قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والثلاثون

ولجت إلى داخل غرفته وهي متجهمة التعابير إلى حد ما، بحثت عنه فلم تجده، فاتجهت إلى الشرفة حيث يجلس دوماً.
رأته مستنداً بمرفقيه على حافة سورها، ومنفثاً لدخان سيجارته المشتعلة في الهواء. ورأت أخته الصغرى إلى جواره تراقب الطريق والمارة بنظرات شمولية.
استطردت جليلة حديثها قائلة بجدية: -بنادي عليك يا دياب، مش سامعني!
التفت ناحيتها برأسه، ثم اعتدل في وقفته وهو يجيبها بفتور: -ماسمعتش!

ضيقت نظراتها أكثر لترمقه بغرابة وهي تضيف بضجر: -طب شوفلنا دكتور ولا حد بيفهم عشان بسمة، مش هانسيبها كده!
أطفأ بقايا سيجارته في المنفضة الخاصة بها، ورد عليه بإرتباك ملحوظ في نبرته: -هي خلاص آآ، اقصد يعني متغطية وآآ..
ابتسمت بمكر وهي تجيبه: -اه يا حبيبي، اطمن!
ثم اقتربت منه لتسأله بصوت خفيض ذو مغزى معين: -وبعدين مال وشك جاب ألوان كده ليه لما شوفتها.

عبست تقاسيمه وقست نظراته وهو يرد عليها بحدة: -في ايه يامه، ألوان ايه وزفت ايه؟
أومأت بعينيها قائلة بلؤم: -انت مش شايف نفس
ضغط على شفتيه بقوة فقد فهم إلى ماذا ترمي والدته. أخذ نفساً عميقاً حبسه للحظات في صدره ليضبط انفعالاته، ثم أطلقه دفعة واحدة مردداً بخشونة:
-شوفي يا أم منذر، الحكاوي اللي في دماغك دي انسيها خالص، أنا مش بتاع الكلام ده!

نظرت له بتعجب كبير، وقبل أن تفتح فمها لتنطق أضاف سريعاً بنبرة أكثر جدية: -تاني حاجة بقى عاوزاني أعمل ايه لما أشوف واحدة لا مؤاخذة يعني آآ، وماتجوزليش؟ ها؟ أتنح فيها عشان أعجب مثلاً؟
زمت جليلة فمها للجانبين مستنكرة عتابه الحاد، بينما أكمل هو قائلاً: -دي لا أخلاقنا ولا تربيتنا، احنا بنفهم في الأصول كويس وولاد الحاج طه لو شافوا واحدة عريانة يغطوها، يا رب تكون الرسالة وصلت!

ردت عليه بتذمر مشيرة بيدها: -خلاص يا دياب، مالك طلعت فيا كده ليه، روح شوفها وخلاص!
لم تتبدل تعابير وجهه وهو يرد بإقتضاب: -ماشي
ثم تحرك خارج الشرفة ليدخل غرفته.
وقعت أنظاره على زجاجة عطره باهظ الثمن المسنودة على تسريحته، فإلتقطها وأكمل سيره تاركاً الغرفة.
تساءلت أروى بحماس: -أروح معاه يا ماما؟
رمقتها جليلة بنظرات منزعجة وهي ترد بإنفعال: -لأ، خشي أوضتك ذاكري، كفاية تضييع وقت!

مطت الصغيرة أروى ثغرها قائلة بإحباط واضح: -طيب!
خرج إلى الصالة وهو يشمر ساعديه سائراً بخطوات ثابتة نحوها.
كانت لا تزال على وضعها، غافية، غير مدركة لما حولها.
توقف في مكانه ليتأملها بهدوء.
بدلت والدته ثيابها الممزقة بعباءة تخصها، فكانت أكثر حشمة ووقاراً.
تنهد بإرتياح لكونها هكذا بالرغم من إنزعاجه مما لاحظه من سحجات وخدشات على جسدها.

دنا منها بحذر، ثم جثى على ركبته أمامها، وفتح غطاء زجاجة العطر، والتفت للخلف ليسنده على الطاولة.
قام بتقريب فوهة الزجاجة من أنفها لتشتم رائحته النفاذة.
راقبها بإهتمام كبير متوقعاً استجابة فورية منها، لكن لم يبدو عليها التأثر.
قطب جبينه متساءلاً بتعجب: -هي الريحة مش باينة؟
فرد كفه الأخر، وقام بنثر الرائحة على راحة يده بغزارة لتصبح أكثر نفاذاً وحدة، ومن ثم قربها من أنفها مجدداً لتشتمها.

لاحظ تلك التشنجات الخفيفة التي ظهرت على وجهها، فابتسم لردة فعلها.
أعاد تكرار الأمر ليتأكد من افاقتها تماماً.
لم تتخيل أن يسجنها في دكانها، أن تتحول لحبيسة ما تملك.
واصلت صراخها الهيستري وهي تضرب بقبضتيها بعنف شديد على الباب القديم.
لم تهتم بالآلم الشديد الذي سبب الآذى لرسغيها، ولا بالخدوش الخفيفة التي نتجت نتيجة احتكاكها الإنفعالي العنيف بالنتوءات الخشبية نتيجة تشققات الزمن..

صاحت بجنون: -طلعني من هنا، انت مش بني آدم، افتح الباب!
لم تكن تخشى الظلام على قدر خوفها من تلك الكائنات الزاحفة التي يمكن أن تكون متواجدة بالداخل
ورغم صياحها المقلق إلا أن العامل بالخارج لم يتجرأ حتى على الرد عليها، كان يهاب ردة فعل رب عمله إن علم بمخالفته لأوامره.
تمتم مع نفسه بضجر: -لو بإيدي كنت طلعتك، بس هاعمل ايه!

سحب مقعداً من المحال الملاصقة للدكان - والمملوكة لعائلة حرب – ليجلس عليه بطريقة معكوسة.
استند بمرفقيه على ظهره، وتابع حركة المارة بنظرات فاترة.
لمح من على بعد صبي ما يقترب منه متساءلاً بإستغراب: -أومال الست صاحبة الدكان ده فين؟
رمقه العامل بنظرات متفرسة وهو يجيبه بتساؤل أخر بعد أن نهض عن مقعده: -انت مين؟ وبتسأل عليها ليه؟

وقف الصبي حسن قبالته ليجيبه بهدوء: -أنا حسن شغال عند الحاج زقزوق النجار! كنت جايبلها لمبة بدل البايظة عندها
انتبه هو لصوت الصراخ الغير واضح، فتبدلت تعابيره للقلق، وتساءل بتوجس: -هو الصريخ ده جاي من جوا وآآ.؟
قاطعه العامل بغلظة مشيراً بيده له ليبتعد: -مالكش دعوة، اتمشى من هنا!
هتف الصبي عفوياً وهو يشير بكف يده الممسك بالمصباح الجديد: -دي باينها محبوسة جوا!

تجهمت تعابير العامل، فقد أدرك أن هذا الصبي سيسبب له المتاعب، وهو في غنى عنها، لذا هتف فيه بحدة:
-بأقولك ايه، ارجع لمعلمك وشوف شغلك أحسنلك
وصل إلى مسامعهما صراخها المكتوم: -طلعوني من هنا
صاح حسن بإصرار: -شغل ايه؟ ده أنا سامع واحدة بتصوت!
دفعه العامل من كتفه للخلف بقوة قائلاً بغلظة: -وله، كُل عيش احسنلك!
اغتاظ حسن من أسلوبه الفظ في التعامل، فرد عليه بتحدٍ: -خلاص أنا هاروح أقول لمعلمي وهو يتصرف.

لم يعبأ العامل بتهديده الصريح، وأردف قائلاً بنبرة ذات مغزى: -وماله قوله، بس انت هاتوقع مع الريس منذر!
اضطرب الصبي على الفور بعد سماعه لإسمه، وردد بتلعثم: -هاه. آآ. ال. الريس منذر!
أومأ العامل برأسه مردداً بجدية: -ايوه، دي أوامره
رغب الصبي في مساعدتها، فهو لم يرَ منها ما يسيء بل على العكس كانت مهذبة، حسنة الخلق، كيسة في تعاملها معه.

أصر على الدخول إليها، ربما ينجح بطريقة ما في معاونتها، فألح قائلاً بإستعطاف:
-طيب. بس. بس الست كانت عاوزة اللمبة، حرام نسيبها في الضلمة، دي طيبة وغلبانة
رد عليه العامل بإستياء: -مالناش دعوة!
أضاف الصبي مقترحاً: -طب هاركبهالها وأمشي، ومش هاجيب سيرة لحد!
ضجر العامل من إلحاحه المتواصل، فصاح به بعنف: -يا بني انت مستغني عن عمرك، بأقولك ده موضوع يخص الريس منذر، اتمشى بقى!

تذمر حسن مردداً: -حرام والله اللي بيحصل فيها ده!
رد عليه العامل غير مكترث بما يقول: -حرام، حلال، ده مايخصناش!
ابتلع الصبي ريقه متابعاً بعناد: -طب. طب أقولها إن أنا جيت وجبتلها حاجتها، حتى تطمن ان احنا معاها وآآ..
قاطعه العامل بنفاذ صبر: -شكلك عاوز تعاديه!
هز حسن رأسه نافياً وهو يبرر موقفه: -لا والله، أنا مش أده، بس الست صعبانة عليا
رمقه العامل بإستخفاف وهو يرد ساخراً: -مايصعبش عليك غالي
-افتح الباب!

كان صراخها واضحاً نسبياً لمن بالخارج فسبب لهما الضيق.
هتف حسن بلا وعي بصوت مرتفع: -اطمني يا ست، انا واقف برا
اتسعت حدقتي العامل منزعجاً من تصرفه الأهوج، وصاح به بحدة: -يا واد اخرس
ثم لكزه بقوة في جانبه مسبباً له الآلم، فتأوه الصبي قائلاً: -آآه، ليه بس كده!
قبض العامل على ذراعه دافعاً إياه للخلف وهو يضيف بصرامة: -امشي من هنا يالا.

ارتد جسد حسن للخلف من إثر الدفعة، وكاد يسقط على وجهه لكنه تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة.
نظر إلى العامل بحدة، وصاح بوجه مكفهر: -حسبي الله ونعم الوكيل
لوح له العامل بيده قائلاً: -حسبن بعيد عن هنا!
ركض بعدها الصبي مبتعداً عن المكان وهو يسب العامل ويلعنه بصوت خفيض.

عاد الأخير للخلف ليجلس على مقعده أمام باب الدكان مراقباً المارة بنظرات عامة ومانعاً أي شخص من التدخل فيما لا يعنيه حتى انقضاء تلك الساعة العصيبة..
يئست من أي محاولة لمساعدتها، فاستسلمت لمصيرها المجهول.
توقفت عن دق الباب بعنف، وأسندت جبينها عليه.
بكت بمرارة، لاعنة تفكيرها الغير عقلاني الذي دفعها بتهور لفعل شيء كهذا. فلو تريثت قليلاً ما كانت ستوضع في هذا المأزق.

استعادت في ذاكرتها تهديده الأخير بسلب ما تملكه رغماً عنها،
تعالت شهقاتها المختنقة مرددة لنفسها بندم: -يا ريتني ما عملت كده، يا ريتني!
عادت لتبرر موقفها مرددة بيأس: -طب كنت هاعمل ايه ومافيش حد ليه مصلحة إلا هو، فكرت إني بكده هاحمي نفسي منه، طلعت غلطانة، كل حاجة هتضيع مني، كل حاجة!
سمعت صوتاً غريباً جعلها تصمت فجأة، وأهبت حواسها بالكامل.
تسارعت دقات قلبها بخوف كبير حتى كادت أن تصم أذنيها.

حبست أنفاسها مترقبة ما سيحدث لاحقاً.
كان الصوت لخربشات خفيفة، لم ترغب هي في تخمين ما وراءها. لكنها واثقة أنها إحدى الزواحف الرمادية.
ارتعدت أكثر وجفل جسدها مرتعشاً.
انكمشت أسيف على نفسها، وحاولت مقاومة إحساس الخوف الذي سيطر على كيانها، لكنها لم تستطع، وواصلت رجفتها المذعورة.
على مضض كبير اضطرت أن تستقل السيارة وتأتي به من مخبأه إلى المطعم حيث ينتظرها الحاج مهدي.

كان جالساً على حجرها، تداعبه بلطف مصطنع.
وما إن وقفت السيارة أمام باب المطعم حتى إشرأبت بعنقها للأعلى محاولة رؤيته.
لمحته وهو يجلس عند المدخل، فمالت على الصغير وهمست في أذنه بنعومة: -انزل يا يحيى
تساءل الصغير ببراءة وهو يلتفت برأسه نحوها: -احنا هنتغدى هنا يا تيتة؟
هزت رأسها نافية وهي تبتسم له: -لأ
سألها بفضول وهو يشير بسبابته: -أومال ليه آآ..؟
قاطعته قائلة بجدية: -هاتروح مع عمك مهدي، هيوديك عند بابا.

اتسعت ابتسامة الصغير يحيى وهتف بحماس: -بجد؟
رد بإمتعاض من بين شفتيها: -اه
هلل الصغير بحماس أكبر: -هيييه!
انتبه الحاج مهدي لتلك السيارة المصفوفة بجوار مطعمه، فنهض بتثاقل من على المقعد، وسار بخطوات ثابتة نحوها.
رأى الجالسة بالمقعد الخلفي، وذلك الصبي الذي بحوزتها، فاستطرد حديثه مردداً: -كويس إنك جبتيه يا شادية!
ردت عليه بتبرم: -غصب عني يا مهدي، لو مكانش آآ..

رفع كفه أمام وجهها ليجبرها على الصمت قائلاً بحنق ظاهر في نبرته: -مشاكلك مع دياب وعيلته تحليها بعيد عني وعن ابني، فهماني يا شادية، أنا مش ناقص خاوتة!
ردت عليه بنبرة منفعلة: -المشاكل هتجيلك برضاك أو غصب عنك! إنت مش هاتخلص
تابع قائلاً بإزدراء: -بس مش عاوزها من ناحيتك، يالا يا بني، تعالى معايا!
ترجل الصغير من السيارة بعد أن قبلته جدته من وجنتيه، ثم شبك يده في كف مهدي، ورفع رأسه للأعلى متساءلاً ببراءة:.

-هاروح عند بابا؟
ابتسم مهدي له وهو يجيبه: -أه، هاوديك عنده، تعالى!
أحكم قبضته على كفه الصغير، وسار معه نحو الطريق المؤدي للوكالة ليسلمه إلى عمه المتواجد هناك حتى يتمكن من تحرير ابنه مازن.
راقبته شادية بنظرات مستشاطة، وكزت على أسنانها قائلة لنفسها بتوعد: -الجيات أكتر من الريحات يا مهدي، والموضوع مخلصش عند كده!
أشارت بعدها بعينيها للسائق قائلة بغلظة: -اطلع من هنا يا أسطى!

لوح بكف يده في الهواء بسعادة كبير بادية على وجهه لهؤلاء الحراس المرابطين أمام البوابات الحديدية المحصنة مودعاً ذلك المكان الكئيب بمن فيه.
أخذ نفساً عميقاً يختلف عن ذي قبل. ثم لفظه ببطء شديد وكأنه يتلذذ به عن قصد..
لقد نال حريته أخيراً، وحاز على عفو بعد أن قضى عدة أعوام حبيساً في السجن.
لم يرد إبلاغ عائلته بهذا الإفراج إلا حينما يخرج بنفسه.

مسح على صدره بكفه قائلاً بصوت متحشرج: -جه وقتك يا مجد، محدش هايقف تاني قصادك!
واصل سيره المتباهي حتى ابتعد تماماً عن هذا المكان المقيت ليستأجر إحدى سيارات الأجرة لتوصله إلى منطقته الشعبية.
أصدرت أنيناً خافتاً وهي تجاهد عقلها الثقيل لتجبر نفسها على الاستيقاظ من غفوتها تلك.
اخترقت تلك الرائحة العطرة أنفها بقوة، فتشنجت تعابير وجهها إلى حد ما.
بدأ جفناها في التحرك عفوياً، ثم فتحا ببطء.

كانت الرؤية مشوشة في البداية، فقط إحساس بالآلم والثقل مسيطراً عليها.
لم تتوقف تلك الرائحة النافذة عن مداعبة أنفها، فمدت يدها لا إرادياً نحوه، شعرت بملمس جلدي قريب منها.
تأوهت مجدداً قائلة بصوت ناعس: -ابعدي ايدك يا نيرمين
رد عليها مازحاً: -هو أنا ايدي طرية أوي كده!
تعجبت من تلك النبرة الخشنة التي سمعتها، وفتحت عيناها رامشة عدة مرات لتتضح الرؤية تماماً معها.

زاد اتساع حدقتيها، فهتفت متساءلة بذهول: -إنت؟ بتعمل ايه هنا؟
رد عليها بعبوس زائف: -انتي عندنا في البيت
شهقت مصدومة وهي تعتدل فجأة في نومتها: -عندكم!
تلفتت حولها بتوتر لتتأكد من صحة تصريحه، فزاد قلقها وتوجسها..
سريعاً استعادت في ذاكرتها ما حدث في وقت سابق.
ارتجف جسدها من ذلك الموقف المشين الذي كانت به، وضمت يديها إلى صدرها وكأنها تحمي نفسها.

شعر دياب بالحرج، ونهض من جوارها موليها ظهره، ثم تابع بصوت آجش: -انسي اللي حصل تحت!
أخفضت عيناها بخجل مرددة بصوت منكسر: -أنا معملتش حاجة!
التفت نحوها قائلاً بتجهم: -مش محتاجة تبرري أو تدافعي عن نفسك، أنا واثق فيكي، فانسي خلاص!
أصرت على توضيح موقفها محتجة: -بس آآ..
رد عليها مقاطعاً بصرامة: -مابحبش أكرر كلامي كتير!

أنزلت قدماها عن الأريكة، ولملمت نفسها بحرص لتتأكد من عدم كشف أي جسد من جسدها، ثم ردت عليه بجدية:
-ماشي، بس أنا مش هاسكت عن حقي، وهاربي الجبان اللي آآ..
انزعج من تكرارها لذلك الأمر، فهتف بإنفعال: -بأقولك انسيه، ايه الغريب في كلامي، ليه مش بتسمعيه من أول مرة!
نهضت واقفة وهي ترد بعناد صارخ: -مش هاسيبه!
تأوهت من الآلم نتيجة صراخها، فوضعت يدها على عظمة الترقوة لتفركها قليلاً مخففة حدة الوجع.

تابعها بإهتمام، وسألها متوجساً: -انتي كويسة؟
وقبل أن تجيبه اقتحمت الصالة والدته هاتفة بسجيتها المسببة للخجل: -ماشاء الله فوقتي ووقفتي على رجليكي، الظاهر دياب بيفهم في الحاجات دي
استشعر الأخير الحرج من كلامها الغير مكترث، وهتف بتبرم: -هي فاقت لوحدها!
تنحنحت بسمة بصوت خفيضة مرددة بنبرة ممتنة رغم تلعثمها: -شكراً على آآ، عبايتك وآآ. ، أنا مش عارفة أقول ايه، بس آآ..

قاطعتها قائلة بود وهي تمسح برفق على ظهرها: -هو أنا عملت حاجة يا حبيبتي، دي حاجة بسيطة، اقعدي وارتاحي كده وأنا هاعملك حاجة دافية تشربيها!
هزت رأسها نافية وهي ترد معترضة: -لأ مش عاوزة، أنا هامشي!
وضعت جليلة يدها على طرف ذقنها، وعضت على شفتها السفلى قائلة بإستنكار: -تمشي ايه، انتي هاتستني شوية لحد ما نطمن عليكي!

ثم التفتت برأسها ناحية دياب لتوجه حديثها له قائلة بمكر: -ولا ايه يا دياب، ماتقول حاجة يا بني؟
زم ثغره بضجر بارز على ملامحه، لكنه لم يعارض رأي والدته، وأردف قائلاً بتجهم: -خليكي، أنا هاوصلك!
نظرت له بسمة بطرف عينها قائلة: -متشكرة، أنا عارفة الطريق لوحدي
نظر لها بقوة قائلاً بعناد أكبر: -وايه يعني، هاوصلك آآ.

تدخلت جليلة في الحوار قبل أن يتطور بينهما لمشاجرة ما قائلة بمرح: -بصوا مافيش داعي للخناق، أنا هاكلم أمك وأختك وأقولهم يجوا نقعد سوا كلنا، وبعد كده تروحوا مع بعض
ردت بسمة قائلة بتذمر: -مافيش داعي، أنا آآ..
نظرت لها جليلة بحزن وهي تضيف بعتاب: -كده بردك، عاوزة تزعليني؟
ثم التفتت نحو ابنها قائلة بلؤم: -ما تقول حاجة يا دياب؟
تمتم مع نفسه بخفوت: -يخربيت دياب! هو ما فيش إلا أنا!

سألته أمه بدهاء نسائي معتاد: -ها يا بني؟
رد عليها بعدم اكتراث: -اعملوا اللي انتو عاوزينه، ماليش فيه!
ثم أولاهما ظهره وتحرك مبتعداً عن الاثنتين.
تابعته بسمة بنظرات ضجرة، لكنها لم تكن حانقة منه. بل على العكس كانت ممتنة لمعروفه معها في ذلك الوقت العصيب.
أخرجها من شرودها السريع صوت والدته وهي تقول بترحاب: -ارتاحي يا حبيبتي، ده انتي منوراني!
ابتسمت لها بسمة بتكلف، وجلست على الأريكة بحرج نسبي.

أوصل الحاج مهدي الطفل يحيى إلى الوكالة بعد أن أحضر له كيساً بلاستيكياً مليئاً بالحلوى، ثم انحنى ليقبله بعطف ماسحاً على ظهره برفق، واعتدل في وقفته صائحاً بصوت مرتفع:
-منذر، ابن أخوك أهوو
هب الأخير واقفاً من مقعده، وركض سريعاً نحو الخارج هاتفاً: -يحيى!
فتح ذراعيه ليلتقطه، ثم رفعه عن الأرضية واحتضنه بقوة قائلاً: -وحشتنا يا ابن الغالي
رد عليه الصغير ببراءة: -عمو منذر!

هتف الحاج مهدي قائلاً بجدية: -ابنكو عندكم، فين ابني؟
رد عليه منذر بصوت قوي ونظراته مسلطة عليه: -هايجيلك!
هتف الحاج مهدي بإصرار وهو يشير بسبابته: -دلوقتي!
رد عليه منذر بإيجاز: -طيب!
أنزل الصغير على قدميه، لكنه أمسك بقبضته ولم يفلتها، ثم أخرج هاتفه من جيبه ليهاتف رجاله بالمستودع كي يحرروا مازن.

مل العامل من الإنتظار أمام باب الدكان المغلق، وتوجس خيفة أن يكون أصاب تلك الماكثة بالداخل أي شيء، فأشفق عليها، وقرر أن يحررها قبل نفاذ الساعة.
نهض عن مقعده، وفتح القفل، ثم دفعه بحذر للخلف مردداً بصوت خفيض: -انتي يا ست؟ سمعاني!
انتبهت أسيف لصوت فتح قفل الباب، فاستدارت مبتعدة عنه، وحدقت فيه بأنفاس متهدجة.
بكث متأثرة حينما فتح نسبياً، وردت غير مصدقة أنها تحررت: -حرام عليك اللي عملته فيا.

رد عليها بصوت مزعوج: -أنا ماليش دعوة يا ست، أنا عبد المأمور!
بكت بقهر لعجزها، فهي ضعيفة لا سند لها ولا مدافع عنها في تلك الحياة القاسية.
شعر العامل بوخز في صدره حينما رأها على تلك الحالة، وتابع بصوت ضائق مشيراً بيده:
-بصي، أنا هساعدك لله في لله، انتي امشي من هنا وماتجبيش سيرة إني خرجتك، الله يرضى عليكي أنا مش ناقص مشاكل
هزت رأسها بإيماءات متتالية مكفكفة عبراتها بظهر كفها: -طيب!

التفت برأسه للخارج ليتأكد من خلو الطريق، ثم همس لها بصوت آمر: -يالا، مافيش حد برا
تحركت بخطوات متعثرة في مشيتها نحو الخارج، وقبل أن تبتعد تماماً هتف بها العامل قائلاً:
-استني يا ست، خدي مفتاح الدكان بتاعك!
عادت إليه ممددة كفها نحوه، فقطب جبينه متعجباً من أثار الجروح الظاهرة على رسغها، فهتف بنزق:
-ايه اللي في ايدك ده؟
نظرت إلى حيث أشار، فرأت تلك الأثار البائنة عليه.

ابتلعت ريقها في حلقها الجاف، وسحبت كم ثوبها عليه لتغطيه قائلة بصوت مرتجف: -المفتاح بتاعي!
ناولها إياه متابعاً بتحذير: -متجبيش سيرة اني طلعتك قبل آآ..
قاطعته قائلة بصوت خائف: -حاضر!
ثم قبضت على المفتاح بكفها، وواصلت سيرها المتعجل لتختفي من المكان برمته..
في نفس التوقيت، توقفت سيارة الأجرة على ناصية الطريق، فترجل منها مجد، ووقف للحظات متسمراً في مكانه ليتأمل ذلك المكان الذي افتقده كثيراً.

لم يتغير تماماً، كان مثلما تركه قبل عدة أعوام.
التوى ثغره بإبتسامة متهكمة وهو يجوب بأبصاره المحال والبنايات بنظرات شمولية بطيئة.
صفق باب السيارة بقوة، وتحرك نحو الأمام سائراً بخيلاء رافعاً رأسه للأعلى في كبرياء.
دس كفي يده في جيبي بنطاله الجينز القديم مدندناً مع نفسه بصافرة خفيضة.
التفتت أسيف برأسها للخلف من آن لأخر لتتأكد من عدم تتبع أي أحد لها.

لا تزال تلك الرجفة المذعورة مسيطرة عليها، هي قضت وقتاً عصيباً بالداخل لا تتمنى تكراره مرة أخرى.
لم تنتبه إلى ذلك القادم في طريقها، وكأنه غير موجود أمامها، فارتطمت بصدره دون قصد منها.
كان قد رأها مقبلة عليه بإرتباك ملحوظ عليها، فدقق النظر نحوها، لكنه تفاجيء بها تصطدم به بقوة.
شهقت أسيف بحرج كبير، واصطبغ وجهها بحمرة خجلة وهي تعتذر قائلة: -أنا. أنا أسفة، مخدتش بالي والله، م. مقصدش!

أمسك بها مجد من ذراعيها بقبضتيه ليثبتها في مكانه، ثم مرر أنظاره الغير مريحة عليها وهو يقول بعبث:
-مش تاخدي بالك يا قطة وانتي ماشية! الشارع ليه أصوله بردك!
أزاحت قبضتيه عنها قائلة بنبرة مزعوجة: -م. معلش! مش قصدي!
رد عليها بتنهيدة أربكتها: -حتى لو تقصدي، براحتك!
هربت الدماء من وجهها من إثر كلماته الجريئة تلك، وازدردت ريقها بتوتر كبير.

ظلت أنظاره القوية مسلطة عليها مسببة لها الضيق والخوف، كانت تشعر بعينيه تخترق جسدها وتعريه، فتحركت سريعاً من أمامه، لكن وصل إلى مسامعها صوته الخشن وهو يقول بثقة:
-وماله، مسيرنا نتقابل تاني يا حلوة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة