قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الستون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الستون

وكأن الشياطين قد أوكلت مهماتها الدنيئة لقرناءهم من الإنس، إلى أحقرهم وأكثرهم خسة ودناءة.
أعطى الحاج فتحي مظروفًا مغلفًا للرجل الواقف إلى جواره قائلًا بصوته الخشن: -تخلص النهاردة بالكتير
التوى ثغر الأخير بابتسامة عابثة وهو يرد مؤكدًا: -كله على الله يا حاج فتحي!
حذره مضيفًا بلهجة شديدة: -وزي ما فهمتك تبان إنها طبيعي، مش عاوز الحكاية يبقى فيها سين وجيم!

رد متهكمًا: -هي دي أول مرة، متشيلناش العيبة يا حاج!
-ماشي، هانشوف
قالها وهو يرمقه بنظرات أخيرة قبل أن ينصرف الاثنان ليشرعا في تنفيذ مخطط إحراق المنزل.
تأخر وصول سيارة الإسعاف إليها، فاضطرب أغلب المتواجدين حول جسدها الملطخ بالدماء.
تبادلوا نظرات حائرة وهم يواصلون هتافهم المتوجس حول كيفية مساعدتها دون إلحاق الأذى بها.

كانت عائدة من المخبز حاملة لما يكفيها ويكفي عائلتها من خبز طازج فرأت ذلك الحشد وتلك التذمرات المستنكرة. اقتربت أكثر منه لتعرف التفاصيل لكنها لم ترَ بوضوح ما الذي يدور.
إشرأبت الجارة خضرة بعنقها للأعلى محاولة الرؤية لكنها فشلت، فالجميع في حالة نفور وغضب مزعوج.
مالت على أحدهم تسأله بفضول: -هو في ايه؟

أجابها الرجل المسن بحزن: -عربية خبطت واحدة وهي بتعدي الشارع وهربت، واحنا طالبين الإسعاف من بدري بس محدش عبرنا!
وافقته الرأي وهي ترد بتأفف: -هو في حد في البلد بيجي في ميعاده!
انتابها الفضول لتعرف المزيد عنها، فتابعت قائلة بضيق زائف: -الله يصبر أهلها ويشفيها! محدش يعرف هي بنت مين؟
أجابها الرجل المسن بهدوء وهو يشير بيده: -بيقولوا شغالة مدرسة!

في تلك اللحظة تحرك أحدهم للجانب ليترك مساحة فارغة فتمكنت خضرة من رؤية وجهها، وعرفته توًا.
ارتفع حاجباها للأعلى، واتسعت مقلتاها برعب كبير.
شهقت خضرة مصدومة وهي تلطم على صدرها صائحة بفزع: -بسمة!
-إنت مش رايح معايا المطعم؟
تساءل والده بتلك العبارة وهو يرمقه بنظرات متفحصة لهيئته المزرية.
فقد قضى ليلته بالخارج –كعهدته – في أحد المواخير مستمتعًا بالمحرمات والموبقات.

أجابه بصوته المتحشرج وهو يتحرك بتثاقل في اتجاه الرواق: -لأ! هاخش أنام ساعتين تلاتة كده!
استنشق مهدي رائحة كريهة منفرة منبعثة من فمه أصابته بالتقزز، فسأله باستنكار: -انت شارب يا مجد؟
أجابه بنبرة ثقيلة وهو يشير بيده: -هه مش أوي! دول جماعة أصحابي كانوا بيوجبوا معايا، أكسفهم يعني! ده حتى عيب عليا يا أبا!
نظر له باشمئزاز هاتفًا بتأفف: -استغفر الله العظيم يا رب! أما أنزل بدل ما دمي يفور على الصبح كده.

رد عليه مجد باستخفاف: -يكون أحسن!
ثم جرجر ساقيه نحو غرفته متابعًا: -حتى عشان أعرف أنام قبل ما أروح للعروسة أخر النهار!
حدجه مهدي بنظرات ساخطة وهو يرد بعبوس: -ابقى قابلني لو رضيت بواحد زيك!
نزع إحدى ضلفتي الشباك الخشبي ليجد عائقًا أخرًا أمامه.
أخفض نظراته ليدقق النظر فيما حوله من أشياء عالقة بالأرض الزراعية.
تقوس فمه بابتسامة خبيثة برزت من خلفها أسنانه السمراء من كثرة التدخين ليحدث نفسه:.

-مافيش حاجة هتقف في وشك، دي عملية مضمونة!
انحنى للأمام ليلتقط ذلك الحجر القوي ذو النتوءات البارزة، ثم قذف به النافذة الزجاجية الموصدة ليتهشم على إثر الضربة العنيفة.
وبحذر شديد أبعد البقايا الحادة، ثم استند بمرفقيه على حافة الشباك ليرفع جسده للأعلى.
ولج إلى الداخل بحرفية معتادة، فهو معتاد على تلك النوعية من الاقتحامات الغير قانونية.

وجد نفسه بالمطبخ، فعبث بمحتوياته، ونزع صمام الأمان عن أنابيب الغاز، ثم اتجه بعدها للمرحاض ليعبث بتوصيلات الكهرباء الخاصة بالسخان.
أفسد بعض الدوائر الكهربائية ليضمن حدوث خلل في التيار الكهربائي فيتسبب ذلك في إشعال الأجهزة وإحراق المنزل بما فيه.
قام بتشغيل المسجل القديم أو ما يعرف ب الراديو فسمع صوتًا يشبه إلى حد ما الزئير المتحشرج، فزادت ابتسامته اتساعًا.

أطفأه على عجالة، وعدل من وضعيته ليسنده فوق البوتجاز.
أعاد تشغيله مجددًا، فتكرر الصوت وبقوة.
لقد احترقت دائرة المقاومة الكهربائية بداخله، وتسببت في إندلاع شرارة لهب صغيرة.
رفع كفيه في إنبهار واضح منه إنجازه المتميز، ثم اتجه نحو النافذة.
قفز نحو الخارج، وأسرع بإعادة ضلفة الشباك في مكانها ليفر هاربًا من المكان قبل أن تلتقطه أعين أي شخص.

هو أنهى مهمته في أقل من ساعة زمنية، وحان الوقت ليأخذ ما تبقى من حسابه.
بعد دقائق معدودة، تسبب انتشار الشرارات عبر السلك الموصل للمسجل في التفاعل مع الغاز المنبعث من الأسطوانة مما أدى إلى حدوث انفجار مدوي أطاح بمحتويات المطبخ وقذفها في كل الاتجاهات محطمًا كل شيء.
اندلعت النيران في باقي الغرف، وتحول المنزل إلى كتلة جائعة من النيران الحامية التي التهمت كل شيء بلا هوادة.

لم تعرف كيف شقت طريقها ووصلت إلى المشفى عقب تلقيها ذلك الاتصال المشؤوم من جارتها خضرة تبلغها فيه بتعرض ابنتها لحادث سير مروع، وذهابها معها إلى أقرب مشفى بصحبة أحد المتبرعين بإيصالها إلى هناك.
انهمرت العبرات الحارقة بلا توقف على وجنتيها، وأصبح فؤادها ملتاعًا لمجرد التفكير في أن مكروهًا أصاب فلذة كبدها.

وضعت ما استطاعت أن تطاله يدها على جسدها، وركضت مهرولة إليها ولسانها لم يتوقف عن الدعاء لها. رافقتها ابنتها البكرية نيرمين، وكذلك أسيف، والقلق يعتري ثلاثتهن حول مصير بسمة المجهول.
بأنفاس متهدجة وصدر مختنق بالعبرات تساءلت عواطف بتلهف وهي تقف أمام موظفة الاستقبال:
-الجيران كلموني وقالولي إن بنتي بسمة هنا، في. في عربية خبطتها وآآآ.

لم تتفهم الموظفة بوضوح ما تريد قوله، فصوتها اختلط ببكائها وتعذر عليها تفسير أغلب ما تردده.
لمحتها الجارة خضرة من على بعد، فهرولت ناحية هاتفة بنبرة تؤازرها: -قلبي عندك يا حبيبتي!
التفتت عواطف ناحيتها، وصاحت بصوتها الباكي: -بنتي فين يا خضرة؟
أجابتها الأخيرة بحزن كبير: -هي في الطوارئ دلوقتي! ادعيلها.

لم تستطع قدمي عواطف تحمل تلك الصدمة الموجعة، وهي تتخيل الأسوأ لابنتها. فترنح جسدها، وخارت قواها على الأخير.
لحقتها أسيف قبل أن تسقط، وتحملت ثقل جسدها المنهار على صدرها، وجاهدت لتمسك بها هاتفة بتلهف مفزوع:
-عمتي!
استشاطت نيرمين من تصرفها العفوي، واندفعت نحو والدتها لتعاون في إسنادها هي الأخرى دافعة بكوعها ابنة خالها لتزيحها عن طريقها قائلة بنبرة محتقنة:
-ماما! وسعي شوية خليني أشوف أمي!

نظرت له أسيف شزرًا، وأصرت على عدم ترك عمتها.
جرجرها ثلاثتهن إلى أقرب مقعد لإجلاسها عليه.
صاحت أسيف بنبرة عالية محاولة لفت انتباه أحد الممرضين أو العاملين بالمشفى: -حد يلحقنا بسرعة!
اقتربت منهن إحدى الممرضات متساءلة باهتمام: -حصلها ايه؟
ردت عليها نيرمين بحدة وهي ترمقها بنظرات مزدرية: -شوفي مالها إنتي لسه هتسألي!

همست عواطف بصوت ضعيف متألم وهي مغمضة لجفنيها: -آآآه، كان مستخبيلك ده فين يا حتة من قلبي، آآآه!
مالت أسيف على عمتها، ثم مسحت عبراتها عن وجنتها قائلة بنبرة مطمئنة: -إن شاء الله هاتقوم بالسلامة، ربنا موجود وهو اللي عالم!
ضاقت نظرات نيرمين أكثر، وأصبحت أكثر حنقًا وغضبًا، فبلا تردد مدت قبضة يدها نحو ذراع أسيف جاذبة إياها منه للخلف وهي تصيح بها بنبرتها المغلولة:.

-الخراب حل علينا من يوم ما جيتي عندنا يا وش الفقر! بومة سودة جبتي النحس معاكي!
وضعت أسيف كفها على قبضتها لتنزعه عنها هاتفة بازدراء: -مش هارد عليكي دلوقتي!
لكزتها نيرمين بعنف في صدرها وهي ترد بصوت متشنج: -وانتي ليكي عين تكلمي أصلًا!
ورغم حالة اللا وعي المسيطرة عليها إلا أنها كانت شبة مدركة لذلك التلاحم بين الاثنتين، فهتفت بوهن:.

-بس انتو الاتنين! أنا مش ناقصة وجع قلب أكتر من كده! حرام عليكو حسوا بالغلابة اللي بين الحياة والموت!
عاتبتهما الجارة خضرة قائلة: -مش وقته يا بنات، الكلام ده مايصحش هنا!
ضربت عواطف بكفيها المتخاذلين على فخذها متابعة بنبرة متحسرة: -آه يا حبيبتي، كان مستخبيلك ده فين!
رأت الجارة خضرة أحد الممرضين وهو يخرج من غرفة الطوارئ، فأسرعت نحوه متساءلة بتلهف خائف:
-الله يكرمك يا ابني، ماتعرفش بنتنا بسمة عاملة ايه؟

أجابها بجمود وهو يمرر أنظاره عليهن: -الدكتور لما يخلص هايطلع يعرفكم بحالتها
مطت خضرة فمها قائلة بهمس راجي: -سترك يا رب!
بينما رددت عواطف من بين شفتيها بتضرع صادق نابع من قلبها الملتاع: -احفظها يا كريم، ناجيها يا منجي، واحميها من أي سوء!
جلس متفاخرًا على مقعده الخشبي أمام محل جزارته وهو يدندن مع تلك الأغاني الشعبية الصادحة بصوت مرتفع متشفيًا فيها.

نفذ البلطجية الذين استأجرهم الخطة ببراعة، ووصل إلى مسامعه حالتها الحرجة فتهللت أساريره أكثر.
تعجب أغلب القاطنين بالمنطقة مما يفعله، ولم يجدوا التبرير المنطقي لتصرفه الغريب. لكن كالعادة لم يكترث أحد لسؤاله.
همس لنفسه وهو يبتسم ابتسامة انتصار: -هاين عليا أوزع شربات كمان بس مش قادر، هافضح نفسي!
انحنى أحد العاملين لديه بجزعه للأسفل ليسند الأرجيلة على الأرضية متساءلًا بفضول:.

-هو احنا مشغلين أغاني ليه يا معلم؟ هو في عندنا فرح ولا مناسبة؟
نظر له من طرف عينه، ثم دس فوهة الأرجيلة في فمه مجيبًا إياه بسخط: -فرحان ياض! زودلي الحجرين خليني أروق دماغي كمان وكمان!
هز العامل رأسه قائلًا: -ماشي يا معلم، ربنا يبسطك!
زفر عاليًا في الهواء ما استنشقه من دخان وهو يردد بين جنبات نفسه: -أخيرًا ناري هدت شوية! عقبال ما أمشي في جنازتها كمان!

هز أحد عمال الوكالة رأسه متأسفًا حينما وصلت إليهم الأنباء بإصابة ابنة الحاجة عواطف مرددًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
سأله زميله قائلًا بجدية: -هو الحاج طه عرف؟
حرك رأسه نافيًا وهو يرد: -لأ لسه، حتى محدش من ولاد الحاج جه الوكالة عشان نبلغهم!
سأله الأخر بحيرة وهو يحك فروة رأسه: -طب نتصل بيه ونعرفه ولا نستنى شوية؟
أجابه زميله بإصرار: -بيتهيألي لازم يعرف، دي قريبته بردك!
-طيب.

ضبط من وضعية جلبابه الداكن معدلًا من ياقته ومغلقًا للزر الأخير بها.
ثم نثر عطره على طرفي شاله الموضوع حول كتفيه متنحنحًا بصوته الخشن، وتحرك ليجلس على طرف الفراش ساحبًا حذائه من الأسفل ليرتديه في قدميه
التفت برأسه للجانب حينما سمع صوت رنين هاتفه المحمول، فمد يده ناحية الكومود ليتلقطه.
وضعه على أذنه قائلًا بصوت آجش: -سلامو عليكم!

رد عليه أحد عماله بالوكالة هاتفًا بحذر: -وعليكم السلام يا حاج طه، أسفين يا حاج إن كنا صحيناك!
أجابه قائلًا بهدوء: -أنا صاحي من بدري، خير في حاجة؟
تردد العامل في إبلاغه بالحادث، لكنه اتصل لهذا الغرض، فتابع مضيفًا بتوجس: -احنا وصلنا خبر كده إن آآ. إن الست بسمة بنت الحاجة عواطف عملت حادثة كبيرة واتنقلت المستشفى
هب طه واقفًا من على طرف الفراش هاتفًا بصدمة كبيرة: -ايه! يا ساتر يا رب، مشتشفا ايه دي؟

لمحته وهو يلج من الغرفة وعلى وجهه علامات تجهم كبيرة، فاقتربت منه متساءلة بغرابة:
-في ايه يا حاج؟
لم يجبها بل تفقد ما بجيبي جلبابه من أموال، ثم أعاد وضعها وهو يتمتم بكلمات مبهمة.
استشعرت القلق من تصرفاته، فتساءلت بفضول أكبر: -حد جراله حاجة؟ طيب واخد الفلوس دي كلها ليه؟
في نفس التوقيت كان منذر قد انتهى من تجهيز نفسه للذهاب إلى الوكالة بصحبة والده، خرج من غرفته وهو يفرك عنقه بأصابعه.

ألقى التحية على أخيه الذي كان يجفف وجهه بالمنشفة ومرتديًا فقط لفانلته الداخلية على بنطاله الجينز.
همس له دياب مازحًا: -ناموسيتك كحلي!
رد عليه منذر بصلابة: -أنا بردك ولا انت؟
انتبه الاثنان إلى صوت والدتهما الصائح بحدة: -ما تطمني يا حاج؟ في ايه بالظبط؟
بدا الاهتمام ظاهرًا على منذر وهو يدنو من والده لتتحفز حواسه كليًا حينما أجاب طه بضجر:
-بنت عواطف في المشتشفا!

وكأنه أصيب بشلل مفاجيء في مكانه، فتجمدت تعابير وجهه، وتصلبت قسماته.
قفز قلبه في قدميه، وشخصت أبصاره هاتفًا بلا وعي: -أسيف! جرالها ايه؟
رفع طه أنظاره في اتجاه ابنه، وصحح له قائلًا: -بأقولك بنتها، بسمة. بسمة!
صعق دياب فور اختراق أذنيه لاسمها، شعر بانقباضة قوية تنتزع قلبه من مكانه. وارتخت يده الممسكة بالمنشفة ليستدير في اتجاه أبيه هاتفًا بنبرة مصدومة وقد توترت أنفاسه:
-مين!

عبس وجه جليلة وهي تتساءل باندهاش: -طب حصلها ايه يا حاج؟
أجابها زوجها بوجوم: -مش عارف لسه، بس أنا نازل أروحلهم هناك!
هربت الدماء من عروقه، لم يتخيل أن يصيبها مكروه وهي التي كانت تناطحه الرأس بالرأس.
ابتلع ريقه الجاف في حلقه محاولًا السيطرة على أعصابه التي أوشكت على الانهيار.
أضاف منذر قائلًا بجدية صارمة: -أنا جاي معاك يا حاج
ردد دياب بنبرة مذعورة ساحبًا قميصه من على المقعد: -وأنا كمان!

مر الوقت بطيئًا للغاية وهن يترقبن خروجها من غرفة الطوارئ.
لم يتوقف لسان حالها عن الدعاء لها، هي قطعة منها، حتى وإن كانت مشاكسة معاندة متشبثة برأيها، لكنها أفنت عمرها في تربيتها.
تشوشت الرؤية لديها، وانفطر قلبها من كثرة البكاء.
ربتت على ظهرها أسيف بحنية وهي تهمس بصوت متأثر: -إن شاء الله هاتبقى كويسة، احساسي بيقول كده!

ردت عليها نيرمين بسخط غير مقتنعة بتلك البراءة الزائفة: -بلاش شوية النحنحة دول هنا، احنا فينا اللي مكفينا!
لم تعاتبها أسيف، بل اكتفت بالنظر لها باحتقار، هي لا تريد إزعاج عمتها بكثرة التشاجر معها دون داعٍ. كما أنها قد سئمت من تصرفاتها الغير لائقة أمام الغرباء، لذلك أثرت الصمت.

أشاحت نيرمين بوجهها العابس للجانب، لكن سريعًا ما انفرجت شفتاها لتظهر ابتسامة باهتة على محياها، بل تشكلت علامات السعادة على وجهها بتناقض يتنافى مع حالة الحزن الطبيعية لشخص مثلها.
هتفت بتلهف مريب وهي تعتدل في وقفتها المحنية: -سي منذر!
عفويًا وجهت أسيف أنظارها للأمام حينما سمعت اسمه يُلفظ عاليًا لتراه مقبلًا عليها وبرفقته والده وأخيه.
التقطت عيناه عينيها وكأنها أُمسكت بها بالجرم المنشود.

تصلبت في جلستها، وأخفضت نظراتها متجنبة تحديقه الصريح بها.
شعر منذر بالارتياح لرؤيتها سالمة أمامه. ولم يستطع إبعاد عيناه عنها
تسرب إليه إحساسًا عظيمًا بالغبطة والسكينة لمجرد وجوده بقربها على عكسها هي التي كانت تشعر بالتوتر والإرتباك.
لا يعرف كيف نجحت هي في التسلل إلى خلايا عقله حتى سلبته منه، وباتت شاغله الأساسي والأكبر.
تلفت دياب حوله بنظرات زائغة محاولًا السيطرة على اضطرابه الشديد.

مجرد التفكير في حالة بسمة أرهق قلبه وأضناه.
استند بظهره على الحائط نائيًا بنفسه عمن حوله.
دار في خلده أخر موقف بينهما، حينما كانت تكركر ضاحكة بعد قذفه بالمياه من شرفة منزلها.
جاهد ليحافظ على تلك الصورة لها رغم كرهه لتصرفها الأحمق معه. لكنه لم يعد يكترث إلا لرؤيتها كمان كانت تضحك وتثور وتنفعل.
تأثرت مقلتاه سريعًا ولمعت بعبرات خفيفة، وبصعوبة بالغة منع نفسه من البكاء.

نهضت عواطف بتثاقل من مكانها هاتفة بصوت حزين باكي: -حاج طه!
وقف الأخير قبالتها متساءلًا بجدية: -خير يا عواطف؟ ايه اللي حصل؟
وضعت يدها على فمها كاتمة شهقاتها المقهورة وهي تجيبه: -مش عارفة والله، أنا جالي تليفون من جارتي تقولي بنتي مرمية هنا، مابقتش حاسة بنفسي ولا آآ..
قطمت عبارتها توًا حينما فتح باب الطوارئ على مصرعيه لتخرج النقالة الطبية مدفوعة من قبل عدد من أفراد التمريض.

صرخت مفزوعة وهي تركض ناحيتها: -بنتي، بسمة! ردي عليا يا ضنايا!
هتفت الجارة خضرة بخفوت من بين شفتيها: -استرها يا رب!
تسمر دياب في مكانه مذهولًا، لم يتصور أن تكون الإصابة بتلك الخطورة، اعتقد أنها كالمرة السابقة – حينما أصيبت بالتسمم - شيء بسيط يسهل علاجه، لكن خالف الأمر توقعاته بالكامل.

وقعت عيناه أولًا على وجهها الملفوف بالشاش الطبي، فعجز عن التنفس. ثم تحرك بؤبؤيه نحو جسدها المغطى بالملاءة ليرى حجم الإصابة الحقيقي لينخلع على إثرها قلبه.
هو شعر بتلك الوخزة العنيفة في صدره، تلك التي أصابته في مقتل وكأنه خسر شيئًا نفسيًا للتو. شحب لون بشرته الطبيعي، وبدا كالموتى للحظات غير قادر على النطق أو التنفس.
كانت في وضعية حرجة للغاية، فلم يتحمل رؤيتها وأدمعت عيناه بتأثر كبير.

أمسكت عواطف بكف ابنتها هاتفة بصوت مختنق: -بسمة ردي عليا!
سارت نيرمين إلى جوار الناقلة هاتفة بحزن زائف: -حبيبتي يا بسمة كان مستخبيلك ده كله فين!
ابتلعت أسيف غصة مريرة عالقة في حلقها، فالمشاهد الأليمة دومًا تتكرر أمامها.
واستعادت في ذاكرتها ما مرت به مع رحيل أغلى الأحباء على قلبها.
خانتها العبرات، وسقطت بلا انذار على وجنتيها، فمسحتهم بأطراف أناملها.
تنهد طه قائلًا بنبرة مواسية: -ربنا يزيح عنها!

هتف أحد الممرضين بضجر: -وسعوا شوية يا جماعة، مش كده!
رفضت عواطف الابتعاد عنها قائلة بإصرار باكي: -مش هاسيب بنتي!
رد عليها طه بجدية: -اهدي يا عواطف، وخليهم يشوفوا شغلهم!
وافقته أسيف الرأي، وهتفت مؤيدة بهدوء رغم انتحاب صوتها: -هو بيتكلم صح يا عمتي، خليهم يودها على أوضتها، واحنا هنطلع نشوفها!
اضطرت عواطف أن تتنحى - رغمًا عنها - للجانب لكي يمروا بها في طريق المصعد.

احتضنتها أسيف بذراعيها مهونة عليها ما تعانيه من ألم.
هي أكثر الأشخاص إحساسًا بمعاناتها القاسية.
راقبها منذر بنظرات حثيثة. لم يدرك حقًا أنها محور اهتمامه الكامل إلا حينما أحس بذلك الشعور الغريب وهي تقف أمامه ليؤكد اعترافه الذي أنكره.
احتدت نظرات نيرمين وهي تراه كيف يطالعها بذلك الاهتمام المقلق.
أدركت أن نظراته نحوها قد تبدلت وصارت اكثر عمقًا عن ذي قبل.

كزت على أسنانها مانعة نفسها من التصرف بحماقة، هي عليها أن تتريث رغم كل شيء كي لا تفسد خطتها بغباءها أو تهورها.
يكفيها الآن وجود منذر معها في ذلك الظرف الخاص. ولن تجعله يمر دون أن تستفيد منه لصالحها.
همست أسيف لعمتها برجاء وهي تعاونها على التحرك: -تعالي اقعدي شوية!
رفعت عواطف عينيها في وجهها قائلة ببكاء: -عاوزة أروح لبنتي!
هزت أسيف رأسها بالإيجاب: -حاضر، هانروحلها!

أضافت خضرة قائلة بنبرة مواسية: -شوية بس ونعرف حطوها في أنهو أوضة ونطلع عندها على طول!
لمح منذر الطبيب وهو يخرج من غرفة الطوارئ، فاتجه إليه متساءلًا باهتمام: -هي مالها؟
استدارت عواطف برأسها ناحيتهما، ونزعت ساعدها من يد ابنة أخيها لتتجه نحوهما.
ضغط الطبيب على شفتيه مرددًا بحذر: -للأسف عندها ارتجاج في المخ، ده غير الكسور اللي في رجلها والكتف، وشوية كدمات وآآآ..

شهقت عواطف صارخة وهي تلطم على صدرها: -بنتي!
تابع الطبيب قائلًا بنبرة جادة: -على فكرة احنا عملنا كل اللي نقدر عليه، مش مقصرين معاها! لكن من البداية هي جت وحالتها صعبة!
ردت خضرة قائلة بإنكار: -ده على أساس إن الإسعاف جه خدها على طول! يا حبة عيني ده لولا الجدعان اللي في الحتة شالوها وجابوها كان آآ..
صمتت للحظة لتمصمص شفتيها قبل أن تتابع بسخط: -كان زمانها لسه مرمية على الرصيف لا حول لها ولا قوة!

أفاق دياب من صدمته المؤقتة على ذلك الحديث الدائر، فاتجهت أنظاره المشتعلتين نحو الطبيب.
رد عليها الأخير مدافعًا عن نفسه: -والله مش ذنبي، أنا قومت بدوري! وبعدين من الواضح إن اللي خبطها كان قاصد!
احتقنت عيناي دياب بشدة عقب جملته الغامضة تلك.
في أغلب الأحوال يبذل قائد السيارة قصارى جهده لتفادي الاصطدام، وقلة فقط هم من يتعمدون إلحاق الأذى بالسائرين على أقدامهم.

نفض تلك الفكرة الغير منطقية عن عقله هاتفًا بصوت شبه منفعل: -سيبك من الهري ده كله، وقولي هي هاتفوق امتى؟
نظر الطبيب نحوه بجمود، وأجابه بنبرة هادئة معتادة على التعامل مع عصبية أهالي المرضى:
-مقدرش أديك معاد محدد! بس في النهاية ده يعتمد على فوقتها من الغيبوبة!
اتسعت حدقتيه في خوف بعد تصريحه الصادم، هي لن تستعيد وعيها الآن.

لطمت عواطف على صدرها عدة مرات هاتفة بحسرة: -غيبوبة، يا نصيبتي، يا لهوي! بنتي راحت خلاص!
مرر الطبيب أنظاره على الواقفين أمامه قائلًا بجمود: -ادعولها، عن اذنكم، ورايا مرضى تانيين محتاجين متابعة!
حركت عواطف جسدها صارخة بنواح كبير: -آه يا بنتي، كبدي عليكي يا حبيبتي، يا حسرة شبابك
أشفقت أسيف على عمتها، ووقفت خلفها محاوطة إياها من كتفيها راغبة في احتواءها قبل أن تنهار منها تمامًا.

هتف دياب بإصرار عنيد وهو يشير بسبابته: -احنا هننقلها لأحسن مستشفى في البلد، مش هانسيبها كده! اطمني يا خالتي!
أخذت عواطف تبكي بحرقة على ما آلم بابنتها. وتعاونت الجارة خضرة في سحبها لأقرب مقعد لتجلس عليه.
دنت نيرمين من منذر متعمدة اصطناع البكاء أمامه.
تنهدت بصوت مسموع وهي تقول: -احنا مالناش غيركم يا سي منذر، ماتسبوناش واحنا في الظروف دي!
نظر لها بتعاطف قليل مقدرًا الوضع الحرج الذي تعاني منه أختها.

استغلت الفرصة ووضعت يدها على ذراعه متابعة بتوسل باكي وهي محدقة مباشرة في عينيه:
-احنا لوحدنا، ولايا من غير راجل! وإنت. وإنت راجلنا دلوقتي يا سي منذر!
استشعر الحرج من طريقتها الجريئة تلك. فأبعد ذراعه بحذر للخلف قائلًا بصوت شبه متحشرج:
-اطمني، كلنا جمبكم!
ثم تعمد تغليظ نبرته ليوصل لها رسالة صريحة: -ده إنتو زي أخواتي، ولا نسيتي!
استشاطت عيناها الدامعتين من جملته تلك، وشعرت بجفاف عبراتها.

وقبل أن تفتح فمها لتضيف كلمة أخرى، أولاها ظهره، وسار مبتعدًا ليقف إلى جوار أبيه.
ضغطت على شفتيها محدثة نفسها بتوعد: -مش هانفضل أخوات كتير! هايجي يوم وهانكون فيه لبعض..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة