قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثاني والأربعون

ودعتها بود كبير لم تبذل جهداً في إخفائه عنها، وأطلت برأسها لترمقها بنظرات ذات مغزى قبل أن تحرك شفتيها لتنطق بجدية:
-هنستناكي يا بنتي!
لوحت لها بسمة بكفها قائلة بهدوء: -إن شاء الله!
كان دياب في إثرها، لكنه تعمد التَلَكُأ في خطواته كي يلحق بها فلا تسبقه.
رفع رأسه للأعلى لينظر ناحيتها لكنها لم تكن ناظرة إليه.
دقق النظر فيما هي محدقة فيه، فوقعت عيناه على تلك الزاوية المجمدة أنظارها عليها.

رأى في تعابير وجهها علامات النفور والإستنكار.
لم يحتاج للتخمين، هو فهم سبب شرودها العابس.
آلمه رؤيتها وهي تقبض على صدرها بكف يدها. فزفر بعمق.
اقترب منها قائلاً بصوت هاديء رغم إنزعاجه: -انسي اللي حصل وماتفكريش فيه تاني
التفتت نحوه فتابع محذراً: -حقك أنا جبته، وزي ما قولت فوق اعتبريه حرامي وخد جزاءه! كده أريح!

ابتلعت ريقها بمرارة، ولم تعقب عليه. وواصلت نزولها على الدرج لكن صوت الصراخ المنبعث من الأسفل جعلها تتسمر في مكانها لتتابع ما يحدث.
رفعت ذراعها في الهواء مستنكرة بشراسة إزدراءه منها، رمقها بطرف عينه بقسوة مهددة بعد أن ظن أنها تنتوي صفعه.
وقبل أن يهدر بها بعنف قد يهلك ما تبقى منها، انتبه لصوت الصراخ الآتي من الخلف.

استدار كلاهما ليحدقا في نيرمين التي جثت على ركبتيها أمام والدتها المسجاة على الأرضية صائحة بنبرة مستغيثة:
-امي. الحقني يا سي منذر!
تأهبت حواسه لرؤية عواطف على تلك الوضعية المريبة، وركض سريعاً نحوها محاولاً نجدتها وهو يقول:
-ست عواطف!
قفز قلب أسيف في قدميها هلعاً حينما رأتها منهارة أمامها، وهتفت بلا وعي: -عمتي!
عجزت عن التقدم للأمام. بقيت متسمرة في مكانها تطالعها بنظرات مذعورة.

ربما هي تحمل عمتها جزءاً مما حدث، لكنها لا تتمنى أبداً أن يصيبها السوء. فمن ذاق مرارة الفقد لا يرجو لغيره أن يعانيه.
جثى منذر على ركبته سريعاً أمامها، وحاول رفع رأسها عن الأرضية، وأسندها على ركبته، وجاهد ليرفع ثقل جسدها بعناية.
صرخت فيها نيرمين ببكاء حارق وهي تشيح بيدها: -هتموتيها وترتاحي، ده اللي نفسك فيه، انتي مش انسانة، انتي واحدة جاحدة ناكرة للجميل!
ارتجفت شفتي أسيف وهي ترد بخوف: -أنا!

واصلت نيرمين صياحها الهادر: -منك لله، منك لله!
التفت منذر ناحيتها قائلاً بغلظة: -اهدي يا نيرمين!
نظرت الأخيرة إليه بأعين دامعة، ورغم صعوبة الوضع إلا أنها كانت سعيدة بإهتمامه الشديد بها وبأمها.
نزلت بسمة ركوضاً على الدرج متساءلة بخوف: -في ايه؟
رأت والدتها غائبة عن الوعي، فشهقت مفزوعة: -ماما، حصلها ايه؟

مدت ذراعيها نحو والدتها محاولة ضمها إليها لكن دفعتها نيرمين للخلف قائلة بحنق: -هي السبب، هي اللي هاتموت أمنا!
رفعت بسمة عينيها نحو أسيف، وحدجتها بنظرات نارية مميتة صارخة بها بتهديد شديد اللهجة:
-لو جرالها حاجة مش هايكفيني فيها عمرك كله! هادبحك يا أسيف سمعاني، هادبحك!
جفل جسدها بإرتعاشة قوية، وتراجعت للخلف خوفاً من تكتلهم وتكالبهم عليها إن أصاب عمتها أي سوء.

وصل دياب هو الأخر إلى المدخل، وتفاجيء بما صار لعواطف، وقبل أن يتساءل هتف فيه أخاه بصرامة:
-تعالى يا دياب، اسند معايا نطلعها فوق!
مر الأخير من بين الأختين قائلاً بقلق: -حاسبوا شوية! مالها؟
هتفت بسمة بخوف كبير وهي ممسكة بكف أمها: -ردي يا ماما عليا!
أزاحها دياب للجانب مردداً بجدية: -اهدي شوية خلينا نتصرف معاها!

لم تستطع أسيف تحمل المشهد، فكتمت شهقاتها براحتي يدها، ثم أولتهم ظهرها، وركضت هاربة من المكان بأسره تاركة العنان لعبراتها المريرة لتنهمر بغزارة مغرقة وجهها بالكامل. لم يعد لديها أي مكان لتبقي فيه. هي باتت وحيدة كلياً، شريدة في بلاد غريبة عنها.
جلبة كبيرة حدثت بداخل منزل عائلة حرب بعد حمل عواطف إليه مغشية عليها.
وضعت بالفراش داخل غرفة منذر، والتفت ابنتيها حولها.

وقفت إلى جوارهما جليلة محاولة بث شعور الإطمئنان لنفسهما المضطربة.
نجح الطبيب في إفاقتها بعد استدعائه، واستطرد حديثه قائلاً بجدية: -ضغطها واطي، ولازم تاخد علاج لده!
رد عليه منذر بجدية وهو يشير بيده: -شوف المطلوب ايه وأنا هانزل أجيبهولها على طول!
ثم وجه حديثه إلى ابنتيها متابعاً: -ماتشلوش هم حاجة! احنا جمبكم!
ربتت جليلة على ظهره قائلة بنبرة متأثرة: -الله يكرمك يا بني! دول غلابة!

حدقت فيه نيرمين مطولاً. لم تقاوم رغبتها في مليء جفنيها برؤياه حتى وإن أفتضح أمرها.
فهو يثبت لها يوماً بعد يوم أنه المعنى الحقيقي للرجولة المتأصلة. ذلك الشيء الذي انعدم تماماً في طليقها السابق.
أضاف دياب قائلاً بجدية وهو يشير للطبيب: -اتفضل معايا يا دكتور!
نهض الطبيب من على الفراش بعد أن أغلق حقيبته الجلدية، وسار معه خارج الغرفة..
أفاقت عواطف من غيبوبتها المؤقتة مصدرة أنيناً خافتاً.

اقترب منها الجميع متابعين حالتها بتلهف واضح.
أخذت تئن متساءلة بصوت هامس: -فينها؟ راحت فين؟
دنت منها بسمة، وأمسكت بكفها، ثم احتضنته بين راحتيه مرددة بإستفهام: -احنا جمبك يا ماما!
تابعت عواطف أنينها الهامس: -هاتوا أسيف، ماتخلوهاش تمشي!
عبست ملامح وجه بسمة بشدة، واكفهرت تعابير نيرمين للغاية. حتى بعد ما أصابها هي لا تزال توليها إهتمامها.
تبادلت الاثنتان نظرات مغتاظة.

بينما حدق منذر فيها بإستغراب، ومع ذلك لم يعقب، فالأمر يعد إلى حد ما مسألة شخصية، لا يجوز له التدخل بها دون إذن.
استشعرت جليلة الحرج من وجودها، فهتفت بإبتسامة متكلفة: -هاروح أجيبلك يا عواطف حاجة مسكرة تشربيها وتروق دمك!
صاحت نيرمين فجأة بحنق لم تستطع إخفاؤه: -مين دي اللي عاوزاها ماتمشيش، دي كانت عاوزة تموتك بعمايلها!

حركت عواطف رأسها على الوسادة لتنظر في اتجاه ابنتها وهي تقول بصوت ضعيف: -هي مش في وعيها، اللي شافته مش قليل!
ردت عليها نيرمين بغيظ: -قلبك الطيب ده يا ماما هيضيعك، هي محستش بيكي ولا بتعبك، كل همها إن احنا اللي موتنا أمها وخلاص!
هتفت بسمة هي الأخرى بضجر: -بلاش سيرتها دي، خليكي في نفسك يا ماما!
انزعجت عواطف من قسوة ابنتيها، فرغم كل شيء أسيف هي ابنة أخيها الوحيدة، لا عائل لها ولا معيل سوى هي.

عاودت النظر في اتجاه منذر، وتوسلته بأعين دامعة: -رجعهالي يا بني، انت الوحيد اللي هاتقدر تجيبها!
ضاقت نظرات نيرمين للغاية وتحول وجهها للإحتقان.
زاد تجهم تعابيرها المنزعجة، وتمتمت من بين شفتيها بسخط: -واشمعنى منذر، هو مافيش إلا هو!
أخذ هو نفساً مطولاً زفره على مهل وهو يرد بحذر: -بلاش أنا، خلي آآ..
قاطعته قائلاً بإستعطاف أكبر: -الله يصلح حالك يا بني، هاتها!

رفع يده على رأسه، ومررها عدة مرات ليفكر للحظات في طلبها المُلح، ثم ضغط على شفتيه قائلاً بإستسلام:
-ماشي!
تنفست عواطف الصعداء لموافقته، وتابعت بصوت منهك: -ودوني بيتي، عاوزة أرتاح هناك!
اعترضت بسمة بشدة على طلبها مرددة: -لا مش هاينفع تتحركي يا ماما وانتي كده، استني أما تفوقي خالص وهناخدك!
اتفقت معها أختها في نفس الرأي قائلة بإصرار عنيد: -ايوه، بسمة عندها حق، خليكي شوية!

أضافت جليلة قائلة بود: -ست عواطف ده بيتك، ارتاحي فيه وماتقلقوش، عندنا أوض تانية فيه، ده يا مكترها هنا
هزت عواطف رأسها ممتنة لكرمها الزائد وهي تقول: -كتر خيرك يا ست جليلة، جمايلكم مغرقانا من ساسنا لراسنا، كفاية الدوشة اللي عملنهالكم، معلش، مش هرتاح إلا في بيتي!
تلك المرة رد عليها منذر بصوته الجاد والصارم: -نرجع بنت أخوكي الأول، وبعد كده نشوف هانعمل ايه!
همست عواطف بإبتسامة راضية: -ماشي يا بني.

احتدت نظرات نيرمين للغاية، وأظلم بريق عيناها، ففي كل مرة يحدث فيها خطب ما، لا تفوت الفرصة على تعيسة الحظ تلك للإلتقاء بمنذر، عكسها هي التي تسعى لإختلاق الفرص معه.
لم تفارقه عيناها رغم خروجه من الغرفة، بقيت أنظارها معلقة على ما تبقى من أثره.
كتفت ساعديها إلى صدرها، وكتمت غيظها داخل نفسها الغاضبة.

ركضت مبتعدة عن المكان برمته، لا تعرف إلى أين تذهب تحديداً، لكنها لن تعود إلى هذا المنزل. انقضى كل شيء به، وهي الآن عليها أن تواجه مصيرها المظلم بمفردها.
توقفت لتلتقط أنفاسها، وتلفتت حولها بنظرات زائغة، أصبحت كالتائهة في دروب الحياة المريرة.
وضعت يدها على وجنتها لتمسح عبراتها، وواصلت أنينها الخافت.
اختنق صدرها بالكثير، ولم تعد تتحمل كل تلك الضغوطات.
هي من أوشكت على الإنهيار كلياً.

بارقة أمل لاحت في الأفق حينما رأت لافتة دكانها.
إحساسها بالضياع تناقص نوعاً ما، فقد وجدت ملاذاً لها، يخصها هي فقط
لم تتردد في الذهاب إلى هناك. فهو ملجأها الحالي.
نعم هي عادت إلى الدكان المظلم لتختبيء به حتى تقرر ما ستفعله لاحقاً..
ولجت خلف زوجها داخل غرفة نومهما، وأخبرته بملخص سريع لما دار.
ابتسم لتصرفها بحكمة، وأردف قائلاً بإعجاب: -خير ما عملتي يا جليلة، خليهم يباتوا عندنا النهاردة.

ردت عليه مؤكدة: -أنا قولت كده بردك، مايصحش ننزلها وهي تعبانة!
هز رأسه نافياً وهو يدنو من الفراش: -لالا، امسكي فيهم، وخليهم ياخدوا راحتهم!
ابتسمت مرددة بثقة: -اه اطمن، حتى دياب ميل عليا قبل ما ينزل وقالي هيسهر مع أصحابه، ومنذر كمان هيبات في الوكالة بس أما يجيب بنت أخوها هنا، وكده يبقى مافيش حاجة تحرجهم!
جلس طه على الفراش، وفرك قدميه قائلاً بضيق قليل: -أهي البت دي اللي حكايتها حكاية!

مصمصت جليلة شفتيها هاتفة بإشفاق: -والله ما عارفة مالهم بس، هي البت غلبانة، بس بختها قليل!
رد عليها طه بإقتضاب وهو يتمدد على فراشه الوثير: -ربنا يهديها، مالناش دعوة بمشاكلهم!
انحنت جليلة للأسفل لتسحب حذاء زوجها وتضعه في مكانه المخصص، ثم التفتت قائلة بمكر:
-قولي يا حاج، ايه رأيك في نيرمين؟
لم يفهم مقصدها، فسألها مستفهماً: -من حيث؟
ردت عليه بتساؤل غامض: -يعني شايفها ازاي؟

أجابها بفتور وهو يهز كتفيه: -والله هي كويسة!
لمعت عيناها بوميض غريب وهي تهتف بتحمس بائن في نبرتها: -طب تنفع لمنذر؟
قطب طه جبينه متعجباً، وردد بصدمة قليلة: -منذر!
حركت رأسها بالإيجاب وهي تتابع موضحة: -اه، أنا كنت فاتحته في الموضوع من فترة، بس مأجلين الكلام فيه لحد ما عدتها تخلص!
سألها طه بإهتمام: -وهو منذر ابنك بيفكر فيها؟
نفت قائلة بعبوس خفيف: -لأ، خالص، ولا في باله!

ثم ما لبثت أن تحولت نبرتها للحماس فجأة وهي تكمل: -بس هي اللي هاتنفعه، عارفينها، وتحت طوعنا، والأهم من ده كله بتخلف!
انزعج طه من تفكير زوجته السطحي، وردد قائلاً: -الخلفة دي بتاعة ربنا، محدش ليه دخل فيها!
ردت عليه بإصرار: -ايوه، بس ربنا قالنا ناخد بالأسباب!
اقتضب طه في الحديث معها قائلاً بنبرة متعبة: -عموماً هو مش وقته!

فكرت جليلة في مفاتحته أيضاً فيما فكرت فيه، فتابعت غير مكترثة: -طيب. وايه رأيك في أختها بسمة؟
رد عليها بضجر وهو يزفر بصوت مسموع: -مالها هي التانية؟
أجابته بإبتسامة عابثة: -يعني لو دياب كده آآآ..
قطع حديثها قائلاً بتهكم بعد أن نفذ صبره: -جرى ايه يا جليلة هو انتي واخدة توكيل عيلة عواطف؟
ردت عليه بعبوس: -الله يا حاج طه، أنا شايفة البنات وعاجبني!

هتف مستنكراً تفكيرها ضيق الأفق: -لكن مش عاجبين عيالك، قفلي على السيرة دي خالص! سامعة!
لوت ثغرها مرددة بتبرم: -ده أنا بأفضفض معاك بكلمتين
رفع كفه ملوحاً وهو يرد بتذمر: -لا كلمتين ولا تلاتة، خليهوملك! ويالا عشان أفرد جتتي وأرتاح!
نظرت إليه بعبوس وهي تقول: -طيب يا حاج!
وصل إلى البناية القاطنة بها عواطف بسيارته، صفها بجوار المدخل، ثم ترجل منها، وولج إلى الداخل صاعداً على الدرج.

اعتقد أنها ربما تكون قد عادت إليه، لكن خابت أمالها بعد أن دق الباب لمرات عديدة دون جدوى.
انحنى برأسه على الباب ليستمع إلى الصوت القادم من الداخل، لكن لا شيء. فقط صمت رهيب تتخلله حركة الهواء.
اعتدل في وقفته، وتلفت حوله متساءلاً بحيرة: -هاتكون راحت فين؟ دي مالهاش حتة تانية!
وضع يده على عنقه، وقام بفركه بحركة متكررة، واستدار قائلاً لنفسه بإرهاق: -دايماً مدوخاني وراكي يا بنت رياض!

رن هاتفه الموضوع في جيبه، فدس يده في جيبه ليخرجه ناظراً في شاشته. رأي اسم المخبر صادحاً، فنفخ بإنزعاج، تكررت إتصالاته على مدار اليوم، ولم يبلغه سوى بالسيء من الأخبار. لذلك تجاهل أغلبها.
وحينما ضجر من إلحاحه، أجاب قائلاً بإقتضاب: -خير، في حاجة جدت؟
رد عليه المخبر بحماس: -فينك من بدري يا ريسنا، كنت عاوز أديك البشارة، وعمال أطلب عليك من زمان!
سأله منذر بعدم فهم وقد انعقد ما بين حاجبيه: -بشارة ايه دي؟

أجابه بتلهف: -البت اياها اتنازلت عن المحضر يجي من شوية، كده مافيش حد ليه حاجة عندك يا ريس!
تفاجيء بما قاله. وتجمدت أنظاره على نقطة ما بالفراغ مستوعباً ما سمعه.
هي تخلت عن إتهامها المزعوم، ولم تبلغه بهذا رغم المواجهة الأخرى التي دارت بينهما.
عجز عن تفسير تصرفاتها الغريبة، بل على الأرجح لا يستطيع التنبؤ بما يمكن أن تفعله.
أخرجه من تفكيره المتعمق صوته المخبر المتساءل: -تؤمرنيش بحاجة تانية؟

تنحنح منذر قائلاً بخشونة: -لأ، متشكر!
رد عليه المخبر بهدوء: -ماشي يا ريس منذر، سلامو عليكم
أنهى المكالمة معه وهو يحك رأسه بحيرة، ثم مط فمه للأمام مردداً بتعجب: -مش فاهمك بصراحة!
أخذ نفساً عميقاً، و لفظه دفعة واحدة قبل أن يكمل حديث نفسه بجدية: -طيب دلوقتي لو أنا مكانك، وماليش حتة أروحها، يا ترى هاقعد فين؟!
أضاء عقله بشيء ما، ربما ليس مؤكداً، لكنه أثار الشك فيه.

هي لا تملك سواه. ذلك الذي تصرخ دوماً بأنها لن تفرط فيه ولو اقتضى الأمر خسارة كل شيء.
رغم تلك الظلمة الحالكة به إلا أنها لم تخشَ البقاء بمفردها، حتى لو كان رفيقها في تلك الظلمات الزواحف التي تهابها.
فتحت الباب، ودفعته بإنهاك لتتمكن من الولوج، لم تغلقه تماماً، بل إكتفت بمواربته.
سارت بخطى حذرة بين الركام الملقى على الأرضية لتصل إلى المكتب الموجود بالزاوية.
استخدمت الإنارة في هاتفها المحمول لترى سبيلها.

تحسست بحذر طريقها حتى وصلت إلى مبتغاها، وقبل أن تجلس خلف المكتب نزعت من الحائط الإطار الخشبي القديم الذي يضم صورة جدها وأبوه الراحلين.
وضعتها على سطح المكتب، وسعلت بخفة وهي تزيح الأتربة العالقة به.
سلطت الإضاءة الباهتة على الصورة، وحدقت فيها مطولاً بأعين مليئة بالعبرات الغزيرة.
تنهدت بحرارة جياشة، وتهدجت أنفاسها متحسرة على حالها البائس.

كم من صدمات تلقتها واحدة تلو الأخرى تصيب العاقل بالهذيان والجنون، وهي تقاومها قدر المستطاع، لكنها تعبت مما تواجهه. هي فقدت أخر ما لديها من ذرات الشجاعة وأصبحت تفتقر إليها.
شعرت حقاً بوهنها، بضعفها، وبقلة حيلتها
استندت برأسها على مرفقها، وهمست لنفسها بأنين موجع: -ماليش حد بعدكم، أنا لوحدي!
أزاحت عبراتها العالقة بأهدابها، وواصلت التفكير بتخبط محاولة الوصول إلى حلول سريعة.

هي حسمت أمرها بالرحيل، بترك منزل عمتها للأبد، فعليها الآن أن تجد بديلاً ملائماً للسكنى.
وكيف ستفعل هذا وهي لا تملك من الأموال ما يكفي؟
بكت بقهر دافنة وجهها في ساعدها.
ظلت على تلك الوضعية لبرهة يائسة من إيجاد ما يثلج صدرها الملتاع.
لم تستطع التفكير بذهنٍ صافٍ. الأمور معقدة معها للغاية.
فكرت للحظة في الإستعانة بقريب والدتها، لكنها نفضت الفكرة عن عقلها.
ولكن ما لبثت أن عادت مجدداً لتقتحم تفكيرها بضراوة.

لا بديل عنه حالياً، ربما ستحقق مبتغاه، وتبيع له منزل والديها، ذلك المكان الذي يضم أغلى ذكرياتها.
هو حلها الأخير، نعم هي مضطرة للتخلي عنه لتحيا من جديد.
إنها قسوة الحياة التي تجبرك على فعل ما تبغضه قسراً.
بأصابع مرتجفة، بحثت عن رقمه بين قائمة الأسماء.
تنفست بعمق لتضبط أنفاسها، وكفكفت عبراتها بيدها قبل أن تضع الهاتف على أذنها.
ابتلعت غصة عالقة في حلقها وهي تنتظر بترقب إجابته على اتصالها.

أتاه صوته الخشن قائلاً بجدية: -مين معايا؟
أجابته بصوت مرتجف: -أنا. يا خالي
رد عليها الحاج فتحي متساءلاً بنبرة قاتمة: -انتي مين؟
توترت وهي تجيبه بصوت متردد: -أسيف يا خالي، بنت حنان!
صاح بها بغلظة متعمداً التحقير من شأنها
-دلوقتي افتكرتي إن ليكي خال يا، ، مش عملتي اللي عندك ومشيتي على حل شعرك وخرجتي عن طوعي، جاية تقولي خالي وأبصر ايه!

بكت في صمت وهي تستمع إلى إهاناته اللاذعة، وقبل أن ترد عليه، هدر بعصبية قاسية:
-أنا معرفش حد بالإسم ده!
توسلته قائلة بصوت متقطع: -اسمعني يا خالي، أنا كنت آآ..
رد عليها بغلظة: -انتي اختارتي، وخلص الكلام معاكي!
هتفت بإستعطاف عله يمهلها الفرصة لتبوح بما لديها: -اسمعني بس، أنا آآ..
أنهى المكالمة معها فجأة، فهتفت مصدومة بصوتها المنتحب: -ألوو. خالي!

أنزلت هاتفها لتبكي بإنكسار أكبر محتضنة الإطار الخشبي بضعف، جفل جسدها أكثر، وزادت رعشتها وهي تضمه إلى صدرها..
أطفأ محرك سيارته، وتحرك بخطى بطيئة بعد أن ترجل منها صوب دكانها.
صدق حدسه، وأصاب في تخمينه، هي بالفعل متواجدة به، وكل الدلائل تشير إلى ذلك، فالقفل منزوع، والباب موارب.
دنا بحذر منه فاستمع إلى صوت شهقاتها المكتومة.

توجس خيفة أن يكون قد أصابها مكروه ما، فركز حواسه كلياً ليستمع إلى نحيبها وهي تقول بمرارة:
-أنا لوحدي في الدنيا دي، ليه ماموتش معاكو؟ ليه سبتوني؟
شعر بنغزة خفيفة في قلبه لحديثها الموجع، وأخرج تنهيدة عميقة من صدره.
بدا متأثراً لبكائها، لكنه سيطر على إحساسه، وأنصت لها وهي تتابع بشجن: -يا رب خدني وريحني! يارب
اختنق صوتها أكثر، وتعالت شهقاتها المهزومة معلنة عن إنهيارها الوشيك.

كور قبضة يده ضاغطاً على أصابع يده بقوة، أزعجه حديثها البائس، وتوجس خيفة أن ترتكب في حق نفسها شيء ما، خاصة أنها مرت قبل ذلك بحالة من الإنتكاسة النفسية، وتذكر حديث الطبيب بخطورة تبعاتها. لذلك حسم أمره بالدخول فوراً إليها..
دفع الباب بقوة فانفتح على مصرعيه، شهقت مرتعدة حينما رأت ذلك الطيف يقتحم دكانها.
هبت من مكانها واقفة، ونظرت إليه بهلع.

لم تتبين ملامحه في البداية، لكنها عرفته هويته من صوته الذي إخترق وحدتها حينما نطق بصلابة:
-عرفت أوصلك، مكانش صعب أوي!
تفاجئت أسيف بوجوده، فكفكفت عبراتها سريعاً، ونظرت إليه بجمود وهي تسأله بصوت مختنق:
-جاي ليه؟
رد عليها بنبرة ثابتة وهو يقترب منها: -عمتك عاوزاكي!
ابتلعت ريقها، وردت عليه بصوتها المنتحب: -انا ماليش عمة!
ضيق نظراته نحوها، ورد عليها بغلظة غير مكترث بعنادها: -مش بمزاجك!

شعرت هي بخطورة وجوده، وتلفتت حولها بريبة.
هي شبه محاصرة في إحدى الزوايا، وإن استمر في اقترابه منها، لن تتمكن من الفرار، وربما يرتكب معها شيء سيء.
لذا تحركت سريعاً من خلف المكتب، وأعطت لنفسها مساحة فاصلة عنه وهي تصيح: -اطلع برا لو سمحت!
تابعها بنظرات ثابتة دون أن تطرف عيناه، ورد عليها بصوته المتصلب الذي يحمل القوة:
-مش طالع إلا وانتي معايا!
التفتت ناحيته وهي تهز رأسها نافية: -لأ.!

ثم رمقته بنظرات متحدية مضيفة بعناد: -ده مكاني ومش هامشي من هنا!
مرر أنظاره على وجهها الحزين ببطء، رأى انتفاخ أنفها الأحمر، وتورم عيناها الذابلتين من كثرة البكاء.
أشفق عليها كثيراً، فرغم ما تمر به من مصاعب إلا أنها تجاهد لتبدو متماسكة.
واصلت صياحها قائلة بإصرار وهي تشير بسبابتها: -ده دكاني، بتاعي، ومش هاسيبه مهما حصل
حرك عنقه للجانبين، وفرك أصابع كفيه قائلاً بثقة: -مش كله، أنا ليا لي فيه! ولا نسيتي؟

ثم قوس فمه لتظهر إبتسامة مغترة على محياه مشيراً بعينيه.
تذكرت أسيف بيع عمتها لنصيبها فيه، فإحتقن وجهها الذابل بحمرة غاضبة.
كزت على أسنانها بقوة، ونظرت إليه بحدة، فهي إن خسرت جزءاً في الدكان، لا يعني بالضرورة خسارته كلياً.
أطلق منذر صافرة خافتة متعمداً استفزازها ليفسد عليها خلوتها الوحيدة،
اغتاظت من أسلوبه المثير لحنقها، ومن ثقته الزائدة، وتحكمه المفرط وكأنه يملك زمام الدنيا في إصبعه.

صرخت فيه بعصبية مستنكرة كل شيء وهي تلوح بذراعيها في الهواء: -ارحموني بقى وسيبوني في حالي!
رد عليها بجمود وهو ينظر إليها: -قدرك اللي جابك هنا!
صاحت فيه بحدة: -أنا تعبت من كل حاجة، ابعدوا عني بقى! مش عاوزة حاجة منكم!
اقترب منها حتى وقف قبالتها، ورد ببرود: -مش هاينفع!
ثم قبض على عضدها فجأة قائلاً بجمود: -ويالا عشان عمتك عاوزاكي!

صدمت من حركته المباغتة، وتأوهت بآلم من أصابعه القابضة عليها، ثم هتفت قائلة بغضب:
-آآه، سيب دراعي!
حاولت أسيف التملص منه، وتحرير ذراعها بقبضتها الأخرى، لكنه لم يتركها، بل تشبث أكثر بها وهو يبتسم لها.
صرت على شفتيها، وواصلت مقاومتها، لكنها لم تستطع.
مال عليها برأسه متابعاً ببرود واثق: -مش هاتعرفي تخلصي مني، وزي ما قولتك إنتي أمانة وهارجعك عند عمتك!

دفعها منذر أمامه مستغلاً قوته، وبالطبع لم تكن مقاومتها له بشيء يذكر. فاضطرت أن تسير معه قسراً خارج الدكان.
لم يهتم بغلق بابه بالقفل، واكتفى فقط برده.
همست له بنبرة مغلولة: -أنا بأكره اليوم اللي جيت فيه هنا!
رد عليها بجمود قاسي وهو يسحبها معه جبراً: -اكرهي، اندمي، قولي اللي عاوزاه، بس في الأخر إنتي اللي اختارتي من الأول تيجي عندنا!

زاد إحساسها بالحنق نحوه، ولم تكف عن حدجه بنظراتها المشتعلة من عينيها الحمراوتين.
كانت على وشك الصراخ به لتنفس عن غضبها المحبوس بصدرها، لكنها لم تفعل، فقد اعترضت طريقهما الصيدلانية فاطمة والتي كانت مقبلة عليهما بوجه شبه شاحب.
وقفت قبالتهما، ووزعت أنظارها القلقة على أسيف لتهتف بتساؤل متوتر وهي تضع يدها على وجهها ماسحة بشرتها الباردة بنعومة:
-انتي كويسة؟

أرخى منذر قبضته قليلاً عن ذراع أسيف، لكنه لم يتركها فقد أمسك برسغها.
نظرت له من طرف عينها مستنكرة حركته تلك، لكنها أشاحت بوجهها للجانب لتجيب على فاطمة بإقتضاب:
-اه
أبعدت فاطمة يدها متساءلة بتوجس بعد أن رأت ذلك الحزن الذي يكسو تعابيرها: -هو مجد اتعرضلك تاني؟
صدم منذر مما قالته، وبدا كما لو كان قد تلقى صاعقة كهربائية للتو. وردد قائلاً بلا وعي:
-مجد!

التفتت فاطمة نحوه متابعة حديثها بسجية وهي تشير بيدها: -اها، ابن أبو النجا طلع من السجن النهاردة ويعني ضايق أسيف شوية.!
احتقنت نظرات منذر للغاية وأظلمت بصورة مخيفة. فيمكنك أن ترى بوضوح تلك الخيوط الحمراء التي تشكلت في بياضهما، كذلك برزت عروقه النابضة بدماءه التي تغلي في عنقه، وأيضاً في قبضتي يده.
يكفيه أن يُذكر اسم ذلك المقيت أمامه لينقلب حاله رأساً على عقب، وتتبدل تعابيره للشراسة والعنف.

نعم تهديد أخر ظهر على الساحة ليزيد من تأجج الوضع.
شعرت أسيف بيده تضيق على رسغها لتوجعها أكثر وكأنه يعتصرها، فحركتها بحذر محاولة تنبيهه لكنه لم يكن واعياً بدرجة كافية.
رفعت عيناها لتنظر إلى وجهه فرأت في قسماته ما أخافها. كتمت آلمها، وتحاملت على نفسها، ثم ازدردت ريقها، وعاودت التحديق في فاطمة التي تابعت حديثها محذرة:
-واضح كده إنه حاطك في دماغه!
اقتضبت أسيف في حديثها معها قائلة بجدية: -اطمني أنا كويسة!

هزت فاطمة رأسها قائلة بنبرة أكثر جدية: -طيب خدي بالك منه، أنا حبيت بس أحذرك!
ردت عليها أسيف من بين شفتيها بإيماءة خفيفة من رأسها: -ماشي، بس هو مش هايقدر يعملي حاجة، أنا هاوقفه عند حده!
بدت فاطمة غير مقتنعة بجملتها، فواصلت تحذيرها الجدي: -مش عارفة، بس أنا مش مطمنة!
ابتسمت بتكلف مرة أخرى وهي تضيف: -عموماً أنا مش هاعطلكم كتير، فرصة سعيدة إني شوفتك يا أستاذ منذر!

تحشرج صوته وهو يجيبها بتجهم كبير: -متشكر يا دكتورة!
لوحت لهما بيدها مودعة كليهما وهي تتحرك في اتجاه بنايتها.
لم يشعر منذر بغضبه الذي تأجج في نفسه، وأوشك على الإنفجار وهو يهمس من بين أسنانه بصوت متشنج:
-تعالي معايا!
آلمتها قبضته العنيفة على معصمها وهو يجبرها على التحرك عنوة، فنهرته قائلة: -آه، سيب ايدي!
أوقفها عند سيارته، والتفت ناحيتها ليرمقها بتلك النظرات المظلمة التي أرعبتها، ثم سألها بنبرة قاتمة:.

-انتي قابلتي البلطجي ده امتى؟
ردت عليه بحدة وهي تحاول تخليص رسغها منه: -وإنت مالك؟
هزها بعنف صارخاً فيها بإنفعال: -ردي عليا شوفتيه امتى وعملك ايه؟
تعجبت من تبدل أحواله، من نفاذ صبره، ومن ثورته الغاضبة. فأردفت قائلة بسخط مستنكرة عصبيته الغير مبررة:
-شكلك كده خايف منه!
استشاطت نظراته من عدم مبالاتها، وضاقت عيناه بقسوة مهددة بالإطاحة بها.

قربها أكثر إليه ليهتف بصعوبة متشنجة من بين شفتيه المضغوطتين: -نعم، خايف! إنتي اللي مش عارفة بتتعاملي مع مين بالظبط..؟!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة