قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن والتسعون

توهجت أعينه المحتقنة بنيران مشتعلة عقب جملتها التي تقشعر لها الأبدان لمجرد تخيل ما يمكن أن يفعله ذئب كهذا في طفل بريء لا يفهم من الدنيا إلا القليل، جمد أنظاره عليها متسائلاً بشراسة مخيفة:
-نعم؟ بتقولي ايه؟
ضمت الصغير إلى أحضانها لتحميه وهي تجيبه بغل واضح: -الكلب ده أكيد اتعرض لابنك!
احتدت نظراتها وهي تضيف بتشنج مريب: -أنا عمري ما أنسى الشكل الزبالة ده أبدًا!

لم تعرف أنها بكلماتها المخيفة تلك تزيد من نيرانه المستعرة بداخله، خاصة أنها لم تكن تشير إلى فلذة كبده فقط، بل إليها هي الأخرى، فهم مقصدها سريعًا، وأدرك أنه ربما تطاول باليد عليه، إن لم يكن الأمر قد وصل إلى الاعتداء الجنسي، الآن فسر سبب رهبة صغيره وخوفه المستمر، كان على قدر من الغباء ليغفل عن وجود ذئب بشري وسط هؤلاء الصغار ليعثو معهم دون رقيب أو عتيد، بلغ قمة غضبه في أقل من ثوانٍ معدودة وهو يتخيل الأسوأ، هدر آمرًا فيها من بين أسنانه المضغوطة بعصبية:.

-ارجعي العربية حالاً.

بدت شاردة وكأنها لم تنتبه لأمره الصريح، فقط نظراتها المشمئزة مسلطة على وجه ذلك الحيوان المريض، كانت تود الهجوم عليه ونبش أظافرها في عنقه لتنهش لحمه النتن حيًا فتمزقه إربًا، اغتاظ دياب أكثر من جمودها، فرفع كف يده ليضعه على فكها، وأدار وجهها ناحيته فحدقت في عينيه بتوتر كبير، رأت علامات تؤكد وجود رد قاسٍ على ما سمعه منها، رد لن يقبل فيه بالسماح مطلقًا أو التهاون في حقها أو حق صغيره أو حق أي مظلوم كان من ضحاياه، ضغط بأنامله على فكها صائحًا:.

-سمعتيني، استني في العربية!
هزت رأسها ممتثلة لأمره بخنوع كبير، أرخى أصابعه عنها لتتحرك بارتجافة طفيفة للخلف وهي ضامة للصغير يحيى في أحضانها، تابعها بترقب حتى ابتعدت نسبيًا، فاستدار برأسه ناحية ذلك الوضيع القذر ليرمقه بنظرات مهلكة، دس يده في جيب بنطاله ليخرج هاتفه المحمول، انتظر للحظة قبل أن يأتيه رد أخيه قائلاً:
-في ايه يا دياب؟

أجابه بنبرة تحمل الوعيد: -عاوزك تجيب رجالتنا يا منذر وتجيلي عند مدرسة يحيى دلوقتي
سأله منذر مستفهمًا خاصة أن طلبه يشير إلى وجود أمر مريب وخطير في نفس الوقت: -حصل ايه؟ الواد ماله؟
أجابه بانفعال وهو يجاههد لإخفاء نبرة صوته: -عرفت مين اتعرضله!
سأله منذر بنبرة حادة: -اتعرضله! قصدك ايه؟ أنا مش فاهمك! في ايه يا دياب؟

سحب نفسًا عميقًا ليضبط أعصابه قبل أن ينفجر من كثرة ما يكتمه في صدره، ثم هتف بشراسة وهو يضغط على شفتيه:
-ابن، لمس ابني، سامعني يا منذر، لمسه! وأنا هاخد حقي منه!
رد عليه محذرًا: -اهدى، وامسك أعصابك لحد ما أجيلك، واحنا هانفخ اللي جابوه، وهانطلع..!

لمح دياب مصادفة أخته الصغرى أروى بالفناء وهي تلهو مع رفيقاتها، فانتفض قلبه فزعًا عليها خاصة أن أنظار ذلك الوضيع الغير بريئة كانت مسلطة على أغلب الفتيات، فقد أعصابه وهو يحدث أخيه:
-وجايز يكون جه جمب أختك واحنا نايمين على ودانا ومش عارفين!
سمع صوته الهادر يخرج من الهاتف قائلاً بوعيد: -مش هانسيبه، اصبر عليا لحد ما أجيلك!
صر على أسنانه هاتفًا: -ماشي!

أنهى معه المكالمة ليتقدم نحو الفناء هاتفًا بنبرة عالية متعصبة: -أروى!
استمر في خطواته المتحركة نحوها متابعًا بصياح هادر: -أروى، بت يا أروى!
انتبهت لصوته فتهللت أساريرها قائلة: -أبيه دياب!
اقترب منه أحد المشرفين متسائلاً بجدية: -ايوه يا فندم، في حاجة؟
نظر له دياب بازدراء وهو يرد بتجهم: -جاي لأختي!
هز المشرف رأسه متابعًا بجدية وهو يشير بيده: -تمام، حضرتك لو عاوز تاخدلها إذن تقدر تكلم الوكيل و..

قاطعه متسائلاً بصوت شبه متشنج: -هاخدها، بس قولي مين الأستاذ اللي هناك ده؟
نظر إلى حيث يشير فأجابه ببساطة: -إنت تقصد أستاذ ناصر، مدرس الصيانة؟!
ضاقت نظراته حتى صارت أكثر حدة، وأردف متسائلاً بامتعاض: -أيوه، هو بقاله كتير هنا؟
رد عليه المشرف موضحًا: -لأ منقول قريب، بس في حاله، محدش يعرف عنه كتير!
التوى ثغره للجانب مرددًا بسخط: -ما هو باين!
أضاف المشرف بجدية: -ممنوع حضرتك تتواجد في..

قاطعه دياب وهو ينظر له بحنق: -خلاص فهمتك!
أدار رأسه ناحية أخته الصغرى متابعًا بصرامة تفهمها جيدًا: -اطلعي فصلك يا أروى هاتي شنطتك وتعاليلي، أنا هستناكي هنا، وإياكي تكلمي أي حد! سمعاني!
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد: -حاضر!
ظلت أنظاره مثبتة عليها حتى اطمئن لدخولها دون أن يمسها ذلك الوضيع الحقير بنظراته، فتحرك نحو مكتب وكيل المدرسة ليحصل على إذن بالانصراف مبكرًا قبل انتهاء اليوم الدراسي.

على الجانب الأخر، جلست بسمة بالسيارة محتضنة الصغير تمسح على ظهره محاولة امتصاص حالة الخوف التي سيطرت عليه، منحته عشرات القبلات الأمومية الحانية التي ساعدت على التهدئة من روعه، تلفتت برأسها للجانب بين لحظة وأخرى لتحدق في بوابة المدرسة متوقعة خروج دياب، لكنه لم يأتِ، فدار في رأسها عشرات السيناريوهات لما يحدث، أغمضت عينيها بقوة لتنفض صورة هذا الدنيء عن عقلها، لكن ابتسامته المقززة كانت تبرز لها بوضوح لتنغص عليها سكونها، اشتدت تعابير وجهها حدة، وتمتمت بخفوت:.

-ربنا يولع فيك وفي اللي زيك!
حاولت بحرفية استدراج الصغير يحيى لمعرفة إلى أي مدى قد تطاول عليه وتلمس جسده، اقشعر بدنها وأصيبت بالنفور والتقزز لمجرد فقط تصور ذلك الأمر يحدث معه أو مع غيره، تنفست بعمق لتضبط انفعالاتها، فقد شعرت بغلو دمائها، وبحرارة متأججة في صدرها تحثها على الترجل من السيارة والفتك به، هي خاضت ذلك الإحساس المرعب من قبل، فماذا عن صغار ضعفاء عاجزين عن الفهم أو التفسير؟

رسمت ابتسامة مصطنعة على ثغرها وهي تسأل يحيى بهدوء: -قولي يا حبيبي، العوو ده حط ايده على جسمك!
أجابها ببراءة وهو يدفن رأسه في صدرها: -ده عاوز يموتني!
مسحت على رأسه برفق، وأبعدته عنها لتنظر إلى وجهه ببشاشة مطمئنة إياه وهي تتابع بحذر:
-متخافش، مش هيقرب منك، بابي هايضربه زي ما احنا عملنا مع الأشرار، مش هايقرب منك خالص، مش إنت بتصدق مس بسمة!

هز رأسه بإيماءات متكررة، فابتسمت لتجاوبه معها، تابعت متسائلة بجدية شديدة وهي تشير إلى جزء محدد من جسده:
-ها حط ايده هنا؟
أجابها باقتضاب وهو عابس الوجه: -لأ
أخفضت يدها لتشير إلى الجزء السفلي من جسده دون أن تلمسه وهي تسأله بهدوء رغم توترها:
-طب هنا؟
رد نافيًا: -لأ
تنهدت بارتياح لعدم المساس به، إذًا فأمر الاعتداء الجسدي الصريح بات مستبعدًا، تابعت متسائلة بتريث وهي محافظة على تلك الابتسامة الودودة:.

-أومال عملك ايه؟
استخدم يحيى الصغير يديه وهو يجيبها ببراءة: -خانقني كده، وكان بيبوس بنت كده، وهي بتعيط!
اتسعت حدقتاها بهلع فقد استشفت من كلماته المقتضبة اعتدائه على طفلة أخرى وقعت كضحية في طريقه الشيطاني، ضمته إلى صدرها، ومسحت عليه برفق لتزيد من إحساسه بالعاطفة الأمومية المطمئنة، ثم طبعت على وجنته وجبينه قبلات صغيرة وهي تقول بخفوت:
-حبيبي، احنا كلنا جمبك، متخافش.

هتف يحيى بعبوس قليل: -يالا نمشي، أنا عاوز أروح البيت
ردت عليه بصوت خفيض: -هنمشي، بس بابي يجي من جوا!
مرت الدقائق طويلة عليها إلى أن رأت دياب يلج من البوابة ممسكًا بيد أخته الصغرى، نست أمرها تمامًا، وانقبض قلبها بقوة، خافت أن يكون قد نال منها بصورة أو بأخرى، شحب وجهها وهي تنظر إلى وجهها الضحوك، تحركت أعينها نحو وجهه المكفهر، فشعرت بما يعتريه من مشاعر مشتعلة، أشار لها بيده قائلاً:
-اركبي ورا!

أزاحت بسمة الصغير عن قدميها، وأرجعته بحرص للخلف لتترجل من السيارة متسائلة بتوجس:
-حصل ايه؟
رمقها بنظرات نارية وهو يرد بتشنج آمر: -ماتنزليش من العربية
زاد قلقها من طريقته الهجومية فسألته بخوف: -في ايه يا دياب؟ إنت كده قلقتني، هو قرب من أروى؟
رد بغموض أكبر وهو يجبرها على دخول السيارة: -متسأليش، اركبي!
اعترضت على أسلوبه الحاد معها قائلة: -بس..

هتف مقاطعًا بصلابة: -بسمة، أنا فاضلي تكة وهاولع في أم المدرسة باللي فيها، اركبي وانتي ساكتة
ردت باحتجاج متذمر وقد اكتسى وجهها بحمرة منفعلة: -من حقي أعرف عملهم ايه ال، ده! أنا عارفاه من أيام أختي و..
لم يكن بحاجة إلى تلميحها الضمني لكونه قد أساء لها لتلهب ثورته وتشعل بركان غضبه الذي يهدد بالانفجار توًا، زفر صائحًا بنفاذ صبر:
-بسمة بلاش تستفزي أعصابي، اسكتي دلوقتي.

استشعرت حالة العصبية المسيطرة عليه، فتراجعت عن عنادها مضطرة وهي ترد بامتعاض: -حاضر يا دياب!
اختنق صوتها وصار أكثر حدة وهي تكمل بصعوبة: -بس الكلب ده ليه تار معايا، ومش هاهدى إلا لما أشوفه متعلق!

نظر لها بجمود رغم اشتعال نظراته، كان حديثها يعكس الكثير، لكنه كان كافيًا لإعطاء إشارة لقتله، ركبت السيارة فصفق الباب خلفها متطلعًا أمامه بنظرات حادة تحمل الكثير، لم يفارق الهاتف أذنيه فقد كان بين فنية وأخرى يهاتف أحد ما، حاولت هي تخمين هوية المتصل، لكنها لم تعرف، وزال فضولها حينما رأت منذر مستقلاً إحدى شاحنات النقل التابعة له وبصحبته عدد من عماله، هنا أيقنت أن الأمر لن يمر على خير.

تعلقت أنظارها بدياب الذي أسرع ناحية أخيه، لم يختلف حاله عنه كثيرًا، خرجت من تحديقها المتمعن بهما على صوت أروى المتسائل بفضول:
-هو احنا مستنين ايه يا مس؟
استدارت برأسها نصف استدارة لتجيبها بحذر: -مش عارفة!

عاودت التحديق في دياب وأخيه فرأتهما يتبادلان إشارات غاضبة باليد، ونظراتهما تحملان الوعيد بالرد القاسي، حاولت قدر الإمكان فهم ما يقولان ووصل إلى مسماعها تهديدات بالانتقام الشرس، التفت دياب ناحيتها ليجدها محدقة فيه فعاود النظر لأخيه ليضيف شيء ما، ثم لوح له بيده وهو يتحرك عائدًا نحوها.
لم ينطق بكلمة واحدة وهو يفتح الباب ليجلس خلف المقود، فسألته بجدية: -حصل ايه؟

أجابها بغموض دون أن يلتفت نحوها: -هتعرفي دلوقتي!
ابتلعت ريقها متوقعة الأسوأ، هي تعرف تلك التعبيرات جيدًا، وقرأتها من قبل حينما يوشك على رد الصاع صاعين لمن يتجرأ عليه، التزمت بالصمت تفكر مليًا فيما سيفعله بالوضيع ناصر، هو يستحق الشنق لا محالة لتجرأه على الصغار ممن يغتال برائتهم، فلا يستطيعون البوح بما يتعرضون له سرًا ورغمًا عنهم.

ظل منذر واقفًا بجوار الشاحنة متطلعًا إلى بوابة المدرسة ومن حوله عماله، كانوا على أهبة الاستعداد، أدار بصره في اتجاه أخيه ليرسل له إشارة ضمنية ليبدأ بعدها في إدارة محرك السيارة، شعرت بسمة بالخوف فتساءلت:
-انتو هتعملوا ايه؟
لم يجب عليها، بل وجه سؤاله لأخته الصغرى وهو يحدق بها عبر مرآته الأمامية: -أروى، مدرس الصيانة ده جه جمبك؟
سألته أخته باستغراب وهي قاطبة لجبينها: -مش فاهمة يا أبيه؟

التفتت برأسها للخلف لتحدق في وجه أروى الحائر، وقبل أن تتفوه بكلمة سألها دياب بحدة قليلة:
-مد ايده عليكي؟
توترت بسمة من نوعية الأسئلة التي يطرحها عليها، بينما أجابته أروى ببساطة وهي تهز رأسها نافية:
-لأ
تابع مضيفًا بحدة: -ضربك قبل كده أو..
تلك المرة قاطعته بسمة مرددة بقوة مستنكرة طريقته في استجواب أخته وكأنه متهمة ما:
-دياب!

رد بانفعال وهو يقبض على مقود السيارة بأنامله: -نعم؟ مش أختي معاه في المدرسة ولا مش واخدة بالك؟
حاولت أن تمتص غضبه قائلة بحذر وهي توميء له بعينيها: -بس مش كده؟
سألها بنفاذ صبر وقد اشتدت تعابيره: -أومال ازاي؟
أشارت له بقبضتها محذرة: -بالراحة شوية!
ضغط على شفتيه مرددًا باقتضاب: -ماشي!

تنفس بعمق ليخرج بعدها زفيرًا قويًا، ثم تابع متسائلاً بتريث: -أروى اللي اسمه ناصر ده هزر معاكي قبل كده ولا مع حد من أصحابك؟ ضايقكم يعني؟
هزت رأسها نافية وهي ترد: -لأ يا أبيه، مستر ناصر مدخلناش إلا مرة، وأنا غبت عشان فرح أبيه منذر و..
شعر بالارتياح لكونها كانت في منأى عن نجاسته، فرد باختصار: -تمام!
اكتفى مما سمعه فضرب بيده على المقود متابعًا
-أنا نازل أجيب أمه!

انقبض قلبها بقوة خوفًا عليه، فسألته بتلهف: -دياب إنت رايح فين؟
رمقها بنظرة أخيرة دون تعليق قبل أن يخطو نحو أخيه متسائلاً بحزم: -جاهز يا منذر؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد: -ايوه، هاته برا واحنا هنتصرف معاه!
كور دياب قبضته متابعًا بوعيد مهلك: -ابن ال، مش هاسيبه!

ولج مجددًا إلى داخل المدرسة مدعيًا وجود موعد مع معلم الصيانة، تجول في الفناء باحثًا عن هدفه، لم يجد صعوبة في إيجاده، فقد كان واقفًا بالقرب من صنابير المياه يأمر الطلبة بتنظيف الفناء مما به من أوراق متناثرة، احتدت نظراته نحوه وهو يتحرك صوبه مباشرة، هتف بصوت قاتم:
-إنت ناصر؟
التفت الأخير نحوه ينظر له شزرًا لكونه يناديه مجردًا دون أي ألقاب كوسيلة للتحقير من شأنه، رد بتجهم واضح عليه:.

-اسمي مستر ناصر، أو أستاذ ناصر يا كابتن؟
لوح بيده متابعًا بازدراء: -إنت مش داخل سويقة، دي مدرسة محترمة، فاتكلم كويس!
رمقه بنظرات مهينة وهو يرد بتهكم: -وماله يا محترم!
زادت نظرات دياب حدة وهو يكمل بغموض مريب: -حيس كده بقى أعرفك بنفسي يا أبو الماستر!
أطال ناصر النظر نحوه وهو يسأله باستخفاف: -هاتكون مين يعني؟
دنا منه حتى تقلصت المسافة تمامًا، ثم لف قبضته حول عنقه ليطوقه منه وهو يجيب بنبرة عدائية:.

-قضاك يا ابن ال، يا..!
تفاجأ ناصر من كم الإهانات اللاذعة التي تلقاها دفعة واحدة بالإضافة إلى محاولة إعتداء باليد عليه، وقبل أن يفيق من صدمته أو حتى يقاومه ويرد عليه، جذبه دياب ناحيته مكملاً بشراسة:
-مش هاتفلت باللي عملته يا ابن الحرام! إنت وقعت معايا أنا بالذات
وضع ناصر ذراعه محاولاً صده وهو يرد بحنق: -في ايه؟ ماسمحلكش، ده أنا..

قاطعه دياب صائحًا بإهانة حادة: -أنا اللي هاطلع، بذنب ابني وابن كل واحد نجسته بقذارتك يا..!
ارتجف ناصر للحظة مما صرح به، وخشي أن يكون أمره قد فُضح من قبل إحدى ضحاياه، فازدرد ريقه الجاف متسائلاً بخوف كبير:
-انت. بتقول ايه؟
رد عليه دياب بصوته المحتد: -فكرك محدش كان هيعرف يا نجس؟!
ابتلع ريقه مجددًا وحاول أن يتملص منه لكنه عجز عن الإفلات من قبضتيه المحكمة عليه، هتف بصوت شبه مذعور:.

-ابعد ايدك عني، أنا مدرس محترم هنا!
رد دياب بعدوانية صارخة غير مكترث بتبعات تهوره: -انت تخرس خالص بدل ما أدبحك في قلب الحوش!
استشعر خطورة تهديده فحدق فيه بهلع، لم يكن دياب بالشخص المازح أو الذي يردد عبارات عابثة، بل كلماته موحية بشر دفين، تابع دياب محذرًا وقد لوى عنقه أسفل ذراعه:
-من سكات معايا لبرا
حاول أن يحرر عنقه من أسفله مرددًا بتوتر كبير: -انت فاهم غلط يا أستاذ أنا، ..

قاطعه بقوة وهو يضغط على فقرات عنقه: -وماله، عاوزك تفهمني الصح يا..!
توسه مستعطفًا: -يا أستاذ اسمعني بس
جرجره خلفه هاتفًا بحنق متوعد: -هاسمعك بس مش هنا!
نظر بعض المتواجدين على مقربة من بوابة المدرسة باستغراب لهما، ولكن كان دياب الأسرع في الخروج قائلاً:
-عندي كلمتين مع الأستاذ شوية وراجعين
لم يقوَ أحد على اعتراضه وإلا فضح أمره علنًا وخسر كل شيء، فاضطر ناصر أن يهتف بخوف:
-ده قريبي وهاكلمه برا، وراجع تاني!

كانت نبرته مهتزة رغم وضوحها لكنها أعطت المجال لحارس البوابة لكي يفسح لهما ليمرا، وما إن تأكد من عدم إتباع أي أحد له حتى هدر عاليًا وهو يلوح بذراعه المتحرر:
-منذر
انتبهت بسمة لصوته المألوف ورأت بصحبته ذلك الدنيء النجس، رمقته بنظرات متقززة، وتابعت ما يحدث باهتمام، أشار منذر لعماله هاتفًا بصرامة:
-الدبيحة جت يا رجالة!

حدق ناصر في عدد الرجال المحاوط به ليقيدوا حركته تمامًا وهو يتساءل بتوجس مذعور: -في ايه؟
حدجه منذر بنظرات مظلمة متأملاً وجهه المقيت، باغته برفع كفه عاليًا في الهواء ليهوى بظهره على صدغه بصفعة قوية مؤلمة، صرخ الأخير مصدرًا أنينًا موجعًا، شعر بخيوط الدماء تخرج من بين أسنانه فزاد هلعًا مما هو مقبل عليه، أمسك به من فكه يعتصره متابعًا بتهديد:
-هاندمك على اللحظة اللي فكرت بس فيها تمس ابننا!

قفز قلبه في قدميه من فرط الرعب وهمس مستجديًا بصوت متقطع: -أنا، م..
لم يمهله الفرصة لطلب الرحمة بل صاح آمرًا في عماله: -خدوه
قيده العمال وسحبوه جرًا نحو الشاحنة ليلقوه بداخلها، واندفعوا فوقه يكيلون له من اللكمات والضربات ما جعله يصرخ مستغيثًا، لم يعبأوا بصراخه فهم مكلفين بمهمة محددة وهي تلقينه درسًا قاسيًا طوال الطريق حتى يصلوا إلى المستودع حيث ينتظره جزائه.

عاد دياب إلى السيارة ليقودها، بدت أنفاسه مضطربة نتيجة انفعاله، راقبته بسمة عن كثب متجنبة الحديث معه، لكنه بادر قائلاً بصوت متعصب وشبه لاهث:
-احنا طالعين على المخزن
سألته باهتمام: -ليه؟
-هاخد حق ابني من الكلب ده!
التفت ناحيتها معمقًا نظراته وهو يتابع بجدية: -وحقك إنتي كمان!

رمشت بعينيها بتوتر مستشعرة تلك السخونة الطفيفة التي تنبعث من وجنتيها كدليل على توردهما بشدة، هو سيعيد لها حقها المسلوب، سيذيق أمثاله من الحقراء ألوانًا قاسية من العذاب، تقوست شفتاها بابتسامة باهتة لكنها راضية عما سيفعله، وضع دياب يده على كتفها مضيفًا:
-زي ما ابني يهمني واللي يدوسله على طرف أشقه نصين، انتي كمان ليكي وضعك معايا!

أدارت رأسها بعيدًا عنه متحاشية النظر إليه بعد خجلها من جملته الأخيرة، كان مطمئنًا نوعًا ما لكونها لم تنبذ مشاعره مثلما تفعل، بل على العكس كانت تلين نحوه، وقلبها المتيبس يرق من معسول كلماته الصادقة المصحوبة بأفعاله الشهمة، لم يطل التحديق فيها طويلاً، والتفت أمامه ليدير محرك السيارة منطلقًا نحو المستودع التابع للوكالة.

تعذر عليها الوصول إليه لتبلغه بتدهور حالة ابنة عمتها واضطرارها لنقلها للمشفى بصحبة عمتها التي انهارت كليًا حينما رأتها على تلك الوضيعة الحرجة، وضعت بالعناية المشددة، وتم حظر الزيارة لها نهائيًا ريثما يصدر الطبيب المتابع لوضعها الصحي تقريره الأخير، جلست الاثنتان على أحد المقاعد المعدنية بالممر تدعوان الله أن يخفف عنها ألمها، احتضنت أسيف رضيعتها برفق وهي تهدهدها، فهي الأخرى لم تكف عن البكاء وكأنه تشعر بما في والدتها.

هتفت عواطف قائلة بصوتٍ باكٍ: -أنا خايفة عليها أوي، يا رب اشفيها عشان خاطر بنتها!
ضمت الرضيعة إلى حضنها بذراع وباليد الأخرى لفتها حول كتفي عمتها قائلة: -ربنا موجود يا عمتي، هو قادر على كل شيء
مالت برأسها نحوها وهي تبكي بقلب موجوع: -آه، يا ضنايا يا بنتي! يا رب خد بإيدها!
مسحت على كتفها متابعة بصوت خفيض: -اهدي يا عمتي، إن شاء الله هتقوم بالسلامة، نيرمين جامدة ومش هاتستسلم للمرض!

كفكفت عبراتها بظهر كفها لتدعو بتضرع: -يا رب قويها على اللي هي فيه، يا رب اشفيها، إنت اللي عالم بحالنا، مالناش غيرك يا رب!
خرج الطبيب من غرفة العناية متوجهًا نحوهما قائلاً بنبرة رسمية: -لحظة من فضلكم!
هبت الاثنتان تنتفضان من مكانهما لرؤيته، تساءلت أسيف بتلهف: -ايوه، خير يا دكتور؟
ردت عواطف هي الأخرى بنبرة شبه مرتعدة: -طمنا يا ابني، بنتي جرالها حاجة؟

استصعب التمهيد لهما لكونه يرى الجو العام لحالتهما النفسية، لكن لا مفر من الحقيقة، ففي كل الأحوال هو مضطر للتطرق إلى وضعها الصحي، تنفس بعمق مستجمعًا شجاعته ليستطرد حديثه بحذر، وضغط على شفتيه قائلاً بتمهل مدروس:
-للأسف الحالة متأخرة جدًا، وحتى العلاج مش..
وضعت أسيف يدها على فمها لتكتم شهقتها قبل أن تخرج من جوفها، بينما صرخت فيه عواطف بفزع:
-ماتكملش الله يكرمك، قول انها هتفوق وتبقى كويسة!

لم يكن بيده حيلة، هي فقدت مناعتها وتفشى المرض اللعين في خلايا جسدها بضراوة ليفني جسدها، طأطأ رأسه قائلاً بهدوء مفتعل:
-دعواتكم ليها، عن اذنكم!
تراخى جسد عمتها إلى حد ما من أثر الصدمة، وخشيت أسيف أن تفقد وعيها متأثرة فأسرعت بإسنادها بذراعها الحر، وتشبثت بالرضيعة جيدًا كي لا تسقطها، هتفت بتلهف مرتعد:
-عمتي!
كانت في حالة لا وعي حزنًا على ابنتها البكرية، وهتفت بقلب مفطور: -بنتي! نيرمين!

رأتهم وهو يسحلوه أرضًا نحو المستودع فأثلج المشهد صدرها بقوة، هو يستحق الأبشع من ذلك، فقط لحظة واحدة اختبرتها معه أصابتها بالتقزز والاشمئزاز، فماذا عمن اختبر أكثر من ذلك بكثير خاصة إن كان صغيرًا عاجزًا؟ تمنت لو اقتصت بيدها منه، وأشبعته ضربًا حتى تروي رغبتها في الفتك به حيًا، استدار دياب ناحيتها متأملاً نظراتها الغريب نحوه، فشعر بالغيرة لكونها تنظر لغيره، لكنه يعلم جيدًا أن نظراتها تلك تحمل الشراسة والكره له، لمح تلك التشنجات الطفيفة في بشرتها، ورأى ذلك الزفير المشحون الخارج من صدرها، هتف متسائلاً بجدية:.

-دلوقتي هاعرف عمل ايه في ابني، تحبي تجي معايا؟
هزت رأسها دون تردد وهي تجيبه بإيجاز: -ايوه، بس يحيى و..
قاطعها قائلاً بهدوء: -واحد من رجالتنا هيوصلهم البيت، ماتشليش هم!
ضغطت على شفتيها هاتفة: -طيب!
أشار لها بيده وهو يترجل من السيارة: -تعالي!
أراد أن يصطحبها معه لتنتقم هي الأخرى منه عله يمحو تلك الذكرى البغيضة من مخيلتها رغم كونه متأكدًا أنها لن تصمت عن حقها.

امتعض من اتصالاتها المتكررة على فترات وهو مشغول في مسألة ذلك البغيض، فاضطر أن يتجاهل مكالماتها عمدًا ريثما يفرغ منه، تمتم منذر مع نفسه بضجر:
-مش وقتك يا أسيف!
التفت للأمام صائحًا في عماله بصوت آمر: -خدوا الكلب ده ورا!
رد عليه أحدهم بصلابة: -حاضر يا ريس منذر!

سحلوه بقسوة على الأرضية الصلبة ليجرح جسده ويتأذى بعنف، لكن ذلك لم يجعل نيرانه تهدأ، فمجرد التفكير في تلمسه لأخته أو حتى لابن أخيه يجعل الدماء تحتقن في لحظة في عروقه وتؤجج غضبه وتزيد من حدته فيدفعه لقتله دون تردد، لحق بهم بخطوات متعجلة لكنه تهادى في مشيته حينما رأى أخيه مع بسمة، فهتف متسائلاً باستغراب:
-جايبها ليه معانا؟
أجابه بغموض وهويشير له بعينيه: -ليها حق عند الكلب ده!

بدت نظرات منذر قاسية للغاية تنتوي كل شر له، فذلك الخبيث المنحرف تجرأ على الكثير دون أن يهاب ممن يمكن أن يردعه يومًا، وها قد حانت نهاية أمثاله..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة