قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السبعون

أنقذته من موت محتوم بغريزتها التي تحركت فورًا، وأجبرتها على الإقدام على تلك الخطوة الشجاعة. فزع قلبها لرؤيته بين الحياة والموت، ففعلت ما استطاعت، ونجحت فكرتها رغم بساطتها.

شعرت بتلك الأذرع تضمها بقوة وكأنها تحميها، فقط لكونها تصرفت بجرأة من أجله، فتغيرت الأمور معاها تمامًا، أدارت رأسها للجانب لتجد وجهها البشوش الباكي يشكرها بامتنان أم حنونة لمساعدتها ابنها البكري. كانت شبه واعية لما حولها، هي تصرفت برعونة هوجاء لكن أتى في النهاية بنتائج طيبة.
ربتت على كتفها جليلة قائلة بصوت متأثر: -ربنا يكرمك يا بنتي، انتي. انتي نجتيه!
-أنا. معملتش حاجة!

قالتها أسيف بصوت متردد محاولة تبرير فعلتها الطبيعية.
وضعت عمتها هي الأخرى ذراعها حولها لتضمها قائلة: -بنت أخويا طيبة وبنت حلال!
انزعجت نيرمين من انقلاب الوضع معها، وضاقت نظراتها لتصبح أكثر حدة وغيظًا. هي أرادت التفريق بينها وبين عائلته، ولكن حدث العكس معها، بل لعب الحظ لعبته، وأصبحت محبوبتهم.
هتفت فجأة بنزق وقد انعقد ما بين حاجبيها بشدة: -تعالوا نخش جوا أحسن، بدل ما تتحدف حاجة كده ولا كده!

اعترضت جليلة مرددة: -مش قبل ما أطمن على..
قاطعتها نيرمين بإصرار عابس: -يالا يا خالتي، البركة في سي منذر، هو خلاص لم الليلة وبقت عنده!
أومأت برأسها مستسلمة، ثم وجهت أنظارها نحو أسيف لتتابع بابتسامة سعيدة: -يباركلي فيكي يا عروسة ابني!
توردت وجنتي الأخيرة بخجل وهي تقول: -شكرًا!
أقسم أن يجعله عبرة لمن لا يعتبر، أن يذيقه ما يستحق، أن يردعه للأبد كي لا يعاود النهوض من جديد ليبطش في الضعفاء، وخاصة حبيبته.

لن يلتفت لأي اتفاقات ودية أُبرمت بين العائلتين من قبل، سينسى أي صلح سلمي بينهم، هم في كل مرة يخطئون وينقضون العهد، ثم يبدون ندمهم، ويعاود فاقد العقل الكَرة ويخرب كل شيء.
أمسك به منذر من قدمه، ونظر له بأعين نارية ثم بصق في وجهه، وجرجره منها متعمدًا سحل جسده بعنف على الأرضية القاسية.

أخرج مجد أنينًا موجوعًا من فكه المحطم، ولم يجد من القوة ما يستطيع بها مقاومته. استمر هو في سحبه وركله حتى اكتفى منه، فانحنى عليه، وجذبه من ياقته مجبرًا إياه على النهوض.
حدجه بنظرات أكثر شراسة، ثم سدد له لكمة عنيفة في وجهه، أعقبها ركلة أسفل بطنه، فخرجت صرخة موجعة منه.
قبض منذر على عنقه بأظافره هادرًا فيه بإهانة لاذعة: -انت لعبت مع الراجل الغلط يا ابن ال، ، ومكانك الطبيعي هو الزبالة!

انحنى بجذعه للأسفل ليتمكن من حمله على كتفه، ثم دنا به نحو أقرب صندوق للقمامة، وألقاه بداخله ليقبع جسده وسط الفضلات والمخلفات.
إهانة أخرى وأشد قسوة عن ذي قبل تلقاها مجد لتقضي نهائيًا على سطوته الزائفة، وعلى هيبته المتعالية. أصبح مثل البقايا، ركامًا فانية لا تصلح إلا للتخلص منها.

شهد العشرات بل المئات من قاطني المنطقة على تلك المذلة العلنية، إنها فضيحة مدوية بكل المقاييس، إعلان صريح عن اِنتهاء عهد بلطجة ابن أبو النجا.
تخطى الأمر حدود المقبول وتحولت الساحة إلى منطقة دامية تلاحم فيها الرجال بضراوة شرسة حتى بسطوا سيطرتهم بالكامل على أتباع عائلة أبو النجا. كما تعاون الجيران أيضًا معهم للتخلص منه، فأي فرصة ستكرر مثل تلك.

اندفع بعدها منذر برجاله ناحية مطعمهم لإغلاقه بالإكراه، انتهى عهد المصالحة والود، وعاد الأمر إلى سابق عهده قبل سنوات، إلى النزاع والشد والجذب، إلى المشاحنات والاقتتال الدائم.
انطلق دياب ومعه عدد من الرجال نحو مداخل المنطقة ليقطعوا الطريق على مازن وأبيه قبل أن يأتيا لنجدته. ، وجلس على مقدمة إحدى السيارات مسندًا ساقه عليها، وهتف بصرامة مشددة:
-مش عاوز نملة تهوب من هنا، سامعين! الليلة وجبت يا رجالة!

انتشر رجاله سريعًا ليسدوا كافة الطرق المحتملة وهم مجهزين بالأسلحة البيضاء والخفيفة.
تابعهم دياب بأنظار متفاخرة، فاليوم ردت إلى العائلة هيبتها، وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
وقف مفعمًا بثورته الغاضبة أمام واجهة المطعم رافعًا ذراعه للأعلى، ثم هدر صائحًا:
-يتقفل نهائي، وتنزل يافطته على الأرض!
رد عليه أحدهم من الخلف بصوت متحشرج: -تمام يا ريس منذر!

تسابق الرجال فيما بينهم لإنزال لافتات المطعم بعد إخراج رواده منه، وحطموا أغلب الطاولات والديكورات، كما تناثرت أجزاء الصحون المهشمة على الأرضيات.
بعد عدة دقائق تحول المطعم إلى خرابة معتمة، وتم إقفاله بنفس الجنازير الحديدية التي استخدمها أتباع مجد.
نفض منذر يديه، ومسح حبات عرقه المتكونة على جبينه، ثم استدار عائدًا من حيث أتى.

رفض الصعود إلى منزل عواطف كي لا تنفر أسيف من وجهه الملطخ بالدماء ولا تزعج من ثيابه الممزقة، أراد أن تظل صورته المنمقة، وملامحه المهذبة هي الباقية في ذهنها، وتحديدًا في تلك الليلة. فأثر العودة إلى وكالته بهيئته تلك، وأوكل مهمة اصطحاب عائلته من هناك إلى أخيه الأصغر.
ولم يصعد هو أيضًا، وهاتف والدته لتحضر ابنه الصغير وأخته ليقابلهم بالمدخل.
تساءلت جليلة بتلهف وقد زاغت أنظارها: -أخوك فين؟ حصله حاجة؟

أجابها بهدوء: -اطمني يامه، كلنا كويسين
-اومال هو فين؟
-راح مع الحاج على الوكالة!
-طب. والزفت مجد، عملتوا معاه ايه و..
-انسيه خلاص، ويالا عشان أرجعكم البيت!
قالها دياب وهو يلقي سيجارته المشتعلة على الأرضية ليدهس عليها قبل أن يركب سيارته لينطلق بهم نحو منزلهم.

مرت تلك الليلة العصيبة ببطء شديد، لم يستطع فيها مهدي الوصول إلى ابنه الذي بقي ملقيًا بداخل صندوق القمامة عاجزًا عن الحركة، أو حتى بلوغ المنطقة الشعبية لمعرفة ما الذي دار بمطعمه. حُصر عند الأطراف مع ابنه الأصغر قسرًا حتى سمح لهما بالدخول.
اتجه مازن ناحية المطعم ليتفقده، بينما توجه والده نحو الوكالة، فلديه هناك مهمة عويصة للغاية.

نكس رأسه بخزي أمامه، ثم استطرد حديثه متساءلًا بنبرة ذليلة: -ليه كده بس يا حاج طه؟ ده احنا بينا عيش وملح!
ضرب الأخير بعكازه بعنف على الأرضية صائحًا بغلظة: -ابنك اللي ضيع كل حاجة! ده حرق عربية ابني، وكان ناقص يموته، لولا ستر ربنا!
برر مهدي فعلته قائلًا: -هو مكانش في وعيه، الهباب اللي بيشربه آ..
قاطعه طه هادرًا بانفعال ملحوظ: -دي مش أول مرة، وأنا حذرتك قبل كده!
-بس..

-خلاص انتهى الكلام يا مهدي، لم حالك، وكفاية قلة قيمة لنفسك وارجع مطرح ما جيت!
أدرك لحظتها أنه لا أمل في أي تفاوض، حسم الأمر، وانتهى كل شيء، فجرجر أذيال خيبته إلى خارج الوكالة متحاملًا على نفسه.
راقبه المارة بنظرات أسفة، فذلك الرجل الطيب لديه ابن من نسل الشيطان، وأخر لا يختلف عنه كثيرًا.

تجمدت أنظاره على مطعمه المعتم، خفقان قوي في قلبه لمجرد رؤيته هكذا. ترقرقت العبرات في مقلتيه، وشعر بوخزة حادة في صدره، ألم رهيب اجتاحه بسبب إحساسه بضياع ما أفنى فيه سنوات عمره في لحظات وتحوله لهباء منثور.
انتبه بفتور شارد لصوت مازن الصارخ بتشنج: -مش هايتقفل، وربنا لأفتحه ولو طار فيها رقاب، مش احنا اللي هنطاطي ل..

قاطعه صائحًا بصوتٍ متحشرج: -اسكت خالص! إنت وأخوك السبب، ضيعتوا شقا عمري كله بغباءكم، منكم لله، منكم لله
أولاه ظهره ضاربًا كف بالأخر في تحسر واضح، فلحق به ابنه قائلًا بقلق: -استنى يا حاج!
نظر له شزرًا قبل أن يرد بحنق: -حسبي الله ونعم الوكيل!
سار خطوتين فقط للأمام، وانهار جسده المنهك على الأرضية الإسفلتية. لم يتحمل خسارته الكبيرة، وفجع قلبه لتلك الكارثة، فتهاوى مع ما تهاوى من أملاك.

فزع مازن صارخًا: -أبويا! حاج مهدي!
استندت بظهرها على حافة الفراش متطلعة أمامها بنظرات شاردة، تكرر المشهد في مخيلتها، تلك القبضتين الشرستين تطبقان على عنقه، وهو أوشك على الاختناق. أغمضت أسيف عينيها سريعًا لتنفضه عن عقلها، هي لا تريد تذكر الأمر؛ لأن مجرد استعادة وجه مجد الشيطاني يزعجها بشدة.
وضعت يدها على وجهها لتمسحه برفق، فشعرت بملمس صلب.

رفعت كفها أمام أنظارها لتحدق في ذلك الخاتم الرقيق الذي يزين إصبعها الأيمن، فابتسمت عفويًا.
راقبتها بسمة بنظرات متسلية وهي تستند بذراعها على باب الغرفة، هتفت فجأة بمرح: -اللي واخدك عقلك
انتبهت لصوتها أسيف، فأخفضت يدها سريعًا ليظهر ارتباكها جليًا أمامها، وتسربت خيوط حمراء لوجنتيها لتزيد من توردهما وهي ترد بخجل متلعثم:
-مافيش والله، ده أنا. كنت بأريح شوية!

دنت منها لتجلس على الفراش، ثم غمزت لها قائلة بمكر: -عادي يا سوفي، من حقك تفكري في حامي الحمى عنترة بن شداد!
ضحكت أسيف لدعابتها الطريفة، وتابعت ابنة عمتها قائلة: -هو برضوه جدع وشهم، وأديكي شوفتي بنفسك
-أه فعلًا
عضت بسمة على شفتها السفلى، ومالت بجسدها للأمام قليلًا لتتساءل بخفوت: -بس ايه الحلاوة دي، متخيلتش أبدًا إنك تساعديه، لأ برافو عليكي!
زاد حياؤها من مجرد ذكر شجاعتها الجريئة في موقف لحظي مؤقت.

استأنفت بسمة حديثها متابعة بمزاح: -دلوقتي هتبقي فرخة بكشك عند حماتك، على رأي نيرمين، ده سي منذر مش أي حد!
-خلاص بقى
-ده انتي مكسوفة خالص، لالالا، دي حاجة جديدة!
-بسمة، أنا بأتحرج والله!
-ماشي، بس المهم إن اليوم كان حلو وعدى على خير
تنهدت أسيف قائلة بهدوء: -الحمدلله! وقريب هينتهي ده كله!

نظرت لها بسمة مطولًا ولم تعلق على عبارتها الأخيرة رغم تأكدها من مغزاها الصريح، لكنها تمنت بين طيات نفسها أن تدوم تلك الخطبة وتتطور إلى زيجة حقيقية، فهي تستحق شخصًا مثله يعوضها عما فات.
سحب مقعدًا ليجلس هو الأخر بقرب والده، ثم دس في فمه خرطوم الأرجيلة مستنشقًا محتوياتها قبل أن يخرجها دفعة واحدة على هيئة دخان كثيف.

أصدر دياب أوامره وشدد على الجميع بإنكار رؤية أي شيء مما حدث، والاكتفاء فقط بترديد ما يريد، وهو هجوم بعض مثيري الشغب على المنطقة للاشتباك مع الأهالي العزل، فاضطر الجميع أن يتدخل لمنعهم من التمادي في الأمر، وإلحاق الأذى بالبسطاء.
فالعرف المتبع في تلك النوعية من الشجارات الحادة بين أقطاب العائلات القوية هو التستر التام على أسبابها وتبعاتها.

وبالطبع لم يستطع رجال الشرطة التحقيق بأريحية في تلك المشاحنة العنيفة، أو حتى الحصول على معلومات مفيدة، ففي أنظارهم أغلب سكان المنطقة متورطين في الأمر، والمعلومات مبهمة ولا تشير إلى شخص بعينه، فتعثرت التحريات كثيرًا.
تحسس دياب صدره قائلًا بجدية: -البوليس مالي الحتة، بس أنا ظبطت كل حاجة، ونبهت على كل رجالتنا!
رد عليه طه باقتضاب جاد: -أما نشوف هترسى على ايه!

أضاف منذر قائلًا بامتعاض: -كان نفسي أعلقه على باب الوكالة!
كركر دياب ضاحكًا من استعادة مشهد إلقاء مجد بمفرغ القمامة، وبصعوبة بالغة سيطر على نفسه ليردد بعدها:
-ده انت كيفته يا منذر، وخليته مايسواش، ناقصه بس يلبس طرحة ويقعد زي النسوان في البيت!
وقبل أن يفتح أخاه فمه ليتحدث هتف أحد العمال بالوكالة: -يا ريس منذر، البيه الظابط عاوز حضرتك!
هب واقفًا من مكانه قائلًا بجدية: -ماشي، أنا طالعله برا!

تحرك بعدها على عجالة ليقف عند مدخل الوكالة حيث ينتظره عددًا من أفراد الشرطة.
انتصب في وقفته متأملًا إياهم بنظرات قوية، وأردف قائلًا بهدوء: -خير يا باشا!
استدار الضابط المسئول عن التحقيق في واقعة الاشتباك تلك بوجهه ناحيته، ونظر له بتفرس وهو يتساءل بجمود:
-انت منذر حرب؟
أومأ الأخير برأسه بالإيجاب هاتفًا: -ايوه!

رمقه الضابط بنظرات مدققة في الجروح والكدمات البارزة على وجهه وهو يتساءل بقوة: -فهمني ايه اللي حصل؟
رد عليه منذر بنبرة عقلانية متريثة: -خناقة يا باشا زي أي خناقة، شوية بلطجية حبوا يعملوا رجالة علينا، فاحنا مخلصناش قلة الأدب بتاعتهم، وكل شباب الحتة اتلموا وروقوهم، وفجأة فص ملح وداب، مش عارفين راحوا فين!
لم يقتنع الضابط بحرف واحد مما قاله، وصاح مستنكرًا: -يا سلام، بالبساطة دي!

التوى ثغر منذر للجانب مرددًا بتفاخر صريح: -اه، احنا أسود يا باشا!
تدخل ضابط أخر في الحوار كان قد التقاه مسبقًا أثناء التحقيق في واقعة حادث بسمة مضيفًا:
-أنا عارفه يا باشا، سيبني أكمل معاه!
استدار الضابط الأول في اتجاهه قائلًا بامتعاض: -اتفضل يا فندم
ابتسم منذر صائحًا بحماس: -معالي الباشا، منور الوكالة!

استطرد الضابط حديثه بجدية وهو يحك عنقه: -شوف يا منذر كل اللي قولته، واللي أهالي الحتة بيقولوه مايدخلش دماغي بتعريفة، اللي حصل غير كده خالص، وأنا متأكد من ده، بس ماشي هانعديها بمزاجنا، لكن تحذير مني ليك، أنا حاطط عيني عليك إنت بالذات، وأي غلطة جاية هايكون حسابها عسير أوي!
رد عليه منذر بثقة متعمدًا العبوس بوجهه وهو يرفع كفيه أمامه: -ربنا ما يوقعنا في الغلط يا باشا، احنا ماشيين جمب الحيط.

أشار الضابط بسبابته وكأنه قد تذكر شيئًا ما، فتابع متساءلًا بجدية: -اه بالمناسبة، جارتكم ولا قريبتكم اللي اتخبطت بالعربية، هي ليها عداوة سابقة مع حد؟
-لأ، ليه؟
-عمومًا هانشوف!
توتر دياب من بقاء أخيه بالخارج لبرهة، فخرج في إثره ليتابع التحقيق معه، لكنه بقي في الخلف واضعًا كفيه بداخل جيبي بنطاله الرمادي، لكن تبلدت حواسه كليًا وتحفزت على الأخير حينما التقطت أذناه تلك العبارة الأخيرة التي تخص معشوقته.

أخرج قبضتيه من جيبيه، واندفع نحو الضابط متساءلًا بنزق: -طمنا يا باشا، في حاجة عرفتها تخصها؟
نظر له الضابط بازدراء قليل وهو يرد عليه بتساؤل جاد: -وانت مين انت كمان؟
أجابه دياب بتعصب قليل: -أنا.
وضع منذر يده على كتف أخيه ضاغطًا عليه بقوة ليجبره على قطم عبارته، ورد هو قائلًا بابتسامة باهتة:
-ده أخويا الصغير يا باشا!

سلط أنظاره عليه ليحذره من الحديث، وتابع متساءلًا بحذر: -حصل حاجة تانية؟ عرفتوا اللي عملها؟ ولا..؟
أجابه الضابط مرددًا: -واحنا بنفرغ محتويات كاميرات المراقبة لاحظنا واحد مراقب الطريق من على الناصية وجمبه حد تاني، المخبرين اتحروا عنه، وعرفنا إنه عنده محل جزارة هنا في الحتة
كظم دياب حنقه المشتعل في نفسه هامسًا بصوت محتد وهو يكز على أسنانه بقوة عنيفة: -جزار ال، ، ابن الحرام!

أضاف الضابط بجدية: -وفي محاضر بينهم ومشادات وآآ..
قاطعه منذر موضحًا بحذر: -يا باشا دي خلافات عادية، انت عارف موضوع البهايم والدوشة، كلنا بنتخنق من الريحة والصوت!
رد الضابط بعدم اقتناع: -عامةً هي هايتم استدعائها للتحقيق وهانفهم منها أكتر طبيعة الخلافات، لأنه جايز يكون متورط في الموضوع!
هز رأسه متفهمًا: -ماشي يا باشا، اللي تشوفه.

قبض منذر على ذراع أخيه، واستدار بجسده ليشكل حائلًا أمامه قبل أن يندفع ويفعل بتهور ما لا يحمد عقباه، سمع صرير احتكاك أسنانه وهو يردد بسباب قاسٍ:
-ابن ال..!
حذره قائلًا بصوت خفيض: -امسك نفسك يا دياب!
-ال، ده أكيد وراها، وربنا ما أنا راحمه، هاجييب مسارينه على الأرض!
-هايحصل بس بالعقل، الشرطة مفتحة عينها علينا أوي، اركز!
-مش هافوتها! هاموته!

ذرعت الصالة جيئة وذهابًا منتظرة عودة ابنها من الخارج لتسرد له ما فعلته طليقته الشمطاء معها ومع أخته في حضور خطيبها عند محل الصائغ، وبالطبع لم يخلو حديثها من الكلمات النابية، ولا من الوصف الجارح.
وضعت لبنى يدها على كتفه صارخة بعصبية: -لازم تشوفلك صرفة، دي كانت هتخرب الجوازة على أختك
فرك طرف ذقنه مرددًا بفتور: -حاضر، هافكر!

اغتاظت من أسلوبه البارد في التعامل مع الموقف، وكأنه لا يعنيه، فصاحت بحدة مهددة إياه:
-لأ ماتفكرش، إنت تاخد حقي وحق اختك وإلا لا انت ابني ولا أنا أعرفك، هاتبرى منك وآ..
قاطعها حاتم هاتفًا بتبرم: -حاضر يا أمي، قولتلك هاتصرف، اهدي عليا بس!
أمسكت والدته بأطراف خصلاتها المتدلية من حجاب رأسها المنزلي، وهزتهم بعنف مواصلة وعيدها الشرس:.

-بنت ال، ، مفكرة هاعديهالها بالساهل! وحياة مقاصيصي دول لهوريها نيرمين الكلب!
احتضنته بقوة بعد عودته سالمًا إلى المنزل، فلم يسعفها الوقت لرؤيته بعد انتهاء المشاجرة. ظل عقلها مشغولًا عليه، إلى أن عاد إليها.
ضمت وجهه براحتيها، وحدقت فيه بأعين لامعة للغاية.
انحنى منذر على رأس والدته ليقبلها قائلًا: -أنا كويس يا أمي، اطمني عليا
ربتت على ظهره قائلة بحنو: -ربنا ما يضرني فيك أبدًا
-يا رب.

لف ذراعه حول كتفيها، وسار معها بتمهل نحو غرفته، تابعت جليلة حديثها الحماسي قائلة:
-لولا كرم ربنا، وخطيبتك أسيف الله أعلم كان هايحصل ايه!
تنهدت بعمق لتضيف: -الحمدلله يا رب
بدت تعابيره غريبة إلى حد ما، وانتابه الفضول لمعرفة سبب تلك العبارة الغامضة، فتساءل مهتمًا وقد رفع حاجبه للأعلى:
-وايه علاقة أسيف بالخناقة؟

أجابته بلا تردد: -ماهي يا بني حدفت على اللي ما يتسمى سبت المشابك عشان تلبخه، خافت عليك يجرالك حاجة!
حدق منذر في وجه والدته بنظرات شاردة سارحًا بأفكاره في صورتها التي غزت عقله بالكامل، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تكون هي سبب نجاته، أن تتلهف عليه بل وتجاذف من أجله.

رمقته جليلة بنظرات متعجبة، فقد كان كالمغيب وهي تحدثه عنها، لكن تحولت تعابيرها للارتخاء عند رأت تلك الابتسامة الصغيرة تتشكل على ثغره، وما أكد صدق حدسها من وجود مشاعر ما نحوه لها هو ذلك اللمعان البائن في عينيه.
ابتسمت له قائلة بهدوء: -ربنا يسعدك معاها يا بني ويتمملكم على خير، أنا صحيح في الأول مكونتش مبسوطة من الخطوبة دي، بس. بس جايز أكون ظلماها، و.

انتبه منذر لحديثها فقاطعها مبتسمًا: -سيبك من اللي فات يا ست الكل!
-أنا اللي مخوفني منها موضوع الأعمال والسحر و..
-تاني، ما أنا قولتلك مالهاش في الحركات دي!
-ده أنا شوفت بعيني، ولولا إن نيرمين نبهتني كان زماني..
تعقدت قسمات وجهه للغاية بعد ذكر اسم تلك السمجة، أحس بوجود شيء مريب بالمسألة، فتساءل بعبوس:
-نيرمين! ثواني يامه، مالها بالظبط بأسيف؟!

أخذت والدته نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهل وهي تقول: -الحكاية وما فيها إن..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة