قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والخمسون

احتدم الجدال وصار على أشده مع أفراد عائلته بمنزلهم. لم يتقبل ما عرضه ذلك الدنيء بسهولة، بل رفض حتى عقله تصديق أنه تجرأ بوقاحة متناهية لطلبها للزواج.
تعجب طه من ثورته الغير مبررة قائلًا بحدة: -مش كده يا منذر، فكر بالعقل شوية!
لوح بذراعه في الهواء صائحًا بتعصب كبير: -هو في عقل ينفع مع ال، ده! احنا بنعمله قيمة وهو مايسواش حتى صرمة قديمة مرمية في خرابة!

استطرد دياب حديثه معلقًا باستغراب: -الغريبة بقى هو إزاي عرف عنها وهو مبقالوش كام يوم خارج من السجن؟
أجابه طه قائلًا بنبرة هادئة: -هو في حاجة في الحتة دي بتستخبى، كله على عينك يا تاجر!
أتت جليلة على إثر صوت نقاشهم المرتفع متساءلة باهتمام: -ايه يا ولاد؟ مال صوتكوا عالي كده ليه؟ والعيال بالعافية لما نيمتهم!
استدار منذر ناحية أبيه هاتفًا بصرامة متصلبة: -مش هايحصل إنه يتجوزها، حتى لو كانت فيها روحه.

رد عليه دياب محاولًا تهدئة ثورته: -أكيد ليها حل!
تساءلت جليلة بتعجب وهي محدقة في وجه ابنها بنظرات مزعوجة: -مالك يا منذر؟ في ايه يا ضنايا؟
التوى ثغر طه للجانب مرددًا بامتعاض: -شوفي ابنك وحاولي تعقليه شوية يا جليلة!
تجاهل منذر حديثهما هاتفًا بعناد أكبر وهو يفرك وجهه بحنق: -ماهو من الأخر كده مش هاسمح للحيوان ده إنه يتجوزها!
زادت حيرتها من انفعالاته الهائجة، فتساءلت بتوتر: -مين يتجوز مين؟ ماتفهموني؟

أضاف دياب قائلًا بفضول أكبر: -وانت ايه اللي مضايقك كده؟
أراد طه أن يطرق الحديد وهو ساخن ليصل إلى مبتغاه، فتصرفات ابنه الثائرة – خاصة في هذا الموضوع – ليس لها إلا تفسيرًا واحدًا. لذلك هتف قائلًا بمكر محاولًا كشف أمره وسبر أغوار عقله:
-قول إنك حاطط عينك عليها بدل اللف والدوران ده كله!
تصلبت تعابير وجه منذر عقب تصريح والده الذي حاصره في خانة اليَّك.

تجمدت نظراته عليه، وعجز عند إيجاد الرد المناسب له، فاكتفى بالتحديق فيه بنظرات قوية تحمل الكثير وهو يضع كفيه على منتصف خصره.
فهو رفض تصديق ما اعترف به لنفسه، وأنكره بشدة معللًا أنها مجرد أوهام وخرافات من تفكيره المجهد، فكيف له أن يؤكد هذا علنًا أمامهم؟
استشعرت جليلة من حديث زوجها المتواري أن للمسألة علاقة مباشرة بابنها، وساورتها الشكوك حول طبيعة الموضوع.

اضطربت دقات قلبها وهي تتساءل بعصبية خفيفة: -هو في ايه بالظبط؟ مين دي اللي بتكلموا عليها؟
أجابها دياب بفتور: -قريبة عواطف
لطمت على صدرها عفويًا هاتفة بشهقة مصدومة: -بتاعة الأعمال!
التفت منذر برأسه ناحية والدته لينظر لها بحدة وهو يردد مذهولًا من جملتها الغامضة:
-نعم!
عبس وجهها بشدة، وضاقت نظراتها متساءلة بتجهم مزعوج: -وهي مالها بينا؟
أجابها دياب بضجر وهو يزفر بملل: -الكلب مجد عاوز يتجوزها يامه!

بينما أضاف طه مؤكدًا عن عمد وهو يوميء بعينيه نحو ابنه البكري: -بس ابنك معارض!
صاحت صارخة بتشنج مشيرة بكفها: -ليه؟ ما يتجوزها، واحنا مالنا بيها!
برقت عيناه بوميض مظلم، لم يعد في مقدوره ضبط أعصابه الهائجة أكثر من هذا، فما أغاظه أكثر هو عدم اكتراث والدته بمصيره أسيف في حال تزويجها بذلك الهمجي ذو الطباع السيئة، وكأنها لا تعرف ماضيه المشين ولا فضائحه المعيبة.

جاهد ليبدو هادئًا رغم انهياره الوشيك، فرفع كفه أمام وجهها قائلًا بتوسل محتد: -الله يكرمك يا أمي اسكتي دلوقتي!
هبت واقفة من مكانها صائحة بنفاذ صبر: -لأ مش هاسكت!
ثم اقتربت من ابنها، ووقفت قبالته ناظرة في عينيه بتفرس حانق.
شكل الوجوم تعبيرًا أساسيًا على وجهها وهي تسأله بازدراء: -قولي محموء عشانها كده ليه؟ ما تتجوز ولا تشوف طريقها بعيد عننا، احنا إيش حشرنا فيها؟

أجابها بصوت مختنق يحمل الانفعال: -لأنه جه طلبها مننا رسمي، فلازم نقول رأينا وندخل في الحكاية دي!
أكد طه ما قاله ابنه بنبرة متريثة: -ابنك عنده حق يا جليلة، احنا دلوقتي في قلب الموضوع!
التفتت برأسها قائلة بعدم اكتراث: -وافق يا حاج واخلص، طالما فيها المصلحة!
استشاطت نظرات منذر حتى اصطبغ بياض مقلتيه بحمرة مخيفة. كز على أسنانه متساءلًا بتشنج كبير:
-إنتي شايفة كده؟

عاودت جليلة التحديق في وجه ابنها مرددة بإصرار: -اه، هي متفرقش معانا! وبعدين ده أريح للكل!
كاد أن يخرج عن شعوره وينفجر بشراسة غير مكترث بتبعات ما سيحدث، لكنه أهلك أعصابه، وسيطر على غضبه المكتوم بداخله بتحجيمه عن الاندلاع في وجه الجميع متجهًا بخطوات مهرولة نحو باب المنزل.
صدمت جليلة من ردة فعل ابنها، ورأت في نظراته ووجهه المحتقن بدمائه المغلولة ما أكد حدسها.

حاولت اللحاق به متساءلة بتوجس: -منذر، رايح فين؟
أجابها بنبرة هادرة دون أن يلتفت نحوها: -في داهية!
ثم صفق الباب خلفه بعنف شرس جاعلًا أركان المنزل تهتز بقوة.
تهدل كتفي والدته باستياء كبير، وزادت شكوكها حول ما تخشى حدوثه.
استدارت عائدة خائبة الرجاء وهي تمني نفسها أن يكذب احساسها.
حك دياب مؤخرة رأسه متساءلًا بعدم فهم: -هو ماله بس؟
ضربت جليلة على فخذيها قائلة بتوجس: -البت دي سحراله، وعملاله عمل ربطاه بيها!

نظر له طه مستنكرًا تفكيرها القديم، وردد بغرابة: -ايه اللي بتقوليه ده يا جليلة؟
أجابته بصوت محتد وهي عابسة الوجه: -بأقول اللي شايفاه بعيني يا حاج!
استند طه بكفيه على رأس عكازه، واتكأ بطرف ذقنه عليهما محدثًا نفسه بتفكير منطقي متأني:
-احساسي صح! شكلك وقعت يا منذر ومحدش سمى عليك!
هبط على الدرجات مختنقًا بصدره بعد مجادلته الحامية معهم.
فبقائه تحت تلك الضغوطات لن يكون محمود العواقب بالمرة.

ظل يضرب بقبضته المتكورة على الدرابزون بعنف طوال نزوله حتى تورمت من شدة الضربات المتتالية.
أراد التنفيس عما يقتله.
عاتب منذر نفسه لأنه افتقر إلى الشجاعة ليصرح حتى لنفسه أنه يشعر بشيء ما نحوها.
همس لنفسه بقسوة لاذعة: -أنا جبان! جبان و..!
خجل من مجرد التفكير في الأمر، فبات يعاني من ويلات خوفه.
سخونة مشتعلة انبعث من عينيه وهو يخرج من البناية متجهًا نحو سيارته.

هتف أحد الجيران ملوحًا له بتحية عابرة: -مساء الخير يا أستاذ منذر!
لم يجبه، بل لم يشعر من الأساس بوجوده.
تعجب الرجل من حالته المريبة، ومع ذلك لم يجرؤ على سؤاله، فواصل طريقه مبتعدًا.
ركب منذر السيارة هاربًا من ذلك الحصار المهلك له عل تفكيره يهديه إلى حل لتلك الكارثة.
-والله لو أخر بنت في الدنيا ما هيتجوزها!
صرحت جليلة بتلك العبارة مؤكدة على رفضها التام وهي جالسة مع زوجها بغرفتها الخاصة.

نظر لها طه بجمود وهو يردد يتساؤل متعجب: -انتي شايفة ابنك قال كده؟
هتف بحدة واضحة في نبرتها: -من غير ما أشوف، وهو أنا مش أمه وحاسة بيه، ده ابني واللي يصيبه يصيبني!
أخذ طه نفسًا عميقًا حبسه للحظة في صدره، ثم لفظه ببطء وهو يقول: -الحق يتقال البت ماتتعيبش يا جليلة!
هتفت مستنكرة ردة فعله نحوها: -يا حاج دي ليها في الأعمال، وأنا بنفسي لاقيت واحد منهم في فرشته!

قطب جبينه ناظرًا نحوها بثبات وهو يقول باستخفاف: -انتي بتصدقي في التخاريف دي! بلاش عَبط!
ردت عليه بنرفزة: -اه بأصدق
عبس وجهه من ردها الحاد، فنهرها قائلًا: -استغفري ربك، بلاش كده!
أضافت قائلة بعناد كبير وهي تشير بيدها: -هو مش هايتجوز إلا اللي أنا اخترتهاله!
أرجع رأسه للخلف مرددًا بتجهم: -قصدك على بنت عواطف!

هزت رأسها بالإيجاب وهي تبرر تمسكها بها: -ايوه، نيرمين! كفاية إن بطنها ولادة، وبتخلف، ده غير إنها كمان شاطرة في البيت، وطيبة وعشرية، من الأخر كده هي اللي تستاهله!
رد عليها زوجها مستنكرًا تفكيرها المحدود: -ابنك مش عيل ولا مراهق، ده راجل ملو هدومه، وهو حر يختار اللي عاوزاها، وكل اللي قولتيه ده مايدخلش عقل ابنك بنكلة!

اغتاظت من رد زوجها، فهتفت بإصرار أشد: -لالالا، هو عقله مش فيه، مافيش إلا نيرمين هي اللي هاتصونه وتجيبله ابنه وآآآ..
ضجر طه من حديثها الغير مجدي، فاقتضب في الحوار معها قائلًا بصرامة: -قفلي على السيرة دي خالص يا جليلة، وحطي في بالك إن منذر دماغه ناشفة، ولو عِنِد هايعمل اللي عاوزه، وعلى الدنيا السلام!

أشارت هي بسبابتها مضيفة بحنق: -شوف يا حاج طه، حل الإشكالية دي كلها في ايدك إنت! وافق على الجوازة دي، وخلينا نخلص ونرتاح من الهم ده كله، وبعدها بقى نبقى نفوق لجوازته من نيرمين!
ضرب كفه بالأخر المسنود على رأس عكازه هاتفًا بنفي: -مش هايحصل يا جليلة، وبكرة هافكرك، ده ابني وأنا فاهم دماغه بتفكر ازاي! وعصبيته دي مش بالساهل!

هداه تفكيره المشحون إليها، ربما عن طريقها يتمكن من إيصال رسالة ضمنية توضح مساؤي ذلك الحقير دون أن يظهر هو في الصورة. خاصة أنها تعانده بشكل كبير، وتفكر بتهور حينما يتعلق الأمر به.
ولمس هذا الأمر فيها عدة مرات حينما اتخذت قرارات مصيرية عاجلة في أوقات حرجة أوقعتهما سويًا. فليضمن تفكيرها العقلاني وتريثها في تلك المسألة بالذات، لذا عليه أن يختار من يأتمنها في هذا الموضوع، وتصدق بلا شك تحذيرها الخطر.

أوقف منذر السيارة على مقربة من الصيدلية المملوكة لها، ثم ترجل منها سائرًا نحوها بخطى متعجلة.
كانت فاطمة على وشك إغلاق بابها حينما سمعت صوتًا يناديها من الخلف بجدية: -لحظة يا دكتورة!
التفتت برأسها نحوه لتجده يقترب منها.
ضاقت نظراتها وهي تسأله بتوجس: -خير يا أستاذ منذر؟ في حاجة؟ حد من العيلة تعبان أو آآ..
قاطعها قائلًا بغموض: -لأ، كلنا بخير، بس أنا عاوزك في كلمتين إن مكانش فيها مضايقة.

نظرت له متساءلة بتوجس: -اتفضل، أنا سمعاك!
أومأ لها بعينيه قائلًا بجدية صلبة: -معلش نتكلم جوا الصيدلية!
ضغطت على شفتيها هاتفة بهدوء: -اوكي، اتفضل!
عاودت فتح باب الصيدلية من جديد، ثم ولجت أولًا للداخل، وتبعها هو.
جلست خلف مكتبها مشبكة كفي يدها معًا حادقة فيه بنظرات متوترة وهي تسأله: -خير يا أستاذ منذر؟
أجابها بكلمة واحدة موجزة أثارت ريبتها على الأخير: -أسيف!

انفرجت شفتاها للأسفل مدهوشة من ذكره لاسم تلك الفتاة البسيطة، وبدت مهتمة بما يقوله.
لاحظ منذر تبدل تعابير وجهها للقلق، وتوسم خيرًا أن تكون الشخص المناسب لتلك المهمة.
استطرد حديثه قائلًا بهدوء حذر: -انتي طبعًا عارفها، البنت اللي كانت معايا، وجاتلك تقريبًا هنا قبل كده، اللي حذرتيها من الحيوان مجد! فكراها صح!
أجابته بتوتر خفيف وهي تبتلع ريقها: -ايوه أعرفها، مالها؟

ضغط منذر على شفتيه هاتفًا بصعوبة: -ابن ال، عاوز يتجوزها!
شهقت مذهولة من جملته الصادمة، وارتخى تشابك أصابع كفيها.
استغرقها الأمر لحظات لتستوعب خطورة الموقف، ثم هتفت غير مصدقة: -ايه! مش معقول! اوعى تكون وافقت، ده. ده انسان بشع بكل المقاييس!
أجابها قائلًا بتجهم: -هي لسه متعرفش إنه طالبها للجواز!
تراجعت فاطمة في جلستها للخلف، وأغمضت عيناها محبطة مما قد يصير لتلك الشابة الطيبة.

تابع منذر حديثه قائلًا بنبرة شبه متعصبة: -ومتعرفش أصلًا حاجة عن عمايله القذرة، ولا بلاويه ال..!
هزت رأسها بإيماءة متفهمة، ضاقت نظراته نحوها وهو يستأنف حديثه بجدية مفرطة: -أنا بقى عاوز منك خدمة لمصلحتها ده لو كان يهمك أمرها فعلًا!
ردت عليه بلا تردد وهي تنتصب في جلستها: -أكيد يهمني!

تحفزت حواسه بالكامل وهو يقول بصوت قوي متصلب: -شوفي يا دكتورة فاطمة، باختصار كده، لو أنا جيت أتكلم معاها هي مش هاتسمعني، وجايز متصدقنيش وتفتكرني بأفتري عليه، لكن إنتي لما تتكلمي معاها، يعني كلام ستات مع بعض هتاخد وتدي معاكي في الحوار!
-أها
تابع مضيفًا بتريث عقلاني: -فأنا عاوزك تتكلمي معاها وتحكيلها بالعقل كده عنه، تفهميها عن ماضيه الوسخ، وتخليها تعرف هو مين بالظبط وعمل ايه، جايز تقتنع وتسمعلك!

ردت عليه مؤكدة: -اطمن يا أستاذ منذر، أنا هاعمل اللي أقدر عليه، حرام نسيبها على عماها وهي ماتستهلش واحد زي ده!
تقوس فمه بابتسامة باهتة بعد تأكيدها على رغبتها في تقديم العون والمساعدة.
ارتياح قليل تسرب إلى خلاياه فجعل نفسه الثائرة تهدأ قليلًا.
زفر قائلًا بجدية: -تمام، وانتي ماتشليش هم أي حاجة، مش هاخليه لا يتعرضلك ولا يقرب منك!
-اوكي يا أستاذ منذر!

أكد عليها بجدية صارمة: -بس بالله عليكي حاولي تعملي ده بسرعة!
أومأت برأسها مرددة: -حاضر، على طول والله!
ابتسم قائلًا وهو ينهض من مقعده: -أنا متشكر ليكي تاني يا دكتورة، وجميلك ده مش هنساه أبدًا، وهاردهولك في أقرب وقت!
وقفت هي الأخرى قائلة بابتسامة مجاملة: -على ايه بس يا أستاذ منذر، دي حاجة بسيطة!

تنفس الصعداء لأنه تمكن من الوصول إلى الشخص المناسب لتلك المهمة الحساسة. وزادت إطمئنانه لاستجابتها السريعة لطلبه.
شكرها مجددًا قبل أن يتركها وينصرف وهو يفكر مليًا في الخطوة التالية. خطوة كان عليه أن يتخذها قبل وقت سابق ليحسم الأمور تمامًا، ويقلب كفة الموازين إلى صالحه.
وقف على الناصية مراقبًا المدخل مراقبة حثيثة منتظرًا خروجها من البناية.
ظل يدبر لتلك الحادثة لوقت طويل كي يضمن عدم إثارة الشكوك حوله.

درس كل شيء بصورة جيدة، وأخفى الأمر عن زوجته كي لا تفضحه بحديثها المثرثر مع غيرها من النساء اللاتي يعرجن بجزارته يوميًا. فهي دومًا تتباهى بجرأتها، وما تفعله بغيرها إن تطاولن عليها.
وتلك المرة عليه أن يتخذ حذره معها، فهناك قضايا قانونية ومحاضر رسمية بينهما.
سأله الواقف إلى جواره بهمس جاد: -ها يا معلم؟ ظهرت؟
رد عليه الجزار قائلًا بتأفف: -لأ لسه!

زفر بحنق بائن في نبرته وهو يتابع بنظراته المشتعلة: -زي ما فهمتك، عاوزها تبان طبيعية، بس ماتقومش منها! تبقى مكسحة!
رد عليه الرجل مؤكدًا بابتسامة خبيثة: -اطمن، الرجالة عارفين هايعملوا ايه!
هتف الجزار فجأة بتلهف حينما لمحها تلج من المدخل: -طب اجهزوا، هي خرجت أهي!
رد عليه الأخر بهدوء: -ماشي يا معلم!
ثم أسرع الرجل في خطاه ليركب خلف زميله الذي ينتظره على دراجته النارية متأهبين لسرقتها.

وضع الرجل هاتفه على أذنه محدثًا أحد ما بغموض: -اجهزوا، البت طلعت!
أتاه صوته قائلًا: -ماشي، وأنا مستني على الناحية التانية!
سارت بتمهل وهي تراجع في تفكيرها ما ستفعله خلال يومها الدراسي بالمدرسة التي تعمل بها.
كانت غير منتبهة لذلك الذي يتربص بها من على بعد.
فهي إلى حد ما شاردة في ترتيب أفكارها.

أوشكت على الانحراف في سيرها عند ذلك المنعطف حيث الأجواء هادئة هناك، في تلك الزاوية تحديدًا تحركت الدراجة البخارية ببطء خلفها حتى باتت المسافة قريبة للغاية.
حانت لحظة الانقضاض عليها، فزاد قائد الدراجة من سرعتها
شعرت بسمة بيد قوية تجذب حقيبتها من على كتفها ساحبة إياها ورائها فصرخت مذعورة: -آآآآه!
أدركت أنها تتعرض للسرقة من قبل لصين يستقلان دراجة بخارية، فشهقت صارخة: -الحقوني، حرامي!

تعلقت برباط حقيبتها رغمًا عنها، فاختل توازنها بسبب سرعة الدراجة الزائدة، وتعثرت قدماها.
سحلت بسمة بالأرضية الإسفلتية لعدة أمتار حتى قُطع الرباط من قوة الجذب.
أطلقت صراخات مستغيثة، لكن لم يستطع أحد مساعدتها خلال تلك الثواني الحرجة.
ارتطم جسدها بقوة بحافة الرصيف، فتأوهت متألمة بشدة.
جرحت رأسها بعنف من إثر الضربة، ونزفت الدماء فورًا منها.
استندت بمرفقيها محاولة النهوض على ركبتيها قبل أن تعتدل في وقفتها.

تأملت هيئتها المزرية، وثيابها التي تمزقت وتلطخت بالأتربة والمياه المتسخة.
لم تأخذ حذرها من تلك السيارة المندفعة نحوها.
حانت منها التفاتة برأسها نحو صوت مكابحها القوي، فشخصت أبصارها بهلع حقيقي.

تجمدت قدمي بسمة في مكانها غير مصدقة أنها أطاحت بها عن عمد، فلم تعد قدماها تلامس الرصيف كما كانت، بل حلقت لمسافة بالهواء قبل أن يتهاوى جسدها، ويرتطم بعنف أشد به لتتمدد بعدها كليًا عليه فاقدة للوعي وغارقة في دمائها.
هربت السيارة من المكان قبل أن يمسك أي شخص بقائدها، أو حتى يتمكن أحدهم من التقاط أرقامها.
وتجمع المارة سريعًا حولها صارخين بفزع، صاح أحدهم: -حد يطلب النجدة بسرعة.

وأضاف أخر بخوف وهو يجثو على ركبته أمام رأسها المصطبغ بالدماء النازفة بغزارة:
-اسعاف يا ناس، البت هاتموت!
أظلمت نظراته حتى باتت مخيفة للغاية وهي تنظر إلى ذلك المنزل بحقد دفين.
لم ينسَ بعد إهانته هناك أمام رجال قريته، وقرر أن يرد الصاع صاعين لها.
تحشرج صوته وهو يقطع الصمت السائد متساءلًا بجدية: -ده البيت يا حاج فتحي؟

استدار ناحيته ليرمقه بنظرات غامضة وهو يجيبه بشراسة: -اه هو، عاوزه يبقى كوم تراب! ماتبقاش في حتة تنفع!
حك الرجل ذقنه للحظات يفكر مليًا في طلبه، ثم رد عليه بخبث: -ماشي، بس نتفق الأول!
أشار له فتحي بيده قائلًا بتحذير: -ماشي، بس نص الحساب دلوقتي، والنص التاني بعد التنفيذ، وخد بالك، مش عاوز لبش في الموضوع، الحكاية تبان قضاء وقدر مش بفعل فاعل!

غمز له الرجل هاتفًا بثقة مؤكدة: -دي شغلتنا يا حاج فتحي! ماتشلش هم! ياما ولعنا في مزارع وبيوت!
عاود مطالعة البيت بنظرات محتقنة وهو يضيف بحقد بائن: -عاوز أحرق قلبها، وأبرد ناري وهو كله قايد والنار بتاكله حتة حتة!
زادت نظراته شراسة عندما أكمل بنبرة مغلولة: -عاوزها تعرف إنها خسرت كل حاجة هنا، أقطع رجلها من البلد للأبد، فمايبقاش ليها حجة تهوب ناحيتها تاني..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة