قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والخمسون

حركت رسغها بعصبية محاولة إفلاته من قبضته المحكمة حوله، لكنها أبى أن يحرره.
ظل مسلطًا أنظاره القوية عليها دون أن يطرف له جفن.
فاض بها الكيل من فرضه لسيطرته عليها، فصاحت فيه بنبرة مزعوجة من تصرفه: -سيب ايدي!
رمقها بنظرات أخيرة مغترة قبل أن يرخي أصابعه كليًا عنها. سحبت يدها سريعًا للخلف لتفركها بقبضتها الأخرى، وهمست متمتمة بكلمات مبهمة لكنها كانت تشير لغضبها منه.

لم يستطع دياب تبين ما تقصده، فهتف بسخرية متهكمة: -والله هاين عليا أسيبك مع كومة فيران بحالها، يمكن يقصوا الحتة الزايدة اللي في لسانك!
اتسعت حدقتاها بحمرة غاضبة، لكنه امتصها على عجالة حينما ظهر شبح ابتسامة على ثغره وهو يتابع بعبث:
-بس متهونيش عليا يا أبلة!
استشعرت الحرج من غزله المتواري، فهتفت بصلابة: -عن اذنك!
ثم أشارت له بيدها ليتحرك للجانب، فسألها مازحًا: -طب والفار؟

أجابته ساخرة بابتسامة متسلية وهي تنسل من الشرفة لداخل الغرفة: -هيروح فين، ما هو قاعد عندكم!
كركر ضاحكًا من دعابتها الخفيفة، ووضع يديه في داخل جيبه ليسير خلفها متبخترًا بنفسه.
على الجانب الأخر، وفي نفس التوقيت، صُدمت حينما رأتها واقفة أمام عتبة باب منزلها في أبهى صورها، متغنجة بجسدها، ومتباهية بحسنها الكاذب.
رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد أنها لا ترى شبحًا.
هتفت بذهول متلعثم: -ولاء!

رسمت ابتسامة متكلفة على ثغرها وهي ترد ببرود غير مبالية بأي ردة فعل لاحقة: -ازيك يا طنط؟
امتعض وجه جليلة على الأخير، وهتفت متساءلة من بين شفتيها: -خير جاية هنا ليه؟
أجابتها ولاء بجمود وهي تنزع نظارتها عن رأسها: -عاوزة أشوف ابني، فيها حاجة دي!
ضربت هي كفها بالأخر، وأسندتهما على بطنها مرددة بتجهم: -اه، بس انتي ماتصلتيش تقولي إنك عاوزة تشوفيه!

رفعت ولاء حاجبها للأعلى، وأشارت بيدها الممسكة بنظارتها قائلة بجفاء: -هو أنا كل ما أحتاج أشوف ابني لازم اتصل، أنا أمه، وده شيء طبيعي يعني!
عبست جليلة أكثر بوجهها وهي ترد بتأفف: -اها! قولتلي، هو احنا هانعيده تاني يا ولاء!
حركت الأخيرة رأسها بإهتزازة خفيفة لتنفض شعرها المنسدل للخلف، واستأنفت حديثها بنبرة باردة:
-لو سمحتي يا طنط ناديلي ابني.

زفرت جليلة أمام وجهها بانزعاج كبير، فهي ليست بحاجة للجدال مع تلك المقيتة. خاصة أن الحاج طه قد حَرَمَ عليها القدوم إلى هنا، أو حتى أن تطأ قدماها ذلك المنزل مهما كانت الظروف، لذا اعتبرت أخر حدودها هي مدخل البناية.
تم ذلك بعد كشف ملعوبها الحقير، وحدوث الانفصال بينهما عقب ولادة يحيى.

أعطاها دياب حقوقها المادية كاملة، وقطع كل الصلات الودية معها، إلا فقط ما يخص ابنه، كان مضطرًا للتواصل معها بشأنه، فبقي الباب مواربًا في تلك الجزئية تحديدًا.
تمتمت بصوت هامس: -هو أنا ناقصة وجع قلب!
سألتها ولاء ببرود أكبر: -ها يا طنط هتناديله ولا أناديله أنا؟
نظرت لها جليلة شزرًا، وأشارت لها بكفها قائلة بتبرم: -طب خشي جوا، مش هاتكلميه على الباب
ابتسمت لها ولاء بتصنع وهي ترد: -ميرسي!

تنحت جليلة للجانب قائلة بتهكم هامس: -ميرسي، الله يرحم أبوكي!
تعمدت ولاء التغنج بجسدها أكثر لتستفز جليلة التي كانت تراقبها بأعين ساخطة، واتجهت دون انتظار ناحية غرفة ابنها حيث يتواجد طليقها الأسبق مع بسمة.
فتحت الباب فجأة لتجد الاثنان يضحكان بمرح لا يتلائم مع وجودها الغاضب.
سريعًا تلبدت الأجواء، وتلاشت الضحكات ليحل العبوس والتجهم مكانها.
ذُهل دياب من وجودها بالمنزل، فقد مضت سنوات منذ أخر زيارة لها هنا.

تسمرت بسمة في مكانها مدهوشة، فلم تتوقع رؤيتها بعد تلك الفترة الطويلة.
استندت ولاء بمرفقها على مقبض الباب لتبدأ في هز جسدها بعصبية وهي تردد بازدراء متعمد:
-واضح إني جيت في وقت مش مناسب!
استعاد دياب السيطرة على الموقف، ورد عليها قائلًا بعصبية ملحوظة: -جاية هنا ليه؟
انتصبت في وقفتها، وأجابته بنبرة جامدة: -جاية لابني، وحشني وعاوزة شوفه، اوعى تكون نسيت إني أمه!

ثم سلطت أنظارها على بسمة لتحدجها بنظرات احتقارية وهي تتساءل بنبرة تحمل الإساءة:
-ممكن أعرف بقى مين دي، وبتعمل ايه هنا في أوضة ابني؟
شعرت بسمة بحرج شديد بسبب ذلك الموقف المخزي، ثم مررت عيناها سريعًا على وجه دياب قبل أن تعاود النظر إليها لترد بتلعثم وهي تتنحنح بخفوت:
-احم. أنا المِس بتاعته!
زادت نظرات ولاء الدونية لها، وهتفت بتهكم ساخر: -اها، قولتيلي بقى!

استشاط دياب من أسلوبها المهين، فاندفع كالثور الأهوج في اتجاهها ليقبض على ذراعها صائحًا بصوت متصلب:
-اطلعي برا يا ولاء!
تعمدت التدلل في نبرتها وهي تتأوه بميوعة مقززة: -آآي، بالراحة عليا يا دياب!
ارتفعت حرارة وجه بسمة للغاية بسبب طريقة ولاء المستفزة، وشعرت بالنفور الشديد من مجرد البقاء معها في كان واحد.

إحساس عجيب بالحنق – وربما قليل من الغيرة – سيطر عليها لمجرد رؤيتها تتدلل عليه، فابتلعت ريقها بصعوبة، وصاحت بصوت مقتضب يعكس ضجرها الشديد:
-عن اذنكم
ضحكت ولاء قائلة بسخط مهين: -ايه ده بالسرعة دي! أوام خلصتي الدرس، مع إني شايفة إنه لسه بدري يا مدام ولا. آآ. آنسة لسه؟ أصلي بصراحة مش عارفة إنتي وضعك ايه هنا!

بلغ دياب ذروة انفعاله سريعًا، وفقد السيطرة على أعصابه، فهزها من ذراعها بعنف وهو يصرخ بحدة فيها:
-ما تحترمي نفسك يا ولاء، وتتكلمي بأدب هنا!
نظرت له بعينين مسلبتين، ووضعت يدها على فمها لتقول بحرج مصطنع وبائن: -أوبسي! هو أنا عكيت الدنيا ولاحاجة!
تحولت مقلتاه لجمرتين من النيران الملتهبة، ولم تهتم هي بشراسة نظراته، فواصلت إهانتها المتعمدة بجرأة جامحة:.

-بس الوضع هنا مش مظبوط يا دوبي، يعني شكلي كده جيت في وقت غلط، سوري كملوا اللي كنتوا بتعملوه!
لم يتحمل كلمة واحدة تخرج من فمها، فدفعها بعنف أكبر للخارج صارخًا فيها بهياج أشد:
-برا يا ولاء!
تأوهت حقًا من عنف قبضته، ومن حدة عصبيته، فصرخت متألمة: -آآآآه، سيبني يا دياب!
جرجرها خلفه غير مكترث بما يرتطم به جسدها أثناء سحبها للصالة، ولا بصراخها الملفت للانتباه، وهدر بها بجموح مخيف:.

-براااااا، البيت ده متحرم عليكي!
قاومته ولاء قدر استطاعتها، وردت عليه بنبرة مرتفعة ومتشنجة: -ابني عاوزة اشوفه!
نجحت في تحرير ذراعها من قبضته، وأشاحت به في الهواء بعصبية، ثم وقفت قبالته معلنة عن تحديها السافر له.
رمقها دياب بنظرات قاتمة للغاية، وهتف فيها بانفعال: -هاتشوفيه برا، لكن هنا لأ
ردت عليه محتجة بصراخ: -أنا أمه، متقدرش تمنعني عنه، إنت ناسي قانون الحضانة وآآآ..

قاطعها قائلًا بصوته الهادر: -انتي اللي ناسية أنا أقدر اعمل ايه، والقانون اللي أمك فرحانة بيه ده مايمشيش علينا، وابني هيفضل معانا!
ثم قبض على ذراعها مجددًا غارزًا أصابعه الغليظة فيه ليسحبها ناحية باب المنزل.
صاحت مقاومة بغضب جم: -اوعى، سيب دراعي!
تفاجأت جليلة بما يفعله ابنها، فتوسلته قائلة برجاء قليل: -اهدى يا دياب، بالراحة يا بني، مش كده!

وضع دياب يده على مقبض الباب ليديره، ثم فتحه على مصرعيه هاتفًا بإهانة صارخة: -الأشكال الوسخة دي ماتخشش هنا تاني، تترمى برا جمب الزبالة!
شخصت أبصار ولاء من سبابه اللاذع لها، وانفرجت شفتاها غير مصدقة ما يفعله على مرآى ومسمع من الجميع.
استخدم هو كامل قواه الجسمانية في دفعها بقوة إلى خارج المنزل لتفقد هي اتزانها على عتبته، وترتطم بالأرضية الصلبة.
أدارت رأسها في اتجاهه صائحة بتوعد مهدد: -هتندم يا دياب.

شهقت جليلة مذهولة من تهور ابنها، ولطمت على صدرها غير مصدقة جموحه الثائر.
بينما تجمدت بسمة هي الأخرى في مكانها غير مصدقة ما حدث توًا.
هي رأت جانبًا أخرًا مخيفًا في شخصه، عندما يصل المرء إلى قمه غضبه.
خرج الصغير يحيى من غرفة أروى على صوت والدته المرتفع، وهتف ببراءة: -مامي!
التفت دياب برأسه نحوه، وصاح فيه بغضب هادر: -يحيى! ارجع لورا
صرخت ولاء قائلة بعد أن نهضت من سقطتها الموجعة: -ابني، يحيى!

صدم الصغير من رؤية والدته بالخارج في حالة غير طبيعية، وردد بخوف: -مامي!
وقبل أن يتقدم خطوة نحوها، صفق دياب الباب بعنف أكبر في وجهها ليغلقه.
سمع صوت صياحها المنفعل يأتي من الخارج وهي تدق بعصبية على الباب: -ماشي يا دياب، هاتشوف!
رد عليها بسباب وقح: -يالا يا، يا بنت ال، من هنا!
شهقت جليلة معنفة إياه بحدة: -دياب!
انفجر الصغير يحيى باكيًا وهو يقول ببراءة: -أنا عاوز مامي!

صرخ دياب فيه ليهدد بنبرة عدوانية: -خش جوا بدل ما أتجن عليك إنت التاني!
استشعرت بسمة خطورة الموقف، فأسرعت بمحاوطة الصغير من كتفيه لتحميه من بطش أبيه في لحظة غضب أعمى، وبالطبع احتضنها يحيى من خصرها ليختبيء خلفها خوفًا من تلك الحالة العنيفة الظاهرة على والده.
همس الصغير بإلحاح معتاد لسنه: -أنا عاوز مامي ماليش دعوة!
رد عليه دياب بنبرة محتدة: -بردك هايجيبلي سيرتها!

اغتاظت بسمة من أسلوبه العنيف معه، فكزت على أسنانها قائلة بحدة: -بالراحة، متزعقش للولد كده!
تدخلت جليلة هي الأخرى في الموقف، وحاولت تهدئة ابنها، فهتفت برجاء: -اهدى يا دياب، مش كده يا بني!
زفر الأخير بهياج: -يووووه!
نظرت له بسمة بحنق، ثم مالت على رأس الصغير لتقبله، وهمست له برقة: -ادخل الأوضة بتاعتك دلوقتي يا حبيبي، بابي مايقصدش
عبس يحيى بوجهه مرددًا بحزن بائن: -أنا مخاصمه!

وضعت هي يدها على وجهه لتمسح عليه بنعومة، ثم أسندت إصبعيها على طرف ذقنه مبررة بهدوء حذر:
-معلش يا يحيى، هو متعصب شوية!
نفخ دياب مجددًا مستاءً من طريقتها الباردة، فهتف بسخط: -كمان هتعمل مصلحة اجتماعية وهتعلميني أتكلم مع ابني ازاي!
رفعت بسمة رأسها في اتجاهه، وتمالكت نفسها كي لا تشتبك معه أمام الصغير، وانتظرت انصرافه لترد عليه بعتاب صارم:.

-لأ، بس لما تستقوى عليه وتشخط فيه وترعبه بالشكل ده لازم اتدخل وأمنعك!
رمقها بنظرات مستخفة وهو يرد مستهزءً بها: -مش ناقص إلا انتي!
توهجت نظراتها للغاية، وصاحت فيه بحدة وهي ترفع سبابتها أمام وجهه محذرة: -ما سمحلكش!
أشار لها بعينيه قائلًا بازدراء صريح: -انتي تمامك الأبلة بتاعته وبس!
فتحت فمها لترد لكن ألجم لسانها جملته الوقحة حينما هتف قائلًا: -يعني شغالة بالأجرة، فيا ريت تلزمي حدودك!

هو أتى على كرامتها، ولم يعطِ أي أهمية لعزة نفسها وحقر متعمدًا من شأنها.
رفعت أنفها للأعلى في إباء، وردت عليه بكبرياء ثابت: -انت صح، بس ملعون أبو الفلوس اللي تيجي بالذل!
في تلك اللحظة تحديدًا أدرك أنه تسرع في قوله، وأنها ليست مجرد زلة لسان عابرة، بل إهانة قاسية للغاية.
هو حقًا أساء التصرف معها.
هرولت بسمة في اتجاه الباب مانعة نفسها بصعوبة من البكاء متحسرة على حالها.

ولجت للخارج صافقة الباب خلفها بعنف لتتجه سريعًا نحو الدرج هابطة عليه وهي تشهق ببكاء مرير فقد اختنق صدرها، ولم تعد تحتمل.
توقفت في الطابق السفلي لتلتقط أنفاسها اللاهثة حتى تمكتن من السيطرة على نوبة البكاء التي عصفت بها.
حملت نفسها اللوم لقبولها من البداية بإعطاء درسٍ خصوصي لأبناء عائلة حرب، كان عليها أن ترفض مهما كانت الضغوط.

كفكفت عبراتها بكفيها، ثم عاودت النزول على الدرج واضعة نظارتها على وجهها لتخفي خلفها عيناها الباكيتين.
عنفت جليلة ابنها على وقاحته الفظة مع بسمة، فهتفت قائلة بحنق موبخة إياه على تصرفاته الطائشة:
-دياب، ايه اللي عملته ده؟
لم يجبها، بل وضع يده على رأسه ضاغطًا بقوة عليها.
واصلت هي عتابها الشديد مرددة بلوم: -كده تحرجها بالشكل ده قصادي؟ يصح كده برضوه؟
صاح بها بنفاذ صبر: -يوووه! أنا مش ناقص!

تابعت تعنيفها مرددة: -بسمة مغلطتش عشان تكلمها بقلة ذوق!
نظر لها بأعين حمراء وهو يرد بتشنج كبير: -سيبني في حالي دلوقتي!
أكملت تكديرها له بتجهم: -ابقى قابلني لو عتبت هنا تاني! افرح دلوقتي يا ابن بطني!
كانت محقة في الإشارة إلى ذلك الأمر، فهي حتمًا لن تعود إلى هنا بسببه.

ألقى بثقل جسده على الأريكة دافنًا وجهه بين راحتيه بعد أن فركه عدة مرات بغل واحتقان. هو لم يكن في وعيه، وتخطى حدود المعقول بعصبيته المفرطة.
تيقن أنه أخطأ معها، وتصرف بفجاجة غير مبررة تجاهها، وهي التي كانت تحاول فقط السيطرة على تهوره إن تمادى وفقد أعصابه مع فلذة كبده.
عادت خائبة الرجاء إلى منزل عمتها تجرجر أذيال الخيبة بعد أن فشلت في دخول دكانها.

فضلت أن تعتزل الجميع وتبقى حبيسة الغرفة كي لا تحاصر بأسئلة عمتها الفضولية.
أرادت أن تفكر بذهن صافي في وسيلة تمكنها من دخول الدكان دون الاشتباك معه.
جلست أسيف على طرف الفراش ملقية حقيبة يدها بإهمال إلى جوارها، ثم تنهدت بتعب.
أرجعت ظهرها للخلف، وأسندت قبضتها على جانب صدغها مستعيدة حوارهما المحتد في وكالته.

أغاظها رده لما فعلته معه دون مغالاة. هزت ساقها بعصبية، وحدثت نفسها بتبرم: -مش عارفة أعمل ايه معاك؟ انت طلعتلي بس منين؟
انتبهت لصوت الدقات الخافتة على باب الغرفة، فاعتدلت في جلستها، وهتفت بتحشرج خفيف:
-ايوه
فتحت عواطف الباب وأطلت برأسها متساءلة باهتمام: -انتي جيتي يا بنتي؟
ابتسمت أسيف قائلة بتهذيب يليق بها: -اه يا عمتي!

عقدت عواطف ما بين حاجبيها متساءلة بعتاب لطيف: -طب ما عدتيش عليا في المطبخ ليه؟ أنا بالصدفة سمعت صوت الباب جيت أشقر عليكي!
ضغطت أسيف على شفتيها قائلة بهدوء: -يعني. محبتش أزعجك!
ولجت عواطف لداخل الغرفة قائلة بتبرم: -ازعاج ايه بس!
جلست هي على طرف الفراش، ثم مدت يدها ناحية كف ابنة أخيها، واحتضنته في راحتها.

نظرت لها بحنو وهي تقول بنبرة نادمة: -ده انتي بنت المرحوم الغالي، آه لو الواحد يرجع بالزمن لورا، كان صلح حاجات كتير قبل فوات الآوان!
لمعت عيناها ببريق متأثر هامسة: -الحمدلله
ضربت عواطف على فخذها برفق متساءلة بجدية: -ها عملتي ايه في الدكان؟
عبست وجهها نوعًا ما، وزفرت قائلة بإحباط وهي تهز كتفيها نافية: -ولا حاجة!
زاد فضولها وهي تتساءل بعدم فهم: -طب ليه، مش إنتي آآ..

قاطعتها أسيف قائلة بتهكم حانق: -ماهو سي منذر باشا مانعني من دخول الدكان!
للحظة لم تستوعب هي الأمر، لكن ارتخت تعابيرها عن ابتسامة راضية وهي تبرر فعلته الجادة:
-خير ما عمل!
انزعجت أسيف من ردها، وهتفت محتجة وقد اكفهر وجهها: -انتي معاه؟
أوضحت لها عواطف مقصدها بهدوء: -يا بنتي العيشة هنا في الحتة دي بالذات غير البلد عندكم، ومجد الله ياخده وينجينا من شره بني آدم أعوذو بالله! بلاوي الدنيا فيه!

ردت عليها معترضة بصوت به مختنق: -طب وأنا ذنبي ايه في ده كله؟ أنا عاوزة أبني حياتي وأشوف مستقبلي!
مسحت عواطف على وجنتها بنعومة لتمتص انفعالاتها قبل أن تتطور، ثم همست بود: -وماله يا بنتي! بس بالعقل
اقتحمت نيرمين الغرفة عليهما بوجهها الساخط محدقة في أسيف بنظرات مشمئزة.
صمتت الاثنتان عن الحديث، فأردفت هي قائلة بعبوسها الدائم: -أنا نازلة شوية يا ماما!
التفتت عواطف ناحيتها متساءلة بضجر: -رايحة فين؟

أجابتها نيرمين بامتعاض: -ورايا كام مشوار عاوزة أخلصه
ثم وجهت أنظارها نحو أسيف لتحدجها بنظرات احتقارية متعمدة قبل أن تضيف بازدراء قاسي:
-سلام
تنهدت عواطف مستاءة من أسلوبها الفج مع ابنة خالها مرددة: -وعليكم السلام!
تأملت وجه ابنة أخيها بحزن قليل، ثم تابعت قائلة بتبرير محاولة التماس العذر لها:
-متزعليش منها، ادعيلها ربنا يهديها!
لم تعقب عليها أسيف، واكتفت بإشاحة وجهها بعيدًا لتحدق في الفراغ بنظرات شاردة.

التقت بها على الدرج في حالتها المحبطة تلك، فمررت أنظارها بتفحص على تعابير وجهها الملكوم.
سألتها نيرمين باستغراب: -سحنتك مقلوبة كده ليه؟
صاحت فيها بصوت مختنق: -ابعدي عني السعادي يا نيرمين، أنا مش طايقة حتى نفسي!
ردت عليها أختها بسخط وهي تلكزها في كتفها: -الله! الله! انتي هتزعقلي، طب اطلعي حطي بوزك في بوز أم النكد اللي فوق واندبوا حظكوا سوا!

ثم اندفعت هابطة على الدرج لتحقق غرضها الذي سيقلب الأمور – حتمًا - في صالحها.
كان والده مُصيبًا في رأيه. هي استحوذت على تفكيره، وتسربت إلى أعماق خلاياه حتى تغلغلت فيها.
تشكل على ثغره شبح ابتسامة باهتة لا يعرف مصدرها، لكن مؤكدًا هي ورائها.
أسند جبينه على أصابع كف يده، وقام بحكه ببطء محاولًا إجبار عقله على عدم التفكير فيها.

أعجبه أنها – رغم غبائها المزعج – تتحمل ما يمر عليها من ظروف قاسية.
تسقط، ثم تعاود النهوض من جديد. لا تستسلم مُطلقًا حتى وإن كانت تعانده في الخطأ.
تمتم مع نفسه بتنهيدة مطولة: -دايما تعباني يا بنت رياض، ومش عارف أعمل معاكي ايه!
ما أزعجه منها هو تفكيرها الضيق والمحدود. تحكم عليه من ظواهر الأمور ولا تتريث في إتهامه في شيء.

تتناسى دومًا أنه يقف إلى جوارها في أصعب أزماتها، ولا يتركها تعاني أو حتى تتعرض للأذى ممن يتجرأ على فعل هذا.
استمر في تفكيره المتعمق بها غير مبالٍ للوقت الذي مضى وهو على حالته تلك.
للحظة تجمد في مقعده فبات كالصنم، وتصلبت تعابيره المرتخية كليًا.
شخصت أنظاره، وارتفع حاجباه للأعلى في ذهول غير متوقع.
هتف لنفسه بصدمة محاولًا استيعابها: -لأحسن أكون. ب، بأحبك!

فرك عنقه بقبضته الغليظة وهو ينفث من فمه دخان الأرجيلة الموضوعة إلى جواره.
حدق في أوجه المارة الذين يمرقون على الرصيف الملاصق للمقهى بنظرات حادة غير مكترث بهم.
التفت قليلًا برأسه للجانب ناظرًا بطرف عينه وهو يهتف بصوته المتحشرج: -غير الفحمة ياض!
رد عليه صبي المقهى بهتاف مرتفع: -حاضر يا معلم مجد! وعندك واحد حجر وصاية للمعلم أبو النجا كبير المنطقة وصلحه!

لمحته من على بعد وهي تتحرك بخطى حذرة في اتجاه المقهى.
التوى ثغرها بابتسامة خبيثة فقد أوشكت على فعل ما تريد.
جمدت تعابير وجهها كي لا يظهر تلهفها، ثم أسرعت في مشيتها نحوه.
وصلت إليه، فأخفضت يدها المتشبثة بحافظة نقودها، وهتفت بهدوء حذر: -أستاذ مجد، عاوزاك في كلمتين!
حجب ظلها أشعة الشمس عنه، فاستدار ببطء نحوها.
نفث الدخان بغزارة في وجهها وهو يرمقها بنظرات متفحصة لها.
سألها بصوت ثقيل: -انتي مين وعاوزة ايه؟

ردت عليه بجمود وهي تضع يدها على منتصف خاصرتها: -مش معقول ماتكونش عارفني؟
هتف بتهكم: -محصليش الشرف!
انتصبت في وقفتها قائلة بتفاخر ملحوظ: -عمومًا أنا بنت الحاجة عواطف خورشيد، أكيد عارفها!
رد عليها بإهانة مسيئة: -أها، الولية الخرفانة دي!
اغتاظت من سبابه لوالدتها، فهتف ملوحة في وجهه بصوت محتد: -ما تتكلم عدل عن أمي!
طرق بعصبية خرطوم أرجيلته على الطاولة الخشبية الصغيرة صائحًا فيها بغلاظة شرسة:.

-جرى ايه يا ولية إنتي التانية، جاية لحد عني وهتلبخي، أنا لساني زفر وهأبح معاكي!
ردت عليه بعصبية قليلة: -ما إنت اللي غلطت الأول
نفخ بغيظ وهو يلتقط خرطوم الأرجيلة بكفه: -اللهم طولك يا روح، لخصي في أم يومك ده!
ردت عليه على مضض وهي تضم كفيها معًا: -ماشي. منذر حرب!
وكأنها بلفظها لاسمه هذا قد أوقدت نيران غضبه المكتومة بداخله، فتشنجت تعابير وجهه للغاية، واشتعلت عيناه بوميض محتقن.

أعاد ضرب الطاولة بخرطوم الإرجيلة بانفعال واضح وهو يردد بسخط لاذع: -يادي اليوم ال، اللي مش عاوز يعدي، جيبالي سيرة ابن ال، ده ليه!
تأففت من كلماته النابية، وعبست بوجهها قائلة بحذر: -اسمعني للأخر، احنا مصلحتنا واحدة
نظر لها شزرًا وهو يرد باشمئزاز ساخر منها: -مصلحتنا، هأو يا مصلحة، ومع مين، مع ال، ده!
عنفته على طريقته قائلة بصوت مزعوج: -أعوذو بالله من لسانك ده! مشرط الله أكبر!

رد عليها مجد بنفاذ صبر: -قلبتي نافوخي يا ولية انتي، وطيرتي الحجرين اللي بأظبط فيهم من الصبح!
جلست على المقعد الشاغر المجاور له، وهتفت قائلة بخبث: -خلاص اصبر وهاقولك اللي عاوزاه!
صاح بها باقتضاب متجهم: -انجزي!
توهجت حدقتيها بوميض شيطاني وهي تستأنف حديثها قائلة بتريث: -شوف يا سيدي، دلوقتي إنت مش بتطيق سي منذر صح؟
أغضبه وصفها لغريمه اللدود بلقب ال سيد، فعنفها بقسوة: -سيدك هو مش أنا يا حُرمة!

ابتلعت إهانته على مضض، وردت بنبرة مكفهرة متحاشية إغضابه: -ماشي. ماشي، بس بلاش طولة لسان معايا، أنا هاجيلك في الكلام!
صاح بها بتأفف: -اخلصي يالا!
أخفضت نبرتها لتبدأ في شرح خطتها الماكرة قائلة: -كل الحتة عارفة العداوة اللي بينكم، وفاهمين كويس إن عمركم ما هتبقوا حبايب، ولا هتتصافوا أبدًا، إنت عاوز تضره زي ما هو بيضرك، بس لو عاوز تعلم عليه صح، يبقى تاخد منه البت اللي هو حاطط عينه عليها!

انتبهت حواسه لتلك الكلمة الأخيرة، وتحفزت الدماء بداخله على ذكر الموضوع، ثم ردد من بين شفتيه:
-بت!
ابتسمت هي لنجاحها في الحصول على اهتمامه، وتابعت قولها بهدوء مريب: -أها. هي بنت خالي، بس تطيق العمى ولا تطيقه، وهو عمال يتمحك فيها، بس هي مش مدياله ريق خالص!
ضاقت نظراته للغاية حتى باتت غير مريحة، ثم التفت نحوها متساءلًا بخبث: -مين دي؟
التوى ثغرها بابتسامة عابثة وهي تجيبه مشيرة بحاجبيها: -أسيف رياض خورشيد.

نفخ دخان الأرجيلة الذي استنشقه منها دفعة واحدة وهو يردد باهتمام: -خورشيد! الاسم مش غريب عليا، أنا فاكر إني قريته هنا!
أزالت حيرته سريعًا بترديد: - يكونش قصدك على الدكان بتاعنا؟
أومأ برأسه إيجابًا وهو يقول بحماس: -أيوه، هو الدكان
تنهدت بحرارة أمامه متعمدة استفزاز أحاسيسه المستشاطة من غريمه: -ماهي شريكة فيه مع حبيبك!
تجهم وجهه وهو يردد بنبرة قاتمة: -حبيبي!
أوضحت برقة مصطنعة: -قصدي سي منذر!

حل الوجوم على قسماته بالكامل، وصمت لبرهة يفكر فيما قالته بتمعن شديد.
فرك طرف ذقنه بيده متساءلًا بغموض: -وانتي هاتستفيدي ايه من الحكاية دي كلها
أجابته بفتور وهي تهز كتفيها: -ولا حاجة، أنا بأعمل معروف لله!
كركر ضاحكًا بصورة مستفزة وهو يضيف ساخطًا: -معروف، لأ ضحكتيني يا ولية!
نهضت من على المقعد قائلة بعدم اكتراث: -عمومًا فكر براحتك في اللي قولته، ولو ملكش الغرض بناقص خالص، كأنك ماشوفتنيش، ولا سمعت حاجة!

ثم تغنجت جسدها متابعة وهي تلوح بذراعها: -سلامو عليكو يا معلم مجد!
سلط عليها أنظاره المظلمة حتى اختفت من أمامه. وضع فوهة الأرجيلة في فمه ليسحب منها نفسًا عميقًا أجج به حدة حنقه من عدوه.
أرجع رأسه للخلف نافثًا سُحبًا من الدخان من صدره، ثم هتف لنفسه بإصرار مخيف: -وماله! هاشوف البت دي..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة