنتها هامسة بتحذير رقيق: -طلي على أختك يا بسمة، هديها واسمعي منها، بس أمانة عليكي ماتضيقهاش في حاجة، هي مش ناقصة!
التفتت برأسها ناحيتها لترد بامتثال: -طيب!

ورغم الرجفة القوية التي سيطرت على بدنها إلا أنها جاهدت لتبدو قوية ومتماسكة أمامها، سارت بتمهل حذر نحو غرفتها تهدهد رضيعتها برفق مستجمعة منها شجاعتها، شعرت بذلك الألم العصيب الذي يفتك بحلقها لكنها قاومته، وتنهدت بعمق كبير ضابطة انفعالاتها، استعدت للولوج إليها وهي ترسم ابتسامة زائفة على محياها، لكن انهار كل شيء في لحظة حينما رأتها في تلك الحالة الواهنة، رغمًا عنها بكت بحرقة متأثرة لها، ركضت نحوها هاتفة بشهقة مكتومة:.

-نيرمين
انحنت عليها باكية بمرارة وهي تضمها بيد، وباليد الأخرى تحمل الرضيعة، لم تستطع قول المزيد عبرت عنها دمعاتها وشهقاتها عن ألمها الموجع لرؤيتها على تلك الحالة، همست لها نيرمين بوهن:
-مش كده، خلاص!

عجزت عن الرد عليها، مر أمام عينيها لحظات متداخلة من مشاهد كثيرة ضمت مشاحنات ومواقف كانت فيها أختها في قوتها، في شدتها، وحتى في قسوتها، وها هي الآن تراها في صورة أخرى، فُجع قلبها لرؤيتها في أضعف حالاتها، تابعت نيرمين قائلة بجمود مصطنع:
-كويس إنك جبتي رنا، كنت عاوزة أشوفها
خرج صوتها مكتومًا متقطعًا وهي تهمس لها بصعوبة: -ن، نيرمين!
ردت بتنهيدة تحمل في طياتها الكثير من الآلام: -ماتقوليش حاجة!

ابتلعت ريقها متابعة بتمهل: -عاوزاكي تسمعيني للأخر يا بسمة!
هزت رأسها بالإيجاب، وأسندت الرضيعة على طرف الفراش لتلهو بعبث بذراعيها مداعبة الهواء، سحبت نيرمين نفسًا عميقًا حبسته لثوانٍ في صدرها قبل أن تحرره دفعة واحدة لتستطرد بعدها قائلة بتحذير:
-بسمة اوعي تبقي أنانية وتضيعي حب حقيقي ظهر قدامك!

مسحت أختها الصغرى بظهر كفها عبراتها التي شكلت سحبًا ضبابية لتصغي لها بانتباه شديد، فواصلت الأخيرة مضيفة وهي تبتسم ابتسامة باهتة:
-دياب بيحبك، وباين أوي عليه!
لم تعلق عليها، واكتفت بتنكيس رأسها للأسفل، أشارت لها نيرمين بيدها متابعة: -أنا معرفش ده حصل ازاي، لأ ومعاكي إنتي بالذات، سبحان الله، مقدر ومكتوب، بس ماتبقيش غبية وتركبي دماغك وتخليه يروح منك!

تجمدت أنظار بسمة عليها منصتة بتركيز شديد في كل كلمة ترددها، هي تفتح لها بصيرتها، تدعمها في قرار مترددة بشأنه، تساعدها على الاختيار.
تنهدت بتعب وهي تقول محذرة: -اوعي تبقي زيي، امسكي بإيدك وسنانك في اللي بيحبك، في اللي مستعد يعمل أي حاجة عشان يشوفك بس مبسوطة!
بدا صوتها إلى حد ما أكثر اختناقًا وهي تقول: -اتجوزيه وعيشوا سوا، هو لايق عليكي!

مدت بسمة يدها لتضعها على كف أختها هامسة بصوت باكٍ: -مالوش لازمة الكلام في الموضوع ده دلوقتي، ارتاحي عشان خاطري
ردت عليها نيرمين بسخرية مريرة: -لأ ده وقته، يا عالم إن كنت ه..
فهمت سريعًا إلى ماذا تلمح، فقاطعتها بلا تردد: -ماتكمليش الله يكرمك!
سلطت نيرمين أنظارها عليها لتطلب منها بجدية: -اوعديني إنك هتتجوزيه يا بسمة!

صمتت ولم ترد، فاستعطفتها بنظراتها، تلك النظرات التي لم تكن رأتها فيها من قبل، نظرات لو كانت هي عنوانها لتغير الكثير معها، همست لها متسائلة:
-ها. هتوعديني؟
حركت رأسها باهتزازة خفيفة وهي ترد: -أوعدك!

أخفضت نيرمين نظراتها لتحدق في رضيعتها، تلك الصغيرة التي حرمتها من الكثير، لم تعدها نعمة وهبها الله لها، بل كانت ناقمة على وجودها في أغلب الأوقات لأنها تذكرها بزوجها وبعائلته المقيتة، داعبت يدها الصغيرة بإصبعيها، وتلمست بشرتها بحنو، ثم همست بصوت متأثر:
-وبنتي رنا!
تحركت أنظار بسمة نحوها، فأكملت بنبرة خفيضة: -مش هوصيكي عليها!

بكت أختها بحرقة أشد مستشعرة وداعها في جملتها تلك، فهتفت بنحيب: -انتي اللي هتربيها!
وكأنها لم تصغِ إليها، فتابعت معترفة بتقصيرها في حق رضيعتها: -أنا معرفتش أكون أم حنينة ليها، كنت قاسية عليها غصب عني!
وضعت يدها على يد أختها مكملة بتأكيد وهي محدقة في عينيها: -إنتي غيري يا بسمة، هاتحبيها وتعوضيها عني، مظبوط!

ارتجفت بسمة منفعلة لكلماتها التي تقطع القلوب، استأنفت نيرمين هامسة بصوتٍ باكٍ: -خلي بالك منها، وابقي احكي عني بالخير، قوليها أمك مختارتش حياتها، بس عمرها مكرهتك، مش ذنبك يا بنتي إن أبوكي وحش وأمك قاسية!
رغمًا عنها بكت بتأثر أكبر، هي جَنَت على رضيعتها بجمودها معها، لم تمنحها العاطفة والحب كما تستحق، أهملتها رغم تلك الغريزة التي منحها المولى لها، توسلتها بسمة باستعطاف:
-عشان خاطري ماتقوليش الكلام ده.

تجاهلت رجائها متابعة: -قربيها عشان أبوسها
نهضت بسمة من جوارها لتحمل الرضيعة، ثم قربتها من أختها التي جاهدت لتحني رأسها نحوها وقبلتها بحب تلك المرة، بللت عبراتها جبين ابنتها وهي تهمس لها:
-ربنا يجعل نصيبك أحسن مني يا رنا!
التقطت أذنيها كلماتها الهامسة فاعتصر قلبها متألمًا، وردت بتفاؤل محاولة إنكار ما تشعر به:
-هاتعيشي وتشوفيها لما تكبر!

أشارت لها لتبعد الرضيعة عنها وهي تقول: -ناديلي أمي أشوفها، وبعدين سبوني أرتاح!
بكت رنا ببكاء كبير وكأنها تستشعر رحيل أمها عنها، فزاد صراخها لابتعادها عنها، وحاولت خالتها أن تهدهدها برفق علها تهدأ لكنها فشلت، فابتعد بها عن نيرمين كي لا يؤلمها صوت البكاء الصارخ.
أغمضت نيرمين عينيها تاركة العبرات عالقة بأهدابها مستسلمة لمصيرها المجهول.

على عكس الجميع حاولت أن تبدو متفائلة وأكثر تماسكًا لتبث روح القوة والحماس في نفس ابنتها على روحها المعنوية المتداعية ترتفع من جديد، هي بحاجة لذلك الدعم عن ذي قبل، وإن كان الجميع في حالة حزن شديد عليها أن تكون على النقيض لأجلها، ولجت إليها بابتسامة مشرقة وهي تقول:
-حمدلله على سلامتك يا بنتي، إن شاء الله غمة وهتنزاح
ردت نيرمين مبتسمة بسخرية: -بتصدقي الكلام ده.

صاحت بها عواطف بصرامة طفيفة: -ولا كلمة يا نيرمين، الضاكتور قال ترتاحي، ولازم تسمعي الكلام
ردت عليها نيرمين بتنهيدة متعبة: -مش عاوزاكي تزعلي مني إن كنت..
قاطعتها بلهجة شديدة وهي تدنو من فراشها: -قولت ايه؟
مسحت على ساقيها المغطاة بالملاءة بيدها برفق، وتابعت بحماس: -وشدي حيلك بقى عشان تطلعي من هنا، ولا عاجبك أعدة المستشفيات؟

نظرت لها نيرمين بأعين لامعة منهكة من كثرة البكاء، ورغم تلك النظرات التي تفطر من يرى حقيقتها إلا أنها حافظت على ابتسامتها الودودة وهي تطالعها بحنو لتقول بضجر قليل:
-ده حتى لا أكل ولا نومة مريحة، اجمدي عشان نرجع بيتنا!
بدت غير مقتنعة بما تفعله، هي تشعر بمدى الحزن الذي تكتمه في قلبها، حاولت أن تعبر لها عن إحساسها بألمها نحوها، فردت مستنكرة:
-انتي بتضحكي علي مين يا ماما؟

وضعت عواطف يدها على وجنة ابنتها، وظلت تمسح عليها برفق شديد، وباليد الأخرى ربتت على كتفها قائلة بثقة:
-خلي عندك إيمان في ربنا، هو صانع المعجزات وقادر على كل شيء!
حدقت نيرمين في عينيها هامسة: -الحمدلله على كل حال، مالوش لازمة!

اكتفت عواطف بنظراتها الدافئة إليها وظلت مرافقة لها حتى غفت ابنتها في نومها، حينها فقط بكت متأثرة لحالها كاتمة في جوفها شهقاتها كي لا تخرج من حلقها وتفضحها، انحنت عليها لتقبلها في جبينها هامسة:
-ربنا يقومك بالسلامة يا بنتي!
انقضى اليوم والجميع مرابط بالمشفى متابعين باهتمام تطورات حالتها الصحية والتي ظلت على وضعها المستقر، ضجر دياب من بقائهم دون تقديم أي شيء، فاقترب من بسمة قائلاً:.

-مالهاش لازمة القعدة هنا!
هزت رأسها معترضة وهي تقول بإصرار: -أنا هافضل جمبها!
زم فمه قائلاً بضيق: -هاتفديها بإيه وانتي شكلك هتقعي من طولك؟!
عاد إليهم منذر هاتفًا بصوت مرهق: -أنا سألت الدكتور هنا وقال مافيش مرافقين، بينا يا جماعة!
اعترضت عليه بعبوس: -مش هانسيبها لوحدها.

في تلك المرة تدخلت عواطف لتقنع ابنتها بالعدول عن رأيها، فهتفت قائلة: -هو بيتكلم صح، يالا يا بنات، نيرمين في سابع نومة، واحنا محتاجين نكون بصحتنا عشان نفضل جمبها
لم تجد مفرًا من الرفض، فاضطرت أن تخضع لرغبة أمها وسارت معها تجرجر ساقيها المتعبتين، لحقت بهما أسيف بخطوات متهادية لكن انضم إليها منذر هامسًا بجدية:
-أسيف، عاوزك في كلمة
التفتت برأسها نحوه لترد باستغراب: -خير في حاجة؟

أشار لها بعينيه لتتبعه فتحركت بهدوء معه متباطئة في خطواتها لتتمكن من الحديث معه بانفراد، أخرج من صدره زفيرًا مسموعًا ليقول بعدها بجدية:
-بيتهيألي مالوش لازمة التأجيل بعد اللي اتقال!
فهمت مقصده، هو يعني إتمام الزيجة التي تأجلت بفعل الظروف الطارئة التي مرت بها العائلة، تحرجت منه قليلاً وهي تهمس باعتراض طفيف:
-بس..
قاطعها بهدوء: -هي خلاص عرفت كل حاجة!

بدت نظراته أكثر صرامة وهو يكمل بجدية: -وطالما دي رغبتها يبقى أكيد هاتفرح لما تلاقينا مبسوطين، صح؟
تردد في إعطائه إجابة مباشرة، فتحججت قائلة: -طب أخد رأي عمتي وبسمة
رد عليها بهدوء: -براحتك، وكمان في حاجة
عقدت ما بين حاجبيها متسائلة بتوجس: -ايه هي؟
أجابها بهدوء: -دلوقتي أنا ظبطت الشقة بتاعتنا، ناقص كام حاجة فيها وتكون خلصت، فايه رأيك لو اتجوزنا فيها؟

رمشت بعينيها عدة مرات، كان الأمر محيرًا نوعًا ما، فقد رتبت أمورها على البقاء معه في البداية مع عائلته، لكنها تفاجأت بتجهيزه منزل الزوجية في وقت قصير،
استشعر منذر حالة التخبط المسيطرة عليها والتي انعكست بوضوح على ملامحها، فأكمل موضحًا:
-أنا مديكي حرية الاختيار، ده موجود وجاهز، والأوضة جاهزة في بيتنا، ممكن نيجي عند أهلي ونبات كام يوم، فكري وأنا معاكي في اللي تختاريه!

ابتسمت له لكونه يمنحها مساحة من الحرية للتفكير فيما ترسد، فردت بإيجاز: -ماشي
لف ذراعه حول كتفيها ليجبرها على السير معه في أحضانه، فتورد وجهها خجلاً من حركته البسيطة تلك، مال عليها برأسه ليهمس لها باشتياق:
-وحشتيني، ووحشني حضنك!
أدارت رأسها في اتجاهه لتنظر له بأعين لامعة، فتناست مع نظراته تلك الأحزان التي تعيشها، ففي عينيه الدفء والأمان.

بعد مرور يومين، حدق الجميع باندهاش غريب غير متوقعين ما يحدث بالمنطقة الشعبية، لو سرده أحدهم لم يكن ليصدقوه، لكن ما يروه الآن يحدث على مرأى ومسمع من الأشهاد، فالحاج طه المعروف بالشدة والصرامة وهو يسير بصحبة مهدي أبو النجا ليتجه به نحو مطعمه الذي حُكم عليه بالغلق لتجاوزات ابنيه مع عائلته وكأن شيئًا لم يحدث، تجمع المارة متبادلين همهمات خافتة متابعين بفضول ما يدور.

صاح طه عاليًا: -اتفضل يا حاج مهدي، افتح محلك بنفسك!
التفت الأخير نحوه محدقًا فيه بنظرات شاكرة، لقد تفاجأ به يطلب منه فتح مطعمه ليمارس عمله من جديد، تشكل على ثغره ابتسامة صغيرة قائلاً بامتنان:
-ولاد الأصول محدش يقدر يتكلم عنهم بكلمة، كتر خيرك يا حاج طه على اللي عملته معايا، أنا مش عارف أقولك ايه.

ضرب طه بعكازه الأرضية الصلبة قائلاً بجدية: -احنا مش بناخد حد بذنب حد، وأنا عارف إنك إنت اللي باني المطعم ده طوبة طوبة، فاقعد فيه وليك الأمان!
هز مهدي رأسه مرددًا بانكسار: -ربنا ما يحكم عليك ظالم!
أشار له بكفه متابعًا: -بينا يا حاج مهدي نتكلم في مطعمك!
ثم استدار برأسه للجانب صائحًا في أحد عماله: -شربات هنا يا وله حلاوة رجوع الحاج مهدي بالسلامة!
رد الأخير بامتثال وهو يبتسم: -أوامرك يا حاج طه!

ظلت علامات الذهول والصدمة مرسومة على أوجه الجيران، ورغم ذلك أبدوا إعجابهم بتصرفه العقلاني خاصة في موقف القوة، حينما تكون منتصرًا، هو كسب المزيد من الاحترام والتقدير من قاطني المنطقة، وظل الحديث عن ذلك المشهد دائرًا على ألسن الجميع..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة