قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والسبعون

لم يتحرك أحدهم قيد أنملة، وكأنهم قد باتوا أصنامًا صلبة، عقب جملته الأخيرة تلك، وإعلانه بصراحة مطلقة رفضة التام للمساس بها، أرخوا أيديهم عنه، فانتصب في وقفته، وأصبح أكثر شموخًا وعدائية، مرر أنظاره المحتقنة على وجوههم كتحذير أخر خطير ينذرهم بعدم الاقتراب من تلك المنطقة المحظورة والتي تخصه هو وحده، تجمدت أنظارها عليه وكأن عيناها الباكيتين تستنجدان به عله يلبي استغاثتها الصامتة.

لم يتحمل أن يتطاول أحدهم عليها ولو بمجرد التلميح إلى ما قد يؤذيها، فتابع هادرًا بصوت جهوري أكثر صلابة وقسوة:
-أي حد هيفكر للحظة ولا يجي في باله يظن فيها الغلط، هايكون حكم على نفسه بالموت!
رد عليه أحدهم بجرأة وهو يشير بيده: -حاج فتحي بيتكلم صح احنا..
قاطعه منذر بصرامة مهددة وقد استشاطت نظراته: -ولا كلمة زيادة!
قطم الرجل عبارته خوفًا من هيئته المخيفة، بينمت استأنف حديثه معنفًا إياهم بشراسة:.

-وقبل ما تسمعوه وتقولوا أمين على كلامه، كنتوا اسألوا الأول جايين هنا ليه؟
استعان بسرعة البديهة التي يملكها للتصرف بعقلانية تامة في هذا الموقف الحرج، ربما لو وضع غيره في مثل الموقف لرجح كفة الخيار الأخر، لكنه فعل ما يتحتم عليه، التفت برأسه ناحية فتحي ليرمقه بنظرات مهينة، ثم هتف قائلاً بنبرة ثابتة رغم شدتها وقسوتها:.

-بس الراجل الكبير المحترم اللي المفروض عارف في الواجب والأصول، مادناش فرصة نتكلم، عمل شبورة على الفاضي!
بدا الاهتمام الممزوج بالفضول ظاهرًا على أوجه الجميع، فالكل يتطلع إلى معرفة الأسباب، وبدون أن تهتز نبرته للحظة أضاف منذر بسخط:
-وكل ده ليه عشان بأطلب منه نعمل كتب الكتاب عنده في البيت، باعتبار انه زي خالها، وخصوصًا إن بيت المرحوم رياض خورشيد اتحرق!

تفاجأت أسيف من فكرته الجهنمية، لم يطرأ ببالها أن يتفوه بمثل ذلك الاقتراح الذي تخطى حدود تفكيرها الضيق، نظرت له ببلاهة رغم عبراتها التي تنساب بغزارة على وجنتيها، هو بحنكة مهارة غير مسار الأمور تمامًا، تعالت الهمهمات المستنكرة وتبادل الجميع نظرات حادة معاتبة له، تعمد هو رمقه بازدراء وهو يقول ملوحًا بذراعه في الهواء:
-أنا جاي أتفق معاه على كده، ومعايا عمتها وأخويا، يبقى عداني العيب يا رجالة؟

رد عليه أحدهم من الخلف بصوت مرتفع: -لالالا، انت كده بتكلم صح!
وأضاف أخر متسائلاً بضيق: -ليه كده يا حاج فتحي؟ الأستاذ مغلطش!
بينما عاتبه ثالث بجدية: -مايصحش يا حاج فتحي، دي بنتك بردك!
رد الحاج إسماعيل قائلاً بضجر وقد زاد عبوس وجهه: -لا في دي غلطان خالص!
شعر فتحي أن الدائرة تدور عليه من جديد، فصاح بعصبية: -انتو هتعوموا على عومه؟ كتب كتاب إيه ده اللي بيتكلم عنه، ده..

رفع منذر سبابته أمام وجهه مقاطعًا إياه قبل أن يتمادى في كلامه اللاهي، ومحذرًا بشراسة مخيفة وقد تشنجت تعابير وجهه:
-عندك! كلمة غلط زيادة ومش هايحصل طيب، اللي بتكلم عنها هتبقى مراتي، وشرفها خط أحمر، واللي يمسه يبقى حكم على نفسه بالموت، ومالوش دية عندي!

ارتجف الأخير من طريقته المهددة بالهلاك الحتمي، وابتلع ريقه بتوجس شديد، احتقن وجهه بحمرة مغتاظة، وجاب بنظراته سريعًا على أوجه الحاضرين، فتأكد أن غريمه قد نجح ببراعه في استدراجهم إليه، وانقلب الوضع لصالحه.
تأكدت أسيف في تلك المرة تحديدًا أن نجاتها من تلك المذلة اعتمدت عليه كليًا رغم صدمتها بما قاله، لكنه أنقذها من إهانة لن تمحى أبدًا من عقلها، زاغت أبصارها نحو الحاج إسماعيل حينما هتف قائلاً:.

-اهدى يا أستاذ منذر!
حرك منذر رأسه ناحيته ليتابع بنبرة موحية: -أنا جاي بأخويا النهاردة، وعيلتي بقيتها في الطريق عشان نرتب المواعيد، وأظنك عارفهم كويس يا حاج إسماعيل، اتفضل قولهم هما عاملين ازاي!
تنحنح بخشونة موجهًا حديثه للحشد المتواجد حولهم: -دول ناس محترمين، أضمنهم برقبتي!
هتف زكريا قائلاً بحرج: -حصل خير يا بني، معلش احنا محقوقينلك! العتب علينا!

رد عليه منذر بقسوة متعصبة: -لأ، كلكم محقوقين ليها مش ليا أنا!
ثبت أنظاره عليها مرسلاً لها إشارات ضمنية لتطمئن في حضرته، وشردت هي في عمق عينيه الحمراوتين من الانفعال متابعة باستسلام تام حديثه المهدد:
-واللي يزعلها بحرف يبقى وقع معايا أنا!
التفت الحاج إسماعيل ناحية أسيف قائلاً بنبرة محرجة: -انتي بنتنا، والشيطان أعوذو بالله منه بيوقع الناس في بعض! حقك علينا يا بنت الغاليين!

لم تعلق عليه أسيف بل اكتفت بالبكاء العاجز، ففي لحظة كان سيجنى عليها من أقرب الأقربون لها، أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتدفنه بين راحتيها، فضمتها عواطف إلى صدرها، ولوحت بذراعها الأخر قائلة بتذمر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، منكم لله، حبستوا دمها، وقهرتوها!
اقترب منها الحاج إسماعيل، ووضع يده على كتفها ليربت عليه بخفة معتذرًا منها: -متزعليش مننا، احنا غلطانين يا بنتي!

أجهشت بالبكاء المعاتب له، ورفضت أن تدير رأسها ناحيته، فكيف يقبل عليها ببساطة مثل ذلك الأمر وكأنه لا يعرف حق المعرفة؟
أراد منذر أن يقطع دابر تلك المسألة فصاح بصرامة غليظة: -بس قسمًا بالله بعد اللي حصل ده ماهنعتب للحاج فتحي بيت، هي قطعت كده! وحقها هاجيبهولها وزيادة! وأي شيء يخصها حتى لو كان إيه بقى يخصني أنا!

رد عليه الحاج إسماعيل قائلاً بحرج: -لالا، مايحصلش بردك، انتو ضيوف عندي أنا، وبيوتنا كلها مفتوحة ليكم!
رفض منذر الإصاغ إليه، فأصر على استضافته كي يعوضهم جميعًا عن تلك الإساءة مرددًا بإلحاح:
-مش هاقبل أبدًا، بينا على المضيفة نتكلم هناك، وعشان الحريم يرتاحوا من المشوار!

التوى ثغر بسمة بابتسامة متباهية من تصرف منذر الشجاع، وتنهدت بحرارة مبدعية إعجابها بجرأته التي لا تقارن بمن عرفته يومًا، نظر لها دياب بغرابة، فعبس بوجهه قليلاً حينما رأى نظراتها المتطلعة إلى أخيه رغم تأكده من حسن نيتها، لكن أزعجه تلك التنهيدات الصاردة عنها، التفتت هي ناحيته لتجده محدقًا بها، فهمست قائلة بإعجاب:
-أخوك دماغه سم!
تجهم أكثر من مدحها له، ورد قائلاً: -ده كلام يطلع من أبلة زيك؟

وضعت يدها على فمها متابعة بسخرية قليلة: -شوف واتعلم المرجلة!
رد عليها بحدة طفيفة وهو يكز على أسنانه: -بلاش تستفزيني!
عقدت مابين حاجبيها مرددة بصدمة: -نعم؟
كظم غيظه بصعوبة، هو لا يريد إثارة المتاعب معها الآن، ولا يحبذ أن يوتر الأجواء بينهما، فتحامل على نفسه طريقتها التهكمية ريثما يصبح بينهما شيئًا رسميًا، فيصبح للعتاب معنى.

مسحت عواطف على ظهر أسيف قائلة بحنو: -تعالي يا حبيبتي، متخافيش! عدت على خير والحمدلله!
كانت الأخيرة غير قادرة على الحركة، شعرت بوهنها، بأن الأمر يفوق قدرتها على تجاوزه ببساطة وكأنه لم يكن، توجست عمتها خيفة من أن يكون مكروهًا ما قد أصابها، فهتفت بتوجس:
-أسيف، ردي عليا، إنتي بخير يا بنتي؟
انقبض قلب منذر من جملتها تلك، فأسرع في خطاه نحوها، ونظر إليها صائحًا بخوف: -انتي كويسة؟

حدقت فيه بنظرات خاوية، فرأى عبراتها متجمدة في حدقتيها، بدت كمن يجد صعوبة في التنفس، فحاول تهدئتها قائلاً بنبرة حب صادقة:
-اهدي يا حبيبتي، محدش هايمسك بشعرة طول ما أنا موجود، اسمعيني كويس، أنا معاكي، وهاحميكي منه!

كانت بحاجة إلى كلماته تلك التي بدت كالدواء المسكن لأوجاعها المستمرة، فهزت رأسها بإيماءة ضعيفة معلنة ثقتها به، ابتسم لها لتجاوبها معه، لكن تلاشت سريعًا حينما أغمضت عينيها، واستكانت رأسها على كتف عمتها التي شهقت مرعوبة من تثاقل جسدها عليها، خفق قلبه بقوة، وشحب وجهه بتوتر كبير، هتف بصدمة:
-أسيف
-حوشها يا ابني!

مد يديه سريعًا نحوها ليسندها هو الأخر، ثم طوق خصرها بأحد ذراعيه، وانحنى ليحملها برفق، وضمها أكثر إلى صدره، انخلع فؤاده بقوة لمجرد رؤيتها هكذا، ود لو يحرق الأرض بمن عليها لجعلها تعاني للحظة من قسوتهم الجاحدة التي لا تعرف أي شفقة بأمثالها من الضعفاء.
هتفت عواطف بفزع: -هي فرفرت من كلامكهم المفتري ده!
دنت بسمة من أسيف لتمسح على وجهها قائلة بخوف: -حسبي الله ونعم الوكيل، معندهومش دم!

انتبه منذر لصوت الحاج إسماعيل الصادح بجدية: -تعالى يا أستاذ منذر، بيتي قريب من هنا، خليها تاخد نفسها هناك وترتاح!
أوصلها إلى منزلها بنفسه بعد انتهاء الإجراءات في مخفر الشرطة، واطمئن على وجود الرضيعة في أحضانها قبل أن يشدد عليها محذرًا:
-باب البيت مايتفتحش لحد يا بنتي!

هزت نيرمين رأسها بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة، فتابع قائلاً بخشونة جادة: -وأنا هاسيب حد من عمال الوكالة تحت البيت، هو هايشوف طلباتك لحد ما أمك ترجع من مشوارها
ردت عليه بامتنان: -كتر خيرك يا حاج طه!
أشار لها بعكازه متابعًا بتحذير شديد: -وإياكي تعلقي مع العالم دول تاني، سامعة، سدي أي سكة معاهم!
أومأت برأسها قائلة بخنوع: -انت تؤمرني يا حاج طه، ده. ده لولاك كان زماني!

رفع كفه أمام وجهها مرددًا: -متحكيش في اللي فات، سلامو عليكم!
-وعليكم السلام
قالتها بهدوء وهي توصد الباب خلفه برفق، ثم خطت بتمهل نحو الصالة مستعيدة في ذاكرتها وميض سريع لما دار معها، ما أثار حنقها، وحول وجهها لكتلة ملتهبة من الدماء الفائرة هو لمسات ذلك الحيوان القذر على جسدها، شعرت بوخزة قوية في صدرها، بشيء يوجج غضبها من تلك العائلة المتسلطة، صرت على أسنانها متابعة بوعيد مخيف:.

-مش هفوتهالك يا حاتم الكلب انت ولا ولاد ال، ، مش أنا اللي أتضرب بالجزم وأسكت، هاجيب حقي منكم، وبكرة تشوفوا!

وضعها بعناية وحذر على تلك الأريكة الخشبية الموجودة ببهو منزل الحاج إسماعيل بعد استضافتهم لهم، جثى على ركبته أمامها، وظل يمسد على جبينها برفق، أقلقه صمتها الإجباري، واختيارها لذلك الحل الضعيف في الهروب من المشاكل، دومًا تتكبد العناء والمشقة، وتستنزف كامل قواها مع كل ما تراه من مصائب متعاقبة، أراد سحبها إلى عالمه، بعيدًا كل ذلك، أن تنعم معه بحب دافيء نابع من قلبه الذي تعلق بها حتى سكنته تمامًا.

انتبه لصوت مضيفه الهاتف بجدية: -خد يا بني الكالونية دي خليها تشمها؟
نظر إلى ما يحمله في يده، فوجده ممسكًا بزجاجة عطر رخيصة – من ماركة شعبية معروفة – يقربها إليه، تناولها منه، ووضع القليل من محتوياتها على يده، ثم قرب راحته من أنفها لتستنشق رائحتها النافذة علها تستجيب وتفيق من تلك الإغماءة السريعة، تركه الحاج إسماعيل يكمل عمله، وانصرف ليتابع اهتمام البقية بإعداد الغرف لضيوفه.

كرر منذر الفعلة لعدة مرات حتى تحركت رأسها قليلاً، وظهر تأثير طفيف على قسمات وجهها المشدودة، لحظات مرت عليه منتظرًا بتلهف عودتها لوعيها، فتنفس الصعداء لمجرد تحريكها لجفنيها، تشكل على ثغره ابتسامة باهتة حينما فتحت عينيها ببطء، تشوشت الرؤية لديها في البداية، لكنها شعرت بتلك التنهيدات الدافئة تلفح وجهها، رمشت بجفنيها لعدة مرات حتى اعتادت على الإضاءة، رأته محدقًا بها بنظرات متلهفة، فجاهدت لتنهض، هتف محذرًا:.

-خليكي زي ما انتي؟
سألته بصوت ثقيل رغم خفوته: -حصل ايه؟
تنهد قائلاً بارتياح: -ولا حاجة، انتي كويسة؟
تلفتت حولها بنظرات سريعة محاولة تخمين المكان الذي تتواجد به، لكنها لم تستطع، فتسائلت بقلق:
-أنا فين؟
أجابها بتأنٍ: -انتي في بيت الحاج إسماعيل!
انتفض جسدها بخوف، وظنت أنهم أتوا بها إلى هنا للقيام بتلك المهمة الوضيعة، فتلفتت حولها بذعر، استشعر رهبتها، وخمن السبب، فطمئنها قائلاً بحذر:.

-اهدي ومتخافيش، محدش هايقرب منك!
تأكدت من صدق ما يقول حينما لم تجد أي أحد معهما، تابع هو حديثه بهدوء جدي: -أنا بس عاوزك تسمعيني كويس للأخر، ومن غير مقاطعة!
هزت رأسها بالإيماء، فسحب هو نفسًا عميقًا حبسه للحظة في صدره، ثم أطلقه دفعة واحدة ليقول بتريث:
-شوفي يا أسيف، فاكرة لما حذرتك من قريبك ده؟
ضغطت على شفتيها قائلة باقتضاب: -ايوه.

استأنف حديثه بكلمات موحية: -انتي شوفتي بنفسك هو حطنا في موقف زي الزفت، ولو مكونتش اتصرفت كده، كان، مش هارغي في اللي قاله كتير!
نكست رأسها بخزي بعد أن ترقرقت العبرات في مقلتيها، أخرجها من حزنها هاتفًا: -أسيف، أنا عاوزك تمشي ورايا للأخر!
رفعت رأسها لتحدق مباشرة في عينيه متسائلة بخوف واضح: -يعني ايه؟

طالعها بنظرات مطولة محاولة إطلاق العنان للغة العيون للبوح بما يكنه حقًا لها، لكنها لم تستطع قراءة نظراته الشغوفة بها، ضغط على شفتيه متابعًا بحذر:
-احنا مضطرين نكتب الكتاب قصادهم!

انفرج ثغرها للأسفل، وتسارعت دقات قلبها بتوتر كبير، أكمل هو موضحًا بجدية: -ولازم نعمل الفرح هنا عشان أحفظلك كرامتك وأردلك اعتبارك، وإلا هاتطلع سمعة مش حلوة عليكي وعلى أهلك، والراجل ده زي الكلب، مابيصدق يلاقي حاجة ويلبد فيها!
لم تعقب عليه، وظل بؤبؤي حدقتيها يتحركان بقلق بائن عليهما، استشعر ترددها، بل ربما رفضها، فتنهد قائلاً بانزعاج طفيف:
-أنا عارف إنك مش حباني، ولا عاوزة الجوازة دي!

شعرت بالاطمئنان لتفهمه موقفها، لكن في نفس الوقت كانت تشعر بغصة في حلقها بدون أن تفسر الأمر لمجرد إحساسها بحزنه، وضع يده على رأسه يحكها مرة واحدة قبل أن يضيف بحسم:
-وأنا أوعدك مش هاعمل حاجة غصب عنك، الجوازة دي لمصلحتك انتي، وهاتكون على الورق وبس!
سألته مستفهمة وقد تعقدت تعابيرها: -قصدك انها تمثيلية؟
حرك رأسه بالإيجاب مؤكدًا: -بالظبط، هانكملها قصادهم، ونمشي من هنا!

بدا كمن يجد صعوبة في الحديث حينما أكمل بامتعاض: -وهاننفصل بعدها!
نغصة أخرى قوية عصفت بها رغم أن المسألة مجرد اختيار مؤقت فرض عليها لن تجبر على شيء فيه، حاول أن يرسم على ثغره ابتسامة ودودة وهو يؤكد لها من جديد:
-صدقيني، مش هايدوم الوضع كتير!
ضمت كفيها المرتعشين معًا تفكر مليًا فيما قاله، فسألها بترقب: -ها قولتي ايه؟

حدقت فيه مرة أخرى بأعينها اللامعة، شردت بعمق في لمحات وجهه، هي في كل مرة تكتشف فيه سمة مميزة، وفي كل موقف تتعرض له يثبت لها أنه الأجدر بين الرجال، خشيت أن تنساق وراء ما تشعر به، فنفضته سريعًا متسائلة بحذر:
-انت مش هاتجبرني على حاجة، صح؟

بلا وعي مد يده ليلتقط كفها المرتجف، نظرت له مدهوشة غير مصدقة ما فعله، ورغم هذا لم تبدِ أي مقاومة، تركته يسحب يدها إليه، ويحاوطه براحته، أحست بذلك الدفئ المنبعث منه، خرجت منها شهقة خافتة حينما رأته يضمه إلى قلبه مرددًا بنبرة مختلفة عما مضى وذات مغزى:
-وحياة أغلى حاجة عندي هنا، مش هاتعملي أي حاجة إلا برضاكي وبس!

تسارعت أنفاسها بتوتر كبير، تيقنت من صدقه، ولم يضف المزيد، اكتفى بتصرفه ذلك ليعبر لها عن حاله المشتاق لها، أرخى أصابعه عنها كي لا يسبب لها الحرج، فسحبت يدها للخلف قابضة على أصابعها، نظر لها مطولاً متوقعًا الرفض، لكن خرجت همسة خافتة من بين شفتيها تقول:
-ماشي!
حدق فيها مدهوشًا وهو يردد بعدم تصديق: -ماشي ايه؟
ابتلعت ريقها قائلة بخجل ظاهر بعد أن أخفضت نظراتها: -أنا موافقة!

اتسعت ابتسامته بدرجة ملحوظة، وزادت نبضاته حماسًا، أسبل عينيه نحوها متابعًا بشغف ذلك التورد المنعش للروح الذي غزا وجهها، هي بكلمة واحدة أعادت إليه بريق الحياة، وضع يده على رأسه ليمررها في شعره، أحس باضطراب أنفاسه من قوة الأدرينالين المحفز له، هي أربكته بموافقتها المفاجئة، لم يجد من الكلمات ما يعبر بها عن حاله، فتنفس بعمق ليضبط انفعالاته المتحمسة، اعتدل في وقفته، ونظر لها قائلاً بجدية:.

-وأنا أوعدك قصاد ربنا إني مش هاخلي حاجة أبدًا تضايقك أو حتى تأذيكي طول ما انتي معايا!
حدقت أسيف في عينيه بقوة دون أن يطرف جفناها لثوانٍ، ابتسمت له بخجل شديد، وهمست بصوت خافت للغاية صدر تلك المرة من إحساسها ذلك:
-وأنا مصدقاك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة