قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والثلاثون

ضاقت نظراته للغاية، وتجهمت تعابير وجهه وهو يصغي بإمتعاض لتذمرها على طلبه، لكن نفذ صبره، وفقد قدرته على التحكم في أعصابه، فهدر بها صارخاً بصوت منفعل:
-رجعي الواد يا شادية أحسنلك
أصرت على عنادها قائلة: -حاج مهدي، ده حفيدي ومن حقي آآ..
قاطعها قائلاً بصوته المتشنج مهدداً: -وابني اللي هايروحها فيها بسبب عمايلك انتي وبنتك، يا الواد يرجع، يا الحساب هايكون معايا أنا!

ردت عليه بضيق مصطنع: -انتو عاوزين تحرموا أم من ابنها، ده يرضي مين؟
هتف صائحاً بحدة وقد زاد عبوس وجهه: -الكلام ده مايخلش عليا، انا فاهم كويس إنك لا بتاعة حنية ولا مطبطبة، إنتي بتدوري على مصلحتك وبس، فمن الأخر كده الواد ابن دياب يرجع خلينا نفض الليلة دي!
تمتمت بكلمات خفيضة غير مبهمة لم يعرها أي اهتمام وأنهى المكالمة معها دون إنذار مردداً لنفسه:
-ولية ترفع الضغط!

كان في طريقه إلى وكالته حينما لمحها تسير بجوار أحد صبيان الحاج زقزوق النجار على الناصية الأخرى.
دقق النظر نحوها معتقداً أنه سيحظى بالتفاتة منها، لكن لم يحدث هذا.
ظل منذر يراقبها بعينين حادتين حتى وقفت عند عتبة دكان جدها الراحل، فأشاح بوجهه بعيداً وأكمل سيره المتعصب.
ارتجف جسدها حينما رأته على حين غرة، فتعمدت ألا تنظر نحوه مطلقاً، وحافظت على ثبات خطواتها وهي تحدث الصبي حسن بصوت مرتبك:
-أنا مش هأخرك!

رد عليها حسن بثقة وهو يشير موضحاً بيده: -دي حاجة بسيطة، أنا هاغيرلك الطبلة وأعملك واحدة جديدة، ولو عاوزة تزودي اقفال بعد كده أنا موجود!
حركت رأسها بإيماءة موافقة وهي تردد: -ماشي!
ثم توقفت أمام عتبة الدكان ليبدأ الصبي في عمله الذي يجيده منذ نعومة أظافره.
نزل الدرج راكضاً ليواصل تهذيبه الوحشي لذلك الشاب المغيب عن عقله بعد تعديه الجريء والوقح عليها.

أوقفه في الطابق الأول رنين هاتفه، فأخرجه من جيبه ليجيب على اتصال أخيه قائلاً بنبرة ضائقة:
-ايوه يا منذر
رد عليه الأخير قائلاً بهدوء: -يحيى هايكون عندك على العشا بالكتير
سأله دياب بإهتمام كبير: -انت متأكد، ولا آآ..؟!
قاطعه منذر بصوت جاد: -منذر مش بيقول حاجة إلا لما يكون واثق منها
عقد دياب ما بين حاجبيه لتضيق نظراته وتقسو نبرته وهو يتساءل: -والكلب مازن؟
رد عليه أخاه قائلاً بغموض: -خد اللي فيه النصيب.

التوى ثغر دياب هاتفاً بتفاخر: -ربنا يخليك ليا يا أخويا
تابع منذر محذراً: -عاوزك تهدى ومتعملش حاجة، وسيبني أتصرف!
رد دياب بإبتسامة واضحة: -ماشي، وأنا ورايا حاجة كده بأخلصها!
-طيب، سلام
أنهى معه المكالمة محدثاً نفسه بنبرة متباهية: -براوة عليك يا منذر، أدها وأدود!
ثم واصل نزوله حتى بلغ مدخل البناية، فاتجه للخارج.

رأته والده الشاب فركضت نحوه، ثم توسلته أن يتركه قائلة ببكاء حارق: -مكانش يقصد، هو آآ. غلط، بس ارحمه، هايموت في ايدك!
نظر لها دياب شزراً، ثم رد قائلاً بإشمئزاز: -كله إلا الشرف يا حاجة، وبدل ما تسترجيني أرحم ابنك كنتي ربيه من الأول!
انحنت لتخطف كف يده لتقبله قائلة بإنكسار: -أبوس ايدك
سحب يده سريعاً مستنكراً فعلتها تلك وهو يقول بحدة: -حاسبي!

تحرك دياب عدة خطوات حتى بات في مواجهة الشاب الموثوق في باب البناية.
كانت رأسه تتدلى للأسفل بعد تلقيه لتلك الضربات القاسية.
جذبه دياب من شعره للأعلى ليحدق فيه بنظرات أكثر شراسة، ثم بصق في وجهه هاتفاً: -جالك اللي يعلمك الأدب يا حيلة أمك!
ثم صفعه بقوة في صدغه ليزداد نزيف خيط الدماء من بين شفتيه.
شهقت والدته بصراخ مرتعد متوسلة: -يا ناس حشوه، الواد هايروح فيها!

رد عليها أحد الجيران المتابعين للموقف منذ بدايته: -خليه يتأدب، واد عديم الرباية والأخلاق!
بينما أضاف أخر بنبرة متشفية: -بنات الناس مش لعبة!
رأت الأم في تصرفاتهم الغير مبالية ونظراتهم الشامتة ما أثار غضبها، فصاحت مستنكرة وهي تلطم بكفي يدها وجهها:
-يا لهوي، حرام والله اللي بيحصل ده!
تابع دياب تلقينه الشاب ذلك الدرس القاسي على طريقه، وأكمل بحزن زائف: -حظك نسيت عكاز الحاج!

ثم وضع يده على حزامه الجلدي الأسود ليسحبه من بنطاله قائلاً بنبرة متسلية: -بس نصيبك تضرب بده!
رفعت الأم يديها على رأسها صارخة بفزع: -يالهوي!
لف دياب حزامه الجلدي حول معصمه، وأحكم وثاقه، ثم تراجع للخلف رامقاً الشاب بنظرات نارية متوعدة رافعاً إياه عالياً في الهواء ليبدو كالسياط.
اتسعت حدقتي الشاب الحمراوتين بخوف كبير، وبدا كمن بال على نفسه من فرط الرعب.

وفجأة صرخ متآلماً من ضربته القوية حينما هوى به على جسده: -آآآآآآه، أسف. مش هايحصل تاني!
أعاد دياب جلده به مرة أخرى مردداً بصوت شرس دون أن تهتز له عضلة واحدة من وجهه المرتخي:
-مش سامعك كويس!
صرخ الشاب متوسلاً العفو: -آآآآه، توبت يا سي دياب!
تقوس فم الأخير للحظة بإبتسامة راضية، ثم جمد تعابير وجهه، وأضاف بعبوس زائف: -لالا، لازم تكون التوبة نصوحة!

هز الشاب رأسه بإيماءات متتالية عدة مرات هاتفاً ببكاء: -حاضر هاتكون نصوحة وربنا، بس هي آآ، البت آآ..
وكأنه أخطأ حينما فكر في لفظ شيء يخصها، وما زاد الطين بلة أنه يكذب عن قصد، فصار دياب أكثر وحشية، وواصل جلده بعنف في أنحاء متفرقة من جسده متعمداً إذلاله أكثر..
لم يكف عما يفعل حتى هدأت ثورته الغاضبة ورجاه بعض الجيران بالتوقف إشفاقاً به.

بصق دياب عليه مجدداً وهو يقول بإشمئزاز: -أشوفك بس ترفع عينك عن الأرض!
رد عليه الشاب بنبرة مذلولة وهو مطأطأ الرأس: -مش هايحصل!
التفت دياب برأسه نحو حارس البناية موجهاً حديثه له بنبرة آمرة: -فك الكلب ده وارميه لأمه!
حرك الحارس رأسه قائلاً بخضوع: -أوامرك يا ريسنا!
ثم اتجه عائداً للداخل وهو يمسح قطرات الدم العالقة بحزامه وبكف يده.

في تلك الأثناء قامت جليلة بإحضار عباءة نظيفة تخصها من داخل خزانة ملابسها، ثم أسندتها على طرف الأريكة، ومررت أنظارها على جسد بسمة المسجي أمامها قائلة بأسف:
-لزمتها ايه البهدلة دي بس، منه لله اللي عمل فيكي كده!
ثم مصمصت شفتيها متابعة بإنزعاج: -لأ ويوم بعد يوم يخشلي واحد من عيالي شايلي واحدة على ايده وداخل بها عليا يقولي حوشي يامه، بقيت حكاية عندهم!

ركضت صغيرتها أروى عائدة من الشرفة وهي تهتف بحماس: -دياب ضرب واحد وخلاه يفرفر في الأرض، أنا شوفته من البلكونة
ارتفع حاجبي الصغيرة للأعلى قائلة بذهول حينما وقعت عيناها على معلمتها الخصوصية:
-الله، مس بسمة، هو حصلها ايه؟
نهرتها والدتها قائلة بضيق: -مترغيش كتير وتعالي ساعديني!
هزت رأسها موافقة وهي ترد: -ماشي يا ماما!
ناولتها أمها العباءة قائلة: -امسكي دي في ايدك
-حاضر.

قالتها الصغيرة وهي تتأملها بإهتمام ممزوج بالفضول.
مدت جليلة يديها نحو كنزة بسمة الممزقة لتنزعها عنها، ثم هزت رأسها مستنكرة تلك الخدوش البارزة في كتفها وعنقها.
توردت وجه أروى حينما رأت معلمتها بثيابها التحتية، فأخفضت بصرها للأسفل.
هتفت أمها قائلة بحدة: -روحي هاتيلي المرهم من الدولاب!
رفعت أروى رأسها لتنظر نحوها قائلة بحيرة: -فين بالظبط يا ماما؟

أشارت لها أمها بعينيها قائلة بتبرم: -يا بت في الرف اللي تحت!
هزت أروى كتفيها نافية: -أنا معرفش انتي بتحطيه فين
استاءت جليلة من جهل ابنتها بمكان وضعها للأدوية، فصاحت بتذمر: -يوه عليكي، مابتعمليش أبداً اللي يطلب منك!
ثم نهضت بتثاقل من مكانها متابعة: -خليكي هنا لحد ما أروح أجيبه وأرجع!
ردت عليها قائلة بإيجاز: -ماشي!

انتبهت أروى لصوت قرع الجرس، فتركت ما في يدها على طرف الأريكة، وركضت في اتجاه الباب لتفتحه وهي تصيح:
-ايوه
وجدت أخاها عند عتبته فهتفت بحماس جلي وهي تثب بقدميها أمامه: -أنا شوفت الخناقة كلها، انت عجنته كده وآآ..
قاطعها قائلاً بهدوء وهو يعبث برأسها: -خلاص يا أروى!
ثم تحرك للداخل، فرأى بسمة بثيابها الأخف والتي تبرز معظم جسدها، فهتف مصدوماً من ذلك المشهد الذي لم يتوقعه:
-ايه ده؟

ردت عليه أروى بعفوية: -مس بسمة!
أشاح وجهه بعيداً مغمضاً عيناه بحرج كبير، وإنتابه حالة من الإرتباك والتخبط.
أولاها ظهره صائحاً بإستنكار: -يا حاجة، ايه اللي انتي عملاه ده؟
حضرت جليلة على إثر صوته حاملة في يدها دواءاً ما، وردت عليه بنبرة عادية: -في ايه يا دياب؟
لوح لها بذراعه للخلف قائلاً بحرج كبير ظاهر في نبرته: -ماتغيريلها جوا واستريها، مش آآ. يعني مايصحش كده.

لاحظت هي توتره، والاضطراب الواضح عليه فبررت فعلتها قائلة: -تفتكر هاشيلها لوحدي ازاي؟
فرك وجهه بتوتر أكبر وهو يردد بإمتعاض: -استغفر الله العظيم يا رب! غطيها حتى، مش لازم نشوفها كلنا!
جاهد قدر الإمكان ألا ينظر نحوها وهو يتحرك في اتجاه غرفته صائحاً بحدة آمرة: -تعالي يا أروى معايا
ردت عليه ببراءة وهي تشير بيدها: -بأساعد ماما
صاح بها بغلظة: -هي هتتصرف لوحدها، يالا!

لحقت به قائلة بإبتسامة خفيفة منفذة لأمره: -طيب!
راقبته جليلة بنظرات متفرسة دارسة لتبدل حالته الغريبة تلك وتصرفه الغير مريح بالنسبة لها.
رفعت حاجبها للأعلى، ووضعت يدها على طرف ذقنها لتحكها قليلاً متمتمة بتعجب: -بتكسف؟ أومال لو مكونتش متجوز قبل كده؟!
تمكن الصبي حسن من فتح القفل الصدأ، فتعاونت أسيف معه في دفع باب الدكان الثقيل للداخل، أصدر صريراً قوياً وهو يتحرك على إثر دفعتهما.

بعد لحظات تمكنا من إزاحته وفتحه على مصرعيه.
سعلت أسيف فجأة من التراب العالق في الهواء بداخله، فانحنت للأمام قليلاً واضعة ليدها على فمها.
استغرقها الأمر عدة ثوانٍ لتعتاد على الجو بداخله.
تحرك الصبي خلفها، وبحث عن مفتاح الإنارة على جانب الحائط. وجده على يده اليسرى، فضغط عليه لينير فقط مصباحاً واحداً قديماً متدلياً من السقف.
اعتدلت في وقفتها، ونظرت بأعين لامعة متأملة المكان من حولها.

جابت بأنظارها ببطء شديد تفاصيله ممتعة عينيها بما فيه.
شعرت كأنها قد عادت بالزمن إلى الوراء حيث جدها وأبويها الراحلين.
تنهدت بعمق محاولة ضبط نفسها كي لا تبكي متأثرة، لكن لم يمنع هذا تراقص العبرات في طرفي مقلتيها.
كان كل شيء عتيقاً تفوح منه رائحة الزمن القديم، أغلب ما به متهالك ويحتاج للإصلاح أو التبديل.

رأت به مكتباً خشبياً في أحد الأركان، وكذلك حزانة ما مفتوحة موضوع بها عدة أرفف، وأخرى منغلقة بجوارها. كذلك طاولة خشبية يقف خلفها أحد الأشخاص تستخدم للبيع.
ابتسمت لنفسها بسعادة خفية، كانت كمن استعاد جزءاً من ماضيه المفقود.
أخرجها من حالتها المتأملة تلك صوت الصبي حسن وهو يقول: -أنا هاروح أجيبلك لمبة تانية بدل دي، شكلها مش هايعمر كتير
التفتت نحوه قائلة بإمتنان: -كتر خيرك، هاتعبك معايا.

-تحت أمرك يا ست الكل!
قالها الصبي وهو يستدير بجسده ليخرج من الدكان تاركاً إياها بمفردها.
عاودت أسيف التحديق فيما تملك من إرث غالٍ، اعتبرته لا يقدر بأي ثمن.
لفت أنظارها ذلك الإطار الخشبي الذي يضم صورة فوتغرافية قديمة لرجل ما في شبابه يرتدي جلباباً ريفياً يحاوط صبياً بذراعه.
تحركت نحوها لتتبين تفاصيلها أكثر، فالتوى ثغرها بإبتسامة صادقة بعد أن عرفت هويتهما.

كانت الصورة لجدها في شبابه ولأبيها في صغره، مدت يدها للأعلى محاولة تلمس الإطار، فاتسخت أصابعها بالتراب الرمادي الذي يكسوها.
فركت أصابعها محاولة إزالتها، وواصلت التحديق بها.
في نفس التوقيت، ورد إتصالاً هاتفياً له وقد أوشكت قدماه على وطأ عتبة وكالته، فتوقف في مكانه ليجيب عليه مردداً بهدوء حذر:
-خير!

أتاه على الطرف الأخر صوت أحد المخبرين ذوي الصلة به قائلاً بجدية: -ريس منذر حصل حاجة كده في القسم لازم تاخد خبر بيها
حدق أمامه في الفراغ بنظرات حادة متساءلاً بصوته القاتم: -حاجة ايه دي؟
أجابه بتردد ملحوظ: -في واحدة مقدمة فيك بلاغ بالسرقة!
اتسعت حدقتيه بصدمة كبيرة وهو يهتف غير مصدق: -نعم!
بدا متشككاً بل على الأحرى خمن هوية صاحبة البلاغ، لكنه لم يصرح بإسمها.

تابع المخبر قائلاً بمكر محاولاً الاستفادة من الموقف لصالحه: -أنا اتكلمت مع الشاويش وخليته يأجل عرض المحضر ده شويتين. خدمة يعني ليا. لحد ما أبلغك يا ريس بالحكاية!
-أها
كان عقل منذر في مكان ما، يجمع أطراف الخيوط معاً ليتأكد من شكوكه.
أخرجه من تفكيره المتعمق صوت المخبر متساءلاً: -البت اسمها أسيف رياض خورشيد، تعرفها يا ريسنا؟
الآن تأكدت ظنونه وباتت حقيقية بالمرة.

صمت للحظة ليضبط انفعالاته المزعوجة و التي ظهرت سريعاً على تعابير وجهه.
استشعر المخبر وجود خطب ما فكرر سؤاله: -ها يا ري. آآ..؟
قاطعه منذر برده الموحي بخطر كبير: -هي قريبتي، تلاقي الموضوع فيه لبس وهاحله بطريقتي!
رد عليه المخبر بهدوء: -ماشي يا ريسنا، يعني حاول على أد ما تقدر تنهيه ودي قبل ما يوصل للنيابة وآآ..
صاح به منذر بنبرة مقلقة للغاية: -قولتلك هاتصرف، وابقى عدي عليا في الوكالة!

رد عليه المخبر بحماس: -جمايلك سابقة يا ريس منذر
-سلام!
قالها بقوة وهو يضغط على زر إنهاء المكالمة بإصبع متشنج.
كز على أسنانه بشراسة، و استدار برأسه للخلف ليحدق في الدكان بنظرات تحمل الكثير بما لا ينبيء بأي خير على الإطلاق.
هدر قائلاً بصوت جهوري لأحد عماله: -تعالى ورايا!
تعجب العامل من تبدل أحوال رب عمله، وامتثل لأمره فوراً ووقف إلى جواره منتظراً أن يملي عليه باقي التعليمات.

تحرك منذر نحو الدكان بخطوات متلاحقة ينتوي فعل ما لا يحُمد عُقباه، وتبعه العامل بإمتثال تام.
نفضت كفي يدها من الأتربة العالقة بهما بعد أن تلمست معظم ما يوجد بالدكان.
كانت تتحرك بحذر شديد بسبب البقايا الخشبية المتراكمة على الأرضية الرمادية القديمة.
همست لنفسها بإصرار: -استحالة أفرط فيك، إنت حتة مني دلوقتي!
انتفض جسدها فجأة فزعاً على إثر صوت غلق باب الدكان بقوة.

ارتجفت أوصالها، واستدارت عفوياً للخلف لتراه أمامها.
اتسعت عيناها بخوف كبير، وتسرب الشحوب إلى لون بشرتها.
برودة قارصة داعبت وجنتيها فأصابتها بقشريرة في أنحاء جسدها.
حدقت في وجهه الغاضب ونظراته القاسية بأعين جامدة.
تعمد صفق الباب مجدداً بقوة أكبر لتنتفض هي مجدداً في مكانها من الخوف.
ازدردت ريقها بتوتر كبير وهي تسأله بصوت مرتجف: -انت. انت بتعمل ايه هنا؟

سلط أنظاره القاتمة عليها، تلك النظرات المخيفة التي رأتها من قبل بوضوح حينما التقته أول مرة.
اجتاحها شعور رهيب بالخوف والذعر، وتراجعت ببطء حذر للخلف متساءلة بنبرة متلعثمة:
-جاي ليه في الدكان بتاعي؟
أجابها بنبرة مخيفة وغامضة جعلت جسدها يجفل أكثر: -البوليس ما بيجيش عندنا إلا في حالة واحدة!
ابتلعت ريقها بصعوبة، وبدت شفتاها أكثر إرتجافاً عن ذي قبل.

كور منذر قبضته المتشنجة وضرب بها بعنف على إحدى ضلفتي الخزانة القديمة متابعاً بشراسة:
-يشيل الجثث وبس!
انتفضت على إثر ضربته المهددة، وكادت تتعثر في خطواتها المتراجعة، لكنها تماسكت نفسها بصعوبة.
هدر فيها منذر بصراخ مستنكر: -بقى أنا حرامي وسرقتك؟
أدركت أسيف في تلك اللحظة أنها ارتكبت خطئاً جسيماً بتصرفها الغير عقلاني معه، وواصلت تراجعها المذعور منه متحاشية إقترابه المهدد لحياتها.

حُصرت هي في إحدى الزوايا، لكن نظراتها المرتعدة لم تفارق عيناه القاسيتين.
كز منذر على أسنانه هاتفاً بصوت محتقن للغاية وهو يلوح بكف يده في الهواء مستنكراً نكرانها لجميله:
-طب تيجي ازاي وأنا وقفت معاكي كتير؟ كنتي افتكريلي حاجة واحدة من اللي عملتهالك!
ألجمت كلماته المعاتبة لسانها، فعجزت عن الرد عليه.
دنا منها أكثر حتى بات على بعد خطوة واحدة، وواصل صراخه بها مهدداً بذراعه: -بس انتي طلعتي غبية وآآ..

شهقت أسيف مذعورة منه، فقد تذكرت موقف قريبها الحاج فتحي حينما كان يرمقها بتلك النظرات العنيفة، وما أعقبها من صفع شرس على وجهها.
انحنت عفوياً للخلف برأسها رافعة كفيها أمام وجهه مشكلة بهما درعاً لحمايتها إن تطاول باليد عليها.
تفاجيء هو بها تحاول تخبئة وجهها بكفيها وكأنها تتحاشى اعتدائه بالضرب.
رمقها بنظرات نارية محتدة، وتراجع خطوة للخلف قائلاً بحنق: -احنا مابنمدش ايدنا على حريمنا إلا لما يغلطوا وبس!

أولاها ظهره ليضيف بنبرة عدائية: -وانتي غلطي معايا، بس حظك الحلو إنك مش من حريمنا!
كانت تبحث في كلماته المهددة عما يطمئنها، فبدت جملته الأخيرة وكأنها تصريح ضمني منه يضمن عدم اقترابه منها.
أخفضت ذراعيها بحذر ناظرة إليه بأعين زائغة.
التفت نحوها متابعاً بتهديد وهو يشير بسبابته: -إنتي هتتحاسبي عن غلطك، ودكانك ده هاخده منك تأديباً ليكي!

أثارتها عبارته الأخيرة بسلب حقها وحفزت حواسها بالكامل للدفاع عما تملك، فهبت صائحة بإعتراض غير مكترثة لتبعات ما سيحدث:
-مش هايحصل، محدش هياخد دكاني مني!
تحرك قبالتها فجأة لتتقلص المسافات بينهما مهددة بشيء أخطر.
اضطربت أنفاسها للغاية، وتسارعت دقات قلبها وهي محدقة به بخوف كبير.
استأنف تهديده الشرس قائلاً بثقة تامة: -هايحصل يا بنت رياض!

حدجها بنظرات مشتعلة زادت من حدة ذعرها، ثم استدار للخلف ليرفع عيناه في ذلك المصباح المتدلي من السقف.
أمسك به بقبضته، وانتزعه بعنف مسبباً الإظلام التام بالمكان، وألقاه بعصبية على الأرضية ليتحطم إلى أجزاء صغيرة.
صرخت أسيف بهلع كاتمة شهقاتها بيديها.
تحرك منذر نحو الباب متابعاً بقسوة: -وخليكي محبوسة هنا!
اتسعت حدقتيها في عدم فهم لما ردده تواً.

ابتلعت ريقها في حلقها الذي جف تماماً من شدة الخوف، وجاهدت لتضبط نفسها.
أسرعت خلفه محاولة اللحاق به، لكنه كان الأسرع في الخروج من الدكان، وصفق الباب خلفه بقوة مغلقاً إياه عليها.
شهقت صارخة بفزع: -انت بتعمل ايه؟
ضربت بقبضتيها بعنف على الباب الخشبي صارخة بخوف كبير بعد أن باتت بمفردها في ذلك الظلام الحالك:
-افتح الباب! افتحه!
أوصد منذر القفل وهو يصيح بحدة: -شوفي مين هيخرجك منه!

واصلت صراخها المرتعد وهي تضرب بهياج على الباب: -افتح الباب، طلعني من هنا، انت مجنون، مجنون!
بالخارج، تطلع العامل إلى منذر بذهول كبير بعد أن رأى ما فعله، لكنه لم يتجرأ على سؤاله أو مناقشته.
لكزه الأخير في كتفه بقوة مردداً بصوت آمر وقد استشاطت نظراته: -تقعد على الباب هنا، ماتتحركش، وبعد ساعة تفتح الزفت ده وتطلعها، سامع
هز رأسه بإيماءة واضحة وهو يردد: -أوامرك يا ريس!

ثم دس في كف يده المفتاح الخاص بالقفل، وتحرك بخطوات متعصبة مبتعداً عن المكان..
تابعه العامل بنظرات مدهوشة حتى اختفى من أنظاره محدثاً نفسه بتوجس: -ربنا ما يوقعنا معاك يا سي منذر، قلبتك والقبر بصحيح..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة