قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الأربعون

أعدت طاولة شهية مليئة بصحون متنوعة من الطعام الذي تطيب له الأنفس، فالتف الجميع حولها يتناولون إياه بإستمتاع واضح لمذاقه الرائع.
جلست عائلة حرب في مواجهة عائلة عواطف، وترأس الطاولة الحاج طه.
لم تتركه نظراتها المتطلعة إليه على طول الوقت، فقد كانت نيرمين تراقبه خلسة تدرس تفاصيله بإهتمام واضح عليها.
هناك تلك الهالة الغريبة حوله والتي تجذبها بشدة إليه. فلم تستطع منع نفسها من التحديق به.

على النقيض، لم يكن منذر مهتماً بها، أو حتى شاعراً بنظراتها نحوه، بل هي لم تكن بباله مطلقاً، على عكسها هي التي كانت تضعه موضع مقارنة صريحة مع طليقها الأسبق.
تنهدت بعمق وهي تدس الحساء الساخن في فمها. حدقت فيه حينما أردف قائلاً بجدية: -بكرة بأمر الله هانسجل العقود في الشهر العقاري، هاعدي عليكي الصبح يا ست عواطف عشان نخلص بدري
هزت عواطف رأسها بإيماءة موافقة وهي تقول: -ماشي يا سي منذر، اللي تشوفه.

أضاف الحاج طه قائلاً بإبتسامة إرتياح: -مبروك علينا البيعة!
ردت عليه نيرمين بحماس: -الله يبارك فيك يا حاج طه، احنا منتأخرش عنك، أؤمرنا انت بس!
التفت ناحيتها ليقول بود: -تسلمي يا بنتي!
هتفت عواطف بإمتنان: -سفرة دايمة يا رب، مكانش ليه لازمة التعب ده كله
ردت عليها جليلة بود: -دي حاجة بسيطة، ألف هنا وشفا
أشارت أروى بيدها قائلة: -عاوزة بطاطس يا ماما
ردت عليها أمها بنبرة عادية: -حاضر يا حبيبتي، خدي!

ثم صاحت بجدية وهي تشير لحفيدها: -كل طبقك كله يا يحيى، مش كل يوم تفوض أكلك!
هتف الصغير يحيى مردداً ببراءة: -أنا هاخلص أكلي كله عشان مس بسمة تتبسط مني
استدار أباه ناحيته، ورد عليه بإستنكار: -يا سلام، عشان خاطر الأبلة بس!
ضيقت بسمة نظراتها نحوه، وهتفت قائلة بضيق قليل من أسلوب دياب المستفز معها: -شاطر يا يحيى، أهوو أنا كده هاحبك أوي.

سلط دياب أنظاره عليها، ونظر لها مطولاً وهو يقول بنبرة ذات مغزى: -وماله! هو يتحب بردك!
تجاهلت هي الرد عليه، ومدت يدها في صحن الشوربة الساخن لترتشف منه القليل، لكنها رأت بطرف عينها أعين دياب معلقة بها.
استمر هو في رمقها بتلك النظرات الغريبة وكأنه لا يخشى أن يمسك به أحد لتعمده فعل هذا، فضيقت عيناها نحوه مستفسرة.

لم يحد بعينيه بعيداً، وواصل تحديقه الغير مفهوم بها وكأنه يشير إلى شيء ما. فنظرت إلى حيث مسلطة أعينه فوجدت كم العباءة غارقاً في صحنها فتلطخ بالطعام.
شهقت مصدومة، وأبعدت الكم متحرجة مما حدث.
التوى ثغره بإبتسامة متسلية، وأكمل تناول طعامه في صمت.
راقبت جليلة تصرفاتهما خلسة وعلى ثغرها ابتسامة عابثة نوعاً ما. لكن كان عقلها يفكر في شيء ما يخصهما.

أضاف منذر قائلاً بجدية: -احتمال أسافر الأسبوع الجاي، الشحنة جت الميناء في بورسعيد، ولازم حد يوقع الأوراق ويخلص كل حاجة
رد عليه أباه مشيراً برأسه: -ماشي يا بني! اعمل اللازم!
شردت نيرمين لوهلة عقب حديثهما العملي متذكرة موقف ما مرت به.
ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وأغمضت عيناها للحظات مقاومة تدفق تلك الذكرى المحرجة إلى عقلها، لكنها لم تستطع.
فما مرت به وقتها ليس بالأمر الهين..

((( كانت لا تزال عروساً جديدة لم يمضِ على زيجتها سوى شهرين حينما قرر زوجها حاتم إصطحابها لقضاء عدة أيام بتلك المحافظة كهدية لعرسهما.
سعدت وقتها بتلك الرحلة القصيرة، وظنت أنه ربما يكون تعويضاً عن ذلك الوقت البائس الذي قضته في منزل عائلته بعد ما تلقته من معاملة مهينة، وإعتداءات يومية بالضرب والسباب على توافه الأمور.

استعدت لقضاء وقتاً طيباً لن يمحى من ذاكرتها. لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن حيث تفاجئت به بعد وصولهما بيوم برغبته في العودة إلى منزلهما.
حزنت كثيراً، وما زاد من قهرها أنه أجبرها على فعل شيء لا تريده.
هتفت مستنكرة طلبه: -ازاي عاوزني أعمل كده، ده احنا ملحقناش نقضي يومين هنا
رد عليها بجمود وهو يفرك طرف ذقنه: -دي مصلحة يا نيرمين!

صاحت به بحدة وقد جن جنونها: -مصلحة ايه دي، بقى انت عاوزني أشتغل في التهريب؟ ترضهالي؟!
هتف بنبرة غير مبالية: -ده مش تهريب، دي خدمة لواحد معرفة!
اغتاظت من رده البارد، فهتف متساءلة بإستنكار: -واشمعنى أنا؟ شوفلك حد تاني غيري
أجابها حاتم بنبرة جافة: -عشان انتي واحدة ست، محدش هايشك فيكي، وهاتعرفي تعدي من الجمرك من غير ما حد يمسكك!

حدجته بنظرات مستشاطة، وردت عليه بصوت محتقن: -وافرض اتمسكت ساعتها؟ أروح أنا في داهية عشان صاحبك ده! وطبعاً إنت وقتها ولا هتعرفني!
ابتسم ابتسامة صفراء وهو يرد ببرود: -إن شاء الله مش هايحصل، وبعدين يا ستي احنا هنطلع بمصلحة حلوة من الخدمة دي، وكله عشانا يا نيرمو!
نظرت له شزراً قائلة بحدة: -لأ عشانك انت، أنا مش هستفاد حاجة خالص غير البهدلة وقلة القيمة!

ثم لوت ثغرها بإمتعاض كبير وهي تضيف: -وبعدين عيب عليك ده أنا مراتك، ترضهالي!
تجمدت تعابير وجهه، وقست نظراته وهو يرد عليها بغلظة: -وأنا جوزك، ولازم تسمعي كلامي يا مدام
كتفت ساعديها قائلة بإعتراض جلي: -لأ، مش هاعمل كده!
اغتاظ من رفضها الصريح، فأمسك بها من شعرها جاذباً إياها بعنف وصائحاً بنبرة قاسية:
-غصب عنك هاتعملي ده!

ثم قبض بكفه الأخر على فكها، واعتصره بقوة قائلاً من بين أسنانه المضغوطة: -ولا تحبي أصبحك بعلقة زي كل يوم. شكلك نسيتي لما بأزعل بأعمل ايه!
نظرت إليه بخوف كبير، فهي تعلم جيداً أنه حينما تثور ثائرته، ويفقد أعصابه ينهال عليها بكل قوته محطماً عظامها.
تأوهت من عنفه المفرط معها، فصرخت مستغيثة: -آآآه، خلاص، هاعمل اللي انت عاوزه.

تعمد الضغط أكثر على فكها ليسبب لها الوجع الشديد، وتابع قائلاً بتحذير: -يكون أحسنلك يا مدام!
ثم أرخى قبضتيه عنها دافعاً إياها للخلف بقسوة.
حدجته بنظرات مشتعلة متمتمة من بين شفتيها بقهر: -حسبي الله ونعم الوكيل فيك!
في اليوم التالي كانت نيرمين تلف حول خصرها لفافات من الثياب المهربة بطريقة معينة كي تتمكن من إخراجهم من الجمرك دون أن يشك بها أي أحد.

ارتدت من فوقهم عباءة فضفاضة بعد أن تأكدت أنه لا يبرز منها شيء ما.
حدق فيها زوجها بنظرات متفرسة، ثم استطرد حديثه قائلاً بجدية: -دول مش كفاية
استدارت نحوه هاتفة بإستنكار: -قصدك ايه؟ ده أنا ظبطهم كويس وآآ..
قاطعها قبل أن تكمل عبارتها مردداً بصوت خشن: -لأ، الحبة اللي انت حاطهم دول مايعملوش حاجة، خدي دول كمان
نظرت إلى حيث أشار بعينيه، فرأت ما يعادل ضعف الكمية التي تضعها حول جسدها.

شهقت مصدومة: -كده كتير، ده انت قاصد إن أنا أتمسك
دنا حاتم منها، ومد يده ناحية وجهها، تراجعت برأسها عفوياً للخلف متحاشية صفعته المباغتة إن قرر فعل هذا، لكنه مسح على صدغها بنعومة وهو يقول:
-لأ يا حبيبتي، مش هايحصل، وبعدين لو عملتي اللي هاقولك عليه بالحرف محدش هايجي جمبك!

نظرت له بتوسل عله يتراجع عن خطته الماكرة تلك، لكنها كانت تخاطب قلباً من صخر، لم يشعر بها، ولم يعبأ بحجم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها إن قامت بتلك المجازفة.
أصابها الإحباط، وأصبحت مضطرة لتنفيذ أمره الحاسم..
أضافت اللفافات الجديدة حول خصرها وصدرها فبدت كما لو كان ظهرها أحدباً وذات وزن زائد لا يتناسب مع وجهها الرفيع.
تحركت مع زوجها بخطوات متعثرة نحو بوابات الجمرك.

تسارعت أنفاسها بإرتباك كبير، وقبضت على كفه قائلة بتوتر رهيب: -هاتمسك يا حاتم، بلاش منه الموضوع ده!
رد عليها بخشونة: -اسمعي الكلام، ومحدش هايعملك حاجة
همست بإستعطاف: -أنا خايفة أوي! الله يخليك يا حاتم خلينا نرجع
رد عليها بنبرة جادة وقد قست نظراته: -انتي هتكشفينا بغباءك! اثبتي بقى، وامشي وانتي ساكتة!
تعثرت خطواتها وهي تواصل سيرها المرتبك، كما نهج صدرها من الخوف الشديد.

همس لها بصوت خفيض من بين أسنانه: -ارفعي العباية شوية، بيني رجلك!
احتقنت نظراتها نحوه، وعبس وجهها بشدة. هو يريد منها أن تتعمد إلهاء الرجال بجذب أنظارهم إلى سيقانها المكشوفة، كي لا ينتبهوا إلى ما تحمله من بضائع مهربة، فتمر دون أي مشاكل خارج بوابة الجمرك.

اصطبغ وجهها بحمر جلية مستنكرة تلك النخوة والرجولة التي انعدمت من زوجها ليجبرها على فعل ذلك، فيجعلها أنثى رخيصة في أعين الغرباء، بل سهلة المنال ومطمع لغيره من الذئاب الجائعة فتسيل اللعاب عليها.
ضغط على كف يدها بقوة وهو يعيد أمره: -سمعاني، ارفعي عبايتك يا ولية!
بأصابع مرتجفة أمسكت بطرف عباءتها، وقامت بجذبها للأعلى قليلاً لتظهر ساقيها من أسفلها.
وبالفعل حدث ما قاله زوجها، تعلقت الأعين بهما.

رأت في نظرات الرجال المسلطة على جسدها ما جعل الرعب يدب في قلبها.
سيطر عليها شعوراً طاغياً بالخذلان والخزي.
أدركت مدى المهانة التي أصبحت فيها وهي معها.
انكسر إحساسها بالأمان معه، وزاد بغضها المبرر إليه.
كرهت الحياة معه، مقتت أن تكون زوجته التي من المفترض عليه حمايتها.
نجحت خطته، وأفلتا من الجمارك دون كشف أمرهما.
تنفس بإرتياح شاعراً بالفخر لتحقيقه إنجازاً كبيراً.

سحبت هي يدها من كفه قائلة لنفسها بذل وهي ترمقه بنظرات إحتقارية: -أقذر راجل عرفته في حياتي! ده لو كنت راجل أصلاً.! )))
أفاقت من تلك الذكرى الآليمة على صوت عواطف الهاتف بجدية: -بنتك بتعيط يا نيرمين، إنتي مش سمعاها ولا إيه؟
نظرت نحوها بأعين لامعة، ثم أخذت نفساً عميقاً ضبطت به إنفعالاتها قبل أن تجيبها بنبرة مختنقة نسيباً:
-هه، لأ مخدتش بالي!
هتفت أروى صائحة بحماس: -هاروح أشوفها أنا!

ابتسمت لها نيرمين بتكلف: -خليكي يا حبيبتي، أنا رايحلها، تلاقيها بس جاعت ولا حاجة!
نهضت عن الطاولة مبعدة مقعدها للخلف، ثم حدقت في اتجاه منذر علها تمتع نفسها بنظرات أخرى منه، لكن حل الوجوم على قسماتها حينما لم تجد متوجداً معهم.
عبست بوجهها، وتحركت نحو غرفة الضيوف حيث رضيعتها الغافية على الأريكة هناك.
تسمرت قدماها على عتبة الباب حينما رأت منذر حاملاً إياها بين ذراعيه يهدهدها بحنان كبير.

زاد لمعان عينيها، وأخرجت تنهيدة عميقة من صدرها.
التفت منذر ناحيتها قائلاً بصوت آجش: -سمعتها وهي بتعيط فصعبت عليا
ابتسمت قائلة بحماس: -كتر خيرك يا سي منذر، تعبتك معايا!
رد عليها بإقتضاب: -عادي ولا يهمك!
دنت منه لتلتقط رضيعتها، فتعمدت أن تلمس كفي يده وهي تأخذها هاتفة بسعادة: -يا بختها، سي منذر بنفسه بيسكتها!
استشعر الحرج من ذلك، وتنحنح قائلاً بخشونة: -ربنا يخليهالك!

تحرك سريعاً للخارج دون أن يضيف المزيد، فهو لا يحبذ تلك النوعية من المواقف الغير مريحة بالمرة.
وضع يديه على جيبي بنطاله ليتفقد هاتفه المحمول، فتذكر أنه تركه بغرفته، فاتجه نحوها بخطوات ثابتة.
تابعته نيرمين بنظراتها الشغوفة، وهمست لنفسها بتمني: -مش كنت انت تبقى أبوها!
شرد لأكثر من مرة وهو يصنفر ذلك اللوح الخشبي فبدا عمله غير متقن.

اقترب منه الحاج زقزوق معنفاً إياه بغلظة: -مش تركز يا واد، الشغل هيبوظ منك!
انتبه لصوته الصبي حسن، ورد عليه بضجر: -معلش يا معلم، دماغي مش فيا خالص، حقك عليا!
سأله الحاج زقزوق بعدم اقتناع: -ليه يا فالح؟
ابتلع حسن ريقه وهو يجيبه بتلعثم: -أصل آآ. أصل حصل موضوع كده وآآ.
نظر له الأخير بتفرس وهو يسأله بجدية: -في ايه يا حسن؟ ما تقول على طول؟
رد عليه بنبرة متوجسة: -عارف الست صاحبة الدكان القديم اللي جتلنا هنا!

أومأ الحاج زقزوق متساءلاً: -اه مالها؟
أجابه بنبرة قلقة: -الظاهر اشتبكت مع الريس منذر وهو آآآ..
ارتفع حاجبي الحاج زقزوق للأعلى هاتفاً بتوجس: -بتقول الريس منذر؟
هز الصبي رأسه بإيماءة قوية وهو يتابع: -ايوه، وهو حبسها في الدكان وآآ.
رفع الحاج زقزوق كفه أمام وجهه صائحاً بصوت آمر: -مالناش دعوة!
تبدلت تعابير الصبي للخوف وهو يردد بتوتر: -بس حرام، دي طيبة وغلبانة يا معلم، يعني آآ..

قاطعه الحاج زقزوق بجدية وهو يشير بسبابته محذراً: -طيبة ولا مسكينة وفي حالها، ده يخصها هي، واد يا حسن، أنا مش ناقص أعلق مع الريس منذر وعيلته، خلينا في حالنا، هو حر يعمل اللي هو عاوزه! وركز انت في شغلك!
ملت من إنتظارها الذي طال وهي تترقب عودته إليها، جابت بأنظارها من حولها بتوتر بائن على تعابير وجهها، تأخر الوقت كثيراً، وهي مضطرة للعودة إلى المنزل.

هبت واقفة من مقعدها محدثة نفسها بضجر: -شكله نساني، هاروح أسأل بنفسي جوا!
تحركت للداخل عاقدة العزم على إنهاء الأمر بنفسها.
أوقفت أسيف أحد العساكر متساءلة بإرتباك: -لو سمحت أنا عاوزة اتنازل عن بلاغ عملته من بدري، أروح لمين؟
أشار لها العسكري بيده قائلاً بجدية: -الصول هناك أهوو، روحيله!
استدارت برأسها إلى حيث أشار، فرأت ذلك الصول الذي دون المحضر لها.
تهللت أساريرها المتشنجة، وهتفت ممتنة: -متشكرة!

أسرعت في خطاها نحوه هاتفة بإبتسامة باهتة: -من فضلك يا شاويش
حدق فيها الصول بنظرات جامدة وهو يسألها بجدية: -انتي تاني؟ عاوزة ايه؟
أجابته بصوت مرتبك وهي ترمش بعينيها: -أنا. انا جاية أتنازل عن البلاغ اللي عملته، ينفع؟
حدجها الصول بنظراته القوية قائلاً بجمود حاد: -ده مش لعب عيال يا ست!
ضغطت على شفتيها قائلة بتوتر: -معلش. أنا مش حابة أتهم حد مش متأكدة منه!

عبس الصول بوجهه وهو يصيح بضجر: -المحاضر مافيهاش معلش، ده ورق رسمي وشغل حكومة، يعني فيها بلاغ كاذب وحبس!
توترت من عبارته الأخيرة، وهتفت متوسلة بنظرات راجية: -الله يكرمك يا شاويش، أنا مش قصدي والله، بس مش عاوزة أظلمه!
على الجانب الأخر، رأها المخبر تحدث الصول المسئول عن تحرير المحاضر فتوجس خيفة مما قد تفعله.
تابع اتصاله الملح على منذر قائلاً لنفسه: -فينك بس يا ريسنا!

ولج إلى داخل غرفته باحثاً عن هاتفه المحمول الذي لم يتوقف عن الرنين.
وجده على التسريحة، فالتقطه بيده، وحدق في شاشته.
قرأ إسم المخبر صادحاً، فأجاب عليه تواً: -ألو
أتاه صوته المزعوج هاتفاً: -ريس منذر، الحمدلله إنك رديت
تجمدت تعابير وجهه وهو يتساءل بإهتمام: -خير في ايه؟
أجابه المخبر بجدية: -البت إياها يا ريس، اللي قدمت فيك البلاغ، موجودة من بدري في القسم، والظاهر كده عاوزة تشوف المحضر اتعمل فيه ايه.

احتدت نظرات منذر، وتصلبت قسماته وجهه إلى حد كبير.
رد عليه بصوت قاتم رغم هدوئه وقد ضاقت نظراته للغاية: -خليها تعمل اللي هي عاوزاه، وأنا هاتصرف معاها
أضاف المخبر قائلاً بحذر: -تمام يا ريسنا، أنا قولت أعرفك باللي حصل
رد عليه منذر بإقتضاب: -ماشي، روح شوف شغلك، ولو جد حاجة عرفني!
هتف المخبر بحماس: -انت تؤمر يا ريس!
أنهى منذر المكالمة معه، ثم نفخ بصوت مسموع مغتاظاً من عنادها الأحمق.

كور قبضة يده ضاغطاً على أصابعه وهو يحدث نفسه بنبرة محتقنة: -مابقاش ورايا إلا انتي وبس يا بنت رياض!
ذرع الرواق – ذو الإضاءة القوية – ذهاباً وإياباً وهو يضغط على رأسه بخوف كبير.
توقف عن الدوران، واستند بظهره على الحائط معلقاً أنظاره على ذلك الباب المتحرك.
أغمض عيناه بصعوبة معيداً في ذاكرته مشهد رؤيتها غارقة في دمائها بعد إعتدائه الوحشي عليها.
فتح جفناه سريعاً، وزفر بقلق فاركاً وجهه بعصبية.

التفت برأسه للجانب الأخر حينما سمع صوتاً مألوفاً يناديه: -مازن!
ارتسمت علامات الإندهاش على محياه عندما رأى أخاه الأكبر متواجداً مع أبيه.
سار ناحيته هاتفاً بعدم تصديق: -مجد! حمدلله على سلامتك، كفارة يا أخويا
احتضنه أخاه بذراعيه مرحباً به، وربت على ظهره قائلاً بصوت آجش: -الله يسلمك
ثم تراجع للخلف ليرمقه بنظرات غريبة وهو يقول: -اجمد ياض في ايه؟ إنت هاتعيط!

ضغط مازن على شفتيه محاولاً السيطرة على توتره المفرط، بينما تابع مجد حديثه الجامد:
-هي مراتك أول واحدة تتعب، مافي نسوان كتير زيها!
نظر له مازن بنظرات زائغة وقد بدا غير طبيعي بالمرة.
تساءل مهدي بقلق: -ايه اللي حصل يا مازن؟ أنا مفهمتش منك حاجة في التليفون!
أجابه ابنه بإرتباك كبير: -أنا معرفش عملت كده إزاي، بس. بس والله غصب عني، هي اللي عصبتني!

اتسعت مقلتي مهدي بتوجس بائن، وهتف صائحاً بنفاذ صبر: -ما تنطق، عملت ايه معاها؟
سرد مازن على عجالة ما دار مع زوجته، وما إرتكبه من تهور طائش قد أدى إلى حدوث نزيف دموي لها.
زاد الوجوم على وجه مهدي وهو يصيح مستنكراً: -الله يخربيتك! إنت عملت مصيبة ووقعتنا مع شادية! امتى بس هاتفكر بعقل وترحمنا من بلاويك!
رد عليه مازن بتبرم: -جرى ايه يا حاج، ده وقت تقطيم!

أضاف مجد قائلاً ببرود وقد بدا غير متأثر بما صار لزوجة أخيه: -بالراحة يا أبا عليه، مراته وبيعلمها الأدب، مغلطش يعني! حقه!
نظر له مهدي شزراً، وهتف بحدة: -اسكت انت يا مجد، أخوك مش ناوي يجيبها لبر أبداً!
ابتلع مازن ريقه متمتماً بخفوت: -ربنا يستر بس وما يتفتحش سين وجيم في الموضوع ده، أنا خايف من كده!
حذره أخاه بجدية صارمة: -اياك تنطق بحرف، خليك على وضعك!

أضاف والده بتوجس: -أنا هاكلم المحامي وأشوف هايقولي ايه
في تلك اللحظة خرجت الطبيبة من داخل غرفة العمليات ممررة أنظارها على ثلاثتهم وهي تقول بنبرة عملية:
-حضراتكم قرايب المدام
رد عليه مازن بإيماءة واضحة وهو يقترب منها: -أيوه، أنا. أنا جوزها!
ضغطت الطبيبة على شفتيها قائلة بحزن مصطنع: -للأسف ملحقناش الجنين، المدام أجهضت!
حدق فيها مازن بجمود وهو يقول بصدمة: -يعني. يعني الواد نزل.

حاوط مهدي ابنه من كتفه، ووقف مجد إلى جواره.
بينما تابعت الطبيبة قائلة بصعوبة: -ايوه، وللأسف صعب المدام تحمل تاني، حصل تهتك في جدار الرحم، واضطرينا نستأصل جزء منه!
حلت الصدمة على أوجه الجميع عقب تلك العبارة المفجعة. ولم يصغ ثلاثتهم إلى تبريرات الطبيبة الطبية لأسباب تدخلها الجراحي، فقد كان عقلهم مشغولاً بتبعات ما سيحدث لاحقاً. خاصة مازن.
تنهدت بإرهاق وهي تسير بخطى بطيئة عائدة إلى المنزل.

لم تظن أنها ستتمكن من إقناع الصول بالتراجع عن المحضر دون التسبب في أذى لها.
وضعت يدها على عنقها تفركه بحركة خفيفة، وتحركت بثبات نحو مدخل البناية.
دوماً كانت تتحشى النظر إلى تلك البقعة تحديداً.
لا يزال أثرها الجاف باقياً رغم مرور فترة على حادثة موتها.
شعرت بغصة قوية في قلبها، وأدمعت عيناها تأثراً بذكراها التي لم تفارقها.
أغمضت عيناها مانعة نفسها من البكاء وهي تسرع في خطواتها نحو الدرج.

تنفست بعمق وأخرجت من صدرها تنهيدة تحمل الكثير مما في صدرها.
وصلت إلى الطابق المتواجد به منزل عمتها، ودقت الباب عدة مرات منتظرة فتحه.
مرت عدة لحظات دون أن يأتيها أي رد من الداخل.
مالت برأسها عليه، ودقت مرة أخرى بعد أن قرعت الجرس.
مازال الصمت هو سيد الموقف.
انتابها القلق، وتساءلت مع نفسها بحيرة: -مش معقول يكونوا ناموا! شكلهم مش في البيت!

عضت على أناملها تفكر في سبب غياب عمتها وابنتيها عن المنزل. ثم تلفتت حولها بنظرات حائرة تفكر فيما ستفعله ريثما يعدن من الخارج.
تنهدت بتعب وقررت الجلوس على الدرج.
إستندت برأسها على مرفقها، وأخذت تفرك بيدها جبينها.
كان اليوم ثقيلاً عليها محملاً بالكثير من الأحداث.
انتفضت في مكانها مذعورة حينما سمعت صوت باب ما يفتح فجأة.
هبت من مكانها واقفة، وأمسكت بالدرابزون لتنظر إلى الأسفل.

رأت إحدى الجارات وهي تلج من منزلها لتنفض إحدى السجاجيد.
رفعت الجارة خضرة بصرها للأعلى لتجد تلك الشابة محدقة بها.
رسمت على ثغرها ابتسامة ودودة وهي تهتف قائلة: -ازيك يا بنتي، عاملة ايه دلوقتي؟
ردت عليها أسيف بإبتسامة باهتة: -الحمدلله!
تابعت الجارة خضرة قائلة بحماس: -أنا دايماً بسأل عليكي عمتك، وهي بتطمني عليكي
ردت عليها أسيف بإيجاز: -الله يكرمك.

حافظت خضرة على ابتسامتها العريضة وهي تضيف: -ماشاء الله، شكلك اتحسن عن الأول، أنا جيت أشوفك أيام عزا المرحومة أمك، بس انتي يا حبة عيني مخدتيش بالك مني!
ضغطت أسيف على شفتيها مرددة بهدوء: -معلش!
سألتها خضرة بفضول وهي تعقد ما بين حاجبيها: -انتي واقفة كده ليه صحيح؟
أشارت أسيف بسبابتها للخلف وهي تجيبها بعفوية: -محدش موجود جوا.

وضعت خضرة إصبعيها على طرف ذقنها قائلة بإستنكار: -ايه ده، هي لسه عمتك مجاتش من عند الست جليلة؟
تفاجئت أسيف مما قالته، فهي لم تتوقع قيام عمتها بتلك الزيارة الغريبة خاصة بعد الخلافات التي سادت مع عائلة منذر..
أكملت خضرة حديثها موضحة بسجيتها: -أصلها كانت رايحة عندهم من بدري، انتي عارفة بقى هما معارف في بعض!

ابتسمت بتكلف وهي تقول بود: -بس زمانتها على وصول، تعالي عندي يا بنتي شوية بدل ما تفضلي على السلم كده!
ردت عليها أسيف بتجهم قليل: -كتر خيرك، أنا هستناها هنا!
استنكرت خضرة رفضها قائلة بإصرار: -مايصحش، ده انا زي خالتك، تعالي يا حبيتي!
هزت أسيف رأسها نافية وهي تصر على رأيها: -شكراً، أنا مش عاوزة أضايق حضرتك!
ردت عليها خضرة بعبوس: -مضايقة ايه بس، ده احنا كلنا جيران وعيلة!

ابتسمت لها أسيف قائلة بتهذيب: -الله يكرمك يا رب
تابعت خضرة حديثها الجدي هاتفة: -بالحق عاوزاكي تقولي لعمتك حاجة لأحسن نسيت أقولهالها!
نظرت لها أسيف قائلة بإهتمام: -اتفضلي
أوضحت خضرة غرضها مشيرة بيدها: -في مشتري لعفش نيرمين اللي متساب في الحوش، واحد ابن حلال عاوز يشتريه بسعر كويس!
بدت أسيف متفاجئة إلى حد كبير بعد جملتها تلك، ورددت بصدمة ملحوظة: -عفش نيرمين!

تردد خضرة في إخبارها أن ذلك الأثاث هو المتسبب في وفاة والدتها. ورغم ذلك ردت بإرتباك قليل:
-ايوه، اللي آآ. يعني وقع على المرحومة، ماهو كان محطوط تحت وقت اللي حصل، ربنا يرحمها!
حل الوجوم المصحوب بالذهول التام على تعابير وجهها.

فوقت حدوث تلك الفاجعة لم تتقبل أسيف بسهولة ما أصاب أمها الحبيبة. ولم يأتِ بمخيلتها مطلقاً أن يكون المتسبب في مقتل غاليتها هو أثاث تلك الجاحدة التي تعاملها بسوء من أول لحظة رأتها فيها.
بل لم تعوضها بعد ذلك عن هذا، واستمرت في الإساءة إليها وإهانتها بشتى الطرق.
أظلمت نظراتها، وغلت الدماء في عروقها.
تهدجت أنفاسها، وتشنج جسدها، ثم صاحت متسائلة بنبرة تحولت للإحتقان: -بتقولي ايه؟ هو كان. عفش نيرمين..؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة