قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الحادي والأربعون

تجمدت لوهلة في مكانها محاولة استيعاب الأمر من كافة الزوايا والاتجاهات فتحول صوت تلك الجارة تلقائياً إلى الصمت رغم تحرك شفتيها
بدت كالصنم وهي تستعيد شريط ذكرياتها سريعاً..
وفاة والدها الذي أحبته حباً جماً، وصدمتها الكبرى لرحيله المفاجيء.
رغبتها في زيارة عمتها والتودد إليها لتعيد صلة الرحمة وحبائل الود مع عائلتها بعد تلك القطيعة التي دامت لسنوات.
ما تلاها من إلحاحها على والدتها في السعي لعلاجها.

ثم إستجابة أمها المتوفاة لرجائها، وذهابهما للمشفى.
وهناك تلقت صدمة أخرى في عدم وجود علاج مناسب لحالتها اليائسة.
ورغم ذلك لم تستسلم، وتعهدت لها بالبحث عن مركز أخر أكثر تخصصاً.
لبت أمها رغبتها في مقابلة عمتها، وتوجهت معها إلى منزلها حيث قدرها المحتوم.
تركتها بالأسفل لتصعد بشغف لرؤيتها لكن في لحظة واحدة إنهار كل شيء، وتبخرت الآمال، وتحولت حياتها إلى معاناة لا تنتهي..
-انتي كويسة يا بنتي؟

أفاقت من شرودها الجامد على صوت الجارة خضرة التي وضعت كفها على ذراعها لتهزها قليلاً بعد أن لاحظت الوجوم الذي حل عليها.
ضاقت نظرات أسيف، واكتفت برمقها بنظرات أخيرة غير مفهومة بالنسبة لها قبل أن تتركها وتكمل هبوطها على الدرج.
أصبحت متخبطة للغاية في أفكارها، مشاعرها غير مرتبة، مزيج بين الغضب والحنق.
هي أتت إلى هنا بدافع القرابة وصلة الرحم، وفي المقابل تعرضت للمهانة والإساءة وخسارة الأعز إلى قلبها.

وصلت إلى المدخل حيث الأثاث الموثوق.
نظرت إليه بأعين حمراء مليئة بالحنق والضيق.
ضغطت على شفتيها بقوة، وقاومت تلك الرغبة التي تعتريها لتحطيمه.
ظنت أنها تخطت تلك المرحلة الآليمة من حياتها، لكن تعود ذكراها الموجعة دوماً إليها لتنغص عليها هدوئها المؤقت.
شعرت بالإختناق، بعدم قدرتها على التنفس بصورة طبيعية، فركضت خارجة من البناية وهي تنتوي تنفيث تلك الشحنة المتأججة بداخلها.

هي عقدت العزم على الذهاب إلى حيث تتواجد عمتها الآن، عليها أن تتواجه معها، وتضع الأمور في نصابها الصحيح.
وقفت للحظات في مكانها حائرة، هي لا تذكر الطريق إلى منزل عائلة حرب، فسألت المارة عن عنوانهم، وبالطبع لم تحتاج إلى أي مجهود للوصول إليهم، فمكانهم معروف للجميع.
انتهى الجميع من تناول الطعام، فنهضت نيرمين أولاً لتجمع الصحون المتسخة عن الطاولة. انزعجت جليلة من تصرفها قائلة بحرج وهي تشير بيدها:.

-اقعدي يا بنتي، مايصحش كده
ردت عليها نيرمين بحياء زائف: -ودي تيجي بردك يا خالتي، كتر خيرك تعبناكي معانا
أضاف الحاج طه قائلاً بإعجاب من تصرفات نيرمين: -ماشاء الله عليكي، عرفتي تربي يا عواطف!
ردت عليه عواطف بإبتسامة لبقة: -الله يكرمك يا حاج طه!
وقفت بسمة هي الأخرى في مكانها، ورصت الأطباق الفارغة فوق بعضها البعض وقربتهم من أختها. ثم تحركت للجانب قليلاً.

اقترب منها دياب بحرص وهو يداعب رأس ابنه الصغير، ثم همس لها بصوت التقطته أذنيها:
-طبعاً إنتي معفية من الخدمة
رفعت عيناها لتنظر إليه بجمود وهي ترد بإرهاق: -كفاية عليا اللي بأشوفه في المدرسة
مط فمه مبتسماً، ثم تابع بصوت خافت: -لأ ولسه اللي هاتشوفيه معانا هنا!
لم تفهم المقصد من جملته الغامضة تلك. لكن نظراته نحوها أزعجتها إلى حد ما.

هي مدينة له بمعروفه معها، ولم تنكر هذا، لكن هذا لا يعطيه الحق للتدخل في شئونها أو فيما يتعلق بعملها.
لم يضف المزيد وتركها وانصرف مع صغيره للداخل.
وضعت نيرمين الصحون بالمطبخ، ورفضت جليلة بشدة أن تقوم بغسلها.
أبعدت يديها عن المرحاض قائلة بنبرة محتجة: -والله ما يحصل، ده انتي ضيفتي
ردت عليها نيرمين بإلحاح: -ده أنا في بيت خالتي، يعني مش حد غريب!

ابتسمت لها جليلة بود وهي تربت على كتفها: -تسلمي يا حبيبتي، روحي بس نشفي ايدك وشوفي بنتك
تمنت نيرمين لو رأت غرفة منذر من الداخل، لكن بالطبع تنفيذ تلك الرغبة بالأمر اليسير، ومع ذلك لن تيأس من محاولة عرض المسألة بصورة طبيعية. لذلك تحججت قائلة بحرج مصطنع وهي تخفض رأسها للأسفل:
-طب ينفع يا خالتي أخش أي أوضة كده لأحسن الحمام مشغول، و. آآ. يعني عاوزة أساوي هدومي وأغير لبنتي وآآ.

برقت عيناي جليلة بوميض عجيب، وفكرت هي أيضاً في استغلال الموقف لصالحها، وجعلها ترى غرفة منذر، فهي تود أن تقرب بين الاثنين بصورة أو بأخرى.
هزت رأسها بإيماءة كبيرة وهي تقول بإبتسامتها العريضة: -اه يا حبيبتي، وماله، ايه رأيك في أوضة منذر؟ هو زمانته لبس! وهي تلاقيها فاضية!
تقوس فم نيرمين بإبتسامة عابثة، واعترضت بصوت خفيض: -لا مافيش داعي، خليه على راحته
تأبطت جليلة في ذراعها قائلة بإلحاح: -لالالا، تعالي.!

قاومت نيرمين رغبة عارفة في الرقص طرباً لتحقيق حلمها. وسارت ببطء متعمد لتظهر حرجها من الموقف برمته.
اقترب من مكتب الصول المسئول عن تسجيل المحاضر، ووضع أمامه زجاجة مشروب بارد، ثم استطرد حديثه متساءلاً بمكر:
-ايه أخبار المحاضر يا شاويشنا؟
نزع الغطاء عن الزجاجة، وارتشف محتوياتها دفعة واحدة، ثم تجشأ قائلاً: -زي كل يوم، فلان ضرب، وعلان شتم، وده سرق، يعني تشكيلة محترمة!

هز المخبر رأسه بتفهم وهو يضيف: -أها. مافيش راحة خالص!
رد عليه الصول قائلاً بنبرة منهكة: -ايوه، طالع عيني من الصبح!
حك المخبر جبينه بأظافره المتسخة قائلاً بلؤم: -على كده كان في واحدة معرفة المدام شوفتها هنا، كانت جاية تسأل عن محضر
ضيق الصول نظراته إلى حد ما وهو يسأله بإهتمام: -واحدة مين دي؟
فرك المخبر طرف ذقنه بيده وهو يجيبه بفتور: -هي اسمها أسيف، بتقول حد سرقها!

حرك الصول رأسه بإيماءة واضحة وهو يقول: -أها. افتكرتها البت دي، ماهي اتنازلت عن المحضر خلاص!
ارتسمت علامات الذهول على وجهه، وهتف بنزق: -اتنازلت؟ انت بتكلم جد؟
تابع الصول موضحاً وهو يمسح أسنانه بلسانه: -ايوه، باينه بلاغ كيدي وخافت لأتقع في مشاكل، وفضلت تسترجاني عشان آآ..
شرد المخبر في تفكيره، ولم ينتبه لباقي حديثه الغير مهم، وحدث نفسه قائلاً.

-يا بنت اللذينة، وأل أنا اللي كنت مفكرها جاية تسأل عنه، أما أتصل بالريس منذر أبلغه بده!
ابتسم إبتسامة صفراء، وأردف قائلاً بتثاؤب وهو يلوح له بيده: -طب يا شاويشنا، الله يعينك، هاروح أنا أشوف اللي ورايا
رد عليه الأخير بإقتضاب: -ماشي!
ولجت نيرمين إلى داخل غرفة منذر حاملة رضيعتها على كتفها.
أوصدت الباب خلفها، وتأملت المكان بنظرات مطولة.
تنهدت بعمق وهي تمرر أنظارها على متعلقاته الشخصية.

برفق شديد أسندت ابنتها على الفراش، ثم اعتدلت في وقفتها واضعة يديها على منتصف خصرها.
تلفتت حولها بنظرات شمولية ممتعة عينيها بكل ما يخصه.
بدا الإعجاب ظاهراً على محياها وهي تقول لنفسها: -يا سلام لو كانت دي أوضتي!
اقتربت من خزانة ملابسه، وفتحت ضلفته بهدوء لتتفقد محتوياتها
تحسست ملمس ثيابه بأناملها، وقربت إحداهم من أنفها لتشم رائحتها، ثم أعادتها إلى مكانها، وأغلقت الضلفة بحذر.

انتفضت في مكانها مفزوعة حينما رأته يفتح الباب على حين غرة.
تفاجيء منذر بوجودها، وأخفض نظراته قائلاً بعبوس: -لا مؤاخذة، مكونتش أعرف إنك لسه هنا، أمي قالتلي إن الأوضة فاضية
تنحنحت بخفوت وهي ترد بتلعثم: -م. معلش، كنت ب. بأدور على مناديل، اه مناديل لبنتي!
أشار لها بعينين جامدتين نحو المرآة قائلاً: -هناك على التسريحة!
ابتسمت قائلة بحماس: -أها، تسلم، ومتشكرين على العزومة، دايماً عامر يا رب.

استدار للجانب ليستند بمرفقه على مقبض الباب، ورد عليها بإقتضاب وهو يحك طرف أنفه:
-العفو!
دنت من الفراش مجدداً، ومسحت وجه رضيعتها بالمنشفة الورقية قائلة بنعومة: -أنا خلصت خلاص، معلش عطلتك يا سي منذر
رد عليها بحذر وهو قاطب جبينه: -خدي راحتك!
ثم اتجه للخارج محدثاً نفسه بإمتعاض: -مش عارف دماغك بتفكر إزاي يا حاجة جليلة!

وصلت إلى المشفى غير مصدقة تلك المكالمة الهاتفية التي تلقتها من الحاج مهدي يبلغها فيها أن ابنتها في العناية المركزة تعاني من فقدان جنينها، ومن انتقاص أنوثتها.
حدقت في أوجه ثلاثتهم بنظرات مشتعلة صارخة فيهم بهياج: -مش هاسيب حق بنتي، هادفعك التمن يا مازن
رد عليها مهدي بتوجس: -بالراحة يا شادية، الأمور ماتتخدتش قفش كده!
التفتت ناحيته صائحة بصوت هادر متعصب: -بقى حياة بنتي بالساهل عندكم؟

ثم استدارت ناحية مازن لتوجه تهديدها الصريح له قائلة: -هاتشوف أنا هاعمل ايه فيك، هادخلك السجن، هاعلقك على المشنقة
نظر لها مازن بخوف بائن. ولم يعلق على تهديداتها العنيفة.
انزعج مجد من ثورتها الهائجة وظل يطالعها بنظرات خاوية.
توسلها مهدي بتوتر ظاهر في نبرته: -يا شادية اهدي، كل حاجة وليها حل، بس آآآ..
قاطعته بإنفعال جلي ملوحة بذراعها في الهواء: -حل بعد ما ضيع ابنك بنتي!

في تلك اللحظة تدخل مجد في الحوار قائلاً بصوته الخشن: -شوفي يا حاجة شادية، شكلك نسيتي انتي بتتعاملي مع مين
التفتت ناحيته، وانفرجت شفتاها لتتفوه بشيء ما لكن أخرسها مجد قائلاً بشراسة مشيراً بسبابته:
-وقبل ما تفتحي بؤك وتنطقي بحرف زيادة اسمعيني للأخر!
توجس والده خيفة من تطور الأمر للأسوأ، فأردف قائلاً بتحذير: -بالراحة يا مجد.

رد عليه ابنه البكري بتهكم دون أن يحيد بنظراته الحادة عن وجه شادية: -ده أنا واخدها على حجري خالص!
استشاطت هي من استهانته بما صار لابنتها واستخفافه بالأمر، فصاحت بصوت متشنج
-فكرك بالزعيق ده هاخاف منك يا مجد! يبقى انت متعرفنيش كويس!
رد عليها بنبرة غير مبالية وهو يبتسم بإستخفاف: -الزعيق والصويت سايبينوه للنسوان!
احتدت نظراتها، واصطبغ وجهها بحمرة مغلولة.

تابع هو قائلاً ببرود مهدد: -بس خدي عندك بلاغ شرف هانقدمه في القسم ضد المحروسة بنتك!
اتسعت عيناها بإندهاش مريب، وهتفت مصدومة: -ايه؟
تفاجيء مهدي بما صرحه ابنه، وابتلع ريقه بقلق. بينما تجمدت تعابير وجه مازن وبدا مشدوهاً بما يحدث من حوله عاجزاً عن فهم أي شيء.
أوضح مجد مقصده قائلاً بنبرة جافة: -جوزها راجع يا عيني من شغله بعد تعب وشقا طول اليوم، قام ايه لاقاها في السرير في بيته مع عشيقها، ودول يا مكترهم!

برزت عروق جبين شادية بوضوح، وصرخت مستنكرة إتهامه الباطل: -انت انسان قذر و..! أنا ورايا رجالة وصعايدة ياكلوا لحمك ني لو فكرت تفتري على بنتي!
فغر مجد فمه لتظهر ابتسامة واثقة مغترة وهو يرد بهدوء مريب: -هاتيهم، يا مراحب بالضيوف، بس تفتكري هايصدقوكي، جوزها دمه حامي، ماستحملش يشوفها في حضن واحد تاني! فاتعامل معاها، وكله بالقانون!

ثم مال برأسه ناحيتها ليضيف بنبرة دنيئة وهو يغمز لها: -ده بالعكس يمكن يدبحوها ويغسلوا عارهم! يا حرام، كله إلا الشرف!
دفعته من كتفه بعنف قائلة بعصبية: -إنت شيطان!
هز رأسه مستنكراً عبارتها، وصحح لها قائلاً ببرود: -لأ عندك، ده الشيطان تلميذي!
صُدم مهدي في تفكير ابنه الذي تبدل كثيراً للعدائية المفرطة، بل وأصبح أكثر سوءاً، وخطورة على من حوله.

أكمل مجد حديثه بصوتٍ آجش: -وعشان نكون حقانيين بنتك هتاخد حقها، وهنديها فلوس تعويض، مليون جنية كاش!
وكأنه يعرف جيداً من أين تؤكل الكتف، فضغط بكلماته المنتقاة على وترها الحساس، فشهقت بعدم تصديق بعد أن ارتفع حاجباها للأعلى:
-م. مليون جنية!
تفاجيء مازن من عرض أخيه الصادم، ورد مستنكراً حجم المبلغ النقدي الضخم: -ايييه، ليه يعني؟
التفت مجد ناحيته، وحدجه بنظرات قوية محذراً: -ششش، اسكت انت!

لم يستطع الحاج مهدي أن يفهم فيما يفكر ابنه تحديداً، لكن على الأرجح هو يحاول شراء صمت شادية وابنتها بالأموال ليضمن سلامة أخيه الأصغر وعدم تعرضه للمساءلة القانونية.
أفاقت شادية من ذهولها المؤقت، وترددت للحظة في قبول عرضه،
ابتلعت ريقها بتوتر، وصاحت رافضة رغم تخبط فكرها: -عاوزني أبيع بنتي؟
صحح لها قائلاً بجمود: -مش بيع، ده تعويض، مليون جنية عداً ونقداً، وانتي اختاري! الفلوس أو سمعة بنتك!

نظرت إليه بحيرة عاجزة عن الرد عليه في الوقت الحالي، لكن في الأخير عليها أن تقرر أيهما ستختار.
تأكد مجد من نظراتها تلك أنه أصابها في مقتل، وسترجح الكفة لصالحه. فهو يفهم جيداً في تلك النوعية من النساء العاشقات للمال.
التوى فمه بإبتسامة ماجنة لم يبذل جهداً في إخفائها.
دون عناء يذكر، وصلت أسيف إلى بنايتهم.

استندت بكف يدها على إحدى اللوحات الإعلانية على الرصيف المقابل لها، ثم رفعت أنظارها للأعلى لتحدق بالشرفات المتعددة وهي تنهج بشدة.
كان متحفزة للغاية، تنتوي أن ترد الإساءة التي لحقت بها وتقتص لحق والدتها.
في نفس التوقيت استعدت عواطف وابنتيها للرحيل.
احتضنت جليلة نيرمين بذراعيها، وقبلتها من وجنتيها مودعة إياها بحزن مصطنع: -والله كان نفسي تقعدوا أكتر من كده.

ردت عليها الأخيرة بضجر قليل: -تتعوض يا خالتي تاني، دي زيارة مش محسوبة!
هتفت عواطف قائلة بإمتنان: -تسلموا على تعبكم معانا طول اليوم
ردت عليها جليلة بعتاب وهي تعبس بوجهها: -تعب ايه بس، ده البيت نور بيكم!
أضاف الحاج طه قائلاً بجدية: -روح يا منذر وصل الجماعة!
رد عليه بهدء: -أكيد هاعمل ده، مش هانسيبهم يروحوا لوحدهم!
ردت عليه نيرمين بإبتسامة رقيقة وهي ترمش بعينيها: -ربنا يخليك لينا يا سي منذر!

ودعت جليلة بسمة قائلة بتأكيد: -هستناكي تيجي للدرس، العيال مابيفهموش إلا منك!
ابتسمت لها بسمة بتكلف وهي تقول: -إن شاء الله
هتف دياب قائلاً بصوت مرتفع مشيراً بذراعه: -أنا نازل معاك يا منذر، هاروح الوكالة شوية
التفتت بسمة ناحيته، ونظرت له بغرابة، ثم ضغطت على شفتيها لتتمتم بكلمات مبهمة لم يستطع هو فهمها.

خرجت نيرمين من المنزل متعجلة في خطواتها لتلحق بمنذر الذي سبقها نازلاً على الدرج بخطوات سريعة نسبياً من أجل تجهيز سيارته لإيصال عائلة عواطف.
في نفس اللحظة كانت أسيف ممسكة بالدرابزون ومتأهبة للصعود عليه.
تجمدت قدماها في مكانها حينما رأته مقبلاً عليها، بينما تفاجيء منذر من وجودها أمامه.
لم يختلف حالها كثيراً عنه.
هتف متساءلاً بتوجس جاد: -انتي؟ في حاجة حصلت؟

ضاقت نظراتها نحوه، لكنها تحولت للإحتقان عندما وقعت عيناها على صاحبة الطيف الذي ظهر من خلفه.
تجهم وجه نيرمين بشدة، وأظلمت عيناها لمجرد رؤيتها لتلك التعيسة أمامها، فهتفت بنزق:
-جاية ليه؟ في نصيبة تانية عملتيها؟
تفاجيء منذر من سؤالها القاسي، ورمقها بنظرات متعجبة.
تداركت الأخيرة الموقف قبل أن يعتقد فيها السوء، وتفسد أحلامها تماماً، فتابعت مصححة:.

-جاية تأذي ولاد الأصول اللي مادين ايدهم لينا وبيساعدونا؟ مش قادرة تحسي بتعبهم عشانا؟
لم تتحمل أسيف حماقاتها، فصاحت بها بصوت متشنج: -انتي مجرمة، عارفة ده ولا لأ؟
اندهش منذر من جملتها المهينة، وتساءل بعدم فهم موزعاً نظراته بينهما: -هو في ايه حصل بينكم؟
تجاهلت أسيف سؤاله، وانفعلت قائلة: -كنتي عارفة إنها ماتت بسبب عفشك ورغم كده بهدلتيني!

شهقت نيرمين متعمدة صدمتها، ووضعت يدها على فمها قائلة بإستنكار: -أنا؟ حرام عليكي، ايه الافترا ده؟ أنا غلبانة! ده نصيبها
تابعت أسيف قائلة بصوت شبه مختنق: -و بدل ما تطبطبي عليا، وتخديني في حضنك عاملتني معاملة زفت، وكرهتيني في كل حاجة، مكانش في قلبك ذرة شفقة ليا!
إدعت نيرمين ذرفها للعبرات، وأشارت بيدها وهي توجه حديثها لمنذر: -ليه بتكدبي؟ شايف الظلم بعينك يا سي منذر!

استنكرت أسيف كذبها الغير مقنع، وصاحت بعصبية وقد تلون وجهها بحمرة غاضبة: -استحالة تكوني زي البشر، إنتي واحدة معندكيش رحمة، عمرك ما اتعاطفتي معايا، جاية دلوقتي تعيطي؟
لم تجب عليها نيرمين، بل تعمدت توجيه حديثها لمنذر هاتفة بصوت شبه باكي: -أنا ماليش ذنب، شايف يا سي منذر بتتهمني بإيه!

واصلت نواحها الزائف وهي تهدهد رضيعتها قائلة: -طب أنا هاعمل ايه ان كنت مظلومة، والدنيا جت عليا، أه ده عفشي، بس دي إرادة ربنا، عمرها! واحنا وقفنا جمبها، ده. ده أنا بأعتبرها زي أختي!
اقتربت منها أسيف صارخة بحنق: -كل اللي بتعمليه ده مش مصدقاه، دموع التماسيح دي ممكن تخدع أي حد إلا أنا!
بكت نيرمين بأنين مصطنع وهي تضيف: -حرام عليكي، طب حسي بالبت اللي على كتفي، هو أنا مش أم؟ ازاي تقولي عني كده.

اغتاظت أسيف من كذبها المقيت، فمدت يدها لتمسك بها من ذراعها، فصرخت الأخيرة مستغيثة وهي تتراجع للخلف بسرعة:
-حوشها عني يا سي منذر
اضطر هو أن يتدخل بينهما، ووقف حائلاً بجسده ليمنع وصولها إليه.
صاحت به أسيف بحدة: -ابعد عني، أنا ليا لي حساب معاها
رد عليها منذر بجمود: -مالكيش دعوة بيها.

هتفت نيرمين من وراءه بإستجداء وهي تضع يدها على كتفه: -احميني يا سي منذر! هي مدت ايدها عليا قبل كده، حتى إسأل أمي، وكانت هتدبحني، دي. دي مجنونة!
تعجب كثيراً مما سمعه، والتفت برأسه لينظر إلى أسيف بذهول تام.
هتفت هادرة بصوتها المهتاج: -أنا مش مجنونة، ويا ريتني أقدر أطولك!
شعر منذر أن الصراع بينهما قد تأجج وبلغ ذروته، فأراد أن يدير دفة المواجهة نحوه، فهتف ببرود متعمداً تشتيت انتباه أسيف:.

-مش تباركلينا، عمتك باعت حصتها في الدكان، وأنا اشتريت!
اتسعت عيناها الحمراوتين بصدمة جلية، وتراجعت خطوة للخلف غير مصدقة ما حدث.
ظلت أنظارها اللامعة بوميض الغضب متجمدة عليه.
فلم يمضِ سوى ساعات على مواجهتها معه، وها هو شرع في تنفيذ مخططه في الإستيلاء على دكانها.
شعرت بالسذاجة وبمدى حمق تفكيرها.
ظنت أنها بتنازلها عن المحضر ستؤجل انتقامه، بل ربما تثنيه عن هذا، لكنها كانت مخطئة.

إهتزازة قوية أثرت عليها، وجعلتها في حالة غير متزنة، إنه ذلك الشعور بالعجز والإحباط الذي يتملك منك ويقضي رويداً رويداً على روحك الحسية..
جاهدت أسيف لتتماسك أمامهما، وأشارت بسبابتها قائلة بنبرة منهزمة: -كلكم عاملين الفيلم ده عليا عشان الدكان، كلكم اتأمرتوا عليا؟
وضعت يدها المرتعشة على فمها لتمنع نفسها من البكاء وهي تتابع بإصرار حاد: -مش هاسيب الدكان بتاعي ليك ولا هاسيب حق أمي!

رد عليها منذر بجفاء وهو يرمقها بنظرات قاسية: -هو انتي بتتعاملي مع عصابة؟ دي اتفاقات!
بينما أضافت نيرمين بهدوء: -ده قضا ربنا، وعمرها خلص لحد كده، واحنا بندعيلها! فارضي بقى بنصيبك، والدكان كان هيتباع وحقك سي منذر هيدهولك وزيادة، فبلاش ظلم للناس!
التفت منذر برأسه نصف التفاتة لينظر لابنة عواطف بضيق. فرغم ما قالته إلا أنه لم يكن مقتنعاً ببكاءها المزيف، ولا بما تحاول إظهاره من مشاعر تعاطف ورفق.

استدار مجدداً ليحدق بأسيف حينما هتفت بصوتها المختنق: -أنا كل يوم بأتأكد إن جيتي هنا كانت غلط، إن بابا الله يرحمه كان عنده حق يبعدني عنكم!
في نفس الوقت، استمعت عواطف إلى أغلب المشاجرة المحتدة، لكن لبطيء خطواتها الهابطة على الدرج لم تتمكن من منع الإشتباك قبل أن يتطور للأسوأ.
صاحت بصوت يحمل بين طياته الرجاء وهي تنظر في اتجاه ابنة أخيها: -اهدي يا بنتي، والله ما لينا ذنب في اللي حصل!

ثم تحركت دافعة ابنتها للجانب لتتمكن من المرور وأكملت بصوت متأثر: -ده انتي غالية عليا، ويعلم ربنا أنا بأحبك أد ايه!
انزعجت نيرمين من تصرف والدتها معها، وبصعوبة بالغة سيطرت على نفسها لكي تبدو أكثر هدوئاً أمام من تبغضها.
التفتت أسيف نحو عمتها، وردت بمرارة: -أمي راحت ومعدتش راجعة تاني، أمي جت هنا عشان ترضيني، بس رمتني في النار معاكو!
هتفت عواطف بتوسل: -صدقيني يا أسيف آآ..

قاطعتها الأخيرة بصراخ منفعل: -أنا بأكرهكم كلكم، بأكره اللحظة اللي فكرت فيها أزوركم، بأكره نفسي عشان خليت ماما تيجي لقضاها هنا!
انهمرت عبرات عمتها متأثرة بحالتها النفسية المتدنية. وردت عليها بنبرة باكية: -متقوليش كده، ماتقطعيش قلبي بكلامك ده!
تابعت أسيف بصوت منتحب وهي تكفكف عبراتها التي تتسابق في النزول على وجنتيها: -كانت غلطة وهاصلحها، واستحالة. استحالة يجمعني بيكم بيت واحد!

ثم رمقت الجميع بنظرات مزدرية قبل أن توليهم ظهرها وتبتعد.
صعقت عواطف من قرارها بالرحيل المفاجيء وتركها لمنزلها، فصاحت بلا وعي: -رايحة فين يا أسيف؟ استني يا بنتي
التفتت برأسها مرة أخيرة وهي ترد بحدة: -رايحة في داهية، بس دكاني مش هافرط فيه!
شعرت عواطف بوخزة قوية في صدرها، فوضعت يدها عليه، وهتفت بنبرة ضعيفة نسبياً: -أسيف استني يا بنتي، ماتمشيش!

ثم استندت بيدها على الدرابزون، وقبضت عليه بكل قوة مانعة نفسها من السقوط، فقدماها لم تعد تستطيعا حملها.
رأى منذر حالة عواطف المقلقة، فأسرع في خطواته ليمنع أسيف من الخروج من مدخل البناية، وسد عليها الطريق بجسده قائلاً بقسوة:
-انتي رايحة فين؟
توقفت مجبرة عن سيرها حينما اعترض طريقها، وردت عليه بنبرة عصبية: -وإنت مالك، وسع من طريقي!

قست نظراته نحوها، وصاح بها بصوت متشنج وهو يشير بيده للخلف: -عاوزة تجيبي العار للعيلة دي؟
استنكرت جملته، وردت بإنفعال: -العار ده هما اللي جابوه لنفسهم، أنا أصلاً ماتشرفش أكون واحدة منهم، كفاية عليا اللي شوفته معاهم!
اغتاظ من حدة ردودها، فهتف بجمود وقد أظلمت نظراته: -بس احنا نتشرف بيهم، هما مننا!
نظرت له مطولاً بإزدراء بائن، ثم ردت بتهكم: -اصطفلوا في بعض! أنا مش من العيلة دي!

ثم أبعدت نظراتها متابعة بصوت شبه آمر: -من فضلك حاسب وخليني أعدي!
شعر منذر أنها تتعمد استثارة أعصابهم جميعاً، بل تسعى لإيصاله هو تحديداً لقمة غضبه بتجرأها الغير مكترث عليه. فهتف بنبرة جافة قاصداً استفزازها:
-قريبك كان عنده حق لما فكر يجوزك ويخلص منك، إنتي ماتستهليش إلا واحد زيه يعاملك باللي تستاهليه!
أدارت وجهها ناحيته، ولوحت بذراعها عالياً تهدده، ثم رمقته بنظرات نارية وهي تصيح فيه بصوت محتد:
-اخرس!

دقق النظر في قبضتها التي رفعتها أمام وجهه معتقداً أنها ستصفعه بها. فزاد هذا من شراسة تعابيره، ومن لهيب نظراته المستعرة بنيران الغضب.
لقد وصل الأمر بهما ليصبح على صفيح ساخن..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة