قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل العاشر

أرجعت أسيف ظهرها للخلف، وانكمشت في مقعد السيارة وهي ترتجف رغم ابتعادها عن محطة الوقود بمسافة كبيرة.
لكن لا يزال شبح ذلك الغريب الغاضب يطاردها في خيالها.
ودت لو لم تطل من النافذة فتراه صدفة وتعطيه الفرصة لرؤية وجهها بوضوح رغم اختباء معظمه خلف غطاء رأسها، لكنها شعرت بأنها مكشوفة كلياً تحت أنظاره.
ابتلعت ريقها محاولة بل حلقها الجاف.

تنفست بعمق، ثم أعادت ضبط حجاب رأسها الذي بدا متهدلاً عليها بيدٍ مرتعشة.
حمدت الله في نفسها أن والدتها لا تجلس إلى جوارها وإلا كانت شكت في تصرفاتها المريبة. وهي لن تستطع إخفاء ذعرها الغير مبرر.
أجبرت نفسها على عدم التفكير فيه مرة أخرى، هي حادثة عرضية شاءت الأقدار أن تمر بها.
طمأنت نفسها أنها لن تلتقي به مجدداً، وسيتحول مع الوقت لمجرد وهم ستتناساه بفعل الزمن ومشاغل الحياة.

شهقت نيرمين مصدومة حينما وقفت أمام المخفر الشرطي التابع للحي القاطنة به ورأت أثاثها مُلقى بجواره فوق بعضه البعض بطريقة بدت أكثر على كونها كومة من ال ( روبابيكيا ) كما هو دارج بالمصطلح العامي.
لطمت على صدرها عدة مرات وهي تسب وتسخط في طليقها الذي أفسد أشيائها الثمينة وجعلها لا تساوي ربع قيمتها الفعلية.

صرخت رضيعتها ببكاء مرتفع، فلم تفعل لها أي شيء، وظلت تهتف بعويل صارخ: -يا نصيبتي، الراجل الناقص الدون رمالي حاجة في الشارع، والله ما سيباه!
أخرجت خصلة من شعرها عنوة، ورفعتها في الهواء لتكمل تهديدها المتوعد: -وحياة مقاصيصي دول لأدفعه تمن كل حاجة الطاق عشرة!
تجمع المارة حولها، وتفقدوا بفضول ما يحدث هناك.

تحسرت عواطف هي الأخرى على مُصاب ابنتها الجلل، وتمتمت بخزي: -مكانش يومك يا بنتي، تتبهدلي وعفشك نلمه من على الأرصفة قصاد الأقسام!
رفعت بصرها للسماء وتابعت بصوت مختنق وقد أدمعت عيناها بشدة: -حسبي الله ونعم الوكيل فيك، منك لله يا شيخ، حسبي الله ونعم الوكيل!
خرج أحد ضباط الشرطة من داخل المخفر على إثر الصوت المرتفع صائحاً بغلظة: -في ايه اللي بيحصل هنا.

ردت عليه عواطف بصوت شبه باكي وهي توضح له السبب: -بنتي مرمي عفشها قصادكم أهوو وآآ..
نظر لها شزراً متأملاً هيئتها الشعبية، وقاطعها قائلاً بإستخفاف: -هو انتو بتوع العفش بقى؟
أجابته عواطف بصوت حزين وهي تمسح عبراتها: -ايوه
أشار لها بإصبعيه لتتبعه قائلاً بنبرة غير مبالية: -طب تعالوا جوا عشان توقعوا على الاستلام وشوفولكم عربية تجي تشيله، مش هايفضل متكوم هنا قصادنا!

ردت عليه بصوت مختنق للغاية: -ح. حاضر يا بيه!
تحرك الضابط نحو الداخل، بينما ظلت عواطف باقية في مكانها تهز رأسها مستنكرة ما آلت إليه الأمور.
ثم تمتمت مع نفسها بصوت متآلم: -ربنا على الظالم والمفتري!
توعدت نيرمين لطليقها قائلة بنبرة منفعلة: -وربنا ما سيباه، هدفعه التمن غالي وهابهدله في المحاكم!

توقف سائق سيارة الأجرة أمام أحد الفنادق الزهيدة في سعرها، والذي يقع على مقربة من المنطقة الشعبية التي تسكن بها عمتها، فترجلت منها أسيف أولاً.
جابت بأنظارها المكان بنظرة عامة شمولية محاولة اكتشاف معالم تلك المنطقة المزدحمة.
ترجل السائق هو الأخر من السيارة قائلاً بجمود: -حمدلله على السلامة، ده أقرب فندق للحتة اللي انتو عاوزينها
ردت عليه حنان بصوت هاديء: -كتر خيرك.

رفع ذراعيه للأعلى ليحل وثاق الرباط الممسك بالمقعد المتحرك، ومدت أسيف يديها للأعلى محاولة سحبه معه.
هتف هو قائلاً بضيق: -سبيه يا آنسة، أنا هاجيبه لوحدي
شعرت بالحرج منه، وابتسمت بود مرددة: -طيب!
أنزل السائق المقعد المتحرك، ووضعه أمام الباب الأمامي لسيارته، وتعاونت أسيف معه في وضع والدتها عليه.
شكرتهما حنان ممتنة، وتحركت به نحو ردهة الفندق.

أخرج السائق الحقائب من صندوق سيارته وناولها لأسيف التي أعطته أجرته كاملة، وتوجهت خلف أمها لتلحق بها.
كان الفندق بسيطاً للغاية لكنه ذو مظهر منمق ومرتب، و يفي بالغرض. مدخله تم تزيينه بالأرضيات الحديثة اللامعة، ووضع مكتباً فخماً على الجانب، وكذلك مزهريات فخارية كبيرة بجوار بوابته الزجاجية.
رحبت موظفة الاستقبال بضيفتهما قائلة: -أهلاً وسهلاً بيكم في فندق الباشا!

ابتسمت لها أسيف، وتساءلت بخجل وهي تعدل من وضعية حجاب رأسها بتوتر: -لو. لو سمحتي ممكن نحجز أوضة هنا لينا احنا الاتنين
ردت عليها الموظفة بهدوء: -أكيد! البطايق بعد اذنكم
تساءلت حنان بإهتمام وهي تشرأب بعنقها للأعلى: -هو ممكن أعرف سعر الليلة كام؟
ابتسمت لها الموظفة بتصنع، وأخرجت ورقة صغيرة مغلفة بغطاء بلاستيكي مدون عليها أسعار الغرف، ومدت يدها بها نحوها قائلة:.

-اتفضلي دي قايمة بالأسعار للغرف الفردية والمزدوجة شاملة الوجبات وبدونها!
رفعت حنان يدها للأعلى لتمسك بالورقة، وشكرتها قائلة بهدوء: -شكراً، هانشوفها وهانقولك عاوزين ايه!
ردت عليها الموظفة قائلة بنبرة عملية: -خدوا راحتكم
ثم عاودت الموظفة لمطالعة باقي الأوراق الموجودة أمامها.
تراجعت حنان للخلف بمقعدها بعد أن أسندت الورقة على حجرها.

اتخذت الاثنتان زاوية بعيدة نسبياً للمناقشة حول ما يتناسب مع مقدرتهما المادية الحالية.
ظلت حنان صامتة لبرهة تراجع الخيارات المتاحة أمامها بتأني.
نظرت أسيف معها إلى الأسعار، وتساءلت بصوت خافت: -ايه رأيك يا ماما؟
ردت عليها أمها بنبرة عقلانية: -مافيش داعي نطلب أكل، خلينا نقتصد في الفلوس شوية!
هزت أسيف برأسها متفهمة: -طيب
تابعت والدتها قائلة بهدوء: -واحجزي لمدة اسبوع، وبعدها نشوف.

ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بإيجاز: -ماشي
ثم تناولت الورقة مجدداً من أمها، وتوجهت نحو الموظفة لتقول لها بلطافة: -خلاص احنا اتفقنا!
بادلتها الموظفة ابتسامة منمقة وهي ترد: -تمام يا فندم، هستأذنك تملوا البيانات دي!
أومأت أسيف برأسها مرددة: -ماشي
أفرغ العاملون معظم ما حملته الشاحنات بداخل المستودع المملوك لعائلة حرب.
ظل منذر يتابعهم بنظرات ثابتة مراقبة لكل شيء.

ورغم الضيق البادي على ملامح وجهه منذ ذلك الموقف إلا أنه جاهد لتجاهله كي لا يؤثر على عمله.
لكنه انتبه لحديث السائق المرافق له وهو يسرد للبقية الواقفين إلى جواره بسجية تامة ما فعلته تلك الشابة الحمقاء مضيفاً بإستنكار:
-ولاد الإيه ليهم أساليبهم والواحد زي المغفل بيشرب الليلة وبيبقى على عماه
سأله سائق أخر بفضول: -مش فاهمك.

أوضح السائق الأول مقصده بعد أن إرتشف مقدراً كبيراً من كوب الشاي الخمسيني الساخن الذي يمسك به:
-البت زي الجنية طلعت قصادنا وكنا هنلبس لولا ستر ربنا والريس منذر!
هتف سائق ثالث صائحاً بتهكم: -انت هاتقولي على الأشكال دي، دول أغنى مننا كلنا!
بينما أضاف رابع بجدية: -أنا قريت مرة إنهم طبوا على خرابة لاقوا فيها شحات مخبي نص مليون جنية
شهق السائق الأول مصدوماً: -يا دين النبي، كل الفلوس دي!

رد عليه الأخر قائلاً بإزدراء: -وأكتر من كده وحياتك!
تقوس فم السائق الأول للجانب مردداً بسخط كبير: -واكلينها والعة!
تلون وجه منذر بحمرة محتقنة أثناء متابعته لذلك الحديث الدائر بين سائقيه، واحتدت نظراته وباتت مظلمة مما سمعه.
استعاد سريعاً في ذاكرته ذلك المشهد الذي رأى فيه سيارة الأجرة، والمقعد المتحرك المربوط على سقفها وتلك السيدة الكبيرة الجالسة في المقعد الأمامي بها..

قبض يده بعنف، وبدا كمن ينفث دخاناً من أنفه وأذنيه من شدة الغضب.
ما أغاظه حقاً هو غباءه واعتقاده أنها امرأة عاجزة متواجدة مع ابنها، وليست متسولة.
ولما لا، فهي تحاول استجداء عطف وشفقة الأخرين من خلال إدعائها للعجز، وابنتها المتهورة تدفع الناس لإرتكاب الحوادث بإلقائها لنفسها أمام سياراتهم فتنال كلتاهما الأجر مقابل ذلك.
منظومة محكمة تديرها عصابة ما لسرقة الأشخاص تحت قناع العوز والفقر.

أي عمل مشين هذا الذي يتضمن الكذب والخداع للحصول على الأموال.
لم يتحمل سماع المزيد فصاح بصوت جهوري آجش: -هنقضيها رغي طول الوقت، الكل على شغله
رد عليه السائق بتوجس بعد أن رأى نذير الغضب واضحاً على محياه: -تمام يا ريسنا!
وانصرف بعدها البقية لمزاولة أعمالهم.
ضرب منذر بقبضته الحائط بعنف، وأخرج زفيراً مغلولاً من صدره وهو يتجه لداخل مستودعه.
هب مازن واقفاً من مكانه حينما أبلغته ولاء بمسألة حملها منها.

نظر لها مصدوماً، وهتف غير مصدق ما سردته: -ازاي ده حصل؟ انتي مش كنتي عاملة احتياطاتك؟!
أجابته بعصبية وهي تضغط على رأسها بكف يدها: -معرفش!
سألها بجدية وهو ينظر نحوها: -طب هتعملي ايه؟
صرخت فيه بإنفعال كبير ملوحة بذراعيها في الهواء: -انت بتسألني، اتصرف معايا، أنا مش هاشيل الليلة لوحدي، إنت جوزي!
رد عليها بهدوء حذر وقد زاد عبوس وجهه: -ما أنا عارف إن أنا جوزك!

زفرت بتشنج وهي تدور حول نفسها في الصالة مرددة بنبرة غاضبة: -كنت ناقصة القرف ده! أوف!
راقب حركتها بفتور مردداً بصوت رخيم
-احنا محتاجين نفكر بالعقل قبل ما نعمل أي حاجة
التفتت برأسها نحوه، ورمقته بنظرات حادة مشتعلة، ثم صاحت بصوت مرتفع يحمل العصبية:
-ماشي، ها. فكر وقولي يا مازن!
صمت للحظات محاولاً الوصول لحل سريع لتلك المشكلة العويصة. فطرأ بباله فكرة ما، ربما لن تتقبلها، لكنها تعد كحل مؤقت للأزمة الراهنة.

تحرك ليقف قبالتها، ووضع قبضتيه على ذراعيها ليثبتها في مكانها.
توقفت هي الدوران، وتابع قائلاً بجدية: -بصي أنا مش عاوزك تتعصبي، بس ده الحل الأسلم!
عمقت نظراتها الغاضبة فيه متساءلة بنفاذ صبر: -ايه هو؟
تردد للحظة في إخبارها بما فكر فيه، ولكن حسم أمره قائلاً بإرتباك: -آآ. مافيش قدامنا غير إنك. آآ. تنزليه!
انفرجت شفتاها للأسفل بإستغراب عجيب، ورددت بنبرة مصدومة: -نعم؟ قصدك أعمل إجهاض؟!

هز رأسه بالإيجاب قائلاً: -ايوه!
صرخت فيه بإهتياج وهي تزيح قبضتيه عنها: -انت بتستعبط؟ ده ممكن يكون فيه خطر عليا، عاوزني أموت ولا ايه؟!
رد عليها بجمود قليل: -هو انتي هاتعمليه من غير تحاليل يعني، أكيد هانطمن الأول إن مافيش قلق!
صاحت فيه بعصبية: -وإن مانفعش؟ هانعمل ايه ساعتها؟
رد عليها بجفاء: -ساعتها يبقى يحلها الحلال، لكن إنتي لو مش عاوزة براحتك، ده راجعلك!

تجمدت تعابير وجهه نوعاً ما، وبدت نبرته غامضة تحمل التهديد وهو يضيف محذراً: -بس يا ريت ساعتها تفكري كويس في ردة فعل أبو يحيى، حبيب القلب الأولاني دياب، ماهيصدق يشم خبر زي ده وهايحرمك من ابنك، وماسورة الخير اللي مغرقاكي هتتقطع!
توترت أعصابها من مجرد التفكير في عواقب معرفة طليقها السابق بمسألة زواجها العرفي والغير معلن، وهتفت مستنكرة:
-كله إلا هو! أنا مش عاوزاه يعرف حاجة!

تابع مازن قائلاً بخبث وهو يوميء بحاجبه الأيمن: -وعشان كده لازم نفكر في اللي قدامنا دلوقتي
دنا منها أكثر، وأحاط وجهها بكفيه، ثم حدق مباشرة في عينيها ساءلاً إياها بهدوء مريب:
-ها يا ولاء، متفقين؟
ردت عليه بنبرة متوترة وجسدها يرتجف نوعاً ما: -طيب!
التوى ثغره بإبتسامة عابثة وهو يرخي يديه عنها، ثم أحتضنها بذراعيه، وضمها إلى صدره.

زادت ابتسامته زهواً وغروراً بسبب تمكنه من السيطرة عليها والتحكم بتفكيرها وفق أهوائه دون أي مجهود يذكر.
أرادت ولاء أن تشعر بالأمان وبوجود من يحتويها أثناء نوبات غضبها، وزوجها الثاني بارع في هذا، يعرف مفاتيحها جيداً، وبسهولة يستطيع أن يمتص إنفعالاتها المتشنجة لتسكن سريعاً في أحضانه.
همس هو لها في أذنها مردداً بنبرة كالسحر: -اطمني! طول ما أنا جمبك ماتشليش هم، كل حاجة هتتحل!

لا حاجة بها الآن للعصبية، فمسألة حملها المفاجيء لن تحل بالصراخ والغضب، ووجوده معها سيساعدها في التخلص من ذلك العبء. لذلك استجابت لصوته واستكانت في أحضانه..
أنهت بسمة عملها، وسارت في طريقها عائدة إلى منزلها وهي تجفف بمنشفة ورقية ذلك العرق المتجمع على جانبي وجهها.
وكالعادة كان الجزار المغتاظ منها يتربص بها، ويتصيد لها الفرص لإزعاجها وربما إذلالها..
تلك المرة أطلق عليها خرافه الهوجاء لتزعجها في سيرها.

صرخت مفزوعة حينما رأت قطيع الغنم يتحرك صوبها ركضاً. فركضت كالخرقاء مبتعدة عنها وصائحة بحدة:
-والله لأوريك يا جزار البهايم، مش هاسيبك تمرمطني في الراحة والجاية!
لم تتمكن من الوصول إلى مدخل بنايتها بسبب وضعه أيضاً لبقرات سمان وعدة عجول.
شهقت مصدومة حينما رأتهم أمامها، وعجزت عن التحرك من مكانها.

عبس وجهها بشدة، ونظرت إليهم بتقزز، فقد كانوا متسخين للغاية ناهيك عن الرائحة الكريهة و الفوضى والروث المنتشر حولهم.
التفتت برأسها نحو محله لتنظر لها بشرر متطاير من مقلتيها.
تعالت ضحكاته الساخرة منها مردداً بإستهزاء وهو يصفق بكفي يده: -اوعى تترفس يا حلو! هأو! اللي يقع عندنا مالوش إلا السلخ!
بصقت عليه بإشمئزاز مرددة بصوت عالي: -اتفوو على أمثالك!

ثم استدارت عائدة من حيث أتت وهي تنتوي ألا تمر الأمر مرور الكرام حتى وإن تطلبها الاستعانة برجال الشرطة لتصعد إلى منزلها..
أوقف دياب سيارته على مقربة من وكالته، ولاحظ حالة من الهرج سائدة في المنطقة، وتجمعات بشرية متفرقة على الجانبين وكأنها تتابع شيء ما.
لم يكترث للأمر في البداية وبحث عن ولاعته وعلبة سجائره، ثم دسهما في جيبه مع هاتفه المحمول.

ترجل من سيارته متأملاً المكان بنظرة عامة فاحصة، ووقف مستنداً إلى جوار بابها لعدة لحظات قبل أن يقرر غلقه والتحرك.
اتجه نحو مدخل وكالته متساءلاً بفضول وهو يشير بكفه للخلف: -هو في ايه برا؟
أجابه أحد العاملين بالمكان بنبرة عادية: -ده الجزار جايب كام عجل على كام خروف وسايبهم في الطل جمب محله، الظاهر عنده موسم دبح!

تجهم وجه دياب نوعاً ما، وبدا غير مقتنعاً بإجابته العجيبة مردداً بتأفف: -موسم دبح! غريبة يعني!
جلس هو خلف مكتب والده، ومسح طرف أنفه بإصبعه متابعاً بصوت آمر: -روح اطلبلي قهوة سادة، عاوز أظبط دماغي!
رد عليه العامل بحماس وهو مسرع في خطواته: -أوامرك يا ريسنا!
جلس دياب بإسترخاء على المقعد مستنداً بوجهه على مرفقه شارداً فيما لديه من أعمال مؤجلة خاصة تلك المتعلقة بالدكان.

استعانت نيرمين بأحد معارفها لكي يؤجر لها شاحنة نقل مغلقة تنقل ما تبقى من كومة أثاثها الملقى أمام المخفر إلى منزل أمها وكذلك بعض الرجال لحمله.
بكت هي بتحسر على حُطام أشيائها الثمينة، واحتقنت عيناها المتورمتين أكثر وهي ترى ثياب نومها الجديدة ممزقة ومدهوسة بالأقدام.
كتمت غيظها ونيرانها المستعرة في صدرها، فلا داعي للعويل أو الصراخ على ما لا يمكن أن يعود يوماً إلى ما كان عليه.

نظرت لها والدتها بإشفاق ممزوج بالأسف، فابنتها لم تكن تستحق هذا، لكن هذه مشيئة المولى.
أرادت أن تهون عليها قليلاً، فاحتضنتها من كتفيها لتضمها إلى صدرها الحنون مواسية إياها بنبرة مخزية:
-معلش يا بنتي، ربنا هايعوض عليكي!
هتفت نيرمين من بين أسنانها بصوت مكتوم يحمل المرارة والشعور بالظلم: -نار في قلبي يا ماما!
ربتت عواطف على كتفيها بحنو كبير، فإزداد إحساس نيرمين بالقهر والعجز.

هتفت فجأة بنبرة عدائية محاولة التنفيس عما بداخلها من غضب مشتعل: -هولع فيه، هاموته على اللي عمله فيا وفي بنتي!
توجست عواطف خيفة من تهور ابنتها وهي في تلك الحالة العصبية، فتوسلتها قائلة برجاء:
-اجمدي عشان بنتك، ده كلب وراح مايستهلش دمعة منك ولا إنك تضيعي نفسك عشانه!
ردت عليها ابنتها بنبرة محتدة: -أنا مش زعلانة عليه، أنا زعلانة على حالي وندمانة إني ضيعت عمري مع واحد زيه، مالوش أمان!

شددت أمها من قبضتيها عليها قائلة بهدوء حذر: -اصبري يا بنتي، اصبري، ربنا مع المظلوم!
انتحبت نيرمين بصوت خافت لبرهة، وظلت تتابع في صمت مفجع جمع بقايا أثاثها.
كفكفت عبراتها بعد ذلك، وهتفت قائلة بصوت مبحوح: -معدلهاش لازمة الوقفة هنا! بينا يا ماما
وافقتها عواطف الرأي قائلة بنبرة عازمة: -ايوه، وأنا هاخلي الرجالة يطلعوا العفش على السطح لحد ما أظبطله مكان في البيت عندي!

نظرت لها نيرمين بأعين مظلمة، وهتفت بصوت متشنج: -ارميه! كسريه! ولعي حتى فيه، معدتش تفرق معايا!
قاومت عواطف رغبة عارمة بالبكاء مرددة بصوت مختنق للغاية: -لا حول ولا قوة إلا بالله! اصبري واحتسبي!
مسحت على ظهرها برفق، وسارت معها بخطوات بطيئة - وهما تجرجران أذيال الخيبة والحسرة - نحو إحدى سيارات الأجرة لتعودا إلى المنزل.

لاحقاً، بعد أن وضبت أسيف أشيائها هي ووالدتها بداخل الخزانة في غرفتهما المتواضعة بالفندق تملكها الفضول للخروج والتجول بالمنطقة حولها لكي تستكشفها، وخاصة أنها تقع على مسافة قريبة من عنوان عمتها. بالإضافة إلى رغبتها في نسيان تلك التجربة المخيفة التي مرت بها باكراً.
وقبل أن تشرع في تنفيذ مخططها، اقتربت من أمها الجالسة بالشرفة ساءلة إياها بنبرة مهذبة:
-ممكن أنزل أتمشى تحت شوية يا ماما؟ أنا مش هتأخر!

رفعت حنان رأسها نحوها، ورمقتها بنظرات جدية وهي ترد على طلبها متساءلة بإستنكار مريب:
-رايحة فين هنا؟ هو احنا نعرف حد لسه؟!
ارتبكت أسيف قليلاً، وضغطت على شفتيها وهي تجيبها بحذر: -أنا ب. بس عاوزة أشوف المكان عامل ازاي!
ردت عليها أمها بجدية مبالغة وقد انعقد ما بين حاجبيها بشدة: -تشوفيه؟ ولوحدك في حتة منعرفش فيها حد ولا نعرف عنها حاجة؟!

ابتلعت ريقها بتوتر أكبر، وحاولت أن تبرر رغبتها في الخروج قائلة بتلعثم: -أنا. أنا كنت آآ..
باغتتها حنان بسؤال مفاجيء: -انتي عاوزة تروحي عند عمتك لوحدك؟
اصطبغ وجهها بحمرة حرجة، فلم تتوقع أن تقرأ والدتها أفكارها بسهولة وكأنها كتاب مفتوح، ولما لا وهي قد ترعرعت في كنفها تعرف أدنى ردات فعلها عن صغائر الأمور.
بدت أسيف أكثر خجلاً عن ذي قبل، وتحاشت النظر نحوها، فأسبلت عيناها للأسفل.

أدركت حنان أن حدسها كان صادقاً من خلال تعابير ابنتها الفاضحة لأمرها، ورغم هذا لم تحاول الانفعال عليها دون داعي. هي متأكدة من صدق نواياها وسجيتها الطيبة.

هي فقط ترغب في رؤية عمتها التي لم تعرف بوجودها من قبل والتودد إليها لعلها تتقبلها، لكن لن يحدث هذا دون ترتيب مسبق كي لا يتطور الأمر إلى ما لا يحمد عقباه أو تتعرض ابنتها لموقف مخزي يشعرها بالعار والإحتقار. يكفيها ما مرت به من معاناة في الماضي ليجعلها تتجنب التعامل مع الجانب المضاد من عائلة الراحل زوجها..
زاد اضطراب أسيف أمامها بعد أن طال صمتها، وخشيت أن تنزعج والدتها منها أكثر بسبب خطتها الفاشلة.

فركت كفيها بتوتر، وظلت تفكر بروية باحثة عن وسيلة لبدء الحديث من جديد بعد أن هربت الكلمات من على شفتيها.
راقبتها حنان بنظرات مطولة هادئة مدققة في كل إيماءة بريئة تصدر عنها، ثم أخذت نفساً عميقاً، وزفرته على مهل.
رسمت هي على ثغرها ابتسامة لطيفة، واستطردت حديثها قائلة: -أسيف، احنا اتفقنا مش هانروح من غير ما نكون جاهزين لده، فبلاش تستعجلي الأمور، خلي كل حاجة في وقتها، اتفقنا؟

عضت ابنتها على شفتها السفلى قائلة بصوت خافت ومستسلم: -حاضر!
زادت ابتسامة والدتها إشراقاً لطاعتها لها، وهتفت ممتنة: -تسلميلي يا بنتي، دايماً مش مخيبة ظني فيكي!
بادلتها أسيف ابتسامة ودودة ولم تنبس بكلمة أخرى.
مالت على أمها، وقبلتها من أعلى جبينها، ثم ربتت برفق شديد على كتفها، وولجت إلى داخل الغرفة وهي محبطة من عدم إقدامها على مغامرة أخرى في حياتها.

توجهت بسمة إلى مخفر الشرطة لتحرر محضراً ضد صاحب محل الجزارة تتهمه فيه بمحاولة التعدي عليها والتربص بها على الدوام من أجل إلحاق الأذى بها، وبالطبع استعانت بإحدى معارفها من أولياء الأمور ذات الوظيفة المرموقة لتتوسط في تلك المسألة الحساسة ليتم التعامل معها بإهتمام، وحصل ما تمنته.
أخذ الضابط الأمر بجدية بالغة، وسجل أقوالها في المحضر وأضاف عليه بما راه ملائماً ليبدو متكاملاً، ثم هتف مردداً بصرامة:.

-اطمني يا آنسة، حقك محفوظ وهانجيبهولك، ده انتي من طرف حبايبنا!
التوت شفتيها بإبتسامة راضية وهي تردد: -الله يكرمك يا باشا!
تابع قائلاً بجدية وهو يشير بيده: -اتفضلي حضرتك، وفي قوة هتحصلك هتتصرف معاه!
هزت بسمة رأسها بإيماءة خفيفة قائلة بإيجاز: -ماشي، وشكراً ليك.

ثم انصرفت بعدها من المخفر وهي في قمة سعادتها لقيامها بتلك الخطوة الجريئة، وتوقت بتلهف وحماسة كبيرة لنيل غرضها من ذلك الدنيء المتربص دوماً بها، وها قد حانت اللحظة لتراه ذليلاً أمامها بقوة القانون الجبرية..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة