قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والعشرون

فتحت عيناها الناعستين بتثاقل، ثم قامت بفركهما بإصبعيها بحركة خفيفة ثابتة متثاءبة بصوت خفيض.
تمطت بذراعيها لتزيح عنهما ذلك التيبس، ومن ثم استدارت برأسها نحوه.
التوى ثغره بإبتسامة عابثة وهي تراه ممدداً إلى جوارها. فقد ظفرت بما أرادت، وعُقد قرانها عليه رسمياً وأصبحت زوجته.
مدت يدها لتمسح على صدره العاري برفق ودلال، ثم ارتفعت بجسدها عن الفراش قليلاً لتتأمل وجهه بنظرات مطولة قبل أن تهمس له بدلال:.

-حبيبي، مش هاتصحى بقى، احنا بقينا العصر
أولاها ظهره وهو يستدير للجانب قائلاً بصوت متثاقل ومتحشرج: -وايه يعني؟
سألته مهتمة وهي تعبث بخصلات شعره القصيرة: -مش هاتنزل شغلك النهاردة؟
أزاح يدها بعيداً عنه ورد قائلاً بتأفف ودون أن يفتح جفنيه: -لأ، عاوز أنام!
عبس وجهها وهي تضيف بضيق: -اوكي يا حبيبي براحتك، أنا هاقوم أجهزلك الغدا وآآ.
قاطعها قائلاً على مضض: -مش عاوز أكل، أنا هنام وبس!

ضغطت على شفتيها مرددة: -ماشي
ثم نهضت من جواره ساحبة روبها الحريري لترتديه على قميص نومها الشفاف، والتفتت لتنظر له بعمق محدثة نفسها بضجر:
-براحتك يا مازن، اتقل عليا، المهم إن حصل اللي كان نفسي فيه وخلاص!
سارت إلى خارج الغرفة ومعها هاتفها المحمول. وأغلقت الباب ورائها لتضمن عدم استماعه لمكالمتها مع والدتها.
ألقت بثقل جسدها على الأريكة لتتمدد بإسترخاء، ولفت حول إصبعها خصلات شعرها.

أجابت أمها عليها قائلة بمزاح: -ناموسيتك كحلي يا عروسة
ردت عليها ولاء بسخط: -يا ماما أنا عديت المرحلة دي من زمان!
هتفت شادية قائلة بتفاخر: -لأ عروسة ونص، وكله بالورق الرسمي!
تقوس فمها بإبتسامة باهتة وهي تضيف: -أها، طمنيني بس عملتي ايه؟
أجابتها والدتها بثقة: -أنا لسه راجعة من عند المحامي، وخلاص هانظبط قضية نقل الحضانة ليا! اطمني
سألتها بتوجس وهي تعتدل في جلستها: -ودياب؟

أجابتها بهدوء متريث: -أكيد مش هايعرف دلوقتي! أما يوصله الإعلام!
حدقت ولاء في أظافرها متابعة بتوتر قليل: -ربنا يستر بقى
صاحت بها شادية بجدية: -انسيه وركزي مع اللي في ايدك، مش عاوزين غلطات
ردت عليها ابنتها على مضض: -ماشي!
ثم تابعت الاثنتان ثرثرتهما المعتادة حول بعض الأمور الغير هامة.
خرجت الممرضة من الغرفة لتستدعي أفراد الأمن للتدخل قبل تأزم الوضع في غرفة المريضة.

تحفز منذر للغاية وتشنجت عروقه بوضوح وبدا على وشك قتل أحدهم بعد تفاجئه بالصفعة العنيفة من قبل الحاج فتحي على تلك المكلومة الضعيفة.
ما أثار غيظه حقاً هو أنها لم تخطيء هي مازالت في حالة صدمة. لم تستفق بعد من غيبوبتها المؤقتة وتستوعب تلك الفاجعة المتمثلة في خسارة والدتها.
أظلمت نظراته للغاية، وهدر بصوت خشن مخيف يحمل الغل: -حاج فتحي!

لم يهتم به الأخير، وظلت أنظاره المحتدة مسلطة على أسيف التي هتفت بصوت باكي متخاذل وهي تذرف العبرات المريرة بغزارة:
-بابا لو كان عايش كان آآ..
قاطعها الحاج فتحي صائحاً بنبرة عدائية وهو يشير بإصبعه مهدداً: -لو بؤك اتفتح تاني ه. آآآ..
قبض منذر على إصبعه المهدد شادداً قبضته عليه متعمداً إيلامه.
ثم مقاطعه بنبرة قاتمة وقد بلغ ذروة غضبه: -انت بتستقوى على حرمة؟ لأ وقصادي كمان!

غاب عقل الحاج فتحي تماماً، وهدر فيه بنبرة متهورة: -دي شرفي، أعمل معاها اللي عاوزه، يعني لو غلطت أكسرلها ضلوعها كلها! وأدبحها كمان!
شكل منذر بجسده حاجزاً منيعاً أمامه ليسد عليه أي فرصة للإقتراب منها والتهديد بإيذائها، ورد عليه بصوت قوي محذر:
-ده لو أنا مش موجود!
فوجيء الحاج فتحي بما يفعله، وردد مستنكراً: -افندم.

تابع منذر قائلاً بشراسة وهو يتعمد تسليط أنظاره القاتمة عليه: -مش هاسمحلك تمد ايدك عليها تاني!
ثم تحرك بجسده للأمام نحوه جابراً إياه على التراجع للخلف وهو يضيف بإزدراء مهدد:
-ولولا العيبة إنه يتقال مديت ايدي على راجل كبير زيك كنت خدت حقها وقتي منك!
صاح الحاج فتحي بعصبية شديد وقد تشنجت عروق عنقه: -انت اتجننت، بتهددني كده عيني عينك؟

كز منذر على أسنانه بقوة ليرد بجموح: -منذر حرب مابيهددش، أنا بأخد حقي بدراعي على طول!
دفعه الحاج فتحي من كتفه بأقصى طاقته ليفسح المجال أمامه للمرور قائلاً بإنفعال: -ابعد عن طريقي!
جمد الأخير من جسده، وثبت أقدامه في الأرض ليبدو كالصخرة الثقيلة الصعب إزاحتها من مكانها، فلم يستطع هو تحريكه إلا مسافة لا تتجاوز السنتيمرات.

تابع الحاج فتحي صياحه الغاضب قائلاً: -أنا ماليش اتكلم مع واحد زيك مالوش صلة بينا، أنا هاخد البت وأمشي من هنا!
ظل منذر معترضاً طريقه وهو يرد بشراسة: -مش هايحصل، مش هاسيبهالك تستفرد بيها!
صاح به الأخير بعد أن شعر بإنكسار هيبته أمامه: -إنت هاتمنعني؟
هز منذر رأسه بالإيجاب مردداً بثقة: -اه، بالقوة! بالعافية! أو بقلة الأدب! شوف إنت و اختار اللي عاوزاه، بس هي مش هاتمشي معاك!

كور الحاج فتحي قبضة يده، ولكمه في صدره بعنف بعد عبارته الأخيرة وهتف مغتاظاً: -لأ بقى! انت كده اتخطيت حدودك معايا، وأنا مش هاسكتلك
أمسك منذر بقبضته وضغط عليها بعنف أكبر مسبباً الآلم له، وهتف مردداً بنبرة عدائية:
-أعلى ما في خيلك اركبه، واللي عندك أعمله وزود عليه كمان!
اضطر الحاج فتحي أن يسحب كفه منه رغماً عنه، وحدجه بنظرات نارية.
أدرك هو فارق القوى الجسمانية بينهما، لكنه لم يكن ليتركه ينتصر عليه.

فكر سريعاً في طريقة للتخلص منه، وأوهمه أنه سيتراجع للخلف، لكنه كان يبحث عن ثغرة تمكنه من المرور والوصول إلى أسيف.
استدار منذر عفوياً ليحدق فيها بضيق.
كانت تبكي متحسرة، مازالت واضعة يدها على وجنتها.
صدرها يعلو ويهبط من فرط الخوف.
شعر بوخز في قلبه نحوها. فالموقف أكبر منها.
وزفر بإنزعاج كبير.
لم ينتبه هو للحاج فتحي الذي دار من حوله ليمسك بأسيف
هاتفاً بغضب: -قومي يا بت!

أفاق من تحديقه سريعاً مردداً بغضب: -انت بتعلم ايه؟
صرخت أسيف بفزع على إثر قبضته، وقاومته رغم ضعفها قائلة: -آآآه، أنا مش هامشآآ..
هزها بعنف وهو يسحبها قسراً ليوبخها بقسوة متوعدة: -لينا كلام تاني يا بنت حنان!
-آآآآه
تأوهت بآلم شديد وهي تحاول الخلاص منه.
تدخل منذر ليبعده عنها صائحاً بعصبية: -مش قولتلك مش هتاخدها
دفعه الحاج فتحي من كتفه بقبضته الأخرى مردداً بصوت متحشرج: -ابعد ياض انت!

رمقه منذر بنظرات محتقنة للغاية مردداً بحدة: -ياض!
كان الحاج فتحي على وشك صفع أسيف مجدداً وهو يقول: -عاجبك الفضايح دي!
وقبل أن تطال كفه وجنتها كان منذر قابضاً على رسغه ضاغطاً عليه بقوة رهيبة، وهدر فيه بنبرة مخيفة:
-ابعد ايدك عنها
اشتعلت نظرات الحاج فتحي، وهدر متشنجاً: -سيب دراعي بدل ما آآآ..

قاطعه منذر قائلاً بنفاذ صبر، وقد أوشك على الانفجار فيه: -شوف أنا فاض بيا منك، وهي كلمة، إنت مش هتاخدها، وده أخر ما عندي!
استجمع بعدها قوته ليدفع الحاج فتحي بعصبية للخلف بيد واحدة، وباليد الأخرى قبض على رسغ أسيف وجذبها منه قائلاً بصوت آمر:
-تعالي
كاد الأخير أن يفقد إتزانه على إثر الدفعة، ولكنه استند بمرفقه على طرف الفراش.

لم تبدِ أسيف أي مقاومة معه، فقد استنفذت قواها بالكامل. وسارت مستسلمة معه فقط لتنجو من بدنها من شراسة الأقرب إليها.
اعتدل الحاج فتحي سريعاً في وقفته، وعدل من هيئته التي لم تعد مهندمة، ثم حاول اللحاق بمنذر وأسيف مردداً بصوت متحشرج:
-واخد البت على فين؟
لم يلتفت نحوه منذر بل إستمر في جر أسيف خلفه، ورد عليه بصوت حاسم وبقتامة نافذة في نفس الوقت:
-على بيت عمتها، وهناك بقى تتكلم معاها ومع كبار حتتنا!

أسرع الحاج فتحي في خطاه، وقبض على ذراع أسيف فصرخت متأوهة من أظافره المغروزة فيها.
توقف منذر عن السير، واستدار ناحيته ووجهه يعكس الكثير عما بداخله من نيران مستعرة.
شد أسيف ناحيته أكثر، ووضع قبضته على يد الحاج فتحي ليزيحها عن ذراعها.
حدج الأخير منذر بنظرات ساخطة، وهتف فيه بتوعد: -فكرك إنت هاتعرف تهرب مني، لأ انت مش عارف مين الحاج فتحي، ولا قرايب الحاج فتحي! إنت وقعت معايا، وأنا هاخدها غصبن عنك!

تمكن منذر من تخليصها منه، ورد عليه بجموح مخيف: -وماله، والعنوان أهوو عندك، مايتوهش!
ثم لف ذراعه حول كتفي أسيف ليحاوطها وانطلق بها مبتعداً عنه.
تابعه الحاج فتحي بنظرات مميتة، ورفع من نبرة صوته قائلاً وهو يلوح بيده: -ماشي يا ابن ال..! مش الحاج فتحي اللي يتهزأ على كبر ومايخدش بتاره!
أخفض رأسه ليبحث بلا تركيز عن هاتفه المحمول في جيبي جلبابه، ثم أخرجه ليهاتف أحد الأشخاص.

ظل يذرع الرواق ذهاباً وإياباً وهو يقول بنبرة محتدة: -أيوه يا حاج اسماعيل، عاوزك في موضوع مهم جداً، لأ، مايستناش! اسمعني للأخر!
ابتعد منذر بأسيف عن الطابق المتواجد به قريبها الشرس.
كانت هي مزعوجة من محاوطته لها، فتملصت بضيق من ذراعه.
أرخى هو يده عنها، وحاول طمأنتها قائلاً بهدوء متريث: -متخافيش محدش هايعمل حاجة!
فركت ذراعها المتآلم بكف يدها مرددة بإصرار: -أنا عاوزة ماما، وديني عندها!

نظر إليها ولم يعقب. وضغط على شفتيه بقوة محاولاً التفكير في طريقة لإقناعها أن والدتها قد قضت نحبها.
بادلته نظرات متعجبة من صمته المؤقت، فزفر بضيق من تلك النظرات.
زاد حنقه حينما وجد أثار تلك الأصابع محفورة على وجنتها.
أبعد عيناه عنها، ووضع إصبعيه على طرف ذقنه ليفركه بحيرة.
يئست من مساعدته لها، فتحركت مبتعدة عنه سائرة بلا وجهة محددة لتبحث عنها.
لحق بها منذر وأمسك بها من معصمها ليجبرها على التوقف.

التفتت ناحيته، ورمقته بنظرات حادة مرددة بصوت مبحوح: -أنا مش عاوزة مساعدة منك، أنا هادور عليها بنفسي
ثم دفعت بقسوة يده عنها.
رأى في نظراتها إصراراً عجيباً يتنافى تماماً مع ذلك الضعف الذي كان أمامه قبل لحظات.
لم يجد بداً من مصارحتها بالحقيقة، لذا أمسك بذراعيها بكفيه، ووقف قبالتها صائحاً بصوت آمر:
-عاوزك تسمعيني كويس وتفهمي الكلام!
انتفضت من لمسه لها، وجاهدت لتبعدهما عنها.

لم يهتم بما تصدره من مقاومة، وتابع قائلاً بقسوة وقد أظلمت نظراته: -أمك معدتش عايشة وسطنا، راحت مع اللي راحوا!
اضطربت أنفاسها، وبرقت عيناها بشدة وهي تهتف محتجة ومستنكرة حديثه: -لأ، ماما مامتتش، إنتو ليه مصممين آآ..
قاطعها قائلاً بصوت قاتم وهو يهزها بعنف: -مش وقت جنان، أمك ماتت فعلاً، والمفروض هتدفن وده متأجل عشان خاطرك!
نهج صدرها، وتهدجت أنفاسها بصورة ملحوظة.

تقطع صوتها واختنق بصورة كبيرة وهي تهز رأسها نافية: -لألألأ، كدب. كله كدب، هي تعبانة بس شوية!
شدد من قبضتيه عليها ليضيف محذراً بجمود: -شوفي أنا لو سبتك للراجل المفتري اللي جوا ده مش هايرحمك!
لم تتمكن من منع عبراتها، فآلم صفعته مازالت أثاره باقية في نفسها، لذا ردت بصياح باكي:
-هو جاي ليه أصلاً؟ ما خد الأرض مننا، عاوز ايه تاني، مش هاسيبه ياخد أمي!
أغمض منذر عينيه للحظة يائساً من محاولة إقناعها بالعكس.

ثم تنفس بعمق، وعاود فتح جفنيه ليقول بهدوء مصطنع: -ركزي معايا، أمك ماتت
تصلبت تعابير وجهها، واصطبغ بحمرة غاضبة، وهتفت مستنكرة بعناد أكبر رغم اختناق حروف كلماتها:
-لأ، ماما لسه عايشة!
وصل منذر إلى قمة يأسه معها، فهتف بنزق: -مابدهاش بقى، تعالي معايا!
أرخى قبضته عن ذراعها الأيمن، وشدد من الأخرى على الأيسر ليجذبها خلفه.
حاولت التحرر منه وهي تسأله بصوت متحشرج: -واخدني على فين؟

أجابها بنبرة جافة للغاية وقد قست نظراته: -هخليكي تصدقي!
ابتلعت ريقها بخوف شديد، وزاد خفقان قلبها وهي تتبعه رغماً عنها.
لم يكن أمام منذر أي وسيلة أخرى لإقناعها سوى اللجوء لتلك الطريقة القاسية والخالية من العطف.
إن لم تستفق من غيبوبتها وتدرك ما يحدث حولها بطريقة عقلانية ستتيح الفرصة للطامعين بها لإستغلالها والإساءة إليها.
أحياناً تجبرنا بعض المواقف على تجاوز ماهو معقول للوصول لغرض ما.
وهذا ما فعله.

اتجه بها نحو المشرحة، ذلك المكان البارد الخالي من الحياة.
لم تعرف وجهتها بالضبط، لكن استشعر قلبها من تلك الرائحة الغريبة التي تغلف المكان أنها مقبلة على أمر سيء.
ولج الإثنان إلى ممر ما جانبي نائي عن باقي المشفى.
كان طويلاً نسبياً وشبه مظلم، وتضم جدرانه برودة قارصة رغم اعتدال الجو بالخارج.
جف حلقها بدرجة كبيرة، ودبت إرتجافة قوية في أوصالها وهي تطأ أرضيته القاتمة.
نعم شعور قوي بالرهبة سيطر عليها.

كانت تحاول قراءة ما دون على اللافتات الجانبية، لكن نظراتها كانت مشوشة، فعجزت عن القراءة بوضوح.
وقعت عيناي منذر على أحد الأشخاص الجالسين قرب نهاية الممر، فاتجه بها نحوه.
هب الرجل واقفاً من مكانه متساءلاً بخشونة: -رايح فين يا أخ؟
أرخى منذر قبضته عن أسيف، وتحرك نحو الرجل ليجذبه معه بعيداً عنها هامساً: -ممكن كلمتين على جنب كده؟
وزع الرجل أنظاره بينهما، وهتف بجفاء: -كلمتين ايه دول؟ ممنوع أصلاً تيجوا هنا.

بناءاً على عهده بالعاملين بذلك القسم المخيف بالمشفى، هو يعلم بتقبل أغلبه للرشاوي وتقاضي الأموال مقابل القيام ببعض الأمور المخالفة، طالما أنها لا تسبب له الأذى أو المشاكل، وبالتالي تعامل مع الموقف بحرفية معتادة.
لذا دس يده في جيبه، وأخر حفنة من النقود، وطواها في راحته، ثم قربها بحذر من كف الرجل، وأعطاه ما بها عنوة وهو يرد بخفوت:
-معلش!

أخفض الرجل نظراته نحو كفه، وادعى عدم إهتمامه بما يفعله قائلاً بإعتراض: -مش مسموح يا حضرت تبقوا آآ..
قاطعه منذر بنبرة ذات مغزى وهو يغمز له: -احنا عاوزين نشوف أمها قبل ما تدفن، وآآ.
أصر الرجل على رفضه مقاطعاً بتأفف: -لالالا، كده أنا هاقع في مشكلة يا حضرت!
تابعتهما أسيف بنظرات حائرة، هي لم تفهم بعد ما الذي تفعله هنا في ذلك المكان البارد. وجابت بعينيها حوائطه بنظرات سريعة خاطفة.

التقط منذر كف الرجل بأصابعه، ودس فيهم النقود قائلاً بلؤم: -كل مشكلة وليها حل!
قبض الرجل على النقود، وخبأها في جيب معطفه المتهدل قائلاً بإحتجاج زائف: -بس آآ..
غمز لها منذر بنظرات ذات مغزى وهو يهمس بإلحاح: -ده معروف، هتاخد فيها ثواب!
ابتلع الرجل ريقه قائلاً بتوجس: -طب بسرعة الله يكرمك، أنا مش ناقص مشاكل!
التوى ثغر منذر بإبتسامة عابثة وهو يقول: -على طول، دقيقتين!

عاد منذر إلى أسيف، ودفعها للأمام دون أن ينبس بكلمة.
سألته برجفة واضحة في نبرتها: -هو. هو انت واخدني على فين؟
أجابها بغموض: -مش عاوزة تشوفي أمك؟
سألته بتوجس وقد تسارعت دقات قلبها: -هي بتعمل ايه هنا؟
وقف أمام اللافتة، وأشار بعينيه الحادتين نحوها قائلاً بجمود: -أمك موجودة هنا، بالمشرحة!
شحب وجهها بشدة، واتسعت عيناها مصدومة وهي تهتف بصراخ: -لأ!

عفوياً وضع منذر قبضته على فم أسيف ليكتم صراختها، ولف يده الأخرى خلف رأسها.
توجس الرجل خيفة من افتضاح أمره، واكتشاف سماحه لبعض الغرباء بالولوج إلى داخل المشرحة دون تصريح رسمي، فهتف مستنكراً:
-شششش، ايه يا جدع، انت كده هتفضحنا؟
ظل منذر مكمماً لفم أسيف ولم يتركها، والتفت فقط برأسه نحو الرجل قائلاً بإمتعاض خافت:
-لا مؤاخذة!
حاولت أسيف ابعاد قبضته عن فمها لكنه فشلت، وتحركت مجبرة معه نحو الداخل.

أغلق الرجل الباب خلفهما وبقي بالخارج ليراقب الطريق.
تنفست أسيف بصعوبة، وتعلقت أبصارها المرعوبة بوجه منذر.
أردف هو قائلاً بتحذير: -هاشيل ايدي ومش هاتصوتي، سامعة؟
هزت رأسها بالإيجاب ممتثلة لأمره، فأزاح يده ببطء عنها.
هتفت فيه فجأة بصوت منفعل وهي تتراجع للخلف مبتعدة عنه: -انت كداب!
رد عليها بجمود وهو يتحرك صوبها بخطى ثابتة: -ماشي، أنا كداب، تعالي وصدقي بعينيكي!

جذبها من ذراعها نحو أحد الأَسِرَّة ليقرأ ما دون على طرفها من أسماء تخص جثامين المتوفين.
كانت ترتجف بشدة، ورغم ذلك صمدت واستجمعت شجاعتها حتى تصل للحقيقة.
كانت على يقين تام أنه كاذب، وأن والدتها بخير وستتماثل للشفاء.
لكن تلاشى كل شيء فجأة حينما أوقفها أمام الفراش المنزوي.
حدقت بأعين متجمدة في تلك الورقة البيضاء المكتوب عليها بالقلم الحبري المرحومة حنان
اهتزت نظراتها، وقفز قلبها في قدميها من أثر الصدمة.

أوشكت على الإنهيار، لكن ما مرت به لا يقارن بتلك اللحظة القاسية التي كشف فيها منذر عن وجه أمها المتوفية.
هتف بنبرة خالية من الحياة وهو يشير إليها: -هي دي أمك؟
خفق قلبها بقوة أكبر، وتجمدت أنظارها على وجهها الأزرق.
شخصت أبصارها هلعاً، وارتفع حاجباها للأعلى برعب كبير.
جف حلقها تماماً، وتجمدت الكلمات على شفتيها فعجزت عن النطق.
إنها حقاً والدتها، لكنها في وضع غريب ومريب.
جرجرت ساقيها لتقترب أكثر منها.

رأى منذر في نظراتها وتعابير وجهها المخيف أثر الحقيقة المريرة عليها.
هو ندم على تلك الخطوة الجريئة، لكنها كانت بالنسبة له الخط الفاصل بين الواقع والجنون.
مدت أسيف كفها المرتعش نحو جسد والدتها المسجي على الفراش لتتلمسه، وترقرقت العبرات بمقلتيها وهي تهمس لها بصوت هامس متقطع مصدوم:
-م. ماما!
لم تجبها، ولم تتحرك على إثر لمساتها الرقيقة المعتادة.
كانت باردة للغاية، صامتة، خالية من الحياة.

زاد نهجان صدرها. وتسابقت نبضات قلبها حتى كادت تصم أذنيها من فرط سرعتها.
بكت بغزارة غير مسبوقة، وهزت رأسها للجانبين بإيماءات متتالية مستنكرة قساوة الحياة معها.
اضطربت أنفاسها بجموح وهي تحاول إخراج تلك الشهقة الصارخة بآلم والتي تحمل الكثير من أعماق فؤادها المفجوع:
-لأ، ماما..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة