قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العشرون

لوح بعصاه الخشبية في الهواء آمراً رجاله بإكمال عملهم في أرضه الزراعية، فقد اقترب موسم الحصاد، وهو يحتاج للتأكد من جودة المحصول وخلوه من الآفات.
رن هاتفه لعدة مرات لكنه لم ينتبه لرنينه المتواصل بسبب صوت الضجيج من حوله.
لاحظ هو تقاعص البعض منهم، فهتف بصوت مرتفع محمساً إياهم: -لو خلصتوا على قبل العصرية هتاخدوا يومية زيادة!
اجتهد الرجال أكثر بعد تحفيزهم مادياً.

دنا منه أحد الفلاحين مردداً بنبرة خشنة: -يا حاج فتحي، الواد خَلَف بتاع المواشي بيقولك يودي الجاموسة عند الحاج اسماعيل!
استدار ناحيته ورمقه بنظرات جادة قائلاً بإستنكار: -هو لسه مودهاش؟ انت عاوز الحاج يزعل مننا؟
رد عليه الرجل معللاً: -لأ بس مكنش في مواصلة وآآآ..
قاطعه الحاج فتحي بغلظة وهو يضرب الأرض بعصاه بعصبية: -تتصرف على طول، هو كل حاجة لازم أعملها بنفسي؟!

أومأ الرجل برأسة قائلاً بإرتباك: -حاضر يا حاج، اعتبرها راحت عنده
لكزه الحاج فتحي في كتفه بقوة قائلاً: -مش بالكلام يا فالح!
-ماشي يا حاج!
قالها الرجل وركض عائداً لينهي مهمته الناقصة.
اتجه الحاج فتحي بعدها ناحية الشجرة الموضوع أسفلها ذلك الشرشف النظيف ليجلس بإسترخاء عليه.
تأوه بإنهاك وهو يمدد ساقيه للأمام. وتمتم مع نفسه مردداً بإزدراء: -شغال مع بهايم، محدش فيهم بيفكر خالص!

استشعر تلك الإهتزازة الخفيفة المنبعثة في جانبه، فمد يده ليخرج هاتفه المحمول.
ضيق نظراته ليرى اسم المتصل لكنه لم يتبينه جيداً، فقد حجب الضوء الرؤية في الشاشة بوضوح.
غطا جزءاً منه بكف يده فبرز اسم حنان عليه.
لوى فمه للجانب محدثاً نفسه بإمتعاض: -ودي عاوزة ايه؟
أجاب على اتصالها قائلاً بصوت آجش: -سلامو عليكم! أيوه يا حنان! ايه الأخبار؟
رد عليه صوت ذكوري غريب على مسامعه: -انت الحاج فتحي؟

انتصب الأخير في جلسته متساءلاً بجمود: -ايوه، مين معايا؟ مش ده تلافون حنان، هو وصلك إزاي، وآآآ..
رد عليه منذر بهدوء حذر مانعاً إياه من الاسترسال في أسئلته: -بالراحة عليا كده يا حاج فتحي في الأسئلة! اصبر وأنا هاجاوبك
انفعل عليه الأخير قائلاً بنفاذ صبر: -إنت مين؟ ما تكلم؟!
أجابه منذر بحذر: -أنا هافهمك، بس الأول لازم تعرف إن صاحبة التليفون ده آآ..
صمت لثانية قبل أن يتابع موضحاً بجمود: -ماتت!

جحظت عيني فتحي بذهول كبير، وصاح مصدوماً: -بتقول ايه؟ حنان ماتت!
استشاطت نظرات بسمة للغاية نتيجة أسلوب دياب الجاف والمتسلط عليها.
حاولت ردعه وايقافه عند حده لكنها كانت منهكة بدرجة كبيرة، كذلك استنفذت قواها في تكرار الكشف عليها للتأكد من عدم تطور الأمر معها.
سأل دياب الطبيب بجدية وهو يسحبه خارج الغرفة: -هي هتبقى كويسة؟
هز الطبيب رأسه بالإيجاب قائلاً: -اه، بالكتير على بكرة هاتكون في بيتها.

ابتسم دياب بإرتياح: -تمام، طمنتني!
ثم سكت للحظات ليتساءل بعدها بفضول وهو يرى إحدى الممرضات تحسب عينه أخرى من دمائها:
-طب ليه الكشوفات الكتير دي وآآ..
أجابه الطبيب بإنزعاج قليل: -أصلها مش أول حالة تسمم تجيلنا
ارتفع حاجباه للأعلى في اندهاش، وهتف متعجباً: -نعم؟ هو في غيرها؟
رد عليه الطبيب بنبرة جادة: -أيوه، كذا حالة جت، وتقريباً كلهم من نفس المكان، فبنجمع عينات عشان التقرير!

فرك دياب صدغيه بحركة ثابتة، وأردف قائلاً بتبرم: -أها، طيب!
كان الطبيب على وشك الانصراف، فاعترض دياب طريقه قائلاً بنبرة متلهفة: -استنى يا دكتور
توقف الأخير عن الحركة مردداً بإيجاز: -خير
تنحنح دياب بحرج قليل: -احم، أنا كنت بس عاوز أشكرك على تعبك، وآآ. ومش هوصيك عليها!
ابتسم له الطبيب بتكلف وهو يضيف: -اطمن، كلنا بنراعي المرضى هنا!

رد عليه دياب بنبرة جادة: -أنا عارف، بس دي اهتم بيها شوية زيادة، سامع، خد بالك منها!
بادله الطبيب ابتسامة سخيفة مصطنعة وهو يقول: -ماشي، وربنا يخليهالك!
نظر له دياب شزراً، وتمتم ساخراً: -بأقوله اهتم بيها شوية، مش مراتي يعني عشان يقولي ربنا يخليهالك!
بعد مرور يوم،.

استقل الحاج فتحي القطار ليصل إلى وجهته مجبراً، فبعد أن تلقى خبر وفاة حنان من منذر، اضطر أن يوقف جميع أعماله، و أصبح لازماً عليه الحضور للوقوف إلى جوار ابنتها وتولي شئونها ريثما تستعيد عافيتها خاصة بعد أن عرف بعلتها.
فهو يعد نفسه بمثابة خالها، وقريبها الوحيد المعروف لدى أهل قريتهم.
وعلى مضض كبير سافر إليها لاعناً طوال الطريق تلك الظروف التي أجبرته على تعطيل أعماله نتيجة وفاتها.

تلقى التعازي من أغلب رجال القرية، وكذلك التوصيات على تلك اليتيمة حتى لا يتركها بلا ظهر أو سند.
لكن هذا لا يقارن بخسارته المادية لتوقف العمل.
حدث نفسه بإستياء كبير وهو يطالع الطريق الزراعي من نافذته المجاورة: -هي ناقصة خسارة! كل ما ألمها من حتة تفرك من الحتة التانية!
زفر بضجر متابعاً حديث نفسه: -ولسه موال البت أسيف، مش معقول هاسيبها لوحدها كده في بلد غريبة!

هز رأسه بحركة ثابتة وهو يردد لنفسه بنبرة عازمة: -هي هترجع معايا وبعد كده أشوفلها حد معرفة يتجوزها وأسترها وأرتاح من همها! جوزها يشيل عني! أنا مش ناقص!
-حمدلله على سلامتك يا ضنايا
قالتها عواطف وهي تلف ذراعها حول خصر ابنتها لتسندها أثناء خروجهما من باب المشفى الأمامي
لم تعقب عليها بسمة، وواصلت سيرها بتمهل شديد وهي منكسة لرأسها للأسفل.

مسحت عواطف بيدها الأخرى على وجه ابنتها قائلة بتلهف خائف: -وربنا كان هيجرالي حاجة لما عرفت من دياب إنك هنا!
اشتدت تعابير وجهها بعد سماعها لإسمه، وتحولت نظراتها للإنزعاج
أكملت أمها قائلة بإمتنان: -كتر خيره جدع ابن أصول قام بالواجب وزيادة!
ردت عليها بسمة بصعوبة بنفاذ صبر: -كفاية بقى يا ماما، دماغي صدعت من سيرته، هو اعمل ايه يعني؟
-ها ايه الأخبار؟

هتف بها دياب متساءلاً وهو يقف قبالة بسمة مسلطاً أنظاره عليها.
رفعت وجهها فجأة للأعلى لتحدق فيه بصدمة مزعوجة.
هللت عواطف قائلة بسعادة: -سي دياب، لسه كنت بأشكر فيك وآآ..
التفتت بسمة إلى والدتها ناظرة نحوها بضيق كبير، وهتفت مقاطعة من بين شفتيها على مضض:
-خلاص يا ماما بقى!
نظر لها دياب بقوة وهو يقول بإبتسامة باهتة: -واضح كده إن الأبلة لسه تعبانة!
ردت عليه بسمة بحدة: -لأ، أنا بقيت كويسة!

همست لها عواطف محذرة من أسلوبها الفظ: -كتر خيرك يا بني، هي بفضل الله بقت أحسن وهناخد تاكسي من هنا
اعترضت على ما قالته مردداً بإصرار: -ليه تاكسي؟ ما العربية معايا، تعالوا أوصلكم في سكتي
احتجت بسمة مرددة بضيق: -لأ، مش عاوزين
كزت عواطف على أسنانها قائلة بصوت خفيض وهي تميل برأسها على ابنتها: -يا بت خليكي كويسة مع الناس، دي شكراً بتاعتك، هو أنا اللي هافهمك بردك!

اعترضت بسمة على تخاذل والدتها الغير مبرر أمام تلك العائلة مرددة: -الله!
تابع دياب قائلاً بجدية وهو يشير بكفي يده: -يالا يا أبلة، المرور واقف، كده هناخد مخالفة!
هتفت عواطف بنبرة متشجعة: -حاضر يا بني، احنا جايين أهوو!
تحرك ثلاثتهم بخطى بطيئة نحو سيارته المصفوفة بجوار الرصيف.

مدت عواطف يدها لتفتح الباب الخلفي لتجلس ابنتها بأريحية على المقعد بمفردها دون مضايقة من أي شخص. ثم انحنت لتعدل من وضعية حذائها الذي انتزع من قدمها.
انتبهت لصوت ممرضة ما تصيب عالياً: -يا حاجة، يا مدام!
تساءلت عواطف بإستغراب وقد تشكل على ثغرها علامات القلق: -ايوه يا بنتي؟ في حاجة؟
أجابتها الممرضة بصوت لاهث: -اه، انتوا خرجتوا من غير ما توقعوا على اذن الخروج.

ضربت عواطف بكف يدها مقدمة رأسها مرددة بإعتذار: -معلش يا بنتي، اتلبخنا بقى، هاتي أما أمضيلك على الاذن ده!
ناولتها إياه الممرضة وهي تقول: -اتفضلي
ركب دياب سيارته سريعاً، وضبط وضعية المرآة ليظهر انعكاس وجه بسمة به.
تعمد النظر إليها وهو يقول بمزاح: -تعرفي حتى ابني يحيى سألني عليكي، وزعل أوي لما عرف إنك في المستشفى، ده صدمني لما سألني هي الأبلة ماتت ولا لسه!

اتسعت حدقتيها بغيظ كبير لكنه تابع بجدية زائفة: -بس أنا زعقتله وبهدلته، قولتله دي مش طريقة تتكلم بيها مع الأبلة بتاعتك، صح ولا أنا غلطان؟!
رمقته بنظرات نارية مستشاطة، ونفخت بصوت مسموع وهي تشيح بوجهها للجانب مكتفية بتجاهله حتى لا تعطيه أكبر من حجمه.
ظل هو محدقاً بها، وعلى ثغره ابتسامة متسعة، ثم لوح بهاتف ما محمول بيده متابعاً ببرود:
-صحيح، موبايلك معايا، مش ناوية تاخديه؟

التفتت سريعاً نحوه بوجهها العابس، وحدجته بنظرات محتدة للغاية، ثم مدت يدها لتلتقط منه هاتفها، لكنه قبض عليه وأبعده قائلاً بتسلية:
-يعني لولا البتاع ده مكونتيش عبرتيني؟
ردت عليه بسمة بفظاظة: -يا ريت تبطل سخافة لأن دمك تقيل، وأنا جبت أخري!
تجمدت نظراته عليها، واشتدت ملامحه نوعاً ما، ثم هتف بقساوة غريبة وهو يقذف بالهاتف خلف ظهره:
-بجد! خدي.

انزعجت من تصرفه الوقح معه، ولكنها ردت عليه غير مكترثة به قائلة بإقتضاب متجهم:
-هات!
استقلت عواطف هي الأخرى السيارة هاتفة بإبتسامة عريضة: -ربنا يباركلك يا رب ويكفيك شر المستخبي! الواحد بصراحة مش عارف يقولك ايه على كرم أخلاقك
رد عليها بجفاء: -عادي، مش حاجة يعني!
لاحظت هي تبدل تعابيره، فظنت أنها ربما تكون هي وابنتها عبئاً ثقيلاً عليه، فأثرت الصمت في الوقت الراهن.

قاد دياب السيارة عائداً بهما إلى منطقتهم الشعبية ليكمل بعدها طريقه إلى الوكالة.
هز رأسه للجانبين مستنكراً إلحاح والده بضرورة البقاء مع تلك اليتيمة وعدم تركها بمفردها في المشفى.
انزعج من إصراره الغير مبررا محتجاً بضجر: -يا حاج ورانا شغل، مش هانعطل مصالحنا يعني عشان واحدة زيها!
أضاف طه قائلاً بنبرة عقلانية محاولاً اقناعه: -ده انت دايما بتسعى للخير!

رد عليه منذر بحدة وهو يضرب بقبضتيه على سطح المكتب: -وعملت اللي عليا وزيادة، مطلوب مني ايه تاني؟
علل والده سبب إصراره مردداً: -ما هي مالهاش حد آآ..
قاطعه منذر بصوت غليظ وقد ضاقت نظراته: -اومال عواطف دي تبقى ايه؟ خيال مآتة مثلاً؟!
برر طه قائلاً بصوت رزين: -ولية زيها بتغرق في شبر مياه، انت كمان ناسي مشكلة بنتها ورقدتها في المشتشفا، يعني هتلاحق على ايه ولا ايه؟

رد عليه منذر بتبرم ملوحاً بذراعه: -ودياب عمل اللي عليه معاهم، يعني مقصرناش!
تابع طه قائلاً محاولاً اثناءه عن تشبثه برأيه الرافض: -أنا عارف بس آآ..
نهض منذر عن مقعده، ودفعه للخلف بقدمه، ثم دار حول مكتبه مقاطعاً إياه بصوت جاد للغاية:.

-بص يا حاج، احنا عندنا طلبات وأوردرات عاوزة تسلم، وكل ده بيقف علينا بخسارة، ودياب مش فاضي، وإنت يا حاج وراك شغل هنا بتنجزه، مين بقى اللي هيودي طلبات العملاء؟ ده حتى المال السايب بيعلم السرقة!
حرك طه رأسه مستنكراً عِنده، وضرب بكفيه على رأس عكازه الخشبي: -مش عارف أقولك ايه!
استأنف منذر حديثه الجامد قائلاً بتهكم: -وبعدين يعني هي مش في الشارع، هي في مستشفى ومعاها ممرضات ودكاترة بيتابعوها!

جلس منذر قبالة والده، وسلط أنظاره الحادة عليه وهو يميل بجذعه نحوه، ثم تابع بصوت آجش صارم:
-احنا مهمتنا خلصت لحد ما خلصنا الإجراءات وكلمنا قريبها، وهو بقى يتصرف معاها!
رمقه طه بنظرات معاتبة هاتفاً: -لا حول ولا قوة إلا بالله، ده أنا بأقول عليك قلبك طيب!
زفر منذر بعمق وهو يعيد ظهره للخلف، وأشاح بوجهه بعيداً مضيفاً بنفاذ صبر:
-يا حاج ماتحسسنيش بالذنب!

مال طه عليه قائلاً برجاء خفي: -روح بس بص عليها، وشوف إن كان ناقصهاحاجة، دي يتيمة يا بني!
صاح به منذر بتذمر ساخط: -هو أنا خلفتها ونسيتها!
حدجه أباه بنظرات منزعجة، ونهض فجأة عن مقعده مردداً بإمتعاض ضارباً بعكازه الأرضية الصلبة:
-خلاص يا منذر، هاروح أنا طالما مش عاوز!
هب ابنه البكري هو الأخر واقفاً من مكانه، ولحق به قائلاً بضجر: -استنى يا حاج!

أشار له طه بيده هاتفاً بصرامة وإصرار: -لا مش هاستنى، أنا متعودتش أسيب ولية لوحدها من غير راجل! وإن مكونتش فاضي تروحلها، فأنا لسه معدمتش صحتي
وفع منذر يده ومررها على رأسه عدة مرات بحركات سريعة متتالية تشير إلى عصبيته، ثم أردف قائلاً بحذر:
-استغفر الله العظيم، خلاص يا حاج، اقعد انت وأنا رايح أشوفها
التفت طه ناحيته نصف التفاتة، ورمقه بطرف عينه بإنزعاج وهو يقول بعبوس: -لا خليك في الطلبات وآآ..

قاطعه منذر بصوت شبه نادم: -خلاص يا حاج بقى، خليك في الوكالة وأنا رايح مكانك
ثم انحنى على كتفه ليقبله بحنو قائلاً بإعتذار: -حقك عليا يا حاج!
ربت طه على ذراع ابنه هاتفاً بهدوء: -ماشي يا منذر، ماشي!
ثم اتجه بعدها للمكتب ليسحب سلسلة مفاتيحه من على سطحه، وتمتم مع نفسه قائلاً بتبرم متهكم:
-أل كنت ناقصها هي كمان!
سار بعدها بخطى متعجلة نحو الخارج وهو يسب ويسخط بإنزعاج أكبر بسبب ذلك المشوار الثقيل.

تمكن الحاج فتحي من الوصول إلى المشفى الحكومي المتواجد به جثمان الراحلة حنان، وكذلك أسيف.
ولج إلى داخل الاستقبال وهو يصيح بصوت جهوري منفعل: -هي فين بنت المرحوم؟
نظر له الجميع بغرابة، فأكمل صياحه الهادر: -فين عرضي وشرفي؟
اقتربت منه إحدى الممرضات معنفة إياه على أسلوبه الهمجي في الصراخ في مكان كهذا قائلة:
-جرى يا بلديتنا انت داخل وكالة من غير بواب.

نظر لها شزراً، ورد عليها بعصبية: -أنا جاي أسأل على بنت أخويا وعلى أمها اللي ماتت هنا، هما فين؟
سألته الممرضة مستفهمة: -تقصد مين بالظبط؟
أجابها بنبرة مكفهرة: -أسيف رياض خورشيد وأمها حنان!
أشارت له بكفها قائلة بنبرة رسمية: -مافيش داعي للشوشرة، حضرتك اسأل في الاستعلامات وهيدلوك على اللي انت عاوزهم!
صاح متبرماً: -انتو هتدوخوني وراكم.

ردت عليه بريقة مهنية وهي تحاول الحفاظ على ثباتها الانفعالي أمامه: -معلش، ده النظام هنا يا حاج، اتفضل معايا!
هتف من بين أسنانه بصعوبة: -صبرنا يا رب على الهم ده
وبالفعل تبعها مجبراً ليتجه نحو الاستقبال ليستفسر أكثر عما يخص أسيف وأمها المتوفية.
[[ ناولتها قطعة من الخبز الذي أعدته لها، فابتسمت لها بإشراق وهي تقطم قطعة كبيرة منه.
التهمتها على عجالة، فحذرتها حنان قائلة: -بالراحة يا أسيف، كده غلط.

كركرت ضاحكة وهي تقفز بمرح على الأرضية الزراعية، فانزعجت والدتها قليلاً من عبثها الطفولي. وخشيت أن تتصرف برعونة فتؤذي نفسها؟
رد عليها زوجها رياض بنبرة حانية: -سِبيها يا حنان تعمل اللي هي عاوزاه!
التفت ناحيته قائلة بقلق: -أنا خايفة عليها يا رياض!
ابتسم قائلاً بثقة وهو يمد يده ليمسك بكفها ويحتضنه بين راحتيه: -لا اطمني، بنتك قوية!

نظرت إليهما صغيرتهما بسعادة كبيرة وهي تهتف بتلهف: -أنا بأحبكم أوي، عاوزة أفضل على طول معاكو! مش عاوزة اكبر خالص!
ردت عليها والدتها بإبتسامة ودودة: -يعني مش عاوزة تكوني عروسة ويبقالك بيت وآآ.

هزت رأسها نافية وهي تقول بإصرار: -لأ، أنا عاوزة أفضل صغنونة كده وألعب هنا في الأرض وأكل من إيدك يا ماما، لأ، أنا هاتعلم أطبخ زيك عشان أبقى شطورة أوي، وكمان هاذاكر كتير وأبقى ذكية زي بابا وأزرع الأرض، وألم المحصول وآآ..
قاطعها أباها قائلاً بضحكة مرحة: -كل ده! واحدة واحدة يا أسيف
اتجهت ناحية والدها، وجذبته من كف يده قائلة بحماس: -طب تعالى نلعب شوية يا بابا، ايه رأيك في الاستغماية؟

رد عليها مبتسماً: -ماشي، بس قبلها نطير طيارتك الورق!
أشرقت عيناها بحماس أكبر، فسألها مهتماً: -ها إنتي جبتيها ولا آآ..؟
صفقت بيدها قائلة بتأكيد: -اه
نهض ببطء من رقدته المسترخية على الأرضية الزراعية قائلاً بعزم: -طب بينا يالا!
أمسكت هي بطائرتها الورقية، وبدأت تركض بأقصى سرعتها في اتجاه تلك البقعة الواسعة في أرضهم الزراعية. ثم أطلقتها في الهواء لتحلق عالياً بفعل النسمات القوية.

حاول أباها اللحاق بها قائلاً بصوت شبه لاهث: -استني يا أسيف، متجريش!
لم تستطع التحكم في رباط طائرتها ففلتت من قبضتها الصغيرة، وبدأت في التحليق عالياً، فزادت من سرعتها محاولة الإمساك بها وهي ترد بقلق:
-عاوزة أمسك الطيارة قبل ما تضيع مننا!
هتف والدها بصوت قد بدأ يخبو نسبياً: -استنينا يا بنتي!
لم تستدر نحوه، وردت عليه بصعوبة وهي تقفز للأعلى محاولة إمساك رباط الطائرة: -أنا قربت أمسكها.

نجحت بعد عدة محاولات في استعادتها، فابتسمت بإنتصار، ثم التفتت للخلف باحثة بأعينها عن والديها.
كان المكان خاوياً من أثرهما، فانقبض قلبها خوفاً.
تلفتت حولها بهلع واضح وصاحت متساءلة بتوجس كبير: -بابا! ماما! انتو روحتوا فين؟
ركضت عائدة في نفس الإتجاه الذي جاءت منه لكن لم يكن لهم أي أثر، فأكملت صراخها المذعور:
-بابا! ماما! انتو فين؟

تسارعت دقات قلبها، وزاد خوفها وهي تصيح بفزع: -خلاص مش هابعد عنكم تاني، انتو مستخبين فين؟
اختفت من يدها تلك الطائرة الورقية التي كانت ممسكة بها، وأصبحت فجأة في مكان مظلم بمفردها، لا يحيطها أي شيء سوى فضاء شاسع.
زادت رجفتها، واختنق صوتها وهي تتوسلهما قائلة: -ماتسبونيش لوحدي!

وجدت نفسها تبكي بلا توقف، عبراتها تنهمر بغزارة مغرقة وجهها بالكامل. استشعرت بعدها تلك الحقيقة المريرة، وهي فقدان عائلتها وخسارتهما للأبد.
تهدج صدرها، وزاد عويلها ونحيبها المتآلم.
أطلقت بعدها صرخة موجعة من أعمق المناطق بفؤادها متأثرة لرحيلهما وتركها تقاسي وتعاني بلا شفقة أو رحمة من الأخرين ]]
أفاقت أسيف من كابوسها المؤلم مرددة بصوت مختنق دون أن تفتح عينيها: -آآآه. بابا، ليه سبتني وخدت ماما معاك؟

لاحظت الممرضة المتواجدة معها بالغرفة استعادتها لوعيها، فاقتربت منها لتطمئن عليها أكثر وتفهم ما تقوله.
في نفس التوقيت، صعد الحاج فتحي إلى الطابق المتواجد به غرفة أسيف المشتركة.
جاب بأنظاره أرقام الغرف حتى يصل إلى رقم غرفتها الصحيح، وما إن وجده حتى نفخ بضيق مردداً:
-دوختيني وراكي!
لم يتردد كثيراً، حيث اقتحم الغرفة، وسلط أنظاره على تلك الراقدة قائلاً بنفاذ صبر:
-الحمدلله، أديني وصلتلك!

انتفضت الممرضة فزعة من طريقته في اقتحام الغرفة دون أي مراعاة لخصوصية المرضى، فصاحت به بحدة:
-رايح فين يا حضرت؟
أجابها بقساوة وهو يحدجها بنظرات غير مبالية: -داخل أخد بنتي!
اعترضت طريقه قائلة بجدية: -ماينفعش كده!
دفعها من ذراعها للجانب صائحاً بضيق: -هو ايه اللي ماينفعش، عاوزاني أسيب لحمي وعرضي كده لوحدها، قالولكم عني مش راجل!
ردت عليه موضحة بنبرة شبه صارمة: -يا حاج، يا حضرت، دي مستشفى محترم وآآ..

قاطعها قائلاً بعدم اهتمام وهو مُصر على إصطحابها معه عنوة: -بلاهة الكلام الفارغ ده، احنا لحمنا مش بنسيبوه!
دنا الحاج فتحي من فراشها الطبي، وأزاح عنها الملاءة التي تغطي جسدها، ثم انتزع جبراً تلك الإبرة الطبية الموصولة برسغها فسببت لها الآلم.
تأوهت بأنين خفيض وهي غير واعية بالقدر الكافي لتستوعب ما يدور حولها.
هتفت الممرضة قائلة بتوجس وهي تحاول منعه: -يا حاج مايصحش كده، المريضة مش في حالتها.

نظر فتحي للممرضة بسخط، ولم يعبأ بصياحها المتواصل.
وضع قبضته على أسيف، وأجبرها على النهوض من رقدتها قائلاً بجمود: -تعالي يا بنت الغاليين!
ترنح جسد أسيف بسبب انعدام اتزانها، وكادت تسقط على وجهها، فأسرعت الممرضة بإسنادها قائلة بتوجس كبير:
-لو سمحت حالتها ماتسمحش، دي عندها انهيار عصبي ولازم تفضل هنا!
دفع الحاج فتحي الممرضة من كتفها بقبضته، وأمسك بأسيف باليد الأخرى مردداً بتجهم غاضب:.

-انتو هتخافوا عليها أكتر مني!
لم تترك المريضة تفلت من يدها، وأصرت على اعتراضه ومنعه من أخذها بالقوة وهي تقول:
-لأ، بس دي أوامر الدكتور!
جذبها بعنف ناحيته، وضمها بذراعه إلى صدره هاتفاً بإزدراء: -أنا أدرى منكم، ومش هاسيبها هنا
ردت عليه الممرضة محذرة وهي تشير بسبابتها: -انت كده بتعرضها للخطر.

أفاق عقل أسيف نوعاً ما بسبب تلك الحركات الإهتزازية العنيفة، واستعادت جزءاً مما حدث، وربطته مع حلمها الموجع الذي ظل عالقاً بذاكرتها القريبة.
كم ودت أن تظل باقية في حلمها الذي جمعهما بالأقرب و الأغلى إلى قلبها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
همست بأنين منتحب وقد تراقصت العبرات في عينيها شبه المفتوحتين: -ماما. ماتسبنيش!
نظر لها فتحي بقسوة ونهرها قائلاً بغلظة: -اسكتي يا بت، وتعالي معايا!

حاولت بضعف الابتعاد عنه، لكنها لم تقوَ، فقاومت على قدر استطاعتها قائلة بنبرة مختنقة:
-لأ. أنا عاوزة ماما!
زدات مقاومتها تدريجياً وهي تقول بإصرار: -ودوني عندها، ماتخدوهاش مني!
شدد فتحي من قبضته على ذراعها، وضمه أكثر إلى صدره قائلاً بحدة: -اخرسي وبلاش فضايح!
دفعته أسيف من صدره بكف يدها المرتعش محاولة التخلص منه وهي تصرخ ببكاء: -ماما، ليه بتحرموني منها؟

ردت عليها الممرضة بتوجس بعد أن رأت تردي حالتها النفسية: -اهدي لو سمحتي!
كان الحاج فتحي على وشك صب جم غضبه عليها بسبب تصرفاتها الهوجاء، والتي تعد من وجهة نظرة خارجة عن قواعد الأصول والتربية السليمة، فكز على أسنانه قائلاً بتوعد شرس:
-باين أمك مربتكيش، بس أما نرجع البلد لينا كلام تاني!
تابعت صراخها الموجوع مرددة: -آآآآه، ماما!

فاض به الكيل، فوضع يده على فمه ليكتم صراخاتها قائلاً بتهديد صريح: -اتلمي واكتمي حسك ده بدل ما أقطع نفسك
ثم بيده الأخرى ضغط على رأسها بقوة لينكسها للأسفل بطريقة مهينة.
شهقت الممرضة مصدومة من فعلته، واحتجت قائلة: -يا حاج ماينفعش كده!
حاولت التدخل لأكثر من مرة ومنعه من التصرف بعنف معها، لكنه كان يدفعها بقوة بعيداً عنهما.
قبض هو على رسغي أسيف بيده، وظل مكمماً لشفتيها مانعاً إياها من الصراخ والاستغاثة.

في تلك اللحظة تحديداً وصل منذر إلى الرواق المؤدي إلى غرفتها، وسمع صوت الصراخات المنبعثة منها، فأسرع في خطواته نحوها.
وقف على عتبتها، وشهد بأعينه ما يحدث فصاح مستنكراً بصوت قاتم: -في ايه اللي بيحصل هنا؟
ظل الحاج فتحي مقيداً أسيف، والتفت نحوها متساءلاً بنفاذ صبر: -انت مين؟

دنا منه منذر، ونظر له بشراسة وهو يرى مدى عجز تلك الضعيفة وهي واقعة في أسر ذلك الرجل الغليظ، وصاح به بصوت متشنج ونظراته تكاد تفتك به:
-أنا اللي بسألك إنت مين؟
وزع الحاج فتحي نظراته بين ذلك الغريب والممرضة قائلاً بتحدٍ غير عابيء بهما: -بأقولكم ايه، أنا مش هاسيب بنت أخويا هنا!
تلوت أسيف بجسدها محاولة التحرر من حصار ابن خالة أمها، كما حاولت الحديث لكنها وجدت صعوبة في هذا بسبب تكميمه لفمها.

انزعج منذر اكثر لرؤيتها على تلك الحالة، وهتف بسخط وهو يقف قبالته: -انت الحاج فتحي بقى!
رد عليه الأخير بإقتضاب: -ايوه!
هتف منذر قائلاً بعبوس كبير وقد أظلمت نظراته: -طب سيبها عشان نتفاهم!
رد عليه فتحي بغلظة: -وانت مالك أصلاً؟
استشاطت نظرات منذر، وأصبحت مهددة بخطر وشيك.
فاستشعر الحاج فتحي ذلك. وقبل أن ينطق بحرف كان هو واضعاً يده على كفه الممسك بمعصميها مخلصاً أسيف منه.

ثم هتف قائلاً بصوت مخيف: -لأ مالي ونص، لأن أنا اللي مكلمك!
تملكه الضيق بسبب تلك الحركة المباغتة من ذلك الغريب، ورد عليه بصوت متشنج وهو يحاول عدم إفلات أعصابه:
-قولتلي، بقى انت الجدع اياه!
أنزل منذر قبضة الحاج فتحي إلى جانبه، وتابع هاتفاً بنبرة حذرة: -اه أنا!
ثم نزع الأخرى عن فم أسيف لتسعل هي من اختناقها المؤقت.
تراجعت هي للخلف لتجلس على طرف الفراش، وعاونتها الممرضة في ضبط أنفاسها اللاهثة.

قدمت لها كوباً من الماء لترتشف منه القليل، وظلت تمسح على ظهرها برفق محاولة تهدئتها ومساعدتها على التغلب على صدمتها.
نظر لها منذر بإشفاق، وبصعوبة بالغة جاهد ليحافظ على هدوءه.
ثم ضيق من نظراته لتصبح أكثر إحتداداً، وتساءل مستنكراً وموجهاً حديثه للحاج فتحي:
-ايه اللي انت بتعمله ده، معلش كده أفهم!
رد عليه الأخير بجمود مستفز: -زي ما أنت شايف، هاخد بنت المرحوم معايا!

رفعت أسيف عيناها الدامعتين نحوه، وهزت رأسها نافية وهي تهمس بصوت مبحوح ومتحشرج:
-لأ، آآ. أنا آآ، مش هاسيب ماما!
استدار الحاج فتحي بجسده للخلف ليرمقها بنظرات متوعدة، ثم تحرك نحوها، وجذبها من ذراعها قائلاً بشراسة آمرة:
-قومي يا بت، اقفي على حيلك وتعالي معايا!
تحرك منذر في إثره، ونزع قبضته عنها قائلاً بحدة وهو يحدجه بنظرات مهددة: -انت مش شايف شكلها!

وضع الحاج فتحي يده على كتفه ليضربه بحركات قوية نسبياً محذراً إياه ببرود: -ملكش فيه، لحمي مش هاسيبه هنا!
قست نظرات منذر، وأصبحت نبرته أكثر قتامة وهو يقول: -لحمك! فهمني انت مين بالظبط؟
رد عليه الأخير بتأفف وهو يرمق منذر بإزدراء: -أنا ابقى ابن خالة أمها، وفي مقام خالها، وأظنهم بيقولوا إن الخال والد!
أرجع منذر رأسه للخلف مردداً بتهكم صريح: -أه، ده لما تبقى خالها بحق وحقيق!

اغتاظ الحاج فتحه من رده المستفز، وانتفخ صدره غضباً، فرمقه بنظرات نارية مستنكرة، وصاح بصوت جهوري منفعل:
-أنا واقف بأتكلم معاك أصلاً ليه!
التفت ناحية أسيف، ثم غرز أظافره في ذراعها ليؤلمها أكثر مردداً بعنف: -قومي يا بت!
صرخت متآلمة وهي تبكي بحرقة: -آآه.!
اعترض منذر طريقه نازعاً قبضته عنها قائلاً بتحدٍ سافر: -لأ مش هاتقوم ولا هتمشي من هنا!

استشاط الحاج فتحي غضباً، وهدر بجموح ملوحاً بذراعه: -بأقولك ايه يا جدع، انت مش عارفني لسه، أنا مش هارمي لحمي كده للديابة ياكلوه، أنا المسئول عنها هنا وكلمتي هاتمشي لو فيها قطع رقاب وآآ..
قاطعه منذر قائلاً بإندفاع: -لأ إنت اللي مش عارفني يا حاج، عاوز تاخد قريبتك على عيني وعلى راسي، وبالأصول! بس مش بالهمجية دي!
ثم زاد من قوة نبرته وهو يضيف: -ثانياً بقى وده الأهم، مين قالك إن انت بس المسئول عنها؟

اتسعت حدقتي الحاج فتحي بغيظ، وضغط على شفتيه قائلاً بغل بعد أن شعر بالتقليل من شأنه وتحقير دوره العائلي:
-اه أنا، مالهاش حد غيري!
التوى ثغر منذر بتهكم وهو يقول بثقة: -لأ غلطان، عمتها عواطف موجودة!
انفرجت شفتي الحاج فتحي قائلاً بإستنكار: -نعم!
تابع منذر بجمود مثير للأعصاب: -عواطف خورشيد أخت أبوها المرحوم رياض، ولا دي كمان مش عارفها
تقوس فم الحاج فتحي ليرد عليه بسخط: -دلوقتي ظهرت، كانت فين أصلاً من زمان!

هتف منذر ساخراً منه وهو يرمقه بنظرات مزدرية: -موجودة، بس واضح انك مش عايش في الدنيا!
كور الحاج فتحي قبضته بضيق وضغط على أصابعه بشدة.
أمال منذر رأسه عليه ليهمس له محذراً: -وخد بقى التقيلة، عواطف دي قريبة عيلة الحاج طه حرب، ونصيحتي ليك ماتعدناش وخصوصاً أنا!
صاحت أسيف فجأة بصوت مهتاج: -أنا عاوزة ماما، ودوني عندها
استدار كلاً من منذر والحاج فتحي ناحيتها ونظرا إليها بنظرات منوعة ما بين التوعد والإشفاق.

ردت عليها الممرضة بهدوء محاولة السيطرة على غضبها وامتصاص انفعالاتها الغير محسوبة العواقب:
-حاضر، اهدي بس!
كان الحاج فتحي على وشك الصراخ بها وتعنيفها لكن ألجمه صوت منذر القائل بصرامة: -من الأخر كده يا حاج، البت دي مش هاتمشي من هنا!
التفت الأخير نحوه مغتاظاً من عنجهيته، وتحديه إياه بجرأة.
حدجه بأعين أقرب للجمرات من شدة احتقانها، وهتف مستنكراً: -انت بتتحداني؟

رد عليه منذر ببرود: -حاشا لله، بس لو عاوز الأمور تمشي، يبقى بالأصول يا حاج!
صر الأخير على أسنانه بشدة، وهتف بغلظة وقد تجهم وجهه كثيراً: -ماشي! طب الأصول بتقول إكرام الميت دفنه!
رد عليه منذر بهدوء: -عداك العيب، واحنا ملزمين بدفنه!
صرخت فيهما أسيف بإهتياج مستنكرة وفاة والدتها: -ماما مامتتش، ماما لسه عايشة، انتو كدابين، كدابين!

فلتت زمام الأمور لدى الحاج فتحي بعد عبارتها الأخيرة، وشعر فيها بالمهانة وقلة القيمة، فأراد رد اعتباره، واستعادة مكانته كقريبها الصارم، لذت رفع يده في الهواء ليباغتها بصفعة قوية جابراً إياها على الصمت قائلاً بنفاذ صبر:
-فوقي يا بت رياض، كفاية فضايح وقلة أدب!
نظرت له أسيف بفزع، وارتجف جسدها بشدة.
وضعت يدها على وجنتها عفوياً مذهولة من ضربه لها. وتجمدت العبرات المتراقصة في مقلتيها.

صُدم منذر مما فعله معها، واتسعت حدقتيه على أشدهما عقب تلك الصفعة المفاجئة واستقوائه عليها، وهدر بصراخ مخيف وقد انتفضت كافة حواسه وتأهبت للإنقضاض عليه:
-حاج فتحي..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة