قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والخمسون

قست نظراته حتى باتت أكثر غموضًا وريبة، تمعن في تفكيره الجهنمي الدنيء حتى وصل إلى مربط الفرس، إلى تلك الذريعة التي سيبدأ من عندها حياكة خطته وتنفيذها. فقدا هداه شيطان عقله إلى السبيل نحوها.
الآن صارت هي هدفه القادم، والوصول إليها يعني إعطاء غريمه اللدود ضربة مميتة في مقتل.
ألقى بخرطوم أرجيلته على الطاولة بعد أن فَرغ منها، ثم نهض واقفًا من مقعده قائلًا بصوت متحشرج:.

-حاسب على الطلبات يا حودة وحصلني على المطعم
أجابه صبيه ممتثلًا: -تؤمر يا معلم مجد!
سار بخطى واثقة فاركًا ذقنه وصدغيه بحركات ثابتة في اتجاه المطعم الخاص بعائلته ليتحدث مع والده في أمرها، فقد حسم أمره باقتحام حياتها بالإجبار.
وقفت محدقة بأعين شاردة في لافتة محل الأقمشة غير مُدركة لما يُحاك من وراء ظهرها من مكائد مهلكة.

بدت حائرة إلى حد ما وهي تفكر فيما ستنتقيه من أقمشة ملائمة بالداخل، ولم تنتبه لتلك الأعين المتربصة بها بغل دفين.
لم تحد عنها نظرات نيرمين الحانقة، كانت تتبعها في كل نفس يخرج منها، في كل حركة عشوائية تصدر عنها.
تمنت لو أحرقتها حية كي تبرد نيرانها المتأججة نحوها.
انتبهت كلتاهما إلى صوت عواطف الهاتف بجدية: -يالا يا بنات، تعالوا نتفرج جوا!

عادت نيرمين إلى طبيعتها الشرسة في التعامل مع ابنة خالها، فاستطردت حديثها قائلة بسخط:
-يا رب بس تعجب ست الهانم!
التفتت أسيف نحوها لترمقها بنظرات مزعوجة من أسلوبها التهكمي نحوها، وأثرت الصمت من أجل عمتها فقط.
ولجت ثلاثتهن إلى داخل محل الأقمشة، فنهض أحد العاملين من خلف إحدى الطاولات هاتفًا بترحيب:
-يا أهلًا وسهلًا، شرفتونا! ازيك يا حاجة عواطف.

ردت عليه الأخيرة بود مألوف: -بخير يابني والحمدلله، أخبار الحاج ثابت ايه؟
أجابها العامل بإيجاز وهو يبتسم لها: -تمام!
أضافت قائلة بحماس وهي تضع يديها على كتفي ابنة أخيها: -ربنا يديه الصحة يا رب، بص بقى عاوزين حاجة حلوة كده تليق بالبنوتة القمر دي!
اغتاظت نيرمين من احتواء أمها لها، فنظرت لها بسخط مغلول.

أصرت أسيف على رأيها في انتقاء ما يناسبها من ألوان، فأردفت قائلة بهدوء رقيق: -معلش يا عمتي أنا عاوزة غوامق
اعترض العامل قائلًا باستغراب محاولًا إقناعها بالعكس: -غوامق ليه بس؟ ده حتى الألوان الفاتحة هتليق عليكي، وآآ..
قاطعته نيرمين هاتفة بتهكم مهين: -شوفلها أسود حاجة عندك، حاجة شبه نهارها كده اللي مش بيعدي!
ارتفع حاجبي أسيف للأعلى مستنكرة ما تقوله عنها، وبدا العبوس ظاهرًا على ثغرها.

استشاطت نظرات أمها من أسلوبها الفج، وعنفتها قائلة بضجر كبير: -نيرمين، في ايه؟
ثم التفتت برأسها ناحية العامل قائلة بضيق: -معلش يا بني شوفلها اللي هي عاوزاه!
هز رأسه بتفهم، ثم اعتلى المقعد ليسحب عددًا من الأقمشة الملفوفة بما يتلائم مع اختيارها.
تجولت نيرمين في المحل محدجة كل شيء بنظرات احتقارية، ثم هتفت قائلة باشمئزاز بائن في نبرتها:
-هو مال الأتواب بقى شكلها يقرف كده، مافيش زي حاجة زمان!

رد عليها العامل بنبرة محتقنة: -ليه يا أستاذة؟ ده احنا جايبين في المحل هنا أحسن قماش وأغلاه!
مدت يدها لتمسك بأحد الأطراف المفرودة على الطاولة، ونظرت لها شزرًا وهي ترد بعبوس جلي:
-ماهو باين!
ثم وضعت يدها على منتصف خاصرتها متابعة بتأفف: -ده معظمه شايط، وبيتملع من بعضه لما بيتغسل مرتين ولا تلاتة!
نزل العامل عن المقعد واضعًا ما معه من أقمشة على الطاولة وهو يرد محتجًا: -أكيد مش قماشنا!

بدت علامات النفور والضجر ظاهرة عليه كرد فعل طبيعي لطريقها المستفزة.
حاولت أسيف امتصاص انفعاله الواضح قائلة بجمود: -ركز معايا حضرتك، أنا اللي هاشتري مش هي!
التفت العامل ناحيتها قائلًا بتبرم: -تحت أمرك، في عندي النوعية دي، قماشتها سميكة وتستحمل وفي نفس الوقت مش بتشف.
تغنجت نيرمين بجسدها قائلة بازدراء ساخط: -أذواق تموع النفس!

ضاق العامل ذرعًا منها، فهتف برجاء أخير: -حاجة عواطف! خلي الأستاذة تخف علينا شوية، الواحد عنده مرارة واحدة، ومش ناقص يسمع كلمتين زي دول!
شهقت نيرمين هاتفة بجموح وهي تشير بيدها بحركات موحية: -ليه يا خويا إن شاء الله، إن كان على المرارة فهي اتفقعت عندي من زمان!
على قدر المستطاع جاهد العامل ليضبط نفسه قبل أن ينفجر في وجهها وتثور ثائرته. فرد عليها بنفاذ صبر وهو يزفر مغتاظًا:
-اللهم طولك يا روح!

صاحت به بصراخ حاد: -أتكلم عدل معايا، وماتنفخش في وشي!
كان الأمر واضحًا للعيان، فهمت أسيف أخيرًا أنها تعمدت فعل ذلك لإحراجها أمام ذلك البائع حتى يرفض إتمام البيع وتُفسد عليها الأمر.
لا تفسير منطقي لأفعالها سوى هذا.
نهرتها عواطف قائلة بحرج كبير: -يا نيرمين مايصحش كده!

نظرت الأخيرة للعامل بنظرات مهينة متعمدة إثارة عصبيته قائلة: -وهي دي طريقة يتكلم بيها مع زباينه، يكونش مفكر نفسه بتاع قماش بحق وحقيق، ده حيالله شوية رقع ومتجمعة مع بعض!
ضرب العامل بقبضتيه على الطاولة هاتفًا بنبرة محتقنة: -طب ليه طولة اللسان دي وقلة الأدب؟ أنا أقدر آآ..
قاطعته نيرمين مهددة بنبرة عدائية وهي تشير بيدها: -عندك! لو فكرت بس تغلط معايا هاقلع اللي في رجلي وأشبشبلك!

لطمت عواطف على صدرها هاتفة بذهول: -يا لهوي عليكي، ليه الفضايح دي!
ردت ببرود وكأنها لم تفتعل الأمر: -إنتي مش شايفة طريقته معانا، حاجة تفور الدم!
ضرب العامل كفًا بالأخر قائلًا بحدة مغتاظة: -بأقولكم ايه شطبنا خلاص، مافيش حاجة للبيع، يالا اتفضلوا من هنا!
اعتذرت له عواطف قائلة بخجل: -استهدى بالله يا بني، حقك عليا أنا.

رد عليها بجفاء شرس وهو يرمقهن بنظرات متأففة: -لا حق ولا مستحق، اتفضلي يا حاجة عواطف من هنا، أنا لولا مقدر بس جيتك كان هيبقالي كلام تاني!
أمسكت نيرمين بعباءتها جاذبة إياها للأمام وهي ترد بحركة ساخطة مستنكرة: -يامي يامي يامي، تف. تف، تف! خوفنا يا ناس من تهديدك الأقرع ده! تقولش خارجين من الجنة ياخي!

توهجت عيني أسيف بنظرات مشتعلة وهي تحدج ابنة عمتها بهما قبل أن تندفع للخارج ووجهها ككتلة ملتهبة من الحمرة الغاضبة.
هي نجحت في إفساد الأمر عليها، وتعكير صفوها، وحرق دمائها بمهارة محترفة.
هزت عواطف رأسها قائلة بإحباط مستاء: -بينا يا نيرمين من هنا، بوظتيها وارتاحتي!
وقبل أن تلج نيرمين من المحل وجهت أنظارها نحو العامل قائلة بضجر مصطنع: -حسبي الله ونعم الوكيل!

رد عليها بتهكم مزعوج للغاية والشرر يتطاير من عينيه: -زباين تقطع الخميرة من البيت!
لكزت عواطف ابنتها بقوة في كتفها على عتبة المحل هامسة بغل: -هديتي دلوقتي، يا ريتنا ما خدناكي معانا يا شيخة!
ردت عليها ابنتها بهدوء بارد: -الله يا ماما! ده هو اللي مش عاوز يبيع!
حقًا كانت مستفزة لأبعد الحدود مما جعل والدتها عاجزة عن كبحها أو حتى الرد عليها بما تستحقه.

لم يكن بيدها أي حيلة سوى اللحاق بابنة أخيها ليعدن جميعًا خاليات الوفاض للمنزل، فيما عدا نيرمين التي كانت عيناها تبرق بوميض مخيف.
ارتسم على ثغرها تلك البسمة المنتصرة المستمتعة بنتائج ما كادته من مؤامرات مهلكة، ولم تمانع مُطلقًا في إظهارها أمام والدتها. فجولة أخرى قد ظفرت بها وتستحق أن تتلذذ بطعم انتصارها فيها.
أغلق باب المنزل خلفه مشمئزًا من نفسه ومن ثيابه المبتلة.

كان لزامًا عليه أن يعود ليبدلهم، فحالته مزرية.
تحركت جليلة في اتجاهه لتنظر إليه بغرابة بعد عودته المفاجأة تلك.
شهقت مصدومة حينما مررت أنظارها عليه، وهتفت متساءلة: -ايه اللي بهدلك كده؟
ضغط دياب على شفتيه بقوة، ولم يعقب عليها. فيكفيه الحنق المشحون بداخله تجاهها.
دنت أكثر منه لتتفقده عن كثب، فتساءلت متعجبة: -مياه وسخة دي؟
نظر لها مغتاظًا وهو يرد بضيق: -لأ بأومو!

سألته بفضول أكبر وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها: -بس مين عمل فيك كده؟ انت وقعت في بلاعة؟
لوح دياب بذراعيه هاتفًا بنفاذ صبر: -ارحميني يامه من أسئلتك، أنا جايب جاز!
ردت عليه مستاءة من أسلوبه الحاد: -يعني انت بتبقى فارد وشك برا، وتقلبه هنا؟
رفع يداه للأعلى مستسلمًا وهو يضيف باقتضاب: -مش هارد عليكي، أنا داخل أغير هدومي أحسن!

تحرك بخطوات متعجلة من أمامها، فلحقت به قائلة بجدية: -البيت محتاج يتبخر وأجيبله شيخ يرقيلي كل ركن فيه، إنتو محسدونين والله! ايوه، محسودين!
تحولت نبرتها للضيق وهي تضيف: -كفاية العمل المهبب اللي لاقيته في فَرِشة أخوك!
التفت برأسه ناحيتها لينظر لها باستنكار وهو يرد ساخرًا: -هاتي زار أحسن! ولا أقولك اتصلي بالشيخة خديجة المغربية!
نظرت له ببلاهة، فعاتبه قائلًا: -ايه يامه جو الشعوذة اللي قلب في البيت فجأة!

ردت عليه بجدية تعجبها: -انت مش فاهم حاجة، خليك في أمور التجارة بتاعتك، وسيبلي أنا الحاجات التانية!
وضع يده على مقبض باب غرفته هاتفًا بعدم اكتراث: -أنا مش فايق أصلًا للتخاريف دي، ورايا حاجات أهم!
هب واقفًا من على الأريكة المريحة بغرفة المكتب الملحقة بمطعمه غير مصدق ما تفوه به ابنه توًا.
ظن أنه في غير وعيه لينطق بمثل تلك الحماقات الغير منطقية.

نظر له بأعين حانقة هادرًا بنبرة مصدومة: -انت اتجننت؟ ايه اللي بتقوله ده!
رد عليه ببرود واثق وهو يقضم أظافره المتسخة بأسنانه: -هو الجواز عيب يا أبا!
بصق ما قطعه من أجزاء صغيرة متابعًا بجمود: -وبعدين أنا عاوز أكمل نص ديني!
رد عليه أباه غير مقتنعٍ بتصريحه قائلًا: -لأ مش عيب، بس مش بالشكل ده!
قست نظراته وهو يسأله بحدة قليلة: -اشمعنى يعني؟

أشار مهدي بيده في الهواء بحركة متعجبة وهو يحاول تبرير اعتراضه: -مش عارف أقولك ايه، بس الحاجات دي ليها أصولها، وبعدين انت تعرف البت أصلًا؟ يعني حصل بينكم كلام عشان تفكر فيها؟
تمط بذراعيه مجيبًا إياه بفتور: -لأ. مش أوي، بس هي طلبت معايا كده!
رد عليه مهدي بامتعاض: -يبقى أكيد اتهبلت في مخك عشان تفكر كده!
استشاطت نظراته وهو يرد بنبرة محتقنة: -جرى ايه يا أبا، أنا مش هفأ! وبعدين كلها مصالح في الأخر!

ردد مهدي غير مدرك لمقصده الخفي: -مصالح؟!
انتصب مجد في جلسته، وسلط أنظاره على والده ليجيبه بغموض مريب: -ايوه، مش انت يا أبا عاوز العداوة اللي بينا وبين عيلة حرب تخلص؟ ده بقى مش هايحصل إلا لما يبقى في نسب بينا!
هتف مهدي مستنكرًا تفكيره: -وملاقتش إلا دي!
أجابه بنبرة غير مريحة على الإطلاق وقد توهجت نظراته: -دي أنسب واحدة ليا!
ابتلع مهدي ريقه مضيفًا بتوجس: -شكلك عاوز تغرس رجلينا في الوحل!

انتفض مجد واقفًا من مكانه صائحًا بصوت آجش شبه منفعل: -قولي بقى انك خايف على زعل ال، دول!
وضع مهدي أصابع كفه على جبين ابنه ضاربًا إياه بقوة خفيفة وهو يرد على مضض: -انت مخك تخين، محدش هيرضى بالجنان اللي بتقوله ده.

تراجع برأسه للخلف قائلًا بشراسة مهددة: -أنا مخي يوزن بلد بحالها، والبت دي لازماني، ولو مش قابل بالجوازة دي من الأساس، وماله بس أنا حر بقى أتصرف معاهم زي ما أنا عاوز إن شاء الله أجيب عليها واطيها!
استشعر والده الخطر من كلماته الموحية بالعدوانية، فنظر له بقلق، ثم تابع قائلًا بتردد:
-مجد، انت ناسي أخر مرة حصل ايه؟ مش هانكرره تاني!
أجابه باستخفاف متهكم: -دوكها كانت عيلة ماتسواش، كويس إنها غارت وماتت!

ضاقت نظراته أكثر لتصبح مخيفة وهو يضيف بإصرا عنيد: -لكن دي لأ، وزي ما فهمتك المصالح بتحكم!
كان محقًا في عبارته الأخيرة، فهو يريد أن تستمر الهدنة بين العائلتين، ولا حاجة به لتكرار تلك المشاهد الدموية من جديد. فتنهد قائلًا بيأس:
-ايوه عارف!
تقوس فم مجد للجانب متساءلًا بلؤم: -ها قولت ايه؟
أجابه مستسلمًا: -أمري لله!

التوى ثغره بابتسامة خبيثة بعد نجاحه في إقناعه، لكن هتف والده محذرًا بغلظة: -بس سبني أرتبلها الأول، مش عاوز آآآ..
قاطعه مجد مرددًا بصرامة غير قابلة للنقاش أو التفاوض: -لأ يا حاج، إنت تقطع عرق وتسيح دمه! حلاوتها في حموتها!
اعترض مهدي على تسرع ابنه معللًا: -يا بني الأمور مش بتاخد قفش، دي ترتيبات وعلى أصولها!
صاح به بعدم اكتراث: -فكك من الكلام ده، وامشي ورايا يا أبا!

رد عليه متوجسًا وهو يخرج تنهيدة مطولة من صدره: -ربنا يسترها، قلبي مش مرتاح!
-كنتي فين كل ده؟
تساءلت شادية بتلك العبارة وهي تلاحق بنظراتها ابنتها التي ولجت للداخل دون أن تنبس بكلمة.
تبعتها إلى غرفتها مكررة تساؤلها المنزعج، فأجابتها الأخيرة على مضض: -مافيش
وبما ستجيبها؟ هي تلقت إهانة أخرى من قِبَله، وأمام إحداهن لتشعر بحجمها الحقيقي أمامها.
وخزة كبيرة عصفت بقلبها، وأنهكت مشاعرها المضطربة.

وضعت شادية قبضتها على ذراع ابنتها، وحدقت في وجهها بنظرات قلقة مرددة بتوتر ملحوظ:
-يا ولاء أنا خايفة عليكي، إنتي المفروض ترجعي عند جوزك وآآ..
قاطعتها قائلة بشراسة حادة وهي تزيح يدها عنها: -ماتجبليش سيرة الكلب ده تاني، أنا خلاص قرفت منه ومن حياتي معاه!
حذرتها أمها بجدية: -بلاش تركبي دماغك، هتخسري كل حاجة!
شردت ولاء مرة أخرى فيما حدث معها من مهانة مذلة على يد طليقها الأسبق، فلمعت عيناها متأثرة بشدة.

أخرجت من صدرها زفيرًا قويًا وهي ترد بنبرة مستاءة: -معدتش تفرق!
تفرست والدتها في وجهها، فرأت تلك اللمحات الحزينة التي تكسو تعابيره، فتوجست متساءلة:
-شكلك مش مريحني، في ايه حصل؟
اختنق صوتها وهي تجيبها باقتضاب: -أنا عاوزة أنام!
ثم ألقت بثقل جسدها على الفراش دون أن تبدل ثيابها، ودفنت رأسها في الوسادة متحاشية النظر إلى والدتها.

يكفيها ما لاقته اليوم لتزيد هي من تأجيج حنقها بداخلها بكلماتها الجامدة التي تهتم فقط بكل ما هو مادي وملموس.
راقبتها أمها بقلق كبير.
شعرت بوجود خطب ما بها، فأحوالها مؤخرًا ليست على ما يرام.
تمتمت مع نفسها بهمس مزعوج: -يا خوفي يا ولاء تضيعي النعمة اللي في ايديكي بغباءك، وترجعي يا مولاي كما خلقتني!
في مساء اليوم التالي،.

رتب الحاج مهدي مع كبير عائلة حرب زيارة ودية في وكالتهم، واتفق الاثنان على أن يلتقي رجال العائلتين بعد صلاة العشاء.
لم يجد منذر مبررًا منطقيًا لتلك الزيارة الغريبة، فقد استشعر وجود شيء ما مريب بها.
وكعادته الجادة حينما يقابل حتى بأشرس أعدائه استقبلهم بترحاب ودود، وأشرف على ضيافتهم.
تجرع مجد قهوته ببرود مستفز محدقًا في وجه خصمه بنظرات خالية من الحياة.

لم يكن الأخير متقبلًا لوجوده بأي شكل، وجاهد ليبدو طبيعيًا رغم اضطراب انفعالاته بداخله.
قطع ذلك الحديث الروتيني المرحب متساءلًا بتأفف: -خير، الزيارة دي بمناسبة ايه؟
أجابه مجد بثبات مريب ونظراته مسلطة عليه: -كل خير طبعًا، وهو احنا في بينا غير الخير!
رد عليه منذر بسخط: -إنت هاتقولي!
أسند مهدي فنجان قهوته بالصينية مستطردًا حديثه بهدوء: -شوف يا حاج طه، من غير ما نلف وندور، احنا عاوزين نناسب بعض!

قطب طه جبينه مرددًا باندهاش: -نناسب بعض؟
بينما تساءل دياب بغرابة: -نسب ايه ده
تابع مهدي موضحًا بنبرة رزينة: -ايوه، مش عاوزين النفوس تفضل شايلة من بعضها كتير، وأحسن حاجة تضمن ده هو الجواز!
رد عليه طه بتعجب وهو يحك مقدمة رأسه بحيرة ظاهرة في نظراته: -بس على حد علمي معارفنا وقاريبنا أغلبهم رجالة، والحريم اللي فيهم متجوزين، إلا إن كنت بتكلم عن بنتي أروى!

صاح منذر محتجًا بغلاظة: -في ايه يا حاج؟ أروى عيلة ماطلعتش من البيضة جواز ايه ده اللي ليها؟!
رد عليه مهدي مصححًا بابتسامة مصطنعة: -ربنا يباركلكم فيها، احنا مش بنتكلم عن دي!
بينما أضاف مجد مرددًا بغموض مزعج: -أنا حاطط عيني علة واحدة تانية، هي معرفتكم بردك!
هتف دياب قائلًا بعدم فهم: -معرفتنا!
زاد إحساسه بوجود مقصد دنيء وراء عرضه هذا، فنظراته وكلماته الموحية تؤكد حدسه القلق.

ضاقت نظراته، وحل الوجوم على محياه وهو يتساءل بامتعاض: -مين دي؟
رد عليه تلك المرة مهدي ليسترعي انتباهه: -قريبة عواطف!
التفت منذر ناحيته شاعرًا بانقباضة قوية في قلبه متوجسًا مما سيقال لاحقًا.
انفرجت شفتاي طه متساءلًا بغرابة: -هاه! مين بالظبط؟
أدار مجد رأسه في اتجاه منذر، وجمد نظراته القاتمة عليه، ثم أجاب قائلًا بابتسامة ماكرة:
-بنت أخوها رياض خورشيد. أسيف!

اتسعت مقلتي منذر بصدمة واضحة، وقفز قلبه في قدميه لمجرد سماع ذلك الحقير يلفظ اسمها من بين شفتيه النجستين، فهدر صارخًا بانفعال كبير بعد أن فشل في التمسك ببقايا عقله:
-نعم، بتقول مين؟!
استرخى مجد في جلسته أكثر، وتعمد وضع ساقه فوق الأخرى ليزيد من استفزازه له، ورد ببرود قاسي متلذذًا برؤيته على تلك الحالة المشتعلة:
-انت سمعتني كويس، أسيف خورشيد!

توهجت عيناه كجمرتين متقدتين، وكان على وشك الانقضاض عليه، لكن شكل أخاه دياب حائلًا بجسده ليمنعه من الاقتراب منه.
صرخ فيه بجموح متعصب وهو يلوح بذراعه في الهواء مهددًا: -أكيد إنت اتجننت، ومخك لسع! مين دي اللي عاوز تتجوزها! إنت اتهبلت يا بن أبو النجا!
أنزل مجد ساقه عن الأخرى قائلًا بتحذير شرس: -احفظ أدبك معايا، أنا لساني طويل وقلة الأدب مافيش أسهل منها، وآآ..

توقع مهدي أن يحدث الصدام بين الطرفين كرد فعل طبيعي لعرض الزواج المريب. وبالطبع لن يُقبل به بسهولة خاصة في تلك الظروف، بالإضافة إلى التاريخ السيء لابنه فيما يخص ماضيه المشين من حوداث شرف مع الكثير من الفتيات، لذلك أسرع بتدارك الموقف قبل أن يتفاقم ويتحول إلى شجار مهلك، فقاطعهما قائلًا بصوت مرتفع:
-اهدوا يا رجالة، هو احنا جايين نتخانق هنا، ده اتفاق جواز!

هدر فيهما منذر بصرامة متعصبة تعكس جزءًا لا يُذكر مما في داخله: -معدناش حريم للجواز، ودي الناهية!
هب مجد واقفًا لينظر له بقسوة غير مكترث برأيه، ثم أضاف مستخفًا به: -مش انت اللي تقرر!
هدده منذر بسبابته صائحًا بجنون: -على جثتي لو حصل
ابتسم مجد لنجاحه في إشعال بركانه الثائر، وشعر بالتسلية لمجرد رؤيته هكذا.
انزعج طه من تهور ابنه الغير مبرر، فصاح به بنبرة قوية وهو يضرب بعكازه الأرضية:.

-منذر، الكلام أخد وعطا!
تجاهل مجد غريمه عن عمد ليزيد من نيرانه التي تآكله حيًا، وتابع قائلًا بجمود: -شوف يا حاج طه، إن كان عليا كان ممكن أروح أخبط على باب بيتها وأتقدملها من برا برا، الحكاية مش صعبة!
ثم شدد من قوة نبرته ليقول: -بس أنا التزمت بالأصول وجيت أطلب ايدها من كبير عيلتكم الأول، فكده عداني العيب وأزح!
هز طه رأسه متفهمًا وهو يشير لابنه بعينيه ليصمت: -تمام يا بني!

أكمل مجد قائلًا بثقة مغترة وهو يوجه نظراته الشامتة إلى خصمه: -يعني اللي جاي بعد كده يخصني!
صاح منذر بعصبية هادرة: -انت بتهاوده يا أبا
رد عليه أباه بهدوء حذر: -بالراحة يا منذر!
التوى ثغر مجد للجانب وهو يؤكد له بإصرار: -بالتراضي بالغصبانية الجوازة دي هتم!
ثم دنا منه ليضيف غامزًا: -والمصلحة هنا وجبت! فاهمني طبعًا!

جاهد دياب ليبقي أخيه في مكانه، شعر هو بدقات قلبه العنيفة التي تكاد تقتلعه من صدره بسبب ذلك الكائن الحقير.
رد عليه منذر متحديًا إياه بجموح وهو يرمقه بتلك النظرات القاتلة: -مش هايحصل!
نظر له مجد باستهزاء متعمدًا إصابته بنوبة قلبية بسبب بروده المتقن.

التفت برأسه ناحية والده ليضيف محذرًا: -فدوروا البؤين دول في دماغكم كويس، وأحسبوها صح، لأن في الأخر الرأي رأي العروسة! مش رأي حد تاني! أظن كلامي واضح ومفهوم!
كز منذر على أسنانه لاعنًا بكلمات نابية: -يا بن ال..!
رمقه دياب بنظرات متوجسة وهو يجاهد لامتصاص انفعاله قائلًا: -اهدى يا منذر، امسك أعصابك شوية!
هتف من بين شفتيه بصعوبة: -مش قادر، هاين عليا أجيب أجله وأنا واقف!

عاود مجد التحديق في وجه غريمه بنظرات متشفية ذات مغزى، ثم ابتسم له قائلًا باستخفاف:
-سلام يا، يا رجالة.!
ثم وضع يده على كتف والده مضيفًا بهدوء: -بينا يا أبا!
رد عليه طه قائلًا بمجاملة: -ده انتو لسه ماشربتوش قهوتكم؟
ظل مجد محدقًا في أعين خصمه المستشاط أمامه مستمتعًا باحتراقه رويدًا رويدًا بنيران الغضب، هو لم يرَ بعد جانبه المعتم. فالقادم أخطر مما مضى.

هتف من بين شفتيه بابتسامة ماجنة قاصدًا الضغط على كل كلمة فيها: -قهوة ايه بقى، احنا هنبل الشربات قريب يا. يا أبو نسب..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة