قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع والتسعون

اندفعت دمائه الغاضبة في عروقه سريعًا حينما رأى وجهه المقيت أمامه، لم يتحمل وجوده في نفس المكان معه، ملامحه تذكره بوجه أخيه المقيت الذي تعرض له ولزوجته، تشنجت قسماته كليًا، ومنع نفسه بصعوبة من إطلاق السباب النابي احترامًا لوالده، ومع ذلك ثار فيه هادرًا:
-جاي ليه؟ انت مش اتحرم عليك انت وأهلك تعتبوا المكان هنا ولا..
قاطعه والده محذرًا: -اهدى يا منذر، مش كده!

رد عليه معترضًا بشراسة وهو يحدج غريمه بنظرات مخيفة: -لأ يا حاج، هما الظاهر نسيوا اللي عملوه!
كز على أسنانه مضيفًا وهو يلوح بيده مهددًا: -وأنا ناري لسه مابردتش!
ابتلع مازن مرارة الإهانة مجبرًا، فهو مضطر للقبول بأي شيء حتى يحقق مطلب أبيه الأخير، رد عليه مطأطأ الرأس مكسور النظرات:
-أنا محقوقلك مهما قولت، ولو عاوز تشتم براحتك!

وضع يده على مؤخرة عنقه متابعًا بانكسار بائن: -أنا راضي ورقبتي تحت جزمتك، بس هاستسمحك في حاجة!
نظر إليه طه بإشفاق، هكذا تتداول الأيام بين الناس، فتارة تظن نفسك في أعلى عليين، وفي أخرى تجد نفسك تهوي في أسفل القاع، تمتم بتعجب:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحانه المعز المذل.

بدا منذر أكثر جمودًا وصلابة عن أبيه، لم ينسَ للحظة عنفهم وتجبرهم على الضعفاء، بطشهم الذي طال مداه عائلته – وخاصة أخته الصغرى – ناهيك عن مشكلاته مع أخيه، بالإضافة إلى أسيف والتي كان لها واضعًا خاصًا مع البلطجي مجد، زاد وجهه تعقيدًا وهدر متسائلاً بانفعال:
-عاوز ايه؟
ازدرد مازن ريقه قائلاً بتلعثم: -لو. ينفع. أفتح المطعم. و..
قاطعه صائحًا بعصبية وهو يكاد يهجم عليه: -إنت بتحلم؟!

استشف مازن احتمالية رفضه لطلبه، فتابع مستعطفًا: -مش عشاني والله، بس..
هدر فيه منذر بنفاذ صبر: -على جثتي إن ده حصل!
استشعر طه اندفاع ابنه الأهوج الذي ربما يودي به إلى مشكلة ما، خاصة أن طريقته الموحية تؤكد نيته في الاعتداء عليه، لذلك تدخل في الحوار قائلاً بنبرة عقلانية:
-إديله فرصة يتكلم يا ابني، ماتبقاش ظالم، وتجور عليه!
زفر ضاغطًا على أسنانه بعصبية: -استغفر الله العظيم!

رد مازن بنبرة ذليلة: -أبويا بيحاسب على أخر أيامه، وأنا مش عاوزه يموت بقهرته بسببي أنا وأخويا!
حدق فيه الاثنان بجمود جدي، فأضاف متوسلاً عل قلبيهما يرقان نحوه: -فإذا سمحت يعني تخليه يفتح المطعم، شقى عمره فيه!
رد عليه منذر بتهكم ساخر وهو يحدجه بنظرات مهينة: -ومافتكرتش ده ليه وإنتو عاملين عصباجية علينا؟
لوح طه بذراعه قائلاً بجدية: -اهدى شوية.

سلط منذر أنظاره على عدوه ليرمقه بنظرات احتقارية دونية وهو يرد بتشنج: -بلاش كلام مجانين!
ابتلع مازن من جديد مرارة الإهانة والذل، هو من جنى على نفسه بذلك، يستحق من التوبيخات والمهانة أضعافًا مضاعفة، فهو أضاع نفسه ووالده بغبائه المستحكم، فلا يلومن الآن إلا نفسه، طأطأ رأسه ذليلاً أمامهما متوقعًا الرفض، ها قد خسر أخر محاولة لإرضاء أبيه، لكن أعاد إليه الأمل طه حينما هتف بهدوء:.

-سيبنا نفكر في الموضوع وروح لحالك دلوقتي
اشتعلت عيناي منذر أكثر عقب جملته المحفزة لانفعالاته المتعصبة، فاستدار ناحية والده ليسأله بصوت محتد يحمل حنق صريح:
-إنت بتديله فرصة يا حاج
رفع عكازه بيده هاتفًا بصرامة: -منذر!
اضطر أن يصمت قسرًا احترامًا لشخصه المهيب، فكظم غضبه في نفسه لكن نظراته عكست ما بداخله، تساءل مازن بحذر وقد برقت عيناه:
-هاترد عليا طب امتى يا حاج طه؟

أشار له طه برأسه قائلاً بجمود: -قريب، اتوكل على الله!
رد عليه مازن بابتسامة باهتة وهو يتراجع للخلف: -كتر خيرك، ومعروفك ده مش هنساه أبدًا وهايفضل دين في رقبتي لحد ما أموت!
انتظر على أحر من الجمر اختفائه من أمامه ليصيح بعصبية في أبيه معاتبًا بغيظ: -إنت بتديله فرصة يا حاج
عاود والده الجلوس على مقعده، ثم سحب نفسًا عميقًا زفره على مهل قبل أن يجيبه بحكمة اكتسبها من تجارب الزمن:.

-ربنا مايحكم عليك ظالم، أبوهم مالوش ذنب في عمايل ولاده، وجيته هنا النهاردة أكبر دليل على ذلهم وكسرتهم، ولما احنا نسمح بفتح المطعم الناس هتقدرنا بزيادة، وهيتكلموا عنا بالخير، وبعدين مين قالك إني هاسيبه يفتحه من غير ضمانات وشروط!
كان غير مقتنع بما قاله، فجلس بعصبية خلف مكتبه هاتفًا بامتعاض: -اتصرف إنت يا حاج طه، لأن أنا جايب جاز مع العالم ال، دول!

عاونتها في غسل الصحون المتسخة بالمطبخ لينتهيا سويًا في وقت قليل بعد ترتيب المنزل، واستغلت كلتاهما الوقت في الثرثرة المعتادة لكن لم ينتبها إلى المتنصتة عليهما، عاودت عمتها فتح الحديث في ذلك الموضوع الحرج الخاص بزوجها وابنتها، ورغم إقتناعها بنبل نواياها إلا أنها كانت رافضة لتلك الوسيلة، جففت أسيف يديها في المنشفة القديمة متنهدة بإرهاق وهي تقول:.

-ماشي أنا موافقاكي يا عمتي، جايز أكون خاطرت بعلاقتي مع منذر، بس أنا واثقة فيه!
ردت عليها بغموض مبدية انزعاجها: -أنا عارفة ده، بس بصراحة مش عارفة أقولك ايه، ربنا يستر بقى
توجست ابنة أخيها خيفة أن يكون وراء ما فعلته أمر خطير لم تحسب تبعاته جيدًا، فسألتها بقلق:
-عمتي ايه اللي مخوفك بس؟

تنهدت بعمق وهي تجيبها: -أسيف إنتي طيبة وكل حاجة، ومقدرة والله كل اللي عملتيه، ايوه نيتك خير مع نيرمين، بس أنا خايفة لما هي تعرف إنه كان ملعوب منكم عشان هي ترضى تتعالج تقلب الدنيا!
لم تعلق عليها وأصغت بانتباه تام لكل كلمة تقولها، فتابعت عواطف مضيفة بتساؤل مريب:
-طب ايه الحل ساعتها لو مشاعرها اتطورت مع جوزك؟

تجمدت أنظار أسيف عليها حائرة في إيجاد الرد المناسب عليها، كانت محقة في تلك الجزئية الحساسة، أضافت عمتها بجدية شديدة:
-نيرمين، تقريبًا بتحبه!
لم تكن مندهشة من تصريحها، لكن خفق قلبها بتوتر رهيب من مجرد التفكير في ذلك الأمر من منظور عمتها، شعرت بجفاف حلقها، فمدت يدها لترتشف الماء من الصنبور، وقفت عواطف خلفها مكملة حديثها العقلاني:.

-وكمان إنتي مش ملاحظة إنه اتغير من ساعة الموضوع ده، معدتش بيجي زي الأول ولا بيتكلم معاكي، فكرك هو راضي باللي حصل؟!

شحوب مخيف غطا تعبيرات وجه نيرمين بعد سماعها للحقيقة الصادمة مصحوب بانقباضة قوية اعتصرت قلبها بعد اكتشافها مصادفة أمر تلك الحقيقة المرة التي لم تطرأ ببالها أبدًا، كانت هي بطلتها بجدارة، إشفاقًا على حالها أقدمت ابنة خالها على اختلاق كذبة المشاعر لتغرقها من جديد في أحلام لا أمل منها، كتمت بيدها شهقة كانت على وشك الخروج من جوفها لتفضح أمرها.

تابعت أسيف موضحة أسباب لجوئها لتلك الوسيلة: -يا عمتي محدش جرب زيي إنه يخسر حد عزيز عليه في لحظة!
اختنق صوتها وهي تضيف متأثرة: -إنه يختفي فجأة من حياته، وإنك تبقى لوحدك!
بدت على وشك البكاء وهي تكمل بصعوبة: -أنا جربت مرارة اليتم والوحدة، ومش عاوزة بنت نيرمين تجربها، ومش عاوزاكم انتو كمان تحسوه!

وضعت عواطف يدها على ذراعها لتمسح عليه برفق وهي تقول بحذر: -ربنا ما يجيب حاجة وحشة! احنا عشنا ده مع جوزي الله يرحمه والبنات جربوا إحساس الوحدة واليتم، ومش هاقولك إيه اللي حصلنا بعد كده، بس ربنا عوضنا، وأنا عملت اللي عليا عشان أعوضهم عن غيابه!

صمتت للحظة لتلتقط أنفاسها ثم استأنفت محذرة بجدية: -أنا خوفي كله من ردة فعل نيرمين، جايز متقدرش اللي عملتيه عشانها، وإنتو الاتنين بينكم مصانع الحداد، وهي مش بالساهل تسيب حاجة عاوزاها، وخصوصًا إن ده، منذر. جوزك!
زادت مخاوفها من احتمالية خسارة زوجها بسبب حسن نيتها، فهتفت بقلق كبير: -أنا غرضي كان خير والله!
-مش كل الناس بتفكر زيك!

تراجعت مسرعة قبل أن تكتشف إحداهما أمرها، هرولت إلى غرفتها موصدة الباب خلفها، ومحدقة أمامها بأعين دامعة، وضعت يديها على رأسها ضاغطة عليه بقوة:
-كانوا بيضحكوا عليا، بيستغفلوني عشان أنا..!

قطمت عبارتها لتهدج أنفاسها باضطراب ملحوظ، شعرت بهبوط حاد في معنوياتها المرتفعة، وبتثبيط رهيب في مناعتها، بألم قاتل يجتاح رأسها حتى كاد يفتك به، استنزفت مشاعرها مجددًا، وخبت أحلامها تمامًا، وانهار كل شيء في لحظة، زادت حدة الألم واشتدت قسوته، فعجزت عن الصمود، ترنح جسدها، وسقطت على ركبتيها لتبكي متألمة:
-طب ليه؟ اشمعنى أنا؟

غلت الدماء في العروق المغذية لخلايا عقلها، فشعرت بنيران متأججة تحرقه، لم تتحمل المزيد من الضغوطات المميتة، فصرخت بوجع حقيقي:
-ليه أنا؟ لييييييييه؟

امتثلت لرغبته الملحة في رؤيتها بسبب حاجته لمساعدتها في إقناع صغيره في مسألة عجز هو عن إقناعه بها، انتظرها بجوار مقر عملها ليحدثها على انفراد، فخرجت إليه متهادية في خطواتها، ابتسم لرؤيتها وهو يعتدل في وقفته بعد أن كان مستندًا على باب سيارته الجانبي، استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
-أنا عارف إني بأتقل عليكي بس محدش قدامي إلا انتي، ويحيى بيحبك وبيسمع كلامك
ردت عليه بابتسامة صغيرة: -اتفضل، أنا تحت أمرك!

حك مؤخرة رأسه متابعًا بحذر: -هل ينفع أطلب منك توصليه للمدرسة؟
قطبت ما بين حاجبيها مرددة باندهاش: -المدرسة؟!
أضاف موضحًا بضيق ظاهر في نبرته: -هو مش عاوز يروح خالص
مطت بسمة شفتيها قائلة باستغراب: -غريبة، طب ليه كده؟
أجابها بامتعاض: -مش عارف، وأنا مش حابب أضغط عليه عشان مايكرهش المكان!
سألته باهتمام وهي ترمش بعينيها: -طيب مش سألته إيه اللي مضايقه؟
أجابها دياب بتهكم مزعوج: -مابخدش منه عقاد نافع.

حدقت فيه بنظرات فارغة تفكر مليًا فيما قاله، بينما طالعها هو بنظرات عميقة محاولاً سبر أغوار عقلها، التوى ثغرها بابتسامة واثقة وهي تقطع حاجز الصمت المؤقت:
-اوكي، سيب الموضوع ده عليا، وأنا هاتصرف
شعر بالارتياح لتجاوبها معه، واستشف احتمالية وصولها إلى حل ما، فردد بتفاؤل ممتن:
-أنا مش عارف أقولك ايه!
أشارت بكفها قائلة بهدوء: -ماتقولش حاجة!

لم يكن ليفوت الفرصة هكذا دون أن يضع لمسة خاصة به، فهمس مداعبًا عن قصد: -ربنا يخليكي ليا وتفضلي في حياتنا احنا الاتنين على طول!
تحرجت من غزله المتواري، فأخفضت رأسها متجنبة النظر إليه وقد شعرت بسخونة طفيفة في وجنتيها، اتسعت ابتسامته وهو يكمل:
-تحبي نوديه دلوقتي؟ مش هأخرك، هي ساعة بالكتير
ردت باقتضاب وهي ترمش بعينيها: -ماشي!

لاحقًا، توجهت معه إلى منزل عائلته حيث انتظرتهما جليلة التي كعادتها رحبت بها ترحيبًا ودودًا معبرة عن فرحتها بمجيئها، ولجت بسمة إلى غرفة الصغير يحيى، فقفز من على فراشه ليحتضنها هاتفًا بمرح:
-مس بسمة!
ضمته هي الأخرى إلى صدرها حاملة إياه على ذراعها، ثم دغدغته بلطف لتعلو ضحكاته اللاهية معها كتمهيد حذر قبل أن تسأله بخفوت:
-ايه رأيك أنا هاوصلك المدرسة!

عبس سريعًا، وحل الوجوم على تعبيرات وجهه البريئة قائلاً بتذمر: -مش عاوز
سألته مستفهمة محاولة تخمين أسباب ذلك التحول المريب في تصرفاته للنقيض تمامًا: -يعني مش عاوز تروح معايا يا يحيى؟
أجابها بصوت خفيض: -لأ عاوز أفضل معاكي، بس المدرسة لأ!
جلست على طرف الفراش ووضعته في حجرها متسائلة بجدية ومحافظة في ذات الآن على ابتسامتها الودودة:
-طب ليه؟
هز كتفيه معترضًا بعبوس: -كده!

تابعت قائلة بجدية وهي تعبث بخصلات شعره: -طيب أنا هاقعد معاك في الكلاس، ايه رأيك؟
صمت ولم يعقب عليها، فأكملت وهي تداعبه برقة: -يعني مش هامشي ولا هاسيبك، هافضل طول اليوم معاك!
شعر الصغير باطمئنان طفيف في كلماتها، وبأمان شديد ينبعث من نظراتها، فردد بجدية: -بجد؟
أومأت برأسها بالإيجاب وهي ترد: -اه يا حبيبي، خلاص موافق؟
تعلق الصغير بعنقها متابعًا ببراءة: -ماشي، بس مش تمشي وتسيبني!

مسحت على ظهره برفق قائلة: -لأ، أنا معاك، نقوم نلبس بقى!
اتفق دياب مع ناظرة رياض الأطفال على استضافة صغيره مجددًا لبعض الوقت دون الالتزام بالجدول الدراسي ليعاود الاندماج مع زملائه تدريجيًا بعد حالة النفور الغريبة والممزوجة بالخوف والتي سيطرت عليه من المكان، ووافقت هي بصدر رحب على ذلك الأمر لكونه يخدم مصلحة الصغير ويراعي نفسيته المهتزة ويؤدي في الأخير إلى تبديد خوفه الغير منطقي.

ظل يحيى جالسًا في أحضان بسمة التي كانت جالسة بجوار والده متحرجة من الأمر برمته، لمحتهما مصادفة طليقته السابقة وهي تتجه إلى محطة الوقود، فرأت ثلاثتهم سويًا كأسرة واحدة، اشتعلت بها نيران الغيرة والغضب، تمتمت بحنق واضح وقد اصطبغت أعينها بحمرة حارقة:
-ده مكاني مش هي!

عمدت إلى ملاحقتهم لتفسد عليهم لحظاتهم الخاصة، فضغطت على دواسة البنزين لتتجاوزهم، ثم أوقفت السيارة فجأة أمامهم لتسد عليهم الطريق، مما أجبر دياب لاستخدام المكافح بصورة فجائية وحرفية ليمنع ارتطام حتمي، اندفعت أجسادهم للأمام كردة فعل طبيعي للتوقف المباغت.
سريعًا ما تحولت أنظاره للشراسة حينما رأى ولاء ترمقه بنظرات مغتاظة، ترجل من السيارة مندفعًا نحوها بعصبية وهو يصرخ:
-انتي اتهبلتي يا..!

ترجلت من سيارتها لتنظر لها بحدة وهي ترد بتشنج: -عاوزة ابني اللي راميه في حضن واحدة تانية!
إهانة قوية تلقتها بسمة وكتمتها في نفسها، وتابعت بأعين نارية ذلك الصدام الحامي بينهما، دفعها دياب من كتفها هادرًا فيها بصوت جهوري غاضب:
-الواحدة دي جزمتها القديمة برقبة 100 من أمثالك!

أحست بسمة بالفخر لكونه يدافع عنها بضراوة معيدًا لها قبل أن تتطاول أكثر عليها وتسيء لها، فتشكل على ثغرها ابتسامة راضية، وعلى العكس تمامًا كانت تحترق ولاء في مكانها من مدحه لأخرى، وخاصة هي، فضغطت على شفتيها مرددة بتشنج:
-أتكلم كويس ماتنساش أنا أبقى أم ابنك و..
قاطعها هادرًا وهو يرمقها بنظرات احتقارية: -أمه على الورق وبس، ده أخرك!

خافت بسمة من تطور الأمور بينهما خاصة أن الصغير يراقب الوضع معها بنظرات متوترة، لذا بحرص شديد طلبت منه الجلوس في الخلف، وساعدته على الانتقال إلى المقعد الخلفي، ثم أعطته هاتفها المحمول وزودت به السماعات ليضعها في أذنيه، فاستمع الصغير للموسيقى المرحة مدندنًا معها، وأدارت هي رأسها في اتجاه دياب لتتابعه عن كثب.

زادت نظراته المهينة لطليقته قوة حينما تأمل ثيابها الفاضحة التي تزداد عُريًا مع الأيام، لم تكن ترتدي سوى ثوبًا قصيرًا يبرز كتفيها وساقيها ويغطي فقط عنقها، بالإضافة إلى كم مساحيق التجميل المبالغة التي تلطخ وجهها بها، تابع مكملاً باشمئزاز صريح:
-بصي لمنظرك الأول قبل ما تكملي معايا، إنتي بقيتي شبه ال..!
فغرت ولاء شفتيها مغتاظة من إساءته لشخصها، وما زاد من غضبها هو أنه أهانها أمامها، فهتفت بنزق:.

-بقى عامل الشويتين دول عشان تترسم قصاد دي! خلاص فهمت الدور!
رد عليها محذرًا بعدائية مهددًا بصفعها بظهر كفه: -اخرسي ما تجبيش سيرتها على لسانك!
تلك المرة لم تتحمل بسمة الإهانة، فترجلت من السيارة مندفعة نحوها بتحفز رهيب، تأبطت سريعًا في ذراع دياب ليتفاجيء هو من فعلتها، سلطت أنظارها الحادة عليها لترمقها بنظرات دونية وهي تقول ببرود مستفز:
-بتكلمي مع خطيبي ليه؟

ارتسمت علامات الذهول على وجه دياب وتبدلت في لمح البصر إلى فرحة غامرة، لم يستطع التعبير عن مشاعره لكنه كان كمن بلغ عنان السماء بجملتها تلك، صفعة قوية تلقتها ولاء في قلبها لتظل متسمرة في مكانها مصدومة مما سمعته، أفاقت من صدمتها الكبيرة على صوت دياب القائل بجفاء:
-خدي بعضك وامشي من هنا، الأشكال اللي زيك مايشرفناش نتكلم معاها.

احتقنت الدماء بداخلها، شعرت بفوران محتد يشتعل بداخلها، فهدرت منفعلة: -وأنا مش هاسيب ابني لوحدة زي دي تربيه، هاخده منك وغصب عنك، وابقى وريني هاتعمل ايه!
نظر لها متحديًا وهو يرد بشراسة مهددة: -أعلى ما في خيلك اركبيه، وأنا هاطلعلك القديم كله، وخلي يحيى يعرف أمه كانت ايه!

ابتلعت ريقها بخوف من كلماته المهددة، هي تعلم جيدًا أنه لا يعبث معها، وأنه لن يسمح لها بأخذ صغيرها رغمًا عنه حتى ولو بحكم القانون، نظرت له بغيظ مكتوم، ووضعت يدها على قبضة باب سيارتها لتركبها وهي تصيح بعصبية، لكن لم ينتبه دياب لها بل وضع يده على قبضة بسمة ليضغط عليها بأنامله وهو يبتسم لها بإشراق، ورغم تحرجها منه إلا أنها حافظت على ثباتها حتى تنصرف تلك البغيضة من أمامهما، وما إن ابتعدت حتى سحبت يدها مرددة بحرج:.

-سوري إن كنت قولت..
قاطعها بتلهف وهو ينظر لها بحنو كبير: -يا ريته يكون بجد، أنا نفسي في كده والله، اديني بس فرصة وأنا..
قاطعته بسمة مجددًا متنحنحة بخجل: -احم. احنا اتأخرنا كده، يالا بينا
كان سعيدًا بظهور بوادر طيبة في علاقتهما الغير معلومة المصير، وأثر عدم الضغط عليها كي لا يفسد تلك اللحظة الحميمية التي قلما تحدث، هز رأسه مرددًا:
-ماشي، براحتك.!

أوقف سيارته عند مدخل بوابة المدرسة الرئيسية، وترجل منها منتظرًا نزول ابنه وبسمة، ارتجف الصغير رغم إحاطتها له لتبث فيه إحساس الأمان، لكن زاد يقينها أن ما يمر به مرتبط بمكروه قد تعرض له داخل ذلك المكان، التفت يحيى ليدفن رأسه في حضنها هاتفًا بخوف:
-عاوزة أروح البيت، مش عاوز هنا!
انحنت عليه لتقبله من رأسه هاتفة بحنو وهي تربت على ظهره بلطف: -ماتخفش يا حبيبي، أنا جاية معاك ومش هاسيبك، وبابي كمان معانا!

هز رأسه معترضًا: -مش عاوز، خلينا نمشي!
كان دياب على وشك الصياح فيه لكنها أشارت له بعينيها محذرة ليتراجع مجبرًا عن تعنيفه له، داعبت خصلات رأسه مرددة بلطف:
-ماشي، هاندخل نجيب الهوم ورك ونمشي، اتفقنا
رد مصرًا: -لأ.

زفر دياب بانزعاج كبير شاعرًا بالضجر لعناد ابنه الذي يزيد من غضبه، لكن استمرت بسمة في استخدام أسلوب الرفق واللين معه، وبعد محاولات مضنية لإقناعه بشتى الطرق وافق بصعوبة على الدخول، كانت كمن يجره لحتفه رغم حدسها الذي ينذرها بذلك، لكنها أرادت معرفة سبب خوفه الحقيقي.

صادف وقت وصولهم لفناء المدرسة وقت الفسحة الخاصة بطلاب المرحلة الابتدائية، وكان هو بشخصه المقزز ضمن معلمي الإشراف، تحرك بؤبؤي الصغير بعفوية نحو شيطانه المهلك حينما سمع صوته يصيح في الطلاب:
-محدش يوقع زميله!
ارتعدت فرائصه وزادت رعشته، شعرت بسمة بيده ترتجف داخل قبضتها، فالتفتت برأسها نحوه متسائلة بتوجس:
-مالك يا يحيى؟

ترقرقت العبرات في مقلتي الصغير، وتجمدت الكلمات على طرف لسانه فبدا كمن فقد النطق، لكن بقيت أنظاره مثبتة عليه هو فقط، رفعت بسمة وجهها للأمام لتدير رأسها نحو الزاوية المحدق بها، فشخصت أبصارها هلعًا هي الأخرى حينما وقعت أنظارها عليه، لقد عرفته فورًا، لم تنساه للحظة، ولم يغب عن عقلها ذكرى ليست بالسارة على الإطلاق..

عادت بذاكرتها لفترة مضت، ظنت أنها نسيتها وطوتها مع ما يطوى من ذكريات مشينة، إنه ذلك الوقح الدنيء الذي كان متواجدًا في ليلة زفاف أختها، على ما تذكر كان رفيق طليقها الذي كان ملازمًا له، رأت نظراته المسلطة عليها ولم ترتح لها أبدًا، وتحاشت على قدر الإمكان الاقتراب منه، واهتمت بمتابعة الضيوف الحاضرين.

تعمد في لحظة ما أثناء انشغالها بالحفل الالتصاق بها من الخلف لتشعر بشيء ما يلامس جسدها فانتفضت لأكثر من مرة مستنكرة ذلك الإحساس المرعب الذي جعل ساقيها يتحولان كالهلام، في البداية ظنت أنها تتوهم ما تشعر به، ولكن حينما استدارت للخلف رأته يرمقها بنظرات شهوانية مخيفة أجفلت جسدها، أخفض بصره ليشير إلى منطقة ما محظورة، فاتسعت حدقتاها برعب، وقبل أن تفتعل فضيحة كبيرة همس لها بلؤم متمرس مهددًا إياها:.

-جربي تفتحي بؤك وهاقول إنك إنتي اللي..
غمز لها بثقة ليؤكد لها عدم اكتراثه بما ستفعله، فاكتفت بصفعه بقوة قبل أن تتوارى عن أنظاره لباقي الحفل حتى انقضى اليوم وانقضت معه تلك الذكرى التي عاهدت نفسها على عدم ذكرها، ولم تلتقِ به بعدها بالإضافة إلى رفضها الذهاب إلى منزل عائلة طليقها كي تتجنب الالتقاء حتى به ولو مصادفة.

تلك الانتفاضة المخيفة أنعشت ذاكرتها من جديد فشحب وجهها سريعًا، وتذكرت ابتسامته الوضيعة التي كانت تبرز بثقة من خلف أنيابه، انكمشت على نفسها، وضمت الصغير عفويًا إليها لتحميه، شعر دياب بوجود خطب ما بها، وتفرس في تعابيرها المتحولة للارتعاد والذعر متسائلاً:
-في ايه؟

بقيت أنظارها عالقة على وجه ذلك الحيوان القذر، لم تحد عنه، فأدار دياب رأسه في اتجاهه ليرى بوضوح ما الذي تحدق فيه، تجهمت قسماته وهو يسألها بنفاذ صبر:
-بتبصي على مين كده
لا إراديًا همست بصوت شبه مختنق: -هو. هو!
لم يفهم مقصدها فسألها بضيق: -مين ده؟
تساءلت بلا وعي وهي تحاوط الصغير بذراعيها: -يحيى ده عملك حاجة؟
أجابها بصوت مرتجف وهو يتشبث بها أكثر: -ده العوو، أنا عاوز أمشي من هنا قبل ما ياكلني ويموتني!

لم يفهم دياب كلماتهما الغامضة فوزع أنظاره عليهما متسائلاً بعصبية: -في ايه يا بسمة؟
أجابته بتلعثم وهي تتراجع للخلف: -دياب، أنا. ده.
أمسك بها بقبضته من ذراعها ليجبرها على التوقف وهو يهتف بزمجرة: -ركزي معايا، في ايه؟
استجمعت شجاعتها لترد بنبرة تحمل الكثير من الحنق والغضب وهي تشير بسبابتها نحو ناصر؛ صاحب الوجه الذي لم تنساه أبدًا:
-الحيوان ابن ال، شكله عمل حاجة في ابنك..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة