قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والتسعون

انهارت باكية حزنًا على أختها بعد معرفتها بخبر مرضها الصادم، ولجت إليها لتحتضنها رافضة تركها بمفردها فهي بحاجة إلى دعم قوي ومستمر ممن حولها خاصة في تلك المرحلة الحرجة لتتجاوز الأزمة، لكنها لم ترغب في تلقي ذلك النوع من المشاركة الوجدانية، نبذت إحساسهم بالشفقة نحوها، فعمدت إلى استخدام أسلوب الشدة والقسوة مع الأقرب إليها، ورغم معاملتها الجافة معهم إلا أن الجميع تفهموا موقفها العدائي.

حرصت أسيف على المتابعة الهاتفية اليومية مع الطبيب المتابع لحالتها المرضية كي تتبع نصائحه خلال الرعاية المنزلية، وبسطت الأمور لعمتها ليسهل عليها الفهم، كانت أهم توصياته هي البدء الفوري في مرحلة العلاج الكيماوي كي يتم وقف انتشار المرض، خاصة أنه في مرحلة متقدمة تتطلب اهتمامًا كبيرًا، وأصرت نيرمين على عدم الإصغاء لأي منهم مدعية أنها بخير، ومرت الأيام على ذلك الوضع المتأزم دون حل جذري، الجميع مُتلف الأعصاب، وهي تزداد عنادًا بمرور الوقت.

أعدت عواطف صينية مليئة بالأطعمة الصحية، وأسندتها على طرف الفراش حيث تتمدد ابنتها، ابتسمت لها بود، ثم قدمت صحن الحساء لها، فمدت يدها نحوه لتمسك به، لكنه انزلق من بين أصابعها بسبب ارتجافتهم، أردفت عواطف قائلة بحذر:
-حصل خير يا بنتي، ولا يهمك..
صرخت نيرمين بعصبية زائدة مقاطعة إياها: -مش عاوزة حد يساعدني، أنا لسه بصحتي، مش عشان الطبق وقع مني أبقى خلاص بقيت عاجزة!

أشارت لها أمها قائلة بتريث محاولة امتصاص ثورتها المنفعلة: -اهدي بس يا نيرمين، مالوش لازمة الزعيق!
وضعت كلتا قبضتيها على رأسها ضاغطة بقوة عليها في محاولة بائسة منها لمنع استمرار ذلك الصداع الذي يفتك بها، ثم صاحت بزمجرة متشنجة:
-سيبني لوحدي يا أمي.

رأتها والدتها وهي تقاوم الألم الشديد، فزادت وخزات قلبها نحوها، أليست ابنتها البكرية؟ أليست قطعة من روحها؟ هي تلقي بنفسها في التهلكة مستخدمة سلاح العند، وهي لن تسمح لها بذلك، تحركت خلفها واضعة يدها على كتفها وهي تتوسلها بصوت شبه مختنق:
-يا بنتي، إنتي ليه بتعملي في نفسك كده؟

أزاحت يدها عنها لتبتعد عدة خطوات وهي ترد بإحباط: -وأنا من امتى بقيت أفرق مع حد، كلكم بتكرهوني وعاوزين تخلصوا مني، وأهي جتلكم الفرصة، ارتاحوا!
لمعت مقلتاها بشدة تأثرًا بكلماتها الموجعة، وردت بنبرة أقرب للبكاء: -لا حول ولا قوة إلا بالله، والله إنتي غلطانة، كلنا بنحبك وزعلانين عشانك، بلاش تقولي كده!
نظرت نيرمين لأمها بجمود رغم تأكدها من صدق كلماتها، لكن سريعًا ما زاد حنقها حينما تابعت:.

-حتى أسيف أجلت فرحها عشانك و..
صرخت فيها مقاطعة وهي تسد أذنيها: -مش عاوزة أسمع اسمها، أنا بأكرهها!
سألتها بصوت حزين متعجبة من كم الكراهية والعداء نحوها: -ليه بس؟ دي بتحبك جدًا
صاحت بنفاذ صبر وقد قست نظراتها: -بلاش الكلام ده، وقفلي على سيرتها
خشيت والدتها أن تثور من لا شيء، فاختصرت في حديثها مضطرة وهي ترد: -ماشي اللي يريحك!

بذلت معها جهدًا كبيرًا محاولة التأثير عليها عل رأسها المتيبس يلين وتحكم عقلها وترضخ للعلاج الطبي، لكنها رفضت الاستجابة لها مكابرة ومعاندة بشراسة لم تتخيلها، جلست مستاءة على طرف الفراش مستندة برأسها على مرفقها، أخرجت تنهيدة حزينة من صدرها وهي تقول:
-راكبة دماغها، أنا مش عارفة أقنعها، بتموت نفسها بإيدها
ردت عليها أسيف بإيماءة موافقة إياها الرأي: -عنيدة بشكل رهيب!

زفرت مجددًا بحزن أكبر وهي تضيف: -أنا احترت، وحاسة إني متكتفة ومش قادرة أعملها حاجة!
رفعت بصرها للسماء لتتابع بأعين تترقرق فيها العبرات: -يا رب اهديها وتوافق تبدأ العلاج، يا رب مش هانستحمل يجرالها حاجة!

لم تستطع الصمود أكثر من ذلك فتركت العنان لعبراتها بالانسياب، وأجهشت ببكاء موجوع عليها، مسحت أسيف على ظهرها برفق متفهمة حالتها تلك، هي لم تختلف عنها كثيرًا رغم العداوة الغير مبررة بينهما، لكن لا شماتة في المرض، فهي لا تملك أمر نفسها، وما هي فيه ماهو إلا ابتلاء من المولى ليمتحنها، ساد صمت ثقيل بين الاثنتين لبعض الوقت، فكلتاهما تفكران في وسيلة تمكنهما من إقناعها بالتخلي عن عنادها المهلك والعدول عن رأيها الخاطيء والبدء فورًا في خطة العلاج المكثفة خاصة أن الوقت بات حرجًا، وكل لحظة تمر دون علاج تشكل تهديدًا حقيقيًا عليها.

طرأ ببال أسيف فكرة ما بها مجازفة قليلة، لكن ربما خلفها يكمن الحل، سحبت نفسًا عميقًا أخرجته من صدرها بتمهل وهي تقطع حاجز الصمت الإجباري:
-أنا عندي اقتراح، بس مش متأكدة إن كان ينفع ولا لأ
بحثت بسمة عن بارقة أمل من أجلها، فكفكفت عبراتها متسائلة بتلهف: -ايه هو؟
ضغطت أسيف على شفتيها مرددة بتوجس ظاهر: -بس يا رب هو يوافق!

قطبت الأخيرة جبينها متعجبة من تلك الجملة المريبة، والتي بدت غير مريحة إلى حد ما خاصة من طريقة نطقها لها، فسألتها باهتمام:
-مين ده؟!
حدقت أسيف في عيني ابنة عمتها مباشرة، بدا على وجهها الهدوء الذي يسبق العاصفة، انتظرت لثانيتين قبل أن تجيبها بجدية شديدة:
-منذر!
ارتفع حاجبي بسمة للأعلى غير مصدقة ما قالته توًا، ظنت أنها تتوهم اسمه، فرددت باندهاش عجيب:
-بتقولي منذر!

أومأت برأسها مؤكدة وهي تشرح لها ببساطة ماهية فكرتها الغير عقلانية ليزداد معها استغرابها، رمشت بعينيها عدة مرات، ولم تستطع التعقيب، هي على الأحرى لم تتوقع شيئًا كهذا منها هي تحديدًا، نظرت لها ببلاهة لبعض الوقت، ثم ردت بصدمة:
-مش ممكن اللي قولتيه ده!

واجه صعوبة كبيرة في التأثير على صغيره لكي يمتثل لطلبه ويعود لمدرسته بعد فترة غياب ليست بالقليلة، ومع ذلك اعترض ابنه على رغبته ورفض الإصغاء إليه، فاضطر دياب - رغمًا عنه - ألا يضغط عليه ويجبره على ذلك كي لا تسوء حالته كما كانت من قبل، جلس بشرفته محدقًا في الفراغ أمامه يفكر بحيرة فيما سيفعله معه، شعر بصخب كبير في رأسه المزدحم بالأفكار نتيجة إنهاكه بالتفكير المتواصل، ولجت إليه والدته وهي تحمل صينية بها فنجاني قهوة هاتفة بلطف:.

-اتفضل يا حبيبي، عملهالك مظبوط
تناول منها فنجانه قائلاً بامتنان: -تسلم ايدك يا أمي!
أسنده على حافة السور، وشرد مجددًا في الفراغ نافثًا ما تبقى من سيجارته بفتور، تفرست جليلة في ملامحه بضيق واضح عليها، هي تعلم ما يجيش في صدر ابنها من أماني وأحلام يتمنى حصولها على أرض الواقع، لكن شتان بين الحلم والحقيقة، تنهدت بعمق متسائلة باهتمام أمومي:
-مالك؟ سرحان في ايه كده؟

أجابها بضجر وهو يطفيء عقاب سيجارته: -شايل هم الواد ده، مش راضي يروح مدرسته، وأنا مش عاوز أشد معاه!
أشارت له بيدها محذرة: -خده بالراحة يا ابني، على مهلك عليه، هو بردك غلبان
أجابه بتشنج طفيف: -ما أنا مطول بالي على الأخر، هاعمل ايه تاني؟
أومأت له بعينيها متابعة برجاء: -معلش اصبر، وربنا هيدبرها من عنده
أخرج زفيرًا قويًا من صدره متابعًا بتساؤل مزعوج: -نفسي أعرف جراله ايه؟!

ردت عليه والدته: -الحمدلله إنه رجع زي الأول، هو احنا كنا طايلين
صمت ليشعل سيجارة أخرى، وأخذ يستنشق دخانها لافظًا إياه بحرقة واضحة عليه، فكرت في الاستعانة ببسمة لمساعدته، فالصغير يحبها كثيرًا وهي تجيد التعامل معه، لذلك هتفت بلا تأخير:
-بأقولك ايه، ما تقول لبسمة توديه المدرسة
التفت ناحيتها متوقفًا عن تدخين سيجارته لتتحول نظراته للحدة وهو يردد بعتاب: -ده كلام، ما كفاية المصيبة اللي عندهم!

تابعت محاولة تدعيم رأيها: -ربنا يشفي كل مريض، وأنا مقدرة اللي عندهم، بس..
توقفت للحظة عن الكلام لتلتقط أنفاسها، ثم أضافت بعدها بجدية: -بس يا ابني انت بتقصدها في حاجة بسيطة، اسألها مش هاتخسر حاجة!
أشاح بوجهه بعيدًا وهو يرد باقتضاب: -ربنا يسهل!

كان متحرجًا بدرجة كبيرة من طلب أي شيء خلال تلك الفترة العويصة، هو متفهم للظرف الطاريء بالعائلة، ولكن ما بيده حيلة، كل الطرق تؤدي دومًا إليها، وكأن مفتاح حل مشاكله معها هي فقط، احترمت والدته صمته، فتابعت بابتسامة لطيفة:
-طب يا حبيبي، اشرب قهوتك وأنا هاروح أعلق على الأكل
هز رأسه دون أن يستدير قائلاً: -براحتك!
لفظ مجددًا دخان سيجارته مرددًا لنفسه بامتعاض: -مش عاوزها تقول تماحيك!

ارتشف ما تبقى من قهوته جرعة واحدة ليتابع تحديقه الشارد في الفراغ مفكرًا بتأنٍ في اقتراحها، ربما حقًا الحل معها، ابتسم لنفسه ابتسامة باهتة محدثًا نفسه:
-وليه لأ؟
-صعب أعمل كده!

قالها منذر بصلابة متعصبة بعد أن أخبرته زوجته بخطتها في استدراج نيرمين بحذر نحو دائرة حبها المستحيل له، وبالتالي سيكون ما تفعله بغرض الحصول على رضائه الذي ستناله إن رضخت للعلاج، هي تعلم بمشاعرها نحوه، ومتيقنة أن شيء كهذا سيكون له أكبر الأثر في إقناعها بالأمر.
تفاجأت برفضه الصارم للمسألة برمتها، فتوسلته قائلة: -عشان خاطري أنا، ماينفعش نسيبها تموت نفسها ونسكت!

بدا مزعوجًا من اقتراحها، فرد رافضًا بجدية: -ماينفعش، أنا مش كده!
ردت موضحة بنبرة مستعطفة: -أنا عارفة، بس دي خدمة!
زم فمه قائلاً بإصرار معترض: -أسيف، أنا..
وضعت يدها على كف يده الموضوع على مسند الأريكة لتحتضنه براحتها هامسة برجاء رقيق وهي مسبلة لعينيها:
-أرجوك يا منذر، هي محتاجة لينا، وكلامك معاها جايز يفرق ويخليها تبدأ العلاج.

أخفض نظراته ليحدق في كفها الممسك بيده، شعر بلمساتها الرقيقة التي تذيب جبال الثلج في داخله، بتلك الحماسة المتدفقة في عروقه النابضة، سيطر على مشاعره الطامعة في تذوق طعم الحب معها قائلاً بامتعاض:
-استغفر الله العظيم، بلاش..
قاطعته متسائلة وهي تعمق نظراتها إليه محاولة التأثير عليه بسلاحها الأنثوي الذي تجيد استخدامه:
-مش إنت بتحبني؟
أجابها بلا تردد: -ايوه
سألته بعتاب لطيف: -طب ترضى أزعل منك؟

التوى ثغره للجانب مرددًا بضيق: -أنا مايهونش عليا زعلك، بس مش كده يا أسيف!
سحب يده من كفها مديرًا وجهه للناحية الأخرى، شعرت بالذنب لفشلها معه، لمعت عيناها بالعبرات، وبدأت تنوح لقلة حيلتها، التفت ناحيتها متعجبًا من ذلك الحزن الجسيم الذي انعكس على تعبيراتها، وهتف محذرًا بصلابة:
-بلاش تعيطي، أنا مش بأحب كده!

دفنت وجهها بين راحتيها لتنخرط في البكاء، فنفخ عاليًا وهو يقول على مضض: -خلاص، هاعمل اللي انتي عاوزاه، ماتعيطش بقى!
رفعت وجهها لتنظر إليه وقد اعتلى ثغرها ابتسامة متفائلة، مسحت دمعاتها العالقة في أهدابها بظهر كفها، ومدت كلتا يديها لتمسك بكفيه قائلة بامتنان حقيقي:
-ربنا يخليك ليا!
أغمضت عينيها للحظة قبل أن تفتحهما وتضيف بتنهيدة عميقة: -أنا بأحبك أوي.

ضغط على يديها بأصابعه، وابتسم لها قائلاً بلطف: -وأنا أكتر يا حبيبتي!
بدأ الجزء الثاني والأهم من تنفيذ الخطة، وهو الاستعانة ببسمة لكي تبلغ أختها بذلك الطلب الغريب، كان عليها أن تبدو أكثر جدية وهي تخبرها بهذا حتى لا تظن أن في الأمر ملعوبًا ما وتكشفه، استجمعت رباطة جأشها، ورسمت قناع الجدية على وجهها وهي تلج إلى غرفتها هاتفة بجمود:
-منذر عاوز يقابلك.

اندهشت كثيرًا من جملتها، ورغمًا عنها نطق لسان حالها بتنهيدة تحمل الأشواق والاشتياق:
-سي منذر!
انتبهت نيرمين لما قالته، فلملمت سريعًا نفسها، وشدت من تعابير وجهها قائلة ببرود مصطنع:
-ليه يعني؟
-معرفش، بس هو قال عاوزك إنتي بالذات
انعقد ما بين حاجبيها باستغراب مرددة: -أنا!
حركت بسمة رأسها بالإيجاب مؤكدة بهدوء: -ايوه، ومستنيكي برا، ومصمم يشوفك!

داعبت تلك الكلمات المنتقاة بعناية أوتار قلبها الحساسة، ولمست في روحها جزءًا كبيرًا، هي تمنته حتى بات حلمها المستحيل، وبالرغم من قسوته ناحيتها ورفضه العنيد لحبها، إلا أن قلبها يحمل له الكثير من المشاعر التي تثور من أجله مع أقل تلميح، هتفت غير مصدقة:
-يشوفني أنا.

قرأت في عيني أختها تأثيره عليها، وتيقنت أن ابنة خالها محقة، فالحب يفعل المستحيل، له مفعول كالسحر لا يمكن لبشر أن يتصوره، تساءلت نيرمين بسخط وهي تشير بسبابتها:
-بس مش هو جاير للفقر مراته؟
أصابها بالضيق إهانتها لصاحبة القلب الحنون التي تبذل قصاري جهدها من أجلها، وفي المقابل تتلقى توبيخات مهينة لشخصها، ومع ذلك حافظت على جمود تعابيرها وردت موضحة:
-لأ ليكي إنتي مخصوص!

دق قلبها بعنف بعد تلك العبارة التي تضم كلمات موحية بالتفرد والاهتمام، تحمست كثيرًا لمقابلته، وتهللت أساريرها المتشنجة وهي تقول بتلهف واضح:
-طيب أنا هاغير هدومي وطلعاله، قدميله إنتي حاجة ساقعة على ما أوضب نفسي
ردت عليها بسمة بنبرة جادة: -اطمني هاقوم بواجب الضيافة معاه، بس انتي متتأخريش!

نظرت نيرمين سريعًا لانعكاس وجهها في المرآة، تأملت شحوبها وذبولها المخيف بضيق، أرادت أن تخرج إليه في أبهى صورها، متأنقة فتخطف أنظاره وليس على تلك الحالة الواهنة التي تبعث على الشفقة والإحسان، زاد حماسها، وأسرعت نحو خزانة ملابسها لتختار أفضل ثيابها فترتديه، فمن بالخارج يستحق الأفضل فقط.

تعثرت في خطواتها وهي تلج إلى غرفة الضيوف حيث ينتظرها، كاد صوت نبضاتها المتلاحق يصم أذنيها من شدة قوته، تورد وجهها لمجرد رؤيته، ولمعت عيناها حينما رأت عينيه تستديران نحوها، هتفت بنعومة:
-سي منذر!

لم يكن متفاجئًا من تصرفها لعلمه المسبق بمشاعرها التي نبذها، كان في حالة صراع كبير بين قلبه وعقله، أراد ألا يخدعها، لكنه وعدها أن ينفذ طلبها وإن كان منبوذًا، رسم بصعوبة ابتسامة باهتة على ثغره وهو يسألها باقتضاب:
-ازيك
أخرجت تنهيدة ثقيلة من صدرها وهي تجيبه بيأس: -أهي ماشية!
أشار لها بيده متابعًا بجدية: -ممكن تقعدي، أنا عاوز أقولك كلمتين.

جلست إلى جواره على الأريكة هاتفة بتلهف متحمس وهي تسبل عينيها نحوه: -كلمتين بس، خليهم عشرة يا سي منذر!
شعر بالنفور من طريقتها التي لا يستسيغها على الإطلاق، لكنه مضطر لتحملها حتى يدفعها نحو العلاج، للحظة تنفس بعمق، ثم رفع رأسه نحوها، وجمد أنظاره على وجهها قائلاً بثبات:
-شوفي يانيرمين
شردت في عينيه البنيتين متأملة حدقتيه باشتهاء واضح، رأت انعكاس وجهها فيهما، شعرت بدفء ينبع منهما، همست لنفسها متوهمة:.

-هاه، نيرمين، قالي اسمي كده عادي، للدرجادي أنا مهمة عنده!
كان مستشعرًا نظراتها الهائمة نحوه، وقاوم قد الإمكان إظهار علامات النفور منها كي لا تفسد خطته، هو أوشك على إنهاء الجزء الأخير المتبقي، فلا داعي للتعجل، واصل استرساله مشددًا:
-وبنتك محتاجاكي، واللي بتعمليه ده مش كويس عشانها، ترضي هي تخسرك؟
أفاقت من خيالاتها الحالمة على صوته الذي أضاف بجدية: -أنا عاوزك تبدأي تاخدي العلاج، لو فعلاً بتحبي بنتك و..

سألته بتنهيدة حارة وهي تحدق فيه بنظرات والهة: -و. ايه يا سي منذر؟
جاء إلى تلك الجزئية التي كرهها كثيرًا، لكن لا مفر منها، الخطة في الأساس تعتمد عليها، وبالتالي هو مجبر على اللجوء إليها كي يضمن خنوعها، ابتسم لها ابتسامة زائفة وهو يقول عن عمد:
-وبتحبيني، يبقى تخفي عشانا!
هتفت بنزق ودون تفكير: -أيوه أنا بأحبك يا سي منذر وانت عارف ده كويس!

أغمض عينيه للحظات مسيطرًا على ضيقه الذي تسلل إلى تعابير وجهه، خاف من افتضاح أمره لأنه يرفض تلك المشاعر بكل قوة، فقلبه لم يخفق إلا من أجل واحدة فقط، هي تلك التي عاهد نفسه ألا يحب سواها، عاود فتح عينيه مضيفًا بهدوء:
-وهو ينفع اللي بيحب حد يموت نفسه؟
توترت من كلمته تلك، وزادت تخبطًا حينما وضع يده على كفها مؤكدًا: -عاوزك تتعالجي يا نيرمين!

أخفضت عينيها لتنظر بعدم تصديق في يده مرددة بصدمة: -الكلام ده ليا سي منذر؟
هز رأسه بإيماءة خفيفة وهو يقول بحذر متعمدًا اختيار كلماته: -ايوه، خدي علاجك عشان نفسك الأول وعشان بنتك، وبعد كده عشان الناس اللي بتحبيهم!
ارتسم على محياها ابتسامة متلهفة وهي ترد: -أنا مستعدة أعمل أي حاجة انت تطلبها مني
سحب يده بحذر من على كفها قائلاً بجدية: -ده طلبي الوحيد!

رمشت بجفنيها عدة مرات وهي تتأمل كفها الذي كان يلامس كفه قبل لحظات، لم يكن وهمًا أو حلمًا عابرًا، بل واقعًا ملموسًا شعرت به وملأ روحها وأنعشها من جديد، رأى تأثيره عليها فهب واقفًا ليقول باقتضاب جاد:
-هاستأذن أنا بقى
وقفت هي الأخرى تسد عليه الطريق بجسدها مرددة بتنهيدة حارة: -ما لسه بدري، ده..
قاطعها بهدوء: -معلش، ورايا شغل في الوكالة!

أرادت أن تستفزه، أن تلعب على وتره الحساس كي ترى ردة فعله، لذا سألته بنزق: -ومراتك؟!
رغم انزعاجه مما يحدث إلا أنه حافظ على ثبات نبرته وهو يرد بجدية: -أنا جايلك انتي وبس!
برقت عيناها بوميض شديد غير مصدقة عبارته الأخيرة التي اخترقت قلبها بسهم نافذ لتلقى حتفها صريعة حبه، رددت بابتسامة عريضة قد تشكلت على ثغرها:
-أنا بس؟
وقبل أن يترك لها الفرصة لتسرح في خيالات وردية لا يحبذها، جمد نبرته وهو يقول باقتضاب:.

-سلامو عليكم.

تنحت للجانب ليمرق من جوارها، فأغمضت عينيها لثانية مستنشقة عبيره الرجولي ليكتمل المشهد ويحفر بالكامل في ذاكرتها، فتحت عينيها لتتابعه فرأته يخرج من الغرفة، تنهدت مرة أخرى بحرارة، وتعلقت أنظارها به وهي تسير خلفه لتوصله إلى باب المنزل، شعرت بانتفاضة كبيرة في روحها بعد حديثها معه، رغبت في تنفيذ مطلبه على الفور، يكفيه أنه قد جاء خصيصًا اليوم من أجلها، راقبتها الاثنتان من على بعد بدقة شديدة، مالت بسمة على ابنة خالها هامسة:.

-الظاهر منذر أقنعها
اعتصر قلبها ألمًا لرؤيتها معه تبث إليه مشاعرها بأريحية تامة على مرأى ومسمع منها، لكن ذاك كان اختيارها، وتعهدت لنفسها أن تتحمل تبعاته حتى يأتي بثماره، ردت بنبرة مختنقة نسبيًا:
-ماهو واضح عليها!
التفتت بسمة ناحيتها قائلة بإعجاب: -أنا مصدقتش إنك انتي تفكري في حاجة زي كده!
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وهي ترد: -كان لازم أساعدها حتى لو على حساب نفسي.

رغمًا عنها لفت بسمة ذراعيها حولها لتحتضنها بقوة، هي خالفت كل توقعاتها، تجبرها يومًا بعد اليوم على إبداء ندمها لظنها السوء فيها ومعاملتها بفظاظة وجفاء من قلب، كان الأكثر رقة، الأكثر رفقًا بغيرها، هي تملك من الرحمة والحب ما لا يقارن بغيرها، قبلتها من وجنتيها متابعة بامتنان صادق:
-انتي قلبك طيب يا أسيف، وربنا هيجازيكي خير عن اللي بتعمليه في غيرك!

ردت بتضرع واثق في قدرة المولى على تدبير شئون خلقه: -يا رب، هو اللي عالم باللي فينا، وقادر يزيح عنها البلاء ويشفيها!
تحفزت حواسها بعد كلماته الباعثة للتفاؤل على الشروع في خطة علاجها، ولجت إلى داخل غرفتها لتلقي بجسدها على الفراش، حدقت في السقفية مستعيدة صورة وجهه الرجولي المحبب لها في مخيلتها، تنهدت نيرمين قائلة:
-بأحبك يا سي منذر!
تقلبت على جانبها متابعة بنبرة متمنية: -آه لو تحس بيا وتفكري فيا شوية!

أغمضت عينيها مجبرة عقلها على تكرار مشهد حديثهما سويًا مضيفة عليه الكثير من مخيلتها لتنتفض مشاعرها من جديد وبقوة.

كان مدركًا لكونه سلاح ذو حدين، اللعب على مشاعر الأخرين، ورغم نبل غرضه إلا أنه كان ممتعضًا من منحها فرصة للتعلق به من جديد بعد أن حطم آمالها، رأى منذر انعكاس ذلك على حالها خاصة حينما أبلغته أسيف بتحديدها موعدًا مع الطبيب، اكتفى بتمني الشفاء لها، واقتضب في زياراته لزوجته كي لا ينكشف أمره لكونه مزعوجًا من تلك المسألة.
لاحظ والده عبوسه المستمر فاستطرد قائلاً: -هاتفضل مسهم كده كتير؟

رد عليه بتبرم: -غصب عني، مش عاجبني الوضع!
تفهم موقفه، ومع ذلك حاول تهوين الأمر عليه، فبرر له: -انت قاصد خير، مالوش لازمة تحاسب نفسك كل شوية، اللي حصل حصل!
رد عليه متسائلاً بضيق: -وبعدين يا حاج؟ أخرتها ايه؟!
هز رأسه هاتفًا: -كل خير، قدم المشيئة وربنا عليه جبر الخواطر!
ولج إلى داخل مكتبهما أحد العمال قائلاً بارتباك واضح عليه: -حاج طه، في. برا..

قطم عبارته مترددًا في إكمال الباقي، فصاح به طه بجدية: -ما تتكلم يا ابني، في ايه برا؟
اقتحم المكان أخر فرد يمكن توقعه، قدم قدمًا وأخر الأخرى وهو يقول بحذر: -أنا يا حاج طه!
ارتسمت علامات الصدمة الممزوجة بالاندهاش على وجهيهما، فقد كان الابن الأصغر لغريمهما اللدود، سريعًا ما تحولت قسمات منذر للشدة، ونظراته للعدائية والشراسة، فهب واقفًا من مكانه ليكز على أسنانه هاتفًا بحنق:
-مازن..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة