قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي عشر

ترقبت على أحر من الجمر وصولهم، فهي كانت تنتظر تلك اللحظة منذ وقت كبير للإحتفال بإنتصارها الثمين عليه وإذلاله مثلما فعل معها.
ظلت بسمة تطالع الطريق المؤدي لمدخل منطقتها بتلهف كبير، وفجأة ظهر على محياها ابتسامة عريضة وزاد لمعان بريق عينيها بشدة حينما دوت صافرة سيارات الشرطة وهي تلج إلى المنطقة الشعبية.
راقبتهم عن كثب، ثم سارت على مهل وبحذر لتلحق بهم.

تجمع أغلب المارة على إثر الصوت الصادح ليروا سبب تواجد تلك السيارات هنا، فوجود أفراد وضباط الشرطة بالمكان يعد خطباً جللاً.
ترجل الضابط من السيارة صائحاً بصوت جهوري غليظ وصارم: -شوفولي صاحب البهايم السايبة دي ولموها!

هب صاحب محل الجزارة واقفاً من على مقعده مُلقياً لأرجيلته التي كانت يستنشقها بشراهة على الأرضية وراكضاً بفزع نحو الضابط ليعرف السبب خاصة حينما رأى بصحبته رجلاً يرتدي معطفاً طبياً، ولجنة من مباحث التموين.
ردد متساءلاً بنبرة متوترة: -خير يا باشا؟
أجابه الضابط بصوت قاتم يحمل السخط وهو يشير بيده: -انت اللي عامل الزريبة دي؟

اعترض على جملته قائلاً بتوتر رهيب: -زريبة ايه بس يا باشا، دول كام خروف كده لزوم مصلحة لزبون عندي وآآآ..
قاطعه الضابط قائلاً بغلظة: -تبقى صاحبها!
ثم حدجه بنظرات أكثر إزدراءاً، وتابع بصوت آمر: -هاتوه في البوكس!
ارتسمت تعابير الإندهاش الممزوجة بالقلق على قسمات وجهه، وهتف مستنكراً ما سمعه:
-الله! الله! ليه بس يا باشا؟ هو أنا عملت حاجة؟ ده أنا حتى ماشي جمب الحيط وآآ..

قاطعه الضابط قائلاً بجفاء وهو ينظر له شزراً: -انت متقدم فيك بلاغ، ومتوصي عليك جامد!
فغر الجزار فمه مدهوشاً: -ايه بلاغ!
ثم كز على أسنانه متساءلاً بغيظ: -ومين اللي اتجرأ وعمل ده فيا؟ ده. آآ. ده أنا حتى في حالي وماليش دعوة بحد وكافي خيري شري؟!
حدجه الضابط بنظرات مستخفة، وصاح به بحدة: -انت هاتعرفني شغلي، هاتوه!
ابتلع الجزار ريقه وحاول الدفاع عن نفسه وتبرير موقفه قائلاً: -يا باشا بس أفهم، مين عمل كده فيا؟

في تلك اللحظة تحديداً ظهرت بسمة أمامه، والتوى ثغرها بإبتسامة مغترة وهي ترد عليه بثقة بالغة متعمدة النظر إليه بإحتقار:
-أنا يا جزار البهايم!
اتسعت مقلتيه مصدوماً من رؤيتها، فلم يتوقع على الإطلاق أن تحرر ضده محضراً، بل ويتم التعامل معه فوراً وبغلظة واضحة.
صاح غير مصدق: -ايه انتي؟
وضعت بسمة يدها على منتصف خصرها، وزادت نظراتها المزدرية نحوه تشفياً، وردت عليه بغطرسة:.

-ايوه، ووريني دلوقتي هاتعمل ايه مع الحكومة! يا بتاع البهايم!
استشاط غضباً من ردها المستفز له، وتمتم من بين شفتيه بنبرة مغلولة: -بقى يا باشا تمسكني عشان واحدة زي دي!
رد عليه الضابط بصرامة مهدداً إياه لاستشعاره إهانة ضمنية في جملته الأخيرة نحو صاحبة البلاغ الموصي عليها:
-اتكلم عدل بدل ما أعرفك شغلك وأنفخك كويس!
ازدرد ريقه قائلاً بحنق: -مقصدش، بس أنا مالي بيها أصلاً؟

رد عليه الضابط بصرامة أشد: -انت مش هاتعرفني شغلي، هاتوه!
حاوطه عدد من أفراد الشرطة ليكبلوه ويقيدوا حركته، فاحتج معترضاً: -يا باشا بس آآآ..
هتف الضابط متجاهلاً إياه بصوت آمر: -خلوا لجنة الطب البيطري تشوف البهايم السايبة دي، ومباحث التموين تفتش في محلاته كلها، من الأخر عاوزه يتروق!
قام أفراد الشرطة بسحبه نحو إحدى سيارتهم، فحاول مقاومتهم رافضاً الإنصياع لأمره مردداً بتوسل:
-يا باشا بس اتفاهم معاك وآآآ..

تجاهله الضابط عمداً، وترك رجاله يقتادوه نحو السيارة.
سلطت بسمة أنظارها الشامتة عليه، وتقوس فمها بإبتسامة منتصرة وهي تراه مهاناً أمامها، ثم هتفت بتشفي:
-تستاهل، ومش كل طير اللي يتاكل لحمه!
ارتفع صوت الهرج بالخارج، فأثار الأمر فضول دياب للسؤال عما يحدث خاصة أنه إشرأب بعنقه ليرى المارة في حالة مرج مريبة.
هتف بصوت مرتفع وهو يدون بعض الملحوظات في الأوراق الموضوعة على المكتب: -في ايه اللي بيحصل برا؟

أجابه أحد عماله المتواجدين معه بحماس: -بيقولوا بنت عواطف جابت البوليس للجزار!
توقف عما يفعل، وتجمد جسده إلى حد كبير عقب سماعه لتلك الجملة الأخيرة.
اعتدل في وقفته، والتفت برأسه نحوه، ثم سأله بصوت شبه حاد: -ايه؟ مين فيهم؟
أجابه العامل بجدية وهو يشير بكف يده للخلف: -الأبلة اللي الجزار مدبئها ( مستقصدها ) في الراحة والجاية!

احتدت نظرات دياب بعد معرفة هويتها، وتجهم وجهه بدرجة ملحوظة، ثم تابع متساءلاً بحنق:
-هو عمل فيها ايه تاني؟
أجابه العامل بتوجس قليل بعد أن لاحظ تبدل حاله: -الناس بتقول ساب الخرفان والبقر عليها فبهدلوها
كانت مجرد كلمات بسيطة، لكنها أحدث انفجاراً مدوياً بداخل كيانه، لا يعرف لماذا انفعلت دمائه فجأة، ووصلت إلى ذروة غليانها.

فجأة هدر دياب بصوت شبه مهتاج وقد استشاطت نظراته: -اتخبل في عقله ده! ولا اتجنن، هو مش عارف إنها و أمها تبعنا!
لم يظل قابعاً في مكانه أكثر من هذا حيث اندفع للخارج كالطلقة ليتصرف فوراً مع ذلك الفظ الغليظ.
حاول العامل اللحاق به مردداً بخوف قليل: -سي دياب!
استدار دياب برأسه للخلف، وأشار بإصبعه نحوه وهو يرمقه بنظرات نارية، ثم هتف بصوت آمر يحمل الصرامة:
-خليك هنا لحد ما أربي الحيوان ده!

هز العامل رأسه بإيماءة قوية مردداً بخنوع: -أوامرك يا سي دياب!
أسرع دياب في خطواته متجهاً نحو محل الجزارة الذي لم يكن على مسافة بعيدة منه.
وبالفعل رأى سيارات الشرطة وبعض الضباط والعساكر متواجدين حوله.
اقترب هو من الضابط المسئول مردداً بجدية شديدة: -خير يا بشوات، اتفضلوا عندي في الوكالة!
نظر له الضابط شزراً، ورد عليه مستهزئاً منه: -وإنت مين بقى؟

اغتاظ دياب من استخفاف الضابط به، لكنه تحامل على نفسه، وسيطر على غضبه المتأجج. ورغم هذا بدا وجهه مشدوداً.
أخذ نفساً عميقاً، وزفره دفعة واحدة مجيباً إياه بإمتعاض: -دياب طه حرب!
لوى الضابط فمه قائلاً بتهكم: -اها، ابن الحاج طه
رد عليه دياب بصعوبة وهو يكتم غضبه: -ايوه يا باشا!
رمقه الضابط بنظرات أكثر استخفافاً، وردد قائلاً بسخط: -تشرفنا يا سيدي.

ضغط دياب على شفتيه بقوة، وتساءل بصوت شبه مكتوم: -هو ايه اللي حصل بالظبط؟
أجابه الضابط بإقتضاب وهو يوليه ظهره: -بلاغ وبنشوفه
اغتاظ هو من تجاهله له، وتحرك خطوة للأمام ليكون قبالته، ثم أضاف قائلاً: -طب ليه تعبتوا نفسكم، كنتوا بلغونا واحنا نتصرف
التفت الضابط برأسه نحوه، ورد عليه بحدة تحمل الاستهزاء: -ليه؟ هو مافيش قانون، ولا عينوك في الداخلية واحنا مش عارفين؟!

برر دياب رده قائلاً على مضض وهو يبذل قصارى جهده كي لا ينفجر ثائراً في وجهه بسبب أسلوبه التهكمي المستفز:
-لا يا باشا، بس معروف عندنا إن مشاكلنا بنحلها على طريقتنا وآآ..
قاطعه الضابط قائلاً بصرامة: -ده لما يكون الموضوع ودي، وبينكم وبين بعض وقادرين تحلوه، لكن طالما جه عندنا، يبقى احنا نتصرف بأسلوبنا وبالقانون، وصلت!
هز دياب رأسه بإيماءة خفيفة رداً عليه بإقتضاب: -تمام!

وضع الضابط يده على كتف دياب، وربت عليه بقوة متابعاً بسخرية: -عن اذنك بقى يا. يا كبير المنطقة!
قبض دياب أصابع يده بقوة كاتماً غيظه، وظل يحدجه بنظرات متأججة من مقلتيه.
انصرف الضابط من أمامه، فتمتم هامساً بشراسة متوعداً صاحب المحل من بين أسنانه: -ماشي يا جزار ال، ، الليلة بقت عندي أنا!
ثم رفع أنظاره للأعلى ليحدق في البناية القاطنة فيها بسمة بنظرات حادة للغاية. وأضاف بصوت محتقن:.

-بس الأول كلامي مع الجماعة اللي فوق!
سردت جليلة على زوجها طه ما رأته في منزل عواطف، وتعرض ابنتها الكبرى نيرمين لموقف محرج أمامها، وتصرفها المنطقي في الأمر.
أصغى لها بإهتمام قليل، فأكملت بثقة بعد فعلتها العقلانية: -ساعتها مكدبتش خبر، خدت بعضي والبت ومشينا، مالهاش لازمة الأعدة!
رد عليها بضيق من أفعال طليقها الغير مسئولة: -رجالة ناقصة، مايعرفوش يعني ايه جواز وحرمة يصرفوا عليها!

تنهدت قائلة بأسف: -البت صعبانة عليا، اتبهدلت ومعاها حتة لحمة حمرا على كتفها
رد عليها زوجها بصوت خشن: -الله يعوضها خير!
تبدلت نبرتها للحماسة وهي تكمل: -المهم عواطف هترد عليا بعد ما تفوق من اللبخة اللي هي فيها في موضوع بنتها الأبلة!
هز رأسه متفهماً، وأشار لها محذراً بجدية: -طيب، وراضيها كويس يا جليلة، العيال متعبين في مذاكرتهم!
ابتسمت قائلة بود: -اطمن يا حاج طه، هو أنا يفوتني الأصول برضوه!

قصت ولاء على والدتها مسألة حملها الغير متوقعة من زوجها مازن.
بالطبع كانت شادية تعلم بأمر تلك الزيجة السرية، لكنها لم تتخيل أن تحاول ابنتها التخلص بما تحمله في أحشائها بعد تأكد حملها. لذا صرخت فيها بجنون:
-انتي اتجننتي في عقلك؟
ردت عليها ولاء بنفاذ صبر: -خلاص يا ماما، مش هاتقطمي فيا!

استنكر شادية عدم اهتمامها بتوابع تفكيرها الأهوج، وعنفتها قائلة بإستنكار: -ازاي مخدتيش احتياطاتك معاه، مش كفاية إني وافقت على الجوازة الزفت دي!
لوحت ولاء بيديها مرددة بإحباط: -وأنا هاعمل ايه، أهوو اللي حصل
رمقتها أمها بنظرات حادة، وسألتها بضيق وهي تعقد ساعديها أمام صدرها: -والبيه هيتصرف ازاي؟
أجابتها بعد تنهيدة مطولة: -أنا. انا اتفقت أشوف إن كان ينفع يعمل اجهاض!

اصطبغ وجه شادية بحمرة مغتاظة من تلك الكارثة التي توشك ابنتها على فعلتها، وصاحت بها معنفة إياها بحدة:
-والله! ده بدل ما يعلن جوازكم؟!
ردت عليها ولاء بصوت مختنق: -ماهو لو الناس عرفت دياب كمان هايعرف وهيحرمني من يحيى وآآ..
قاطعتها قائلة بصوت منفعل: -ده اللي همك؟ ومش فارق معاكي الفضايح وكلام الناس!
دفنت ولاء وجهها بين راحتي يدها محاولة السيطرة على نوبة بكاء توشك على الإنخراط فيها.

رأتها أمها على تلك الحالة فأشفقت عليها، نفخت بصوت خافت، ثم دنت منها، وأبعدت كفيها عنوة عنها لتنظر لها.
رمقتها شادية بنظرات حانية لكنها تحمل العتاب أيضاً، واستطردت حديثها قائلة: -يا ولاء أنا أمك ومحدش هيخاف عليكي أدي!
ترقرقت العبرات في مقلتي ابنتها، واختنق صوتها نوعاً ما وهي ترد عليها بتوسل: -الله يخليكي يا ماما، أنا محتاجاكي تقفي معايا مش تبهدليني! أنا لوحدي ومش عارفة أتصرف!

تحولت نظرات شادية للجدية حينما رأت حالة الضعف المسيطرة على ابنتها، فهتفت قائلة غير مكترثة بها:
-عشان انتي غبية، ركبتي دماغك وعملتي اللي عاوزاه!
أجهشت ولاء بالبكاء علها تستعطف أمها، لكن على العكس تفاجئت بها أكثر قسوة وشدة معها وهي تكمل بنبرة عازمة:
-بس أنا مش هاسيبك تتصرفي بغباء تاني!
استشعرت ولاء تهديداً ضمنياً في نبرتها، فسألتها بتوجس: -ناوية على ايه يا ماما؟

ردت شادية بجمود: -على الصح! اللي كان لازم يتعمل من الأول!
ثم أولتها ظهرها، واتجهت نحو باب المنزل.
ركضت ولاء ناحيتها، وأمسكت بها من ذراعها سائلة اياها بهلع: -استني بس رايحة فين؟
أجابتها شادية بصوت جاف وقاسي: -على أبوه، إن كان هو مش راجل ومنفض دماغه، فمهدي أبوه لازم يتصرف!
ارتعدت نظراتها نوعاً ما، وهتفت قائلة بتوسل
-لأ يا ماما، كده انتي هتبوظي الدنيا وهاتخربي عليا.

رمقتها أمها بنظرات متهكمة، وصاحت فيها مغتاظة من ضعفها الغريب: -اجمدي يا ولاء، ماتبقيش كده!
توسلتها ابنتها برجاء أكثر: -عشان خاطري بس، استني أشوف هاعمل ايه مع مازن وبعد كده اتصرفي براحتك
صمتت شادية للحظة تفكر في رجاء ابنتها، فاستغلت الأخيرة الفرصة لتضيف بعشم: -ها ماشي؟ عشان خاطر بنتك بلاش تتهوري، أنا اللي هاخسر!
ردت عليها أمها بجدية: -طيب يا ولاء، بس اعرفي إني مش هاصبر كتير!

أومأت ولاء برأسها عدة مرات بحركات متتالية ومتكررة مرددة بصوت منتحب: -ماشي. ماشي!
عادت بسمة إلى منزلها وهي سعيدة بإنتصارها الساحق الذي ظفرت به على ذلك السمج المزعج.
كانت قد لمحت أثناء صعودها على الدرج وجود بعض الخشب المشابه في هيئته العامة لأثاث أختها الموضوع في المدخل. لكنها لم تكترث للأمر، وأكملت طريقها للأعلى.
وبعد أن ولجت إلى منزلها، وعرفت من والدتها ما حدث بإختصار، شهقت مصدومة، وصاحت بإنفعال:.

-كل ده حصل؟ طب وأنا كنت فين؟ ومحدش اتصل بيا ليه؟
ردت عليها والدتها بقلة حيلة: -احنا كنا في ايه ولا ايه بس!
أشارت بسمة بيدها مرددة بعصبية: -جوزها ده عاوز يتربى، يا ريته كان وقع معايا!
صححت لها عواطف جملتها الأخيرة قائلة بإستياء: -معدتش جوزها، خلاص كل واحد راح في حاله!
تابعت بسمة حديثها بنبرة مغلولة: -بس نيرمين غلطانة، كانت رفضت تستسلم الحاجة وعملتله محضر تبديد عفش وجرجرته على قفاه هناك!

استنكرت عواطف تفكير ابنتها الغير محسوب العواقب، وردت بيأس: -هو احنا بتوع بهدلة في الأقسام!
اغتاظت بسمة من أسلوبها الخائف المستهين بقوة القانون، وبشخصيتها المتخاذلة التي دوماً تخاف من المخاطرة والدفاع بإستماتة عن حقوقهم المسلوبة. فصاحت بحدة:
-يا ماما ده حقها، هي عبيطة ضيعته بتسرعها! بطلوا تخافوا بقى!
نهرتها عواطف قائلة بإمتعاض: -خلاص بقى بلاش تبكيت، سبيها في اللي هي فيه!

نفخت بسمة بصوت مسموع، فوالدتها دوماً تحبطها حينما تفكر بصورة عقلانية.
ورغم ذلك أبدت اهتمامها بمصير أشيائها التي تكلفت الكثير. وسألتها بعبوس: -اومال حاجتها عملتوا فيها ايه؟
أشارت عواطف بعينيها مجيبة إياها: -حطينا شوية خشب تحت في المدخل والباقي في الأوضة الفاضية اللي في السطح!
تقوس فم بسمة بإبتسامة متهكمة، وتساءلت بسخط: -أها الكومة اللي تحت دي، طب مش خايفين تتسرق؟

ردت عليها أمها بتنهيدة مطولة تحمل الآسى: -هياخد الحرامي ايه يا حسرة؟ دي شوية خشب على كام مولة بايظة!
استنكرت بسمة ردها المتخاذل، وهتفت معاتبة بقوة: -وأما هما كده وافقت ليه تمضي على القايمة دي من الأول ورضيت بعفش بايظ زي ده؟
استاءت عواطف من أسئلة ابنتها المتكررة التي لا تكف عن لومها فيها، فصاحت بنفاذ صبر:
-تاني هانعيده يا بسمة!
رمقت هي أمها بنظرات منزعجة، وردت غير مكترثة: -انتو أحرار، اصطفلوا مع بعض!

ثم تحركت في اتجاه غرفتها، والتفتت برأسها للخلف لتتابع بصوت جاد ونظرات قوية: -أنا لو حد بس فكر يدوسلي على طرف هابهدله زي جزار الزرايب!
بدا الاهتمام واضحاً على تعابير وجه عواطف بعد الجملة الأخيرة، ورددت بريبة: -اه صحيح، أنا سامعة الناس بتحكي عن البوليس اللي جه وخده وبهدلته وآآ..
قاطعتها بسمة قائلة بتفاخر: -ماهو أنا اللي عملت فيه كده!

شهقت عواطف في البداية بصدمة واضحة، ولطمت على صدرها هاتفة بإستنكار: -يا نصيبني، جبتيله البوليس؟
ردت عليها بسمة بتحد سافر وقد قست نظراتها: -ولو طولت أجيبله عشماوي كنت عملت!
عاتبتها والدتها لتهورها مرددة: -ليه كده يا بنتي، هو انتي ناقصة عداوة معاه؟!
أجابتها بسمة غير مهتمة: -هو خد اللي يستحقه، ولو زود هابهدله أكتر!
ثم تركتها لتلج إلى غرفتها، وأوصدت الباب خلفها.

هزت عواطف رأسها بخوف متمتمة لنفسها: -سترك يا رب من اللي جاي، هو أنا هلاحق على ايه ولا ايه؟!
بعد برهة،
سمعت عواطف دقات قوية على باب منزلها، فهتفت صائحة وهي متواجدة بالمطبخ تطهو الطعام:
-شوفي مين بيخبط يا بسمة!
أتاها صوت ابنتها قائلاً بعدم اهتمام: -افتحي انتي يا ماما، أنا داخلة أستحمى!
جففت عواطف كفيها في جانبي قميصها المنزلي، وهتفت بإرهاق وهي تخرج من مطبخها: -هو كل حاجة عليا، اليوم شكله مابيخلصش!

سارت بتثاقل نحوه، ثم فتحته لتتفاجيء بوجود ابن الحاج طه واقفاً على عتبته.
رسمت سريعاً على محياها ابتسامة ودودة وهي تهتف قائلة: -سي دياب! يا أهلاً وسهلاً!
كانت تعابيره متجهمة للغاية، ونظراته قاتمة إلى حد كبير.
لم يرد على تحيتها المرحبة به، وتشدق قائلاً بعبوس: -هما كلمتين على السريع وخلاص!
تنحت للجانب قليلاً لتفسح له المجال ليدخل قائلة بإصرار مجامل: -لا مايصحش، اتفضل جوا!

أشار لها بكفه مردداً بصوت جاف: -كده كويس!
ظنت عواطف أنه قد جاء للحديث عن موضوع ( الدكان )، خاصة أنه كان منزعجاً وبشدة في الزيارة الماضية، لذا بلا تفكير هتفت بنزق:
-أنا. أنا والله كنت هاكلم مرات أخويا الله يرحمه على الدكان بس اتلبخنا في حاجة بنتي وآآ..
قاطعها قائلاً بصوت جاد: -بصي يا ست عواطف، احنا كلنا بنعتبرك من العيلة، صح ولا أنا غلطان؟
بدا حديثه غامضاً بالنسبة لها، وردت بتوجس: -ايوه، ده صحيح!

تابع هو قائلاً بصوت متصلب وقد برزت عروقه المتشنجة من جانب عنقه: -يبقى لما يكون ليكي حق عند حق تجيلنا، واحنا نتصرف، غير كده انتي بتكسبي عدوتنا!
لم تستطع أن تعي بوضوح المغزى من وراء تلك العبارات الغامضة، فارتبكت وهي تسأله بحذر:
-مش فهماك يا سي دياب، هو. هو صدر مني حاجة تزعل؟
أجابها بصوت محتد نسبياً لكنه هاديء: -مش منك، من بنتك، لما تعتبر إن كبار المكان مالهومش لازمة، وتتصرف من دماغها ساعتها آآآ..

بالطبع استطاعت أن تخمن سبب غضبه المبرر، فموضوع ابنتها ومافعلته بصاحب محل الجزارة لن يخفى عليه، ولن يمر مرور الكرام لتجاوزها الأعراف المعهود بها هنا.
حاولت أن تدافع عنها وتبرر موقفها قائلة بخوف: -والله ما كنت أعرف، أنا لسه مبهدلاها على الحكاية دي!
رد عليها بقسوة مهدداً إياها بصراحة: -انتي حرة معاها، بس خلي بالك، لأن المرة الجاية الزعلة معانا احنا! ومش هاكرر تحذيري مرتين!

تفهمت تحذيره بخوف، ورددت ممتثلة له: -حاضر يا سي دياب، اللي تشوفه!
رمقها بنظرات أخيرة ثم استدار عائداً من حيث أتى قائلاً بإقتضاب: -سلامو عليكم!
تابعته عواطف بأنظارها وهو يتجه على الدرج مرددة بخفوت: -وعليكم السلام!
ثم استدارت للداخل، وأوصدت باب منزلها.
سلطت عيناها على غرفة ابنتها وهي تتنهد بإنهاك وضاغطة على شفتيها بضيق كبير.

ربما طبيعة شخصيتها تختلف عنها، فهي لا تهتم بما يظنه الأخرين فيها، وتفعل ما يمليه عقلها عليها حتى لو كان خاطئاً.
هي صورة مصغرة من والدتها الراحلة في قوتها وعنفها وشراستها المخيفة التي لا تعبأ بردة فعل غيرها.
دوماً تنظر لها فترى انعكاساً جلياً فيها لشخص أمها في نظراتها وحركاتها، وحتى تصرفاتها المتهورة والغير مدروسة.
تخشى أن تزج بنفسها في الهلاك بسبب ذلك.

تنهدت مجدداً بأسف، ثم غمغمت مع نفسها بتحسر: -منك لله يا بسمة، جيبالي الكلام مع كل الناس، هو فاضل مين مش بيشتكي منك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة