قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والثلاثون

واصلت سيرها الراكض مبتعدة عن ذلك الوجه المقلق الذي اعترض طريقها ليكتمل يومها البائس والمشحون بالكثير من الأحداث.
توقفت لأكثر من مرة لتلتقط أنفاسها اللاهثة، وتلفتت حولها بخوف، لم يكن في إثرها، فتنهدت بعمق شاعرة بالإرتياح.
نظرت أسيف إلى رسغيها بنظرات متوترة، فوجدت تلك الجروح البسيطة فيهما.
همست لنفسها بصوت متقطع ومتآلم: -تعبت من كل حاجة!

اعتدلت في وقفتها، وجابت بأنظارها المحال المتواجدة على مرمى بصرها.
لمحت بعينيها لافتة مضيئة مدون عليها صيدلية الدكتورة فاطمة ، فالتوى ثغرها بإبتسامة باهتة.
تحركت نحوها آملة أن تجد فيها علاجاً لتلك الخدوش قبل أن تتلوث.
حمدت الله في نفسها أن الصيدلية كانت مفتوحة الأبواب، فدفعت بابها برفق لتلج إلى الداخل.

وقعت عيناها على فتاة شابة ترتدي معطفاً أبيضاً ذات وجه قمحي بشوش، ويزين رأسها حجاباً وقوراً، فاقتربت منها قائلة بصوت مرتبك:
-لو سمحتي عندك آآ. مطهر ولا دوا كده آآ..
قاطعتها فاطمة متساءلة بنبرة عملية: -انتي عاوزة المطهر لإيه بالظبط؟ يعني نضافة البيت ولا لجروح وآآ.؟
رفعت أسيف رسغيها للأعلى لتريها تلك الأثار البارزة وهبي تجيبها: -لدول يا دكتورة؟

مدت فاطمة كف يدها لتمسك بمعصمها، وتفحصت جروحها البسيطة قائلة بتوجس: -ده حصل من ايه؟
ارتبكت أسيف أكثر، وخشيت أن تجيبها بالسبب الحقيقي وراء إصابتها بتلك الخدوش حتى لا تسبب لها المشاكل، فلا داعي لتزج بأي أحد فيما لا يخصه.
عضت على شفتها السفلى مرددة بصوت مرتجف: -كنت. كنت آآ. بأروق الدكان فاتجرحت ومخدتش بالي!

هزت رأسها بتفهم، وتابعت بجدية: -أها. طيب لحظة واحدة أجيبلك مطهر مناسب، وهنحط عليهم بلاستر طبي يعني نضمن عدم تلوثهم
-ماشي
قالتها أسيف وهي تستند بمرفقيها على الطاولة الزجاجية الموضوع عليها علب الأدوية.
كانت تشعر بدوار بسيط في رأسها، وأنها غير قادرة على المحافظة على اتزانها، فتشبثت بحافتها مانعة نفسها من السقوط.
التفتت فاطمة نحوها رامقة إياها بنظرات غريبة، ثم دنت منها متساءلة بتوجس: -انتي كويسة؟

أجابتها أسيف بوجهها الشاحب: -أه!
اعترضت فاطمة على ردها قائلة بجدية: -بس شكلك بيقول غير كده، لو في حاجة تعباكي قوليلي، أنا هساعدك!
لم تجد أسيف بداً من رفض مساعدتها، فهي بالفعل ليست على ما يرام، لذا هتفت بنزق:
-أنا حاسة بدوخة بسيطة!
ظهر على تعابير فاطمة الإهتمام بحالتها، فأشارت لها قائلة بصوت آمر: -طب اقعدي من فضلك، أنا هاقيسلك الضغط، جايز يكون مش مظبوط!
ابتسمت لها أسيف بصعوبة وهي ترد بإمتنان: -متشكرة.

-على ايه، اتفضلي!
حملت رضيعتها على كتفها، وأحكمت ضبط حجاب رأسها وهي تلج للخارج موصدة باب المنزل خلفها.
سبقتها أمها بخطوتين، ولكنها تراجعت عن الاستمرار في حركتها لتلتفت برأسها للخلف وهي تقول بقلق:
-مش كنا نستنى أسيف؟ هترجع مش هتلاقي حد فينا موجود
ردت عليها نيرمين بضجر وهي عابسة الوجه: -هو حد عارفلها مطرح ولا سكة، الله أعلم بتعمل ايه!
ثم زمت شفتيها لتضيف بنبرة ذات مغزى: -مش جايز تكون ماشية على حل شعرها!

استشاطت نظرات عواطف عقب تلك العبارة المهينة، وهتفت فيها بإستنكار تام: -لمي نفسك يا نيرمين! دي بنت خالك، مش واحدة من الشارع!
نفخت الأخيرة بغضب قائلة بتجهم: -خلاص يا ماما!
ثم لمعت عيناها بوميض غريب وهي تهتف بتلهف: -بينا عشان نلحق العزومة!
نظرت لها أمها شزراً، ثم تحركت نحو الدرج قائلة بحيرة: -اللي مستغرباه، اشمعنى دلوقتي بالذات الست جليلة عزمانا!
ردت عليها نيرمين بإبتسامة عابثة: -وماله، مش قرايبنا!

تنهدت عواطف قائلة بإنزعاج خفيف: -ربنا يستر، أنا مش مرتاحة
دفعتها نيرمين بكف يدها قائلة بحماس لم تستطع اخفاؤه: -طب يالا، هنتأخر!
في نفس التوقيت، كانت جارتهما بالطابق الأدنى منهما تضع قمامتها أمام باب المنزل، فرأتهما وهما تنزلان عن الدرج فهتفت مرحبة بود:
-وأنا أقول العمارة منورة ليه!
توقفت الاثنتان عن النزول، واقتربتا منها لتصافحها وتحتضناها بألفة معهودة بين الجيران.

هتفت الجارة خضرة بحماس: -واحشني والله يا ست عواطف، فينك، بقالي كام يوم مش شيفاكي!
ردت عليها عواطف بإبتسامة متكلفة: -مشاغل والله ياخضرة
ربتت الأخيرة على ذراعها بيدها قائلة بفضول: -ربنا يعينك، بس على فين العزم كده وآآ.؟
أجابتها عواطف عفوياً وهي تشير بيدها: -رايحين عند الحاجة جليلة شوية!
تهللت أسارير الجارة خضرة قائلة: -أم سي منذر، أمانة تسلميلي عليها أوي!

ردت عليها عواطف بإبتسامة خفيفة: -يوصل ان شاء الله!
واصلت حديثها الودي قائلة بنبرة مجاملة: -ربنا يصلح حالك ويعوض البنات بالخير يا رب!
ردت عليها عواطف بإيجاز: -اللهم امين!
همت بعدها بالإنصراف، لكن أوقفها سؤال خضرة الجاد: -وازي بنت أخوكي؟ مش شيفاها معاكو؟
أجابتها عواطف بتلعثم قليل: -عندها مشواير بتخلصها!
هزت رأسها قائلة بتفهم: -أها، ربنا يعينها!

انزعجت نيرمين من إطالة ذلك الحديث الفضولي الغير مجدي، فأردفت قائلة بإمتعاض: -لا مؤاخذة يا خالتي، احنا مستعجلين شوية!
ردت عليها خضرة بإبتسامة ودودة: -اذنك معاكي يا حبيبتي!
ثم دققت النظر في رضيعتها رنا متابعة بلطف: -ياختي طعمة، ربنا يفرحك بيها
ردت عليها نيرمين بإيجاز وهي جامدة التعابير: -يا رب إن شاء الله
أضافت الجارة خضرة برجاء: -وعقبال بسمة وعوضها يا رب.

ردت عليها عواطف بإمتنان: -يا رب أمين، فوتك بعافية يا حبيبتي!
لوحت لها الأخيرة بكف يدها قائلة: -الله يعافيكي يا رب!
تمتمت نيرمين من بين شفتيها بصوت هامس منزعج: -ناقصين عطلة احنا
ردت عليها أمها بصوت خفيض وهي تلكزها في جانبها: -ششش، وطي صوتك، وامشي وانتي ساكتة
وقف أمام مطعم العائلة واضعاً كفيه على منتصف خصره متأملاً إياه بنظرات متباهية.

تغير المكان كثيراً منذ حبسه قبل عدة أعوام، وأجريت فيه العديد من التجديدات التي أضافت إليه.
تحرك بخطوات ثابتة نحو مدخله صائحاً بصوت جهوري: -حاج مهدي!
لم يصدق أذنيه حينما سمع صوته الذي افتقده لفترة. توهم في البداية أنه يتخيله، لكن حينما تكرر مجدداً نهض من على مقعده، واتجه للخارج ليتأكد منه.
اتسعت حدقتاه بسعادة كبيرة حينما رأه أمامه بشحمه ولحمه.
دنا منه بخطوات شبه متثاقلة هامساً بذهول: -مجد! ابني!

فتح الأخير ذراعيه في الهواء هاتفاً بصوته الخشن: -أبويا! أنا خرجت خلاص
أسرع أباه ناحيته، ثم ضمه إليه قائلاً بسعادة: -ابني، كفارة يا غالي، ياه، مش مصدق إنك خرجت
ربت مجد على ظهر أبيه عدة مرات بقوة قائلاً بنبرة متحشرجة: -صدق يا حاج!
تراجع مهدي للخلف ليدقق النظر فيه، ثم احتضن وجهه براحتيه متابعاً بنبرة مشتاقة:
-الحمدلله إن ربنا مد في عمري لحد ماشوفتك قدامي!

وضع مجد قبضتيه على كفي يده، ثم أزاحهما برفق ليقبلهما قائلاً بإنزعاج: -بعد الشر عنك!
أشار له مهدي بعينيه قائلاً بحماس: -طب تعالى جوا، ده أخوك هايفرح أوي لما يعرف إنك خرجت!
تلفت مجد حوله متساءلاً بتعجب: -أه صحيح، هو فين؟ مش باين ليه؟
ارتبك مهدي قليلاً، وتردد في إخباره بما حدث مع أخيه. فهو يعلم تهور ابنه البكري، وتصرفاته الطائشة والغير محدودة خاصة فيما يتعلق بالمشاجرات والاشتباكات العنيفة.

لاحظ هو صمت والده، وتبدل تعابير وجهه للإنزعاج، فسأله بحدة: -في ايه يا أبا؟
أجابه مهدي بنبرة مترددة لم يستطع إخفاء اضطرابه فيها: -آآ. يعني شوية مشاكل من اللي أخوك بيعملهم دايماً!
تابع مجد قائلاً بنبرة مزعوجة: -مع ابن طه؟
تنحنح أباه قائلاً بتوتر: -حاجة زي كده!
تجمدت تعابير وجهه، وقست نظراته أكثر وهو يقول: -أنا خرجتلهم، ومش ورايا حاجة إلا هما!

حاول مهدي تغيير الموضوع كي لا يثير المشاكل، وهتف قائلاً بجدية: -سيبك منهم دلوقتي، وتعالى احيكلي عملت ايه
رد عليه مجد بتنهيدة شبه متعبة: -هانحكي للصبح يا حاج، بس أنا محتاج أروح أستحمى وأشيل بلاوي السجن اللي هرت جتتي!
ابتسم مهدي قائلاً بهدوء: -ماشي يا مجد، وأنا هاخلي الطباخ يعملك أحلى أكل
رد عليه مجد بحماس: -ايوه يا حاج، ده أنا معدتي اتهرت من أم الأكل ال، بتاع السجن!

أضاف أباه قائلاً بإبتسامة باهتة: -انسى الأيام دي، راحت لحالها خلاص!
لفت أنظار مهدي شيئاً ما على ثيابه، لم يتبينه بوضوح، فتساءل بإهتمام: -ايه اللي على هدومك ده؟
أخفض بصره لينظر إلى حيث أشار مردداً بتساؤل: -ده ايه ده؟
كانت تلطخ ثيابه أثار لبقع دماء صغيرة، ولكنها كانت جافة.
هتف مهدي متساءلاً بتوجس: -انت اتعورت؟
هز رأسه نافياً وهو يجيبه بإقتضاب: -لأ.
رد عليه متساءلاً بإستغراب: -أومال الدم ده من ايه؟

صمت مجد ليفكر قليلاً في سبب تلوث ثيابه ببقع الدماء. فجاء إلى خلده لحظة إرتطام الفتاة الغريبة به.
هي الوحيدة التي استندت على صدره في ذلك المكان تحديداً، فربما تعود تلك اللطخات إليها.
أخرجه من شروده المؤقت صوت أبيه هاتفاً: -انت كويس يعني؟
رد عليه مجد بفتور: -اه، متخدتش في بالك، تلاقيها وساخة كده!
-طيب
حرك مجد عنقه للجانبين وهو يفركه مردداً: -ماشي يا حاج مهدي، هاستحمى واغير هدومي دي، وهاستناك في البيت.

أومأ مهدي برأسه قائلاً: -طيب يا ابني، وأنا هاقفل المطعم وهاحصلك!
أضاف مجد بجدية: -وعرف البيه مازن، خليني أشوفه
رد عليه والده مبتسماً ابتسامة عريضة: -حاضر، ده هايجيلك جري بس أقوله الأول!
التوى ثغر مجد للجانب وهو يقول: -أديني هاشوف!
انحنى للأسفل قليلاً ليرفع الصغير بذراعيه عالياً ليتمكن من قرع الجرس الذي لم يستطع الوصول إليه، ثم أنزله ليقف على قدميه قائلاً له:
-مبسوط؟

رد عليه يحيى بسعادة: -اه يا عمو منذر!
سمع كلاهما صوت جلبة بالداخل، ثم أعقبه صياح أروى المعتاد قبل أن تفتح الباب هاتفة بمرح:
-يحيى جه!
ثم اقتربت منه لتحتضنه بسعادة.
لف الصغير ذراعيه حول عمته الصغرى مردداً: -وحشتيني!
ردت عليها بإبتسامة عريضة: -وانت كمان
دفعهما منذر بكفي يده للداخل قائلاً بجدية: -طب خشوا جوا انتو الاتنين!
ثم أوصد الباب خلفه ولف ذراعيه حول كتفيهما وهو يصحبهما للداخل.
-يحيى!

صاح بها دياب بصوت مرتفع وهو يقترب من ابنه بخطى سريعة ليلتقطه بين ذراعيه.
ضمه بحنان أبوي صادق، ثم قبله من كلا وجنيه قائلاً بصوت شبه مختنق: -حبيبي، كنت هاجنن وانت بعيد عني!
رد عليه ابنه ببراءة: -أنا روحت عند تيتة شوية
ضمه دياب إلى أحضانه متنعماً بإقترابه الذي اشتاقه قائلاً بنبرة متأثرة: -مش هاسيبك تاني، بأحبك يا يحيى!
ابتسم له ابنه قائلاً بمرح: -وأنا كتير يا بابا!

أردف منذر قائلاً بهدوء: -ابنك في حضنك اهوو
رد عليه دياب بإمتنان: -ربنا يخليك ليا، من غيرك ماكنتش هاعرف أجيبه لوحدي
عاتبه منذر قائلاً: -عيب ده ابني
ثم انتبه للصوت الأنثوي الآتي من الداخل فتساءل بفضول: -هو احنا عندنا ضيوف ولا حاجة؟
رد عليه دياب بإمتعاض قليل وهو يشير نحو طفله: -اه، أمك أعدة مع بنت عواطف، الأبلة بتاعة الأستاذ ده!
هتف الصغير يحيى متساءلاً ببراءة: -هي مس بسمة هنا؟

رد عليه أباه مبتسماً: -ايوه يا حبيبي!
حرك الصغير يحيى ساقيه في الهواء محاولاً النزول وهو يصيح بإلحاح: -أنا عاوز أشوفها!
أنزله أباه ليقف على قدميه قائلاً: -طيب يا سيدي، روحلها
ركض الصغير قائلاً بسعادة: -ماشي
راقبه الاثنان بأعينهما حتى اختفى من أمام أنظارهما، فتساءل منذر بجدية: -هي لسه مخلصتش الدرس؟
هز دياب رأسه نافياً وهو يجيبه بضجر: -لأ، حصل حاجة كده هابقى أقولك عليها بعدين.

لاحظ هو تبدل نبرته، وكذلك قسمات وجهه فسأله بجدية: -في ايه؟
أجابه دياب بغموض: -مشكلة وأنا خلصتها بمعرفتي.!
وقبل أن يحاصره أخيه بالمزيد من الأسئلة، أضاف قائلاً: -بس اعمل حسابك إن أمها وأختها جايين!
قطب منذر جبينه بإستغراب وهو يتساءل بنبرة شبه مرتابة من زيارتهما تلك: -ليه؟
أجابه دياب بسخط قليل: -الحاجة جليلة صممت تعزمهم.

وضع منذر يده على رأسه ليحكها، فقد فهم المقصد من وراء تلك الزيارة الغير مريحة، وردد بإنزعاج بائن:
-أمك وعمايلها! مش هاتجيبها لبر أبداً!
حدق فيه دياب بنظرات حائرة وهو يسأله: -بتكلم عن ايه؟
التفت منذر ناحيته ورمقه بنظرات عميقة مجيباً إياه بغموض: -متخدش في بالك، بس أهي فرصة أخلص حاجة كده في دماغي!
زاد فضول دياب لمعرفة فيما يفكر أخاه، فسأله بإهتمام: -حاجة ايه دي؟
ابتسم بمكر وهو يجيبه: -هاتعرف كمان شوية.

انتهت فاطمة من قياس ضغط أسيف التي تمكن الإنهاك من تعابير وجهها، وأغلقت الجهاز الخاص بذلك قائلة بقلق:
-ضغطك واطي، محتاجة تاخدي حاجة ترفعه!
ردت عليها الأخيرة بصوت متعب: -إن شاء الله
تابعت فاطمة قائلة بنبرة محذرة: -على فكرة ده مش كويس، لازم تاخدي بالك من نفسك كويس!
هزت رأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد بإقتضاب: -ربنا يسهل!

أرادت فاطمة أن تعرف المزيد عن تلك الشابة، فقد أثارت اهتمامها إلى حد ما خاصة أنها تعرف معظم المتواجدين بالمنطقة نتيجة ترددهم على صيدليتها.
تساءلت بإبتسامة مهذبة: -انتي قولتيلي بتشتغلي هنا صح؟
حركت أسيف رأسها بالنفي وهي تجيبها: -لأ، أنا عندي دكان بتاعي!
مطت فاطمة فمها مرددة بتعجب: -غريبة! أنا أول مرة أشوفك هنا!

بررت لها أسيف سبب وجودها قائلة بإرتباك خفيف: -ما. ما أنا لسه جاية قريب، كنت. كنت عايشة في مكان تاني!
زادت ابتسامة فاطمة إشراقاً وهي تضيف بحماس: -أها. نورتي المكان، وإن شاء الله يعجبك، أنا اسمي الدكتورة فاطمة على فكرة، صاحبة الصيدلية دي، وساكنة في العمارة اللي فوقها!
بادلتها أسيف ابتسامة ودودة وهي تقول بحذر: -وأنا أسيف!
زمت فاطمة شفتيها قائلة بإعجاب: -حلو الاسم بتاعك، مميز شوية!

ردت عليها الأخيرة مجاملة: -ميرسي، وانتي كمان اسمك جميل!
-تسلمي على ذوقك
في نفس التوقيت، كان يمر على مقربة من مكان الصيدلية، يجوب بأنظاره أوجه المارين بالمنطقة ملوحاً لهم بذراعه ومعلناً عن وجوده.
كانت ردة فعل أغلبهم ما بين الإنزعاج والقلق. فالكل يعرف طبيعة مجد المشاكسة، ولم يسلم أحد من أذاه أو تعليقاته السخيفة إن لم يمتد الأمر لإفتعال المشاجرات من لا شيء.

وقعت عيناه مصادفة على واجهة الصيدلية الزجاجية، فرأها بالداخل.
هنا توقف عن سيره، وسلط أنظاره عليها.
كان يراقب بإهتمام حركاتها العفوية، ضاقت نظراته نحوها، وبدت غير مريحة بالمرة.
إزداد حماسة في التودد عن قصد إلى تلك التي تسبب في ترك أثارها على ثيابه.
أخذ نفساً عميقاً، وزفره دفعة واحدة وهو يتحرك صوب الصيدلية.
اقتحم المكان صائحاً بنبرة ذات مغزى: -مش قولتلك هنتقابل تاني يا قطة!

التفتت أسيف نحو صاحب الصوت الغليظ شاهقة بصدمة كبيرة بعد أن ارتسمت علامات التوتر على جميع قسماتها، لم تتوقع رؤيته مرة أخرى في نفس اليوم.
بدا مخيفاً تلك المرة بهيئته التي تبينتها بوضوح، وبوجهه المقلق، وبنظراته المريبة التي تقشعر لها الأبدان، وبطريقته الفظة التي تثير الخوف والإضطراب..
هتفت فاطمة قائلة بإمتعاض: -حمدلله على السلامة يا أستاذ مجد، خرجت امتى من السجن؟

اتسعت حدقتي أسيف بإندهاش أكبر عقب تلك العبارة، وأصبحت أكثر قلقاً عن ذي قبل.
رد عليها مجد بتفاخر: -لسه طازة يا ست الضاكتورة!
ابتسمت فاطمة بتكلف وهي تقول: -مبروك!
دنا مجد من أسيف أكثر قائلاً بخبث وقد سلط أنظاره الجريئة عليها: -مش هانتعرف يا حلوة
ضمت أسيف رسغيها إلى صدرها قائلة بنبرة عازمة متحاشية النظر إليه: -أنا ماشية، شكراً يا دكتورة!

اعترض مجد طريقها بجسدة قبل أن تخطو خطوة واحدة للأمام قائلاً بسخط: -الله الله! هو إذا حضرت ال آآ، هه؟
ازدردت أسيف ريقها بخوف، وهتفت برجاء مرتبك: -بعد اذنك عاوزة امشي، ممكن توسع!
انتصب مجد بجسده عن عمد ليبدو أكثر ضخامة وقوة، ثم رفع أنظاره إلى فاطمة قائلاً بعتاب متعمد يحمل بين طياته تهديد خفي:
-جرى ايه يا حالضاكتورة، مش تقولي للحلوة أنا مين، ده أنا ضيفك؟

فهمت الأخيرة مقصده، وردت قائلة بحذر: -الأستاذ مجد أبو النجا، من رجالة المنطقة!
ضاقت نظراته أكثر وهو يقول بصوت متجهم: -بس كده!
تمتمت فاطمة قائلة من بين شفتيها بصوت هامس للغاية لا يصل للأذنين: -يعني أقولها إنك بلطجي وشمحطجي، وكل حاجة بشعة، هي مش ناقصة تترعب منك!
صاح مجد بصوت خشن وهو يشير بعينيه الصارمتين: -ساكتة ليه يا ضاكتورة؟

استشعرت فاطمة خوف أسيف وتوترها البادي للعيان، فضغطت على شفتيها قائلة على مضض:
-أستاذ مجد بعد اذنك، أسيف تعبانة وعاوزة تروح بيتها!
عاود مجد النظر إلى أسيف، وأخفض رأسه نحوها ليبدو أكثر قرباً منها وهو يقول بنبرة ماكرة:
-أسيف، أول مرة اسم الاسم ده؟
مال عليها ليهمس بفضول: -انتي تبع بيت مين؟
توترت أسيف من اقترابه الغير مريح، وهتفت معترضة على تصرفاته المتجاوزة بصوت حاد رغم ارتجافه:
-لو سمحت عاوزة عدي!

هدر بها فجأة بصوت قاسي جعل جسدها يجفل بقوة: -لما أسألك تردي عليا، شكلك جديدة هنا ومش عارفة أنا مين!
تلاحقت دقات قلبها، وانكمشت على نفسها مرتعدة من طريقته المخيفة.
تراجعت خطوة للخلف متحاشية صراخه الذي أربكها ولكنه تحرك نحوها صائحاً بنفاذ صبر:
-ردي، بنت مين هنا؟
أدركت فاطمة أن أسيف لا ترغب في البوح بكنيتها، ولا بما يخص عائلتها، فحاولت أن تتدخل في الحوار لتعفيها من ذلك الحصار المهلك قائلة بضجر:.

-هي مش من هنا يا أستاذ مجد، فمن فضلك بلاش تضايقها!
التفت مجد نحوها قائلاً بتهكم: -هي وكلتك المحامية بتاعتها وأنا معرفش!
ردت عليه بحذر: -لأ، بس آآ..
قاطعها قائلاً بشراسة وهو يشير بحاجبيه: -يبقى تحطي لسانك في بؤك وتسيبني أتعرف على الحلوة
استغلت أسيف فرصة إنشغاله بالحديث معها، وتملصت من حصاره المرعب بحذر شديد لتتمكن من الهروب بعدها من أمامه راكضة بأقصى سرعتها خارج الصيدلية.

تفاجيء هو من فرارها، لكنه لم يحرك قدماً، وظل ثابتاً متابعاً ما تبقى من أثرها وهو يحدث نفسه بثقة:
-وماله، مش هاتبعدي كتير!
بدت فاطمة منزعجة للغاية من أسلوبه السوقي في فرض نفسه على الأخرين، خاصة تلك الشابة الطيبة التي توسمت فيها خيراً.
استدار مجد برأسه نحوها، ثم دنا منها بخطوات متمهلة حتى بات قبالتها تماماً.
شعرت هي بحجم الخطر الكبير المحدق بها خاصة بعد أن قرأت في نظراته العدائية ما يشير إلى ذلك.

هتف بها موجهاً حديثه الغليظ لها وهو يشير بسبابته: -تاني مرة لما أحب أتكلم مع حد ماتدخليش، بدل ما تيجي في يوم وتلاقي الهلومة دي بخ!
ابتلعت ريقها بتوجس كبير بعد تهديده الصريح بإلحاق الأذى بها وبمكان عملها. وهزت رأسها بإيماءات متتالية متفهمة تحذيره العدواني.
رمقها بنظرات أخيرة ساخطة قبل أن يسحب عنوة من أمامها عدة عبوات لأدوية مختلفة قاذفاً إياهم بعنف ظاهر على الأرضية.

انتفض جسد فاطمة خوفاً منه، وتراجعت للخلف مرتعدة من أسلوبه الهمجي الغير مطمئن على الإطلاق.
دهس بقدميه على العبوات متعمداً تحطيم محتوياتهم، فأحدث صوت تهشمهم إزعاجاً كبيراً، ثم أكمل سيره للخارج وهو يسب بكلمات لاذعة للغاية تسبب الحرج الشديد لمن يسمعها.
تنفست فاطمة الصعداء لرحيله، وألقت بجسدها المرتعش على مقعدها قائلة بنبرة متوجسة:
-شكلنا داخلين على أيام سودة مع البلطجي ده..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة