قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والسبعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والسبعون

ورد إليه اتصالاً هاتفيًا من ابنه الأصغر يبلغه فيه بتطورات الأوضاع خلال زيارتهم لبلدتها الريفية، وكيف تأزم الموقف من جديد مما اضطر أخيه منذر إلى اللجوء إلى حيلة كتب الكتاب لكي يسيطر على الأمر قبل أن يتفاقم وينقلب إلى أمر خطير غير مضمون العواقب، ولأنه يعرف ابنه جيدًا فقبل طه باختياره، وبامتعاض حرج أمره قائلاً:
-سيب أخوك هناك يا دياب معاهم، وإرجع انت عشان نرتب أمورنا!
رد عليه ممتثلاً: -حاضر يا أبا.

تابع طه محذرًا بصرامة: -وقوله ما يتهورش، انا جاي بنفسي عنده، هاحل أي مشاكل!
-ماشي، طيب وبنت عواطف التانية هانعرفها؟
-أكيد، وبعدين دي ليها موال تاني
سأله دياب باهتمام: -ليه؟ هو حصل حاجة في غيابنا؟
أجابه بغموض هادئ: -بعدين هاقولك، بس المهم دلوقتي تظبط أمورك، وترجعلي!
-تمام! اطمن يا حاج.

اعتدلت في جلستها بعد أن أبدته موافقتها على عرضه، شعرت بالارتياح لكونه في حياتها، فبدونه لأصبحت لقمة سائغة للأقوى منها، اختلست أسيف النظرات نحوه تراقبه باهتمام ظاهر عليها حينما انسحب من المكان ليتحدث مع الحاج إسماعيل في عدة أمور، لأول مرة لم تنفر حقًا كون ارتباطهما جديًا، أحبت فكرة درعها الذي يدفع عنها كل المصائب، أحست بصدق كلماته النابعة منه.

رأت في نظراته ما أكد تلك المشاعر التي تعتريها، ففي كل لحظة تعرتض فيها لخطر ما، يظهر لها من الهدم ليزود عنها ويفديها بروحه دون اهتمام بما قد يحدث له، هي الأهم دومًا عنده أولاً وأبدًا، شعرت بنبضاتها تتلاحق بتوتر كبير لمجرد تفكيرها المتعمق فيه، بحالة من الارتباك والخجل لأنها استشعرت وجود شيء ما بها يجذبها إليه، أشاحت بأعينها بعيدًا عنه حينما أتاها صوت عمتها المتسائل بحنو:
-بقيتي كويسة يا بنتي؟

ابتسمت قائلة بخفوت خجل: -الحمدلله أحسن
تنفست بهدوء محاولة ضبط حالها متحرجة من احتمالية اعتقاد عمتها بأنها تبادله نظرات غريبة، فنكست رأسها خجلاً، واكتفت بالصمت
مسحت عواطف على وجنتها بكفها برفق شديد، وهتفت متابعة بود: -يا رب دايمًا يا بنتي!
قربت منها كوبًا معدنيًا به مشروبًا باردًا أعدته من أجلها وهي تضيف: -خدي اشربي العناب ده يروق دمك!
هزت رأسها نافية: -مش عاوزة يا عمتي!

أصرت على ارتشافها منه قائلة بإلحاح: -اسمعي الكلام ده يا حبيبتي، خلي الدموية ترد في وشك
استسلمت سريعًا أمام إصرارها هامسة: -طيب!
بدأت ترتشف منه القليل حينما انضمت إليهما بسمة لتجلس إلى جوارها الأريكة مرددة بازدراء:
-قريبك ده الله اكبر عليه، مش بيخاف ربنا، بجد بجح وعينه أد كده!
نظرت لها عواطف محذرة كي تكف عن عباراتها المزعجة، لكنها واصلت حديثها مضيفة بامتعاض:
-هو ده انسان، بجد واحد سمج!
-بسمة، خلاص!

قالتها والدتها بصرامة لكي تقطم جملتها مجبرة، لكن ما لبث أن تلاشى سكوتها المؤقت لتتسائل باهتمام:
- قولولي هانعمل ايه بعد كده؟ يعني المفروض هي عروسة ومحتاجة طلبات و..
ردت عليها أسيف معترضة: -أنا مش عاوزة حاجة!
عقدت بسمة ما بين حاجبيها مرددة باندهاش: -لأ ماينفعش، هو في عروسة من غير فستان ولا فرح
أوضحت سبب رفضها قائلة بضيق: -يعني ازاي أفرح وأنا عندي مصيبة تانية؟

تبادلت بسمة نظرات متعجبة مع والدتها، فلم تفهم مقصدها بوضوح، فاستأنفت أسيف حديثها مبررة:
-هو أنا مش من حقي أزعل على بيتي اللي اتحرق ولا حياتي اللي معدتش ليها وجود، ولا على كل اللي راح مني!
ردت عليها عواطف مواسية إياها بلطف: -طبعًا من حقك يا بنتي، هو حد يقدر يتكلم!
صمتت للحظة قبل أن تضيف بتريث لتؤكد على جدية الوضع: -بس الظروف دلوقتي أجبرتنا على كده!

لمعت عيناها ببريق حزين، فكل ما يحدث لها لم يكن ضمن أحلامها الوردية البسيطة، دعمت بسمة كلمات والدتها قائلة:
-وبعدين احنا اللي بنعمل حياتنا وبنصنع الذكريات، انتي بإيدك ترجعي كل حاجة، متخليش بس الحزن يسيطر عليكي!
ردت عليها عواطف بابتسامة ممتنة: -مظبوط، اسمعي كلام بنت عمتك، هي بتقول المفيد!
أكملت بسمة محذرة بجدية وهي تشير بسبابتها: -اوعي تخلي الراجل ده ينتصر عليكي، افرحي لو حتى لدقايق!

تعلقت أنظار أسيف بها، وفكرت بتعمق في حديثها العقلاني، بينما استمرت بسمة في الاسترسال متابعة:
-ومنذر وعدك هايجيب حقك، وهايشوف مين اللي عمل كده، خليه هو يركز في الحاجات دي وانتي فوقي لنفسك!
ردت عليها باقتضاب غامض: -ربنا يسهل!

قضى الجميع ليلتهم في منزل الحاج إسماعيل الذي يسر كل سبل الراحة للقيام على ضيافتهم، فكانوا ممتنين لكرمه الزائد معهم، وفي صباح اليوم التالي استعد دياب للانطلاق في طريقه، وأجرى مع أخيه حوارًا سريعًا للاتفاق على أهم الأمور قبل أن يتركه وينصرف.
-ها فهمتني، وأنا هتابع معاك!
هتف منذر بتلك العبارة لأخيه الذي أجابه وهو يفرك طرف ذقنه: -ماشي!

سار بصحبته حتى أوصله إلى السيارة، فاستدار دياب ناحيته مضيفًا بنبرة ذات مغزى:
-وخلي بالك من الجماعة، فاهمني طبعًا!
فهم منذر مقصده الخفي، فابتسم له قائلاً: -انت هتوصيني!
ودع الحاج إسماعيل أحد الأشخاص بعد الاتفاق معه على شيء ما ليقوم به توًا، ثم دنا منهما هاتفًا:
-ماكنت تخليك قاعد يا ابني، والجماعة يحصولك على هنا!

رد عليه دياب بإصرار: -مش هاينفع والله يا حاج، طالما الموضوع جه على السريع محتاجين نعمل ترتيباتنا ونبلغ حبايبنا كلهم، وبعدين منذر معاكو الكام يوم دول!
ربت إسماعيل على كتف منذر قائلاً بتفاخرٍ مادحًا فيه: -ده زينة الشباب ومنورنا!
رد عليه الأخير ممتنًا: -الله يكرمك يا حاج!
أضاف الحاج إسماعيل قائلاً بنبرة خشنة: -تسلم يا ابني، تعالوا نشرب الشاي عقبال ما الجماعة يجهزوا الحاجة.

تبادل دياب مع أخيه نظرات حائرة بعد كلماته الغامضة تلك، وتسائل منذر باستغراب: -حاجة ايه دي؟
رد مبتسمًا دون تكليف: -حاجة بسيطة على ما قُسم، مش من قيمتكم طبعًا!
اعترض دياب بشدة وهو يشير بيده: -لا مالوش لازمة!
أصر الحاج إسماعيل قائلاً: -والله مايحصل، إنت عاوز تزعلنا، تعالوا على المضيفة نتكلم جوا!

لم يجد الاثنان بدًا من الاعتراض، فتلك من التقاليد الطيبة المعروفة لدى أهل تلك البلدات الريفية، ورفضها يعني التقليل من احترام المضيف.

لاحقًا، أصرت عواطف على ذهاب ابنتها مع دياب لتأتي بأختها، فلا يصح أن يُقام حفل عقد القران بدون وجودها، بالإضافة إلى حاجة بسمة إلى ثياب جديدة، وكذلك لإحضار بعض الأشياء والمتعلقات النسائية التي ربما تحتاج إليها العروس في ليلة كهذه، ووافق هو بسعادة على اصطحابها، فربما هي فرصة مناسبة له ليحظى بحديث ودي معها على انفراد، جلست بجواره في المقعد الأمامي رغم حرجها منه، لكن لم يكن أمامها أي بديل، خاصة حينما وضع بالمقعد الخلفي ما هو متعارف عليه من هدايا ترحيبية تشمل الفواكة والخضراوات والطيور وغيرها مما يعرف عنه ب الزيارة للعائلة.

انحنت عواطف على النافذة الأمامية لسيارته لتودعها قائلة: -كلميني كل شوية لحد ما توصلي
ردت عليها بسمة بهدوء: -حاضر يا ماما!
وجهت حديثها إلى دياب قائلة بتخوف قليل: -خد بالك منها يا بني! السكة طويلة و..
قاطعها بجدية وهو مسلط أنظاره على معشوقته: -دي في عينيا يا ست عواطف، انتي هتوصيني بردك!
ردت عليه عواطف بتنهيدة: -يحميك ربنا
أشارت بسمة لأمها قائلة بهدوء: -مع السلامة بقى يا ماما عشان نلحق الطريق.

-ماشي، ربنا يسلم طريقكم
أدار بعدها دياب محرك السيارة لينطلق بها نحو الطريق الفرعي للبلدة ليعرج منه إلى الطريق الرئيسي حيث طريق عودتهما.

تجول منذر في البلدة بصحبة الحاج إسماعيل ليتحدث معه حول مسألة حرق منزل المرحوم رياض، وبالطبع بدا الأخير حذرًا فيما يتفوه به كي لا يثير الشبهات حول فتحي الذي يشك به، لكن نظراته المتطلعة إليه أكدت له عدم اقتناعه، وفي النهاية طلب منه الالتقاء بمأمور القسم ليفهم من ملابسات الحادث، فرد عليه هاتفًا:
-خلاص يا أستاذ منذر، أنا هارتبلك ميعاد معاه!
هز رأسه موافقًا وهو يرد: -اه يا ريت، محتاج أفهم منه كل حاجة!

حك الحاج إسماعيل ذقنه الخشنة متمتمًا: -ماشي! بينا على المضيفة نقوم معاك بالواجب
-كتر خيرك، كرمك وصل من بدري
-هو احنا لسه عملنا حاجة، تعالى يا أستاذ منذر
وزع أنظاره بين الطريق تارة وبين وجهها تارة أخرى ممتعًا عينيه بتأمل ملامحها الهادئة، أمسكت به في إحدى المرات وهو محدق بها، فضاقت نظراتها نحوه، استندت بظهرها للجانب قليلاً، وعبست بوجهها قائلة بحدة طفيفة:
-خير؟
ابتسم ببلاهة مرددًا: -نعم.

سألته بسمة على مضض: -بتبصلي كده ليه؟
أشار بحاجبيه مازحًا: -بأبص على المراية اللي جمبك
ردت بتهكم حاد وهي ترفع أحد حاجبيها للأعلى باستنكار: -والله، وهو المراية مرسومة على وشي؟!
هز كتفيه نافيًا: -مش عارف، إنتي أدرى!
نظرت له بضيق مظهرة انزعاجها من مزحته الخيفة قبل أن تعتدل في جلستها متمتمة بتذمر:
-ربنا يهون بالطريق!
رد عليها مداعبًا: -ايوه، كمان انتي أصلاً كائن قفوش!

فغرت شفتيها متفاجئة بما قاله، فالتفتت سريعًا نحوه لتسأله باندهاش: -أنا ايه؟
أجابها بهدوء عجيب محاولاً تقليدها: -قفوش! يعني فجأة الحواجب يترفعوا لفوق، والعينين تبظ شرار وغضب ربنا ينزل عليكي لو الواحد قال معاكي كلمة، فعلى ايه أخد وأدي، الطيب أحسن!
احتدت نظراتها نحوه وهي تعنفه بغيظ: -بقى بتسمي دي طريقة حوار؟
أجابها ببساطة: -ما أنا مش عارفلك سكة الصراحة عشان أتفاهم معاكي.

سألته عصبية قليلة وقد تشنجت تعابيرها: -وعاوز تتفاهم معايا ليه؟
بدا عليه الارتباك وهو يحاول تفسير ما يريد الإفصاح عنه، فخرج صوته متعلثمًا وهو يقول:
-احم. يعني عشان، أقصد..
لم ينتبه جيدًا للطريق، واستمر في التحديق بها دون مراعاة تلك الطرق الغير ممهدة، فانحرفت السيارة عن مسارها، شهقت بسمة مذعورة حينما رأته يميل نحو الحافة:
-حاسب الترعة.

أدار ببراعة عجلة القيادة في أخر لحظة ليتفادى السقوط بالمجرى المائي، حبست هي أنفاسها بتخوف كبير، ثم تنفست الصعداء حينما تباطأت سرعتها وتوقفت عن الحركة، التقط دياب أنفاسه قائلاً بمرح طفيف:
-الحمدلله، عدت على خير!
نظرت له شزرًا، وصاحت بانفعال: -والله، احنا كنا هانقع في الترعة عشان انت مش مركز في السواقة!
رد عليها بضجر: -ربنا ستر، وبعدين العربية دي ماشية بدعا الوالدين والله!

وقبل أن تفتح فمها لترد عليه، تابع مازحًا محاولاً امتصاص نوبة غضبها قبل أن تثور في وجهه:
-وما ليكي عليا حلفان، الفرامل بعافية حبتين، بس لحقتها، والبط تمام ورا، والبرتقان زي ما هو، ناقص بس نشيك على البيض!
شهقت قائلة برعب أكبر: -بتقول ايه؟
ابتسم قائلاً بهدوء: -متخديش في بالك، دي حاجة بسيطة!
صاحت بارتعاد وهي تلوح بذراعيها: -هي الفرامل بايظة، وطالع بينا على سكة سفر؟!

أشار بسبابته في وجهها موضحًا: -أهو ده اللي بأتكلم فيه، بتقفشي في ثانية!
تفهمت بصعوبة أنه يمازحها، فأعادت رأسها للخلف، ثم أغمضت عينيها، وظلت تتنفس بعمق حتى تستعيد انضباطها، توسلته قائلة برجاء خفيف واضعة يدها على قلبها المتسارع في نبضاته:
-بلاش الله يكرمك الحركات دي، أنا قلبي مش ناقص!
تابع حركاتها العفوية تلك باهتمام كبير، وتنهد قائلاً باشتياق: -ولا أنا قلبي مستحمل اللي هو فيه.

انتظر لوهلة حتى هدأت تمامًا، فأعاد تشغيل السيارة ليكمل طريقه بقيادة حذرة، ظل يقاتل داخل عقله في معركة فكرية كبيرة عله يصل إلى وسيلة تمكنه من البوح بمشاعره بطريقة سلسة أمامها، لكنه وجد صعوبة في الأمر، حسم أمره هاتفًا بجدية:
-بسمة!
استغربت من طريقته الفظة في نطق اسمها مجردًا من أي لقب، فعاتبته قائلة: -نعم، بسمة كده حاف؟!
رد مبتسمًا بمرح: -خلاص هاحطها مع غموس!

انعقد ما بين حاجبيها بعبوس كبير، فتلاشت ضحكته معتذرًا بحذر: -بلاش، مش هاهزر تاني!
نظرت له بحدة، فتنحنح بصوت خشن قبل أن يضيف: -أنا كنت عاوز أسألك في حاجة كده، و. ومحرج شوية
ظنت أنه يريد مفاتحتها في مسألة الدرس الخصوصي الخاص بابنه، فهي قد أهملته مؤخرًا بسبب الظروف العائلية، وربما وجد الصغير صعوبة في الاستذكار بمفرده، لذلك ردت قائلة:.

-أها، فهمتك، لو على موضوع الدرس، فأنا ممكن أشوفلكم بديل عشان مؤقت ليحيى و..
قاطعها بجدية: -لا مش ده!
-اومال ايه؟
تشبث أكثر بالمقود ضاغطًا عليه كوسيلة للتنفيس عن توتره الذي يعتريه، ثم تمتم من بين شفتيه مرددًا بارتباك:
-يعني. هو. لو، بصي..
تعجبت من تلك الحالة التي سيطرت عليه، فسألته بفضول: -ها عاوز ايه؟
تراجع سريعًا عما يريد قوله، وتبلدت تعابيره قائلاً: -خلاص ماتحطيش في بالك، بعدين!

نظرت له باستغراب مرددة بفتور: -براحتك!
عنف دياب نفسه قائلاً بحنق: -حمار، ما انت كنت زي البغبغان قصادها، دلوقتي اتخرست!
عاد إلى منزله ليخبرها بأخر المستجدات التي طرأت فيما يخص ابنها، صدمت من قراره المباغت بالزواج في تلك البلدة، وبإصراره على حضور أفراد العائلة والمعارف لإقامة حفل عقد القران هناك، خاصة أنه لم يمضِ سوى يومين فقط على الخطبة.

نظرت إلى زوجها مغمغمة باستنكار: -ابني هايتجوز، كده على طول، من غير ما..
قاطعها طه قائلاً بصوته الأجش: -اه يا جليلة، الظروف حكمت!
تلفتت حولها ضاربة كفها بالأخر محدثة نفسها بعدم تصديق: -بس ده ناقصه كتير، هو احنا لحقنا نعمل حاجة، وبعدين ليه السربعة دي؟
رد عليها موضحًا: -ده كتب كتاب بس، بعد كده نبقى نعمل الحلو كله!
هزت رأسها معترضة وهي تقول: -لالالا، أنا ماحبش النظام ده، كل حاجة ليها أصولها و..

رفع طه يده أمام وجهها هاتفًا بصلابة جادة: -بصي يا جليلة، أنا مش عاوز رغي كتير، جهزي نفسك والعيال عشان نتوكل على الله، وربنا ييسر في الباقي!
بررت سبب رفضها التعجل في تلك الزيجة قائلة: -ده احنا ورانا مواويل كتير يا حاج!
ربت طه على كتفها برفق محفزًا إياها: -اتجدعني بقى!
ضربت جانبيها براحتي يدها مرددة بانزعاج: -ياني عليك يا منذر، لما تطق حاجة في دماغك!

فركت وجهها بتعب نتيجة طول المسافة التي بدت وكأنها لا تنتهي، وتفكيرها ظل مشحونًا بكيفية الترتيب لما يحتاجه عقد القران، همست لنفسها بتبرم:
-الواحد محتاج يجهز فساتين حلوة، ويشوف بنت كويسة للكوافير، و..
استدار دياب ناحيتها يتأملها باندهاش، فقد كانت كمن يخطط لمعركة حربية وليس لمجرد عرس بسيط، فتمتم باستغراب:
-ده الموضوع باينه كبير!

زفرت قائلة بإنهاك: -اومال انت مفكر ايه؟ هو كتب كتاب كده وخلاص، ده احنا محتاجين شهر عشان نجهز كل حاجة، ويا ريت بس نلحق!
رد مازحًا وهو يحاول كتم ضحكاته: -ليه، هتشطبوا عمارة؟
اغتاظت من استخفافه بالأمر، فعاتبته قائلة: -انت هاتفهم ايه في حاجة البنات؟!
غمز لها قائلاً بتسلية: -طب ما تفهميني، جربي مش هاتخسري حاجة!
نظرت له من طرف عينها قائلة باستخفاف: -صعب عليك
تنهد محدثًا نفسه: -لو تديني بس فرصة أتكلم!

فكر للحظة أن يستغل الفرصة في التمهيد لموضوع رغبته في الارتباط بها، فأردف متسائلاً بترقب:
-يا ترى اللي حصل ده مافتحش نفسك على الخطوبة والجواز؟
نظرت له مطولاً قبل أن تجيبه بتبرم: -بالعكس ده سدها على الأخر!
فغر فمه مدهوشًا من ردها الغريب، واستدار ليحدق في الطريق أمامه متمتمًا بصوت خفيض:
-كويس، أنا كده اطمنت، طريقك مسدود يا ولدي!

ظنت أنه ربما أساء فهمها، فتابعت مفسرة وهي تشير بيدها: -بص، هو كفكرة للجواز، عادي، بس أنا مش حابة انه يكون بالشكل ده؟
لوى ثغره للجانب مرددًا بتساؤل: -أومال عاوزة دباديب وورد وقلوب وحركات من دي؟
قطبت جبينها قائلة بجدية: -مش للدرجادي، لكن دلوقتي أنا مركزة في مستقبلي وبس
أرخى قبضته عن المقود، ورفعها على رأسه ليحكها وهو يقول بتوجس: -لو على سبيل الفرض يعني، حد ظروفه زي ظروفي كده، واتقدملك هتوافقي؟

نظرت له بعدم فهم، لكنها بدت مهتمة بما تفوه به، فتساءلت: -مش فاهمة؟ قصدك ايه؟ ممكن توضح اكتر!
سحب دياب نفسًا عميقًا، ولفظه دفعة واحدة، أبطأ سرعة السيارة قليلاً كي يضمن عدم القيام بأي حادث سير، ثم التفت ناحيتها هاتفًا بنزق:
-بصراحة كده ومن غير لف ولا دوران، أنا باحبك من زمان!
اتسعت عيناها بصدمة واضحة من تصريحه المفاجئ، وانفرجت شفتاها ببلاهة جلية، فتابع قائلاً ببساطة:.

-مش عارفة أقولهالك ازاي، بس كان لازم أديهالك خبط لزق عشان تحسي بيا
حاولت أن تجد من الكلمات ما ترد به عليه وبشدة، لكن ألجمت المفاجأة لسانها وعقدته، فخرجت الكلمات بصعوبة من جوفها وهي تقول:
-انت.

باغتها بوضع إصبعه على فمها ليمنعها قسرًا عن الكلام قائلاً بهدوء: -انا مش عاوز أسمع منك رد، أنا بأقولك اللي حاسه ناحيتك! أنا مش عارف أجيبهالك ازاي، بس ده حصل، وأنا حبيتك، وكان هيجرالي حاجة لما. لما حصلك الحادثة، و. وكنت مستني الوقت المناسب عشان أفاتحك فيه!
رمشت بعينيها غير مصدقة أنه يفصح لها عن تعلقه الشديد بها، عن حبه الشغوف لها، عن رغبته في الارتباط بها، وهي لم تشعر بما يكنه لها.

تخبط رهيب في أفكارها، بل الأحرى حيرة جلية سيطرت عليها بعد ذلك، شعرت فقط بدموية متحمسة تتدفق إلى وجهها لتزيد من سخونته، ربما لكونها في موقف حرج، ولكونه يعترف بحبه لها، فتأثرت خلايا تلقائيًا بذلك، لكن الأكيد أنها لم تجد من الكلمات ما تستطيع الرد به عليه.

عقدت العزم على فضح أمره، على إنهاء حياته المهنية كخطوة أولى في تدميره، هي رفضت إلحاق الأذى به من أجل ابنتهما، لكنه تجاوز معها، وسمح لغيره بالاعتداء عليها، واستمتع برؤيتها مهانة، فقررت التخلي عن فكرة السلمية معه، ولجأت إلى مؤسسته الحكومية لتقديم شكوى علنية فيه مُسَببة وموضحة فيها أسباب شكواها.

سألت نيرمين الموظف المسئول عن تلقي البلاغات عن الموظفين بعبث ماكر: -انتو بتحققوا في الشكاوي دي بعد ما بنقدمها؟
أجابها بتأفف وهو يرتشف من كوب الشاي الخاص به: -ايوه، بتروح شئون العاملين، وفي لجنة بتتعقد، وبيتعاملوا مع الشكوى بجدية، خلصينا يا ست، لسه ورانا غيرك كتير!
عمدت إلى إظهار توجسها كي تشير إلى أهمية الشكوى، وازدردت ريقها أمامه مصطنعة التخوف وهي تضيف:.

-بس. بس دي فيها حاجات عن رشاوي و. وتهريب، وحاجات تانية
انتبهت حواس الموظف لما قالته، ولاح في عقله أفكارًا كثيرًا، أهمها الحصول على مكافأة مالية مجزية وترقية استثنائية إن تولى بنفسه ذلك الأمر، أسند الكوب سريعًا على مكتبه هاتفًا بتلهف:
-اكتبي اللي انتي عاوزاه، بس الأهم بياناتك تكون واضحة عشان جدية الشكوى!
ابتسمت قائلة بسعادة: -ماشي يا أستاذ!

التوى ثغرها للجانب أكثر لتظهر ابتسامة خفية من بين أسنانها وهي تحدث نفسها قائلة:
-وريني هاتعمل ايه يا حاتم في الفضايح اللي هاقولها!
انتهى من تناول تلك الوجبة الخفيفة التي اشتراها من مطعم الوجبات السريعة، وطوى الورقة الفارغة ملقيًا إياها بإهمال في سلة القمامة الصغيرة الموضوعة بجوار مقعده المعدني، كان على وشك الذهاب للمرحاض لغسل يده، لكنه تسمر في مكانه حينما رأى أفرادًا من الشرطة يملأون الرواق.

اقترب منهم مازن ليعرف ماذا يريدون، فانتبه لصوت أحدهم الآمر وهو يشير بيده نحو غرفه أخيه:
-حط حراسة يا بني هنا، وتحفظ على المتهم لحد ما يسمحولنا نستجوبه!
صُدم مما يفعله، وشعر بدمائه تفر من عروقه، فسأله بتلهف: -خير يا باشا، متهم مين اللي بتكلموا عنه، ده أخويا اللي في العناية!
نظر لها الضابط مطولاً متفحصًا هيئته، ثم رد بجمود: -احنا عارفين، ومعانا أمر من النيابة بالقبض عليه.

سأله مازن بتوجس وهو يمرر أنظاره على وجوههم: -هاه، طب ليه؟ هو عمل ايه؟ ده. ده راقد هنا و..
برر له الضابط السبب قائلاً: -في بلاغ متقدم ضده بالاعتداء على صاحبة صيدلية لدكتورة اسمها فاطمة، والنيابة بتحقق في الموضوع ده!
قوس فمه للجانب مرددًا بذهول: -ايييه؟
تابع الضابط مضيفًا بصيغة آمرة لأحد المجندين: -تقف هنا متتحركش إلا بأوامر مني، سامع!
أدى الفرد الأمني التحية العسكرية قائلاً بخنوع: -تمام يا باشا!

تلفت الضابط حوله متسائلاً: -محتاج أتكلم مع الدكتور المسئول عن حالته، هو فين؟
رد عليه أحدهم: -اتفضل يا فندم، هانسأل في الاستقبال وهما هيبلغونا!
تابعهم مازن في صمت ضربًا كفه بالأخر، فقد خسر أخاه حريته بسبب تهوره، وحتمًا سيزج به في السجن عما قريب إن ثبتت تلك التهمة عليه، تنهد قائلاً بتوجس:
-والله أعلم ايه تاني ممكن يجرالك يا مجد! انت ضعت خلاص..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة