قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والثلاثون

لجأت إلى منزلهما الذي كانا دوماً يلتقيان خلسة فيه قبل أن يتم زواجهما الرسمي.
من وجهة نظرها كان يعد المكان الآمن لتحمي نفسها من بطش دياب إن اكتشف خدعتها له.
تزينت كعادتها، وتغنجت بجسدها البارز أسفل قميص نومها الشفاف – ذو اللون السماوي - أمام المرآة.
وضعت اللمسات النهائية من مساحيق التجميل، ثم جلست على الأريكة في انتظار عودة زوجها مازن.

انتبهت لصوت غلق الباب بالخارج، فنهضت من جلستها لتتجه إليه قائلة بحماس: -حبيبي، حمدلله على آآ.
قطمت عبارتها قبل أن تكملها حينما رأت حالته المزرية أمامها.
اتسعت مقلتاها في صدمة، وشهقت واضعة يدها على فمها مرددة بذهول: -حصل ايه؟
مررت أنظارها على ثيابه الغير مهندمة، وعلى وجهه العابس، وتلك السجحات البارزة في ذراعيه وحول عنقه.

لم ينطق بكلمة واحدة، فقد ظل متسمراً في مكانه حادجاً إياها بنظرات نارية مشتعلة. كان بركانه الثائر يتأجج بداخله، لم يظن أنه سيتعرض لتلك المهانة ويذل من جديد على يد عائلة غريمه الدائم.
لم تدرك هي حجم الغضب المستعر بداخله، فاقتربت منه قائلة بتوجس: -مين عمل كده فينك؟
كز على أسنانه قائلاً بصوت مختنق يحمل الكثير صارخاً فيها بإنفعال: -كل بسبب عمايلك انتي.

قطبت جبينها مندهشة، ونظرت إليه بعدم فهم وهي تتساءل: -أنا؟ ليه؟
قبض على ذراعها، وغرز فيه أظافره بقوة مسبباً الآلم لها وهو يرد بصوت مهتاج: -طبعاً، انتي تخططي مع أمك وتنفذوا، وأنا ألبس في مصايبكم وأتبهدل عشان خاطركم
تأوهت بأنين واضح وهي تحاول تخليص ذراعها قائلة: -أنا. مش فاهمة قصدك ايه
دفعها بعنف للخلف صائحاً بعصبية: -انتي فهماني كويس، ماتستهبليش على اللي جابوني!

فركت ذراعها بكفها برفق لتخفف من حدة وجعه مرددة بنبرة عالية: -مازن في ايه؟ اتكلم على طول، مش لازم الألغاز دي وآآ..
قاطعها قائلاً بشراسة مقلقة: -عاوزة تعملي نمرة على سي زفت بتاعك يبقى بعيد عني، مش تكسبي بونط على حسي!
زادت نظراتها توتراً وهي تسأله بإرتباك: -قصدك مين؟
هدر بها قائلاً بصوت مهتاج: -هو في غيره، دياب الكلب! انتي وأمك تخططوا وأنا أتلط معاه.

كور قبض يده بعنف ضاغطاً على أصابعه بغلظة وهو يتابع حديثه المتشنج: -لو كان بس وقع تحت ايدي لوحده كنت فرمته، عرفته قيمته بجد، بس هو بيتحمى في أخوه وأهله!
تقوس فمها للجانب مستنكرة ضعف زوجها أمام قوة تلك العائلة، وردت بنزق: -وأنا ذنبي ايه، ان كنت انت مش أده، بتتشطر عليا أنا
لم تدرك ولاء أنها بعبارتها تلك قد نزعت الفتيل عن قنبلة غضبه الموقوتة لتنفجر في وجهها.

صرخ بها بلا وعي وقد برزت عروقه: -انتي. انتي اتجننتي؟
شعرت بحجم تهديده الصارخ من نبرته ونظراته الغير مطمئنة على الإطلاق، فتراجعت للخلف مرددة بندم شديد:
-مش قصدي يا مازن
احتقنت عيناه بحمرة شيطانية مخيفة، ودنا منها مهدداً بنبرة عدوانية: -أنا هاعرفك معنى الكلمة دي كويس!
ابتلعت ريقها هاتفة بذعر: -مازن اهدى، مقصدش والله!

رفعت ذراعيها أمامه محاولة الاحتماء منه، لكن لا جدوى، فقد أطلق العنان للوحش الطائش بداخله.
انقض عليها فجأة قابضاً على عنقها خانقاً إياها بكل قوته.
عجزت عن التنفس، وجاهدت لإلتقاط أنفاسها.
أرخى أصابعه عنها ليمسك بها من رأسها.
سعلت بشدة في تلك اللحظة، لكنه لم يمهلها الفرصة للهروب من عقابه الحيواني، حيث جذبها بعنف من شعرها الذي لفه حول قبضته لتصرخ متآلمة:
-آآآآه، أسفة حقك عليا!

وكأنه خرج عن شعوره الواعي ليتحول إلى شخص أخر غير طبيعي يدمر بإهتياج ما تطاله يده.
إنهال عليها أولاً بصفعة مباغتة على وجهها آلمتها بشدة.
تأوهت صارخة بإستعطاف كبير وهي تجاهد لحماية وجنتها: -آآآآآآآه، ارحمني يا مازن!
لم يشعر بنفسه وهو يواصل صفعها بوحشية على وجهها جاعلاً إياها تنزف بغزارة من أنفها ومن بين شفتيها.
ثم أسقطها أرضاً، وركلها بقسوة في أجزاء متفرقة من جسدها مسبباً لها آلاماً رهيبة.

شعرت بنغزات حادة تعتصر معدتها من قوة الضربات الشرسة، فوضعت يدها أسفل بطنها مرددة بصوت باكي محاولة استجدائه عل قلبة يرق:
-أنا حامل، حرام عليك!
استأنف اعتدائه الهمجي صارخاً بهياج أكبر: -بقى أنا مش اده، أومال اتجوزتيني ليه؟ ها ليه؟
ركلها مجدداً في أسفل معدتها بعنف أشد فصرخت ببكاء متوسل وهي تقاوم ضرباته المتلاحقة:
-آآآآه، كفاية، آآآه.

هدر بها بصوت محتد وهو يجثو على ركبته أمامها: -دياب ده حشرة أفعصها تحت رجلي!
أمسك بها من خصلات شعرها رافعاً رأسها عنوه عن الأرضية وهو يتابع بتهور: -سمعاني، أنا أده وأد عيلته كلها!
لم تستطع الرؤية بوضوح بفعل دموعها الغزيرة، لكن خرج صوتها الضعيف من بين شفتيها الملطختين بالدماء:
-ايوه سمعاك. آآه، سيبني!

بصق فوقها بعد أن رمقها بنظرات احتقارية مزدرية، ثم نهض عنها ولكن قبل أن يبتعد ركلها بقسوة في ساقها، فصرخت باكية:
-آآه، حرام عليك!
انتاب جسدها آلاماً رهيبة خاصة في منطقة معدتها، لم تستطع تحمل تلك الوخزات والنغزات العنيفة فتكورت على نفسها وجسدها يرتعش بشدة..
سال من بين ساقيها خيطاً رفيعاً من الدماء منذراً بشيء غير محمود مطلقاً..

بحرج بائن على وجهها تحاشت بسمة النظر إلى الحاج طه الذي أتى ليرحب بها في غرفة الضيوف قائلاً بهدوء:
-منورانا يا بنتي
ردت عليه بإقتضاب وهي تضغط على شفتيها: -شكراً
أضاف بجدية وهو يشير بعينيه: -أمك وأختك زمانتهم جايين، اطمني!
ابتسمت بتصنع وهي ترد: -اها. تسلم يا حاج طه على العزومة دي، مكانش فيها داعي
لوح بكف يده متابعاً بصوته الرخيم: -دي حاجة بسيطة، خدي راحتك، وانا هاخش أشوف الحاجة جليلة.

حافظت على ابتسامتها المتكلفة وهي تقول بإيجاز: -اتفضل!
عادت لتجلس على الأريكة محدثة نفسها بإمتعاض: -كانت لازمتها ايه الورطة دي!
-أمك مش مريحة نفسها
هتف بتلك العبارة منذر وهو يبدل ثيابه بأخرى نظيفة استعداداً لإستقبال الضيوف القادمين.
رد عليه أخاه بإبتسامة باهتة: -ده نظامها، هنغيره ازاي!
التفت منذر لينظر ناحيته مكملاً بتثاقل: -كنت محتاج أريح شوية!
ثم مط ذراعيه ليضيف بغموض: -بس يالا أهي هتيجي بمصلحة بردك!

عقد دياب ما بين حاجبيه متساءلاً بإهتمام: -صحيح، أنا مافهمتش كلامك برا، تقصد ايه بالظبط؟
وقف منذر قبالته، وحدق فيه مباشرة وهو يجيبه بجدية: -شوف يا دياب، بنت أخو عواطف مش ناوية تبيع الدكان خالص!
ارتفع حاجبي دياب للأعلى مستنكراً رفضها وهو يقول: -ايه، هي اتجننت، دي اتفاقات؟!
تقوس فمه مردداً بسخط: -مش فارق معاها ده كله، ومش هاتسيبهولنا بالساهل، والدنيا هتخرب!
صاح دياب بضيق ملوحاً بذراعه: -هي بتستعبط!

تابع منذر قائلاً بنبرة مُصرة: -وأنا مش هاسيبهولها!
ثم أخفض نبرته نسبياً لتزداد قتامة وهو يقول بضيق شبه ملحوظ: -وخصوصاً بعد اللي عملته!
قطب دياب جبينه متساءلاً بإستفهام: -هي عملت ايه؟
رد عليه بنبرة عازمة: -بعدين هاعرفك، المهم أنا هاخد منها الدكان ده!
سأله دياب بإلحاح: -برضوه ازاي؟
أجابه أخاه بثقة بالغة: -هاجبر عواطف تبيعلي نصيبها النهاردة.

بدت علامات الإندهاش جلية عليه عقب تصريحه الأخير، وهتف غير مصدق: -ايه!
تابع منذر حديثه الواثق بنبرة ذات مغزى بعد أن شردت نظراته نحو المجهول: -وبكده هابقى حطيت ايدي على أول حتة منه، وواحدة واحدة هاخده منها!
تساءل دياب بجدية وهو يحك مقدمة رأسه: -وتفتكر عواطف هتبيع من غير ما تقولها؟
أومأ أخاه برأسه قائلاً بتأكد وهو يربت على ذراعه برفق: -اه، هتعمل ده، معندهاش حل تاني!

انتبه الاثنان لصوت قرع الجرس، فأردف دياب قائلاً بفتور: -باينهم جوم!
رد عليه منذر بإقتضاب وهو يعدل ياقته: -طب بينا نشوفهم!
فتحت جليلة ذراعيها مستقبلة بود أليف ضيفتيها اللاتين لبتا دعوتها، وهتفت مرحبة:
-يا أهلا وسهلاً، شرفتونا والله
قبلتها نيرمين من وجنتيها عدة مرات قائلة بحماس وقد أشرقت نظراتها: -ازيك يا خالتي؟

ردت عليها جليلة بإبتسامة عريضة وهي تتأمل تلك الحيوية المنبعثة في بشرتها: -الحمدلله يا نيرمين!
ثم سلطت أنظارها على رضيعتها التي تحملها على كتفها، وأضافت بحنو: -ماشاء الله، هي لسه نايمة
ردت عليها نيرمين بمكر: -دي كانت صاحية طول السكة وقرفاني، بس الظاهر البيت ملايكته حاضرة فنامت أول ما دخلنا الحوش!

فرحت جليلة من كلماتها المجاملة، وظنت أنها أحسنت الاختيار حينما فكرت فيها كزوجة مستقبلية لإبنها البكري. وما هي إلا مسألة وقت حتى يتسنى لها التقدم رسمياً لخطبتها وتزويجها له.
مسحت على ظهرها برفق وهي تدفعها للأمام قائلة بود: فكرت فيها كزوجة مستقبلية لإبنها البكري.
ت الاختيارافت بحنو: رتها: حبة: -حبيبتي، تعالي خشي، ده بيتك!
ردت عليها نيرمين بإبتسامة سعيدة: -الله يخليكي لينا يا خالتي!

ثم وجهت عواطف حديثها إلى مضيفتها قائلة بلطف: -ازيك يا ست جليلة؟
ردت عليها الأخيرة هاتفة: -بخير يا عواطف، اتفضلي جوا، منورين والله!
سارت ثلاثتهن نحو غرفة الضيوف، لكن تسمرت عواطف على عتبة الباب قائلة بشهقة مصدومة حينما وقعت أنظارها على ابنتها بالداخل:
-يا نصيبتي!
مررت أنظارها سريعاً عليها لتجدها قد بدلت ثيابها بعباءة فضفاضة لا تخصها، فوضعت يدها على صدرها عفويا وهي تتساءل بخوف:
-حصلك ايه يا بنتي؟

خجلت بسمة من الرد على أمها، خاصة أن للأمر علاقة بكرامتها، وكسر شموخها الأنثوي.
فترددت في إجابتها، وقبل أن تجد العذر المنطقي لترد عليها، انتبهت لصوت دياب الآتي من خلف وهو يهتف بجمود:
-ازيك يا ست عواطف؟
استدارت أمها نحوه مجيبة إياه بإبتسامة مجاملة: -بخير يا دياب يا بني، أخبارك انت ايه؟
هز رأسه قائلاً بإقتضاب: -الحمدلله.

عاودت التحديق في ابنتها وهي تلج للداخل متساءلة بتوجس ظاهر في نبرتها: -مقولتليش حصلك ايه يا بسمة؟ ولون وشك ماله مخطوف كده ليه؟
ابتلعت بسمة ريقها قائلة بحرج: -هو آآ..
لم يدعها دياب تكمل جملتها المنتقصة، فهتف بثبات: -ده حرامي يا ست عواطف طلع عليها، فأنا مسكته وضربته قبل ما يسرقها!
اتسعت حدقتي بسمة بذهول من رده الغريب والمقنع، ونظرت إليه بإندهاش عجيب.
شهقت عواطف مرتعدة قائلة: -يا لهوي حرامي!

تابع دياب مؤكداً بهدوء: -اه، فتح عليها مطوة بس أنا عملته الأدب وربيته!
نظرت له عواطف بأعين لامعة ممتنة لفعلته الرجولية وهي تشكره: -تسلم يا بني!
وقفت نيرمين إلى جوار أختها، واخذت تهدهد في رضيعتها النائمة، ثم مالت عليها برأسها متساءلة بفضول:
-هو في ايه؟
همست لها بسمة بضجر: -ششش، مش وقته
دققت عواطف النظر في العباءة التي ترتديها، ولم يمنعها هذا عن سؤالها بعدم اقتناع:
-بس ده ماله ومال هدومها؟

توردت وجنتي بسمة قليلاً، وضغطت على شفتيها بحرج بائن.
هي لن تخبر أمها بما دار معها من اعتداء متعمد عليها من قبل شاب أهوج في غير وعيه، وأمه التي تطاولت بالضرب والسب عليها فسبب لها ذلك تمزيق ثيابها.
أخرجها من شرودها الحائر صوت دياب وهو يقول مبرراً: -اتبهدلت، فمايصحش تمشي وشكلها كده!
هزت عواطف رأسها بتفهم وهي تشكر صنيعه: -كتر خيرك، أنا مش عارفة أقولك ايه، ربنا يكفيك شر الطريق وينجيك!

رد عليها بإبتسامة صغيرة: -يا رب!
نظرت بسمة لدياب بنظرات حرجة نوعاً ما. لم يغب عن بالها شجاعته ولا شهامته التي أنقذتها من ذلك الموقف المشين.
ربما ستشكره في وقت لاحق على فعلته تلك حينما تحظى بفرصة مناسبة. هكذا فكرت، وقررت في قرارة نفسها..
في تلك اللحظة ولج منذر إلى داخل الغرفة متعمداً التباطيء في الظهور كي يترك مساحة من الحرية للضيوف للترحيب بهن أولاً.

هتف قائلاً بصوت آجش بعد أن تنحنح بصوت خفيض: -سلامو عليكم
انتبهت نيرمين إلى صوته، فرفعت عيناها نحوه، وتهللت أساريرها هاتفة بحماس عجيب:
-وعليكم السلام ورحمة الله، ازيك يا سي منذر!
التفت ناحيتها قائلاً بإيجاز وهو يبتسم بتصنع: -تمام!
زاد وجهها إشراقاً من ابتسامته المتواضعة، وتنهدت بعمق وهي تراقبه بإهتمام ملحوظ.

ردت عليه عواطف ممتنة وهي تشير بكف يدها: -وعليكم السلام يا بني، بصراحة أنا مش عارفة أقولكم ايه، دي جمايلكم مغرقانا والله!
اقترب منها منذر قائلاً بهدوء: -متقوليش كده!
أضافت هي قائلة بإصرار: -وإن شاء الله هاردهالكم كلها!
رد عليها منذر بغموض أربكها: -أنا مش عاوز منك غير حاجة واحدة وبس، وهي تغنيني عن أي حاجة عملتها عشانكو!

هتفت بتلهف وقد بدا الحماس ظاهراً على تعابير وجهها: -ده أنت تؤمرني وأنا أنفذ على طول!
وقف قبالتها، ورمقها بنظرات ثابتة، ثم تشدق قائلاً بصرامة خفية: -تبيعيلي نصيبك في الدكان، ودلوقتي!
انفرجت شفتاها بصدمة قليلة من جملته المفاجئة تلك.
هي حتماً ستبيع له الدكان، لكن ليس هكذا دون ترتيب مسبق، فقط حينما تتفق مع ابنة أخيها كي لا تخسرها..

أكمل منذر قائلاً بصوت جاد ذو مغزى عندما لاحظ ترددها: -ده الشكر اللي أنا عاوزه منك، واطمني يا ست عواطف، أنا راجل حقاني وهراضيكي على الأخر!
ابتلعت ريقها قائلة بحذر: -ماشي، بس آآآ..
لاحظت نيرمين إرتباك والدتها، وخشيت أن ترفض عرضه فتتسبب في إحداث وقيعة معهم، لذا قاطعتها فجأة بصوت منزعج:
-من غير بسبسة يا ماما، ده كتر خيرهم مش متأخرين عننا في حاجة، دكان ايه ده اللي من قيمتهم!

بدت حائرة للغاية وهي تحاول اتخاذ قرارها النهائي، فهتفت بتلعثم: -ط. طب بس أقول ل. آآ.
واصل منذر حديثه الجاد قائلاً بتحذير: -ست عواطف، مش عاوزك تنسي الاتفاقات اللي كانت بينا، ودي مصالح مش هزار!
حركت رأسها بتفهم وهي توضح له سبب حيرتها: -أنا فاهمة، بس قصدي بنت أخويا. آآ. مش راضية آآ. أنا. أنا عاوزة وقت أقنعها وآآ..
رد عليها بصرامة وقد قست نظراته: -ماليش دعوة بيها، أنا بأكلمك انتي!

توترت الأجواء قليلاً. فخافت نيرمين من رد أمها الذي يمكن أن يفسد المسألة بالكامل فهتفت بنزق:
-أمي موافقة طبعاً!
ثم سلطت أنظارها المنزعجة على والدتها لتقول بإلحاح عجيب: -صح يا ماما؟
فهمت عواطف من نظرات ابنتها جدية المسألة، وردت بحسم: -اللي تشوفه يا بني!
التوى ثغر منذر بإبتسامة مغترة وهو يرد: -على بركة الله، يبقى نمضي العقود دلوقتي.

تنهدت نيرمين بإرتياح لإمتثال والدتها لرغبته، واستشعرت أنها حازت على نقطة ما في صالح عائلتها معهم قد تمحو أثار ما فعلته ابنة خالها التعيسة.
كما لم تفارقه نظراتها المتأملة له، وظلت تتابع حركاته وإيماءاته بإعجاب واضح على محياها.
لا تعرف ما الذي يجذبها إليه تحديداً، لكن رأت به كل مواصفات الشاب الشهم ذو الطباع الرجولية الحامية التي تمنت لو رأتها في طليقها السابق.

تنفست الصعداء لنجاتها من حصار ذلك الفظ الوقح. لو لم تنتبه لغفلته عنها لكانت ماتزال تحت تهديده الجريء. وربما امتد الأمر للتطاول باليد من قبله.
بدا حلقها جافاً للغاية من فرط التوتر والخوف.
حاولت أن تفكر بذهن صافٍ لتنجو ببدنها مما تورطت فيه من متاعب مقلقة مؤخراً.

حسمت أمرها بالتراجع نهائياً عن ذلك المحضر الرسمي، فلا حاجة بها للوقوع في المزيد من المشاكل مع منذر، فتهديده الأخير لها، وإصراره على سلب حقها قد أخافها بصورة كبيرة.
ظنت بخطوتها تلك أنها ستؤجل انتقامه العنيد منها، بل ربما تجبره على التراجع عنه. لذلك توجهت للمخفر بعد فرارها العجيب من الصيدلية.

ولجت إلى الداخل مقتربة من أحد المخبرين المرابطين عند المدخل، وسألته بتردد وهي تجاهد للحفاظ على ثبات أعصابها المشدودة:
-أنا كنت عملت. محضر. من بدري، ينفع أسأل عن حاجة تخصه؟
نظر لها المخبر بتفرس وهو يسألها بجمود: -محضر ايه ده؟ وضد مين يا ست؟
ازدردت ريقها الجاف بصعوبة مجيبة إياه بإرتباك: -سرقة. وضد. ضد واحد اسمه منذر طه حرب!

تصلبت تعابير وجه الأخير نوعاً ما، فهو على صلة وطيدة به، بل هو من أبلغه بطبيعة المحضر المقدم ضده، لذلك اعتقد أن مجيئها إلى هنا الآن ربما لتستفسر عن باقي الإجراءات القانونية المتبعة بعد تقديم الشكوى الرسمية.
تعمد أن يضللها قليلاً ويؤخرها لعله يكتسب المزيد من الوقت قبل أن يبلغ منذر بحضورها.
صاح بها بصوت جاد وهو يشير بكف يده: -طب اقعدي هنا يا ست لحد ما أسألك جوا.

ابتسمت له إبتسامة باهتة وهي تهز رأسها بالإيجاب: -كتر خيرك. متشكرة!
اتجهت إلى حيث أشار، وجلست على مصطبة خشبية مسنودة عند أحد الأركان، و إلى جوار سيدة ما منتظرة بترقب حضوره إليها.
نظرت إلى من حولها بنظرات شاردة فاركة أصابع يديها بقلق. ومع ذلك كانت تشعر براحة قليلة لتخليها عن عنادها في تلك المسألة.

بالفعل كان يومها مشحوناً بالكثير والكثير من الأحداث التي تفوق قدرتها على التحمل، وهي لا ترغب في أن تخوض مثل تلك التجارب يومياً، لذا الأسلم من وجهة نظرها التراجع عما يمكن أن يضعها في مواقف متأزمة.
اختفى المخبر بالداخل، ورغم هذا كان قادراً على رؤية أسيف من إحدى الزوايا الجانبية - دون أن تراه هي – ومتابعتها عن كثب.
أخرج هاتفه المحمول من جيبه طالباً منذر على عجالة.

لم يجب الأخير على اتصاله المتكرر، فتمتم مع نفسه بصوت مزعوج: -يا ريس رد عليا!
خرج من المرحاض مبتلاً بغزارة وهو يلف حول خصره منشفته القطنية.
نعم هو أفرغ شحنته الغاضبة فيها، لكن لم تهدأ ثورته المشتعلة بعد.
مازالت الضغائن ضد ابن عائلة حرب متأججة بداخله، ويوماً بعد يوم تزداد حدتها.
صاح بصوت متحشرج وهو يزيح حبات المياه عن وجهه: -ولاء!

أمسك بفرشاة الشعر ليمشط خصلات شعره المبتل. وأخذ يتفقد وجهه بنظرات دقيقة متأملاً تلك الخدوش البائنة حول عنقه، وعلى ذراعيه.
زفر بضيق كبير. فتلك هي الأثار الناتجة عن تقييده من قبل رجال منذر.
أخذ يسب ويلعن بكلمات نابية وأشد حدة.
لم يأتيه ردها بعد، فصاح مجدداً بعصبية لاعناً إياها بغلظة: -انتي يا، ، مش هافضل أنادي عليكي كتير!

أزعجه تجاهلها له، فتشنجت قسمات وجهه أكثر، وتصلبت عروق عنقه وهو ينظر إلى إنعكاس صورته في المرآة.
ألقى الفرشاة بغل، وخرج من غرفة النوم وهو ينتوي إلحاق الأذى بها، لكنه تجمدت في مكانه برعب كبير.
إرتجافة قوية دبت في جسده حينما رأها لا تزال ممددة على الأرضية حيث تركها قبل برهة، ولكن تحاوطها بركة من الدماء الداكنة.
شخصت أبصاره بفزع، وتسارعت دقات قلبه بخوف كبير.

أفاق مازن من جموده المؤقت هاتفاً بلا وعي وهو يركض ناحيتها: -ولاء..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة