قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والخمسون

هي تخطت حاجز اللامعقول بمراحل جمة، كانت فرحتها تتجاوز عنان السماء، فالأمر بالنسبة لها لم يكلفها سوى بضعة كلمات منتقاة بعناية استخدمتها مع الخصم المناسب لتشعل من خلاله فتيل الحرب من جديد.
نعم هي كانت كمن تحالف مع الشيطان من أجل أهوائه المريضة.
تباهت بمآثرها من خلال تبخترها في مشيتها وكأنها ملكت الأرض ومن عليها.
تنهدت بحرارة متفاخرة بما أنجزته اليوم.

هي تشبه رأس الأفعى في تفكيرها الوضيع الذي خططته ببراعة شرسة، وفي تنفيذها له بدهاء ماكر لتضمن على عدوتها في لحظة مباغتة لطالما انتظرتها بتأنٍ شديد.
سارت نيرمين مبتعدة عن المقهى الشعبي وهي تبتسم بتشفٍ بائن على محياها، لم ترغب حتى في إخفائه.
فاليوم هي ظفرت بانتقامها القاسي منها، ووضعت في دربها من لن يتركها إلا في حالة واحدة. أن تصبح جثة هامدة.

وضعت هاتفها على أذنها بعد أن اتصلت برقم والدتها، وانتظرت بترقب ردها عليه.
هي أرادت ألا تثير الشبهات حولها، وأن تبدو كالحمل الوديع أمام عائلتها.
أتاها صوتها من الطرف الأخر متساءلًا: -خير يا نيرمين في حاجة؟
أجابتها بتلهف مصطنع: -بأقولك ايه يا ماما أنا عند ثابت بتاع القماش، ماتيجي بالمرة تشوفي اللي انتي عاوزاه!
اعترضت أمها قليلًا مبررة: -بس أختك لسه جاية وآآآ..

قاطعتها نيرمين قائلة بإصرار: -يالا يا ماما، يعني دي غلطتي إني اتصلت وأعدة مستنياكو، خلاص بلاهآآ..
خافت عواطف من غضبها، فهتفت مستسلمة: -طيب. طيب هانلبس ونجيلك على طول!
التوى ثغرها بابتسامة شيطانية بعد تحقق مرادها وهي ترد: -ماشي، سلام!
قررت أن تتجول بعدها بالأسواق لتضيع وقتها ريثما تأتي والدتها لمحل القماش مع عدوتها، فتفسد عليهما الأمر هناك.

لقد عقدت العزم على ألا تترك أي فرصة تسنح لها لتنغيص حياة أسيف، مهما كلفها الأمر، المهم بالنسبة لها أن تجعلها تعاني وتقاسي حتى تستسلم وترحل عنها للأبد.
ظل يفرك جلد عنقه ويجذبه تارة ويرخيه تارة أخرى وهو يفكر مليًا فيما بخته تلك الأفعى من سم قاتل في أذنيه.
نفث بتريث مهلك دخان الأرجيلة مشكلًا حول وجهه سُحبًا كثيفة.
كل ما أراده هو إشعال غريمه وتكبيده الخسائر الفادحة قبل أن يطيح به نهائيًا.

تجشأ مجد بحشرجة جلية، ثم تمتم من بين شفتيه بعد أن حسم أمره: -وماله، احنا خسرانين ايه!
هتف صائحًا بصوت مرتفع وخشن: -واد يا حودة، تعالى ياض!
أتاه على عجالة أحد صبيانه التابعين له، وهز رأسه قائلًا: -أوامرك يا معلم مجد!
أدار رأسه ببطء ناحيته، ثم هتف فيه بصلابة: -عاوزك تستقسى على السريع كده عن حاجة تخصني
رد عليه ممتثلًا: -ماشي يا معلمي! عاوز تعرف ايه
انتظر مجد لثوانٍ قبل أن يجيبه بغموض مريب: -دكان خورشيد!

أوصدت عليها باب المرحاض لتواصل بداخله بكائها المحتقن.
تمنت لو ثأرت في لحظتها لكرامتها المهدورة على يده، كورت أصابعها معًا ضاربة بعنف على حافة الحوض وهي تمتم لنفسها بغيظ مكتوم:
-ليك يوم يا دياب معايا، ليك يوم!
تهدجت أنفاسها بسبب بكائها المختنق، ففتحت الصنبور على أخره لكي يغطي صوت خرير الماء المنهمر على صوت شهقاتها المغتاظة.

ملأت كفيها بالمياه، وغسلت وجهها عدة مرات لتندمج عبراتها الساخنة مع القطرات الباردة.
دقت عواطف الباب عليها هاتفة باستغراب: -مالك يا بسمة؟ في حاجة؟
رد عليها بصوت مبحوح لكنه حاد: -لأ مافيش!
بررت عواطف سبب اندهاشها قائلة: -أصلك جيتي من برا دخلتي الحمام على طول، فقلقت عليكي وآآ..
قاطعتها بسمة بصوتٍ متصلب: -ولا حاجة! بس بطني وجعاني شوية!
هتفت أمها متساءلة باهتمام: -طيب أعملك ينسون ولا كراوية؟

صاحت رافضة بإصرار: -مش عاوزة حاجة! دلوقتي هابقى كويسة
ردت عليها عواطف بهدوء: -سلامتك يا حبيبتي، أنا خلصت الغدا، وهانزل أنت وبنت خالك تحت شوية عند ثابت بتاع القماش، تحبي أغرفلك قبل ما أنزل؟
رفضت هاتفة: -مش عاوزة حاجة، أنا هادخل أنام!
استسلمت لعنادها قائلة بتنهيدة مسموعة: -طيب يابنتي، اللي يريحك!

استندت بسمة بكفيها على حافة الحوض، وحدقت بأعينها الدامعة في انعكاس صورتها بالمرآة، ثم همست لنفسها بنبرة مختنقة:
-ربنا يحرق دمك زي ما حرقت دمي يا دياب!
نفض تلك الفكرة المجنونة عن عقله، وهب واقفًا من مكانه مستنكرًا ما استنبطه عقله.
اعتراف مثير ومركب في آن واحد.
دفع مقعده بعصبية للخلف، وذرع المكان جيئة وذهابًا معنفًا نفسه على ما باح به لنفسه.

ازدرد ريقه قائلًا بتوتر خافت: -لالالا، مش معقول! أنا. طب ازاي؟ أكيد دي تخاريف!
بدت تعابير وجهه مزعوجة للغاية، وتصرفاته مبالغًا فيها وهو يدور حول نفسه بالوكالة حائرًا.
فرك وجهه بعصبية، وحك مؤخرة رأسه باضطراب أكبر.
لم يشعر بمثل هذا التخبط من قبل، بل إنه لم يمر بتلك التجربة مع زوجته الراحلة.
ربما اعتاد على وجودها معه كونها شريكة حياته، لكن الحب الحقيقي الصادق الذي يخفق له القلب لم ينبع منه نحوها.

مجرد مودة ورحمة، وألفة بين زوجين حاصرتهما مشاكل الحياة والإنجاب لتقضي على تلك البذور الطيبة قبل أن تزدهر وتنبت.
تعجب رجاله من حالته المريبة، وتساءلوا فيما بينهم عما يقلقه.
همس أحدهم بحذر: -يكونش في مصيبة جديدة؟
أجابه رفيقه بفتور: -مش عارف، بس طول ما ابن أبو النجا موجود، فمش تستبعد حاجة
وافقه الأول الرأي مؤكدًا: -على رأيك، ده داهية من الدواهي السودا اللي ابتلينا بيها!

حذرهما ثالث قائلًا بتهديد خفيف: -طب ركزوا في شغلكم أحسن بدل ما الريس منذر ياخد باله ونسمع كلمتين مالهومش لازمة!
-ماشي!
-احنا نازلين يا بسمة!
هتفت عواطف بتلك العبارة وهي تتجه نحو باب المنزل وبصحبتها أسيف.
ردت عليهما الأخيرة بصوت مرتفع من داخل المرحاض: -طيب!
تابعت عواطف مؤكدة بجدية: -مش هنتأخر، نامي انتي لحد ما نيجي يا حبيبتي
أجابتها بسمة بضجر: -ماشي يا ماما، خلاص بقى.

استمعت هي لصوت غلق باب المنزل، فأكملت تجفيف شعرها المبتل بالمنشفة.
تنهدت بتعب، ومالت برأسها للأمام لتتفحص تلك الانتفاخات البارزة أسفل جفنيها.
عبست بوجهها منزعجة من شكلهم، ثم اعتدلت في وقفتها. وألقت بالمنشفة في السلة المخصصة للثياب المتسخة.
فتحت الصنبور الأرضي، وملأت الدلو بالمياه الممزوجة بمساحيق التنظيف لكي تنظف به الأرضية الرخامية بعد استحمامها.

خرجت من المرحاض مهرولة في اتجاه غرفة نيرمين على إثر صوت بكاء الرضيعة المرتفع، صُدمت لرؤيتها بالفراش، فقد ظنت أنها مع والدتها أو أسيف.
شهقت مذعورة لتركها بمفردها، وكأن وجودها لا يعي أي شيء لمن بالمنزل.
أسرعت ناحيتها تحملها هاتفة باستنكار: -والله حرام اللي بتعملوه فيها، سايبين الملاك دي لواحدها كده؟ افرض جرالها حاجة!

احتضنتها بسمة برفق، وأمطرت وجهها الضئيل بالقبلات الحنونة هامسة لها بصوت رقيق: -خسارتك في أمك، متزعليش يا حتة من قلبي! خالتك جمبك ومش هاتسيبك!
اقتحم بالها ما حدث مع الصغير يحيى وتهور دياب المخيف أمامه، فعبست تعابيرها سريعًا.

ربما هي حادة الطباع، متعصبة، تثور لتوافه الأمور، لا تقبل بأن تكون في موقف ذل أو ضعف، جريئة، لا تخشى في الحق لومة لائم، تأخذ حقها أولًا بأول. لكنها لينة القلب فيما يخص الأطفال الصغار. على عكس أختها التي اكتسبت الكثير من طبائع وصفات جدتها عزيزة فأصبحت نسخة مستنسخة منها.
جمده أنظاره على شرفة منزلها وهو يطل برأسه من نافذة سيارته الجانبية. ندم لسوء تصرفه معها، فقرر أن يُصلح ما أفسده دون تأجيل.

ترجل دياب من السيارة صافقًا الباب خلفه، وجاب ببصره المكان بنظرات سريعة وشمولية.
أخذ نفسًا عميقًا حبسه في صدره لثانية ليضبط انفعالاته، ثم أطلقه دفعة واحدة ليتحرك في اتجاه مدخل البناية.
صعد بتمهل على الدرج معيدًا في رأسه عدة عبارات سوف يرددها على مسامعها لتغفر له زلة لسانه.
لكنه في كل مرة ينسى ما سيبدأ به.
شعر أن الكلمات تفر من على طرف لسانه كالزئبق، فاستصعب الأمر كثيرًا.

تفاجأ بوصوله إلى الطابق المتواجد به منزلها، فتلفت حوله مدهوشًا.
همس لنفسه بتعجب ساخر: -طيرتي البرج اللي فاضل في نافوخي!
شعر بجفاف شديد في حلقه وهو يمد يده ناحية الجرس ليقرعه.
تنهد بعمق، ثم ضغط عليه مستمعًا لصوته، وانتظر على أحر من الجمر فتح الباب.
ظنت أن أختها قد عادت من الخارج، فأسندت الرضيعة الغافية برفق على الفراش محاوطة إياها بوسائد عدة لتضمن عدم سقوطها في حال تحركها.

سارت بخطى متعجلة نحو الباب واضعة بعدم اهتمام حجابها حول رأسها تحسبًا إن كان الطارق غريبًا.
سيطر الوجوم على تعابير وجهها، واحتدت نظراتها حينما رأته واقفًا على عتبة منزلها.
زادت حدة نظراتها القاسية نحوه، ثم عبست بفمها متساءلة بصوت مغلول: -افندم؟
كان يتوقع ردة فعل كتلك، فتهيأ لتحمل ما ستقذفه في وجه من عبارات لاذعة.
ابتسم هاتفًا بود: -سلامو عليكم الأول
ردت عليه باقتضاب متجهم: -وعليكم، خير؟

عاتبها قائلًا بهدوء: -طب ردي السلام عدل، ده حتى السلام لله
كتفت ساعديها أمام صدرها قائلة بتذمر ساخط: -جاي ليه هنا؟ افتكرت بؤين نسيت تقولهم هناك، فقولت تجي تكملهم عندي؟
كانت محقة في حنقها منه وفي تعنيفها له بشدة.
أسبل عيناه نحوها قائلًا بابتسامة صغيرة: -حقك عليا، أنا أسف!
نظرت له شزرًا مرددة بعدم تصديق: -والله.

ابتلع ريقه متابعًا بندم واضح في نبرته: -أنا غلطت، وجاي لحد عندك أعتذرلك، أسف يا ست الأبلة، مسمحاني!
شعرت بالاستخفاف في اعتذاره لها رغم تفاجئها به، لكنها لم تصدقه، فأرخت ساعديها، ثم نظرت له بتأفف قائلة بجفاء:
-لأ!
ثم استندت على حافة باب المنزل دافعة إياه للأمام لتغلقه في وجهه قائلة: -عن اذنك
أسرع بوضع يده على الباب مانعًا إياها من إغلاقه، ثم هتف مصدومًا: -ليه بس؟ طب اديني فرصة أفهمك!

صاحت به بنبرة شبه منفعلة وهي تلوح بيدها أمام وجهه: -تفهمني ايه؟ ده أنا شوفت كل حاجة بعيني!
ضغط على شفتيه قائلًا بندم: -معلش اعذريني، أنا والله لما بأتعصب بأشوط في اللي قدامي!
رفعت حاجبها للأعلى هاتفة باستنكار: -وملاقتش إلا أنا تشوطني؟
ابتسم قائلًا بتوسل: -حقك عليا! أنا أسف، ها مسمحاني؟
ردت بتبرم ساخط: -ربنا اللي بيسامح مش أنا!
فرك جبينه مستاءً من رفضها العفو عنه، فسألها بفضول: -طيب. هاتيجي الدرس تاني؟

أغاظها اعتقاده بأن إهانته لها كانت شيئًا عابرًا، وها قد مضى.
زمت فمها قائلة بازدراء: -لأ، كان في وخلص!
رد عليها مازحًا ومحاولًا امتصاص غضبها الظاهر على محياها: -بجد؟ يعني مافيش شوية متعانين على جمب كده عشان الغلبان اللي زيي؟
استشاطت أكثر من طريقته المستخفة بالأمور، فوبخته صائحة: -انت جاي تهزر بقى!
أجابها مبتسمًا ببلاهة: -لأ! أنا عاوزك تسامحيني!

نظرت له بتأفف، ثم نفخت في وجهه قائلة: -يووه، عن اذنك مافيش حد هنا، ومايصحش واقفنا كده!
رد دياب متفهمًا: -طيب. عندك حق!
ثم توسلها برجاء واضح: -بس وحياة أغلى حاجة عندك تقبلي أسفي!
زادت ابتسامته عبثًا وهو يضيف غامزًا لها: -ماشي يا أحلى أبلة؟ يا أم عينين ورامة، ومناخير حمرة!
هتفت فيه بحدة مستنكرة تلميحاته المزعجة: -انت بتعاكسني بقى؟

جمد تعابير وجهه للغاية هاتفًا بصرامة شديدة وهو يشير بيده: -أعوذو بالله! أنا بتاع معاكسات، وكلام من ده، استغفر الله يا رب، هذه ليست أخلاقنا يا أبلة بسمة! احنا لما نحب نعاكس بنقول في الوش على طول، أنا أعاكس، لالالا!
جاهدت لتخفي ضحكتها التي تطفو على ثغرها بسبب طريقته الطريفة في الإنكار، فابتسم لها قائلًا بتسلية:
-وربنا شكلك عاوزة تضحكي، صح؟
عبست بصعوبة زائفة مرددة بقسوة: -لأ طبعًا!

غمز لها قائلًا: -طب عليا النعمة انتي عاوزة تضحكي!
أشاحت بوجهها للجانب لتتفادى النظر إليه، فهتف بخفوت ماكر: -طب إياكش يا رب ولاء تنفجر دلوقتي انتي عاوزة تضحكي!
لم تستطع السيطرة على حركة شفتيها أكثر من هذا، فكركرت ضاحكة بمرح.
تنفس الصعداء لإزالة ذلك التوتر بينهما، وهتف متساءلًا بإلحاح: -ها. صافي يا لبن؟
أجابته بغموض: -خلاص بقى!

أصر قائلًا بإزعاج: -لا قوليلي وريحيني، ده أنا ممكن أجيبلك البقرة لحد هنا وآآ..
قاطعته مرددة باستهزاء: -بايخة على فكرة يا أستاذ دياب!
شهق لاطمًا على صدره بمرح: -أستاذ دياب حتة واحدة، مقبولة منك يا أبلة!
تنحنحت بخفوت لتخفي تلك الابتسامة التي تسعى للظهور على محياها.
سألها بتنهيدة متعبة: -ها قوليلي هاتيجي الدرس؟
نظرت له بثبات وهي تجيبه بثقة: -في المشمش!

صدم من ردها العجيب، وردد قائلًا: -نعم، مشمش! هو الدرس في سوق العبور؟
نظرت له بغيظ، ثم دفعت الباب في وجهه قائلة باقتضاب: -عن اذنك!
لم يتمكن تلك المرة من منعها من إغلاقه، فوقف في مكانه مذهولًا.
وضع يده على جبينه يفركه مرددًا باستياء: -يخربيت دماغك! أنشف من حجر الصوان!
استندت بظهرها على الباب مبتسمة لنفسها بغرور، هي لم تتوقع مجيئه إليها، ولا اعتذاره المُلح لتقبل به.

رفعت حاجبها للأعلى قائلة بوعيد: -استنى عليا يا دياب، أنا هاعلم عليك!
أسرعت في خطاها نحو المرحاض لتحضر الدلو الممتليء بالمياه ومسحوق التنظيف.
حملته بحذر وهي تسير في اتجاه غرفة نيرمين.
اتجهت نحو الشرفة، ثم انحنت لترفعه عن الأرضية، وأسندته على حافتها.
انتظرت بترقب شديد ولوج دياب من مدخل البناية لتقذفه على رأسه.
نزل على الدرج مدندنًا بصافرة خفيضة عابثًا بخصلات شعره.

رفع ياقة قميصه للأعلى، ثم خرج من البناية متلفتًا حوله بنظرات عادية.
انتفض في مكانه فجأة مصدومًا بذهول كبير حينما انهمرت فوق جسده تلك المياه الغادرة.
اغرورقت ثيابه بالكامل، وابتل ما معه من هاتف محمول، وميدالية المفاتيح.
كانت يداه لزجتين بفعل الصابون، فنظر لأصابعه بأعين حمراوتين.
نفض ذراعيه من المياه العالقة بهما، ثم هدر منفعلًا من تلك الفعلة الحمقاء والمتجاوزة هاتفًا بسباب لاذع:.

-يا ولاد ال، مش تفتحوا عينكم! للدرجادي عُمي مش شايفين البني آدمين اللي ماشيين تحت!
سمع صوتها المألوف يأتيه من الأعلى صائحًا: -تعيش وتاخد غيرها!
رفع وجهه نحوها مسلطًا نظراته النارية نحوها. فرأها تضحك متباهية بما فعلته معه.
استشاط وجهه، وبرزت عروقه، وضغط على شفتيه مانعًا نفسه من السباب مجددًا.
لوحت له بأصابعها قائلة بتشفٍ كبير: -دلوقتي أقدر أقولك حليب يا اشطا!
ضحكت مستفزة إياه وهي تلج إلى الداخل.

لم يبعد نظراته عن الشرفة رغم اختفائها منها، وتمتم مع نفسه بتوعد مغتاظ: -ماشي، متعنالك لقدام يا أبلة!
أخفض عيناه ليجد أحد المارة محدقًا به وهو يضحك على هيئته، فنظر له شزرًا مرددًا بحنق بائن:
-في حاجة!
رفع الرجل يده قائلًا بحرج: -لأ مافيش!
تحرك بعدها دياب نحو سيارته ليركبها متمتمًا بكلمات مبهمة لكنها توحي بغضبه التام.

نظرت باحتقار لها وهي متأبطة في ذراع والدتها، فدفعتها عن عمد بقوة من كتفها لتحل محلها، وتمسك بذراعها.
ابتلعت أسيف ريقها متحملة أسلوبها الفج في التعامل، وأخرجت تنهيدة مزعوجة من صدرها.
تحركت للجانب الأخر لتسير إلى جوار عمتها متجنبة افتعال أي مشاجرات معها، وهمست لنفسها بتذمر:
-ربنا يبعدها عني، أنا بأتخنق منها!
عاتبت عواطف ابنتها قائلة بضجر: -مالهاش لازمة الحركة دي!

مالت عليها نيرمين برأسها لتهمس لها بحقد واضح: -انتي أمي مش أمها!
رمقتها عواطف بنظرات حادة موبخة إياها بغلظة: -وهي أكتر من بنتي! يا ريت تفهمي ده، وتعامليها كويس
إشرأبت نيرمين بعنقها للجانب لتحدج أسيف بنظرات دونية مخيفة قبل أن ترد بغموض مربك:
-وماله يا ماما! ده أنا هعاملها معاملة متتخيلهاش!
استشعرت عواطف القلق من طريقتها، فتساءلت بتوجس: -قصدك ايه؟

ردت عليه بابتسامة خبيثة وهي تشيح بوجهها بعيدًا عنها لتحدق أمامها بنظرات مخيفة: -متخديش في بالك!
صمتت للحظة قبل أن تتابع بجدية آمرة: -تعالي ناحية الرصيف أحسن بدل ماشيتنا في نص الشارع!
تحركت معها والدتها، وكذلك أسيف، ناحية الرصيف عفويًا غير مدركتين لذلك الدنيء الجالس هناك على المقهى الشعبي.
-ها وايه كمان؟

تساءل مجد بتلك العبارة باهتمام أكبر بعد أن أبلغه صبيه حودة بما جمعه من معلومات سريعة حول ذلك الدكان العتيق المملوك لعائلة خورشيد.
عرف باختصار من رجال منذر الذين تبادلوا الحديث السريع معه بتنازل عواطف عن حصتها وبيعها لمنذر، وشراء الأخير لها بثمن مرتفع من أجل فرض سطوته على الدكان وضمه إلى باقي المحال من أجل مشروع المطعم، لكن رفضت ابنة أخيها بيع نصيبها له، فتعطل مشروعه مؤقتًا.

كما بلغه أيضًا منعه لها من دخوله.
زاد فضوله لمعرفة سبب ذلك، لكن سريعًا ما تلاشى ذلك الغموض المريب حينما رأى ثلاثتهن تمرقن من أمامه.
تسمرت نظراته على وجهها المألوف له تحديدًا.
هو عرفها توًا، نعم إنها نفس الفتاة التي اصطدمت به من قبل ليلة خروجه من السجن، وتسببت لاحقًا في اندلاع المشاجرة حينما تحرش بها. تلك التي مُنعت عنه عنوة، وزج في الحبس بسببها.

هتف الصبي حودة قائلًا بتلهف وهو يوميء بعينيه نحوهن: -دول أصحاب الدكان يا معلم، والبت اللي على الطرف تبقى شريكة ابن طه!
تحفزت حواسه بالكامل بعد تلك الجملة الأخيرة، وانتصب في جلسته متأهبًا لها.
رأت نيرمين – من على مسافة قريبة - على تعابيره المتصلبة ما طمأن شعورها بقرب نجاح خطتها الجهنمية.
غمزت له بطرف عينها بحركة موحية لتشير إليها وهي تهتف عن عمد مؤكدة لشخصها المقصود:.

-يا رب بس يعجب ذوق القماش يا بنت خالي!
استغربت أسيف من طريقتها الغير مريحة في نعتها بذلك اللقب، والتفتت ناحيتها لتنظر لها بانزعاج بائن.
التوى ثغر الأخيرة بابتسامة شيطانية برزت من خلفها أنيابها الشرسة وهي تبادلها تلك النظرات الموحية بشر مستطر.
مرت من جواره غير مدركة لوجوده المهلك قربها، لكن نظراته المخيفة اخترقتها كليًا لتعلن عن بدء تحدٍ من نوع أخر. تحدٍ مباح فيه كل شيء للظفر بذلك الصراع المميت.

تحسس مجد صدره بحركة بطيئة، ثم تابعها بأنظاره القوية هاتفًا لنفسه بحماس مثير: -ده كده احلوت على الأخر..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة