قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والتسعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع والتسعون

اندفع كالثور الهائج دافعًا حارس بوابة ذلك الصرح التعليمي دون الاكتراث بمحاولاته الفاشلة لمنعه من الدخول، وكيف يمكنه أن يتصرف بعقلانية وقد أخبرته ابنته عن محاولة التحرش بها من قبل أحد المعلمين بمدرستها؟ أخبرت ببراءة والدتها عن تلك التجاوزات معها علها توضح لها سبب ذلك، ففزعت لمجرد سماعها للأمر وأبلغت زوجها فورًا الذي ترك ما بيده ليصل إلى ذلك المنحرف الشاذ الذي يعتدي على الصغار في غفلة من الجميع، وبالطبع لم يأتِ خالي الوفاض فقد حرر محضرًا بالمخفر ليسجل الواقعة المشينة ويقتص لابنته وغيرها من ضحاياه.

تفاجأ الحارس بولي الأمر وأفراد الشرطة من خلفه فلم يستطع صدهم بمفرده، وأرسل في طلب وكيل المدرسة الذي هرول راكضًا ناحيتهم وهو يتساءل بخوف:
-خير يا حضرات؟ في ايه؟
رد عليه الأب بتشنج متعصب وقد برزت حدقتاه بغضب مشتعل: -فين ناصر ابن ال، اللي شغال هنا
ضاقت أعين الوكيل مرددًا بغرابة بعد سماعه لتلك الكلمات المهينة: -نعم؟
سلط الضابط أنظاره عليه متسائلاً بنبرة رسمية: -انت مين؟

حاول استيعاب ما يحدث من وجود للقوى الشرطية بمدرسته، وكذلك بإدعاءات ولي الأمر الذي يحترق غضبًا في مكانه، فارتجفت نبرته وهو يجيبه:
-أنا وكيل المدرسة حضرتك، ممكن بس أعرف في ايه؟ وازاي حضراتكم..
قاطعه الضابط بلهجة رسمية: -معانا أمر من النيابة بالقبض على مدرس الصيانة هنا، اسمه ناصر..
هتف وكيل المدرسة مدهوشًا وغير مصدق لما التقطته أذنيه: -أستاذ ناصر؟ ليه؟ هو عمل حاجة؟

رد عليه الأب بشراسة وقد أوشك على ضربه: -انت لسه هتسأله يا باشا؟ اللي زيه الكلاب دول لازم يتعدموا في ميدان عام!
اقترب أكثر من وكيل المدرسة ليدفعه من كتفه بعنف وهو يضيف بهياج جنوني: -بقى ولادنا نسيبهم أمانة هنا عندهم تقوموا تشغلوا واحد زي ده هنا يغتصبهم
تفاجأ الوكيل بتلك الإدعاءات الصادمة، فرد بذهول كبير وقد شحب لون وجهه من هول ما سمعه:
-انت بتقول ايه؟

صاح الأخير بنفاذ صبر: -اللي سمعته، فينه ال، هاموته بإيدي!
تدخل الضابط بينهما قائلاً بصرامة: -اهدى يا أستاذ، وسيبنا احنا نتصرف بالقانون!
شعر الوكيل أنه على وشك فقدان وعيه بسبب صعوبة الموقف، ففي مدرسته يوجد ذئب بشري يغتال براءة الصغار، كيف يعقل ذلك؟ حاول تدارك الموقف مرددًا:
-الأستاذ ناصر خد اذن ومشى من شوية مع جماعة قرايبه!
حذره الضابط بجدية وهو يشير بسبابته: -لو بتتستروا عليه ده هايكون..

قاطعه الوكيل بتلهف: -الإذن موجود وأقدر أوريهولك!
بلغ الأب ذروة انفعاله فهدر بصراخ: -اتصرف يا حضرت الظابط وهاتلي حق بنتي بدل ما قسمًا عظمًا أخده بإيدي!
حاول الضابط امتصاص ثروته المنفعلة بتعقل، فرد مؤكدًا: -هانعمل اللازم، متقلقش!

ولج ثلاثتهم إلى داخل المستودع التابع للوكالة باحثين عن ذلك المنحرف الشاذ الذي عاث في الأرض فسادًا، واستباح ما حُرم عليه، اغتال براءة صغار لم يملكوا من خبرة الدنيا إلا القليل المعدود، وقعت أنظارهم عليه حيث كان مقيدًا بحبل قديم في أحد الأعمدة الخلفية، استشاطت أعين دياب فهتف بحنق من بين شفتيه المزمومتين:
-هناك!

تحركت أنظار بسمة نحوه وتوهجت بشدة حينما رأت وجهه المقيت مرة أخرى، التقت عيناه المتورمتين بنظراتها المحتدة، فارتفعت نسبة الأدرينالين المحفز لخلاياها للهجوم عليه، تذكرت ابتسامته الوضيعة التي أحرقتها حية وهو يتباهي بكونه قد تلمس جسدها رغمًا عنها وكأنه انتصار لا يضاهيه شيء، فاندفعت بلا تفكير نحوه لتنبش أظافرها في وجهه، خدشته بشراسة وهي تصرخ فيه بجنون:
-يا قذر!

توهمت ابتسامته تتسع لتستفزها أكثر، فارتفع صراخها المهتاج: -يا جبان، إنت حيوان، سامع، حيوان! الكل هيعرف بجريمتك يا..!
لم تتمالك أعصابها فهوت على صدغيه بصفعات متتالية عنيفة بقبضتي يدها، فتأوه متألمًا من قوة الضربات وخرج صوته كالأنين متحشرجًا، لم يعد به من القوة ما يستخدمه حتى في الصراخ، فقد تكفل عمال الحاج طه بإشباعه ضربًا حتى قضوا على مقاومته تمامًا فأصبح كالخرقة البالية.

كانت بسمة مغيبة نسبيًا وهي تصفعه منتقمة لكل ضحاياه الأبرياء، اقتصت منه ونالت حقها وحق أخرين عجزوا عن الانتقام من أمثاله، أفرغت فيه شحنة غضبها حتى تخدل ذراعيها وشعرت بالوهن، أشفق على حالها دياب ولم يتدخل في البداية لكي تبرد نيرانها المحتقنة بداخلها، لكن أشار له منذر محذرًا:
-دياب! خدها من هنا!
أومأ برأسه بالإيجاب، وهتف لها: -بسمة، كفاية!

تجاهلته متابعة ضربها وهي تصرخ بانفعال كبير: -اللي زيك مش لازم يعيش، إنت تستاهل الموت!
تحرك خطوة للأمام ليجذبها من رسغيها عنوة وهو يقول بجدية: -اهدي، تعالي معايا
تلوت بمعصميها محاولة تحريرهما، بدت منزعجة من إمساكه لها وجاهدت لتتملص من قبضتيه وهي تصيح بعصبية:
-سيبني يا دياب!
سحبها بعيدًا عن ذلك الدنيء قائلاً بهدوء ممتصًا لغضبها الثائر: -تعالي من هنا!

لم تستطع مقاومته أكثر من هذا، فقد أُنهكت قواها بدرجة كبيرة، استسلمت لجره لها حتى خرج بها من المستودع، شعرت بالارتياح قليلاً لكونها قد نفست عن غضبها المدفون فيها، لم تتوقع أن تتأثر وهي تبرر تصرفها العدواني:
-اللي زيه لازم يموتوا مليون مرة
ترقرقت العبرات في عينيها بقوة وهي تضيف بصوت شبه متشنج لكنه مختنق: -ده مش بني آدم، ده واحد قذر و..

انفعل لرؤيتها تبكي بسبب خوضها لتلك التجربة، فهتف مقاطعًا بحدة: -احنا لسه هناخد حقنا منه!
مد يده عفويًا على وجنتها ماسحًا ما بها من عبرات انسابت عليه متابعًا بوعيد رغم هدوء نبرته:
-اهدي انتي يا حبيبتي، مش هاسمح ل، زي ده يخليكي تعيطي!

حدقت فيه بعينيها الباكيتين مكتفية بالنحيب الخافت مستشعرة لمسته الخشنة على بشرتها، هي عايشت معه الكثير من المواقف الصعبة، وفيها أثبت أنه كأخيه؛ نسخة من الشهامة والرجولة والشجاعة، تأمل نظراتها المتطلعة إليه بتلهف مشتاق، كم ود أن يتحول ما بينهما إلى ارتباط رسمي فعلي، فيعبر لها بأريحية تامة عن مشاعره العميقة نحوها، لكنه خاف من المحاولة فيفسد الأمر برمته، اكتفى بالابتسام العذب وهو يضيف بجدية:.

-ارجعي البيت مع العيال
التفتت برأسها للخلف فوجدت الصغيران مازالا بالسيارة ويقف بجوارها اثنان من عمال الوكالة، عاودت التحديق في وجهه فأومأت برأسها موافقة، لكنه تابع بصرامة طفيفة:
-اركبي معاهم، وأنا هوصلكم
كفكفت عبراتها قائلة بصوت مبحوح: -على فكرة يحيى بخير، الكلب ده معملش فيه حاجة، أنا سألته وعرفت بنفسي
ارتسمت ابتسامة راضية رغم كونها باهتة على محياه مرددًا: -الحمدلله.

أشار لها بيده متابعًا: -تعالي اركبي يالا!
هزت رأسها دون أن تعترض عليه لتجلس بالسيارة متنفسة بعمق حتى سكنت نسبيًا
لم يتوقف عن صفعه بعنف مجبرًا الدماء على الخروج من فتحات أنفه وفمه بغزارة، فلا وجود لكلمة الشفقة والعفو مع أمثاله من الخبثاء المنحرفين، توسله ناصر مستجديًا:
-ملمستش ابنكم، ورب الكعبة ما جيت جمبه!
غرز منذر أظافره بشراسة في وجهه وهو يقبض على كفه مرددًا بقسوة: -قالوا للحرامي احلف!

احتدت نظراته أكثر مكملاً بوعيد مهلك: -هو انت شوفت حاجة لسه؟!
استشعر ناصر من نظراته المظلمة هلاكه الحتمي، هو أجرم غير مكترث بتبعات جرائره المشينة، وها قد جاء وقت القصاص العادل منه، صرخ مجددًا من صفعة أعنف تلقاها في وجهه كسرت إحدى أسنانه وجرحت شفته السفلى بألم قوي.

تحرك منذر مبتعدًا خطوة للخلف ليوقف اهتزاز هاتفه المحمول الذي كان يتحرك في جيبه، حدق في عدد المكالمات الفائتة من أسيف بتعجب، أحس بوجود خطب ما لتكرار الاتصالات بلا توقف، فأجاب في النهاية قائلاً بانفعال ملحوظ:
-أسيف أنا..
قاطعته بصوت مختنق وباكٍ: -إلحقنا يا منذر!
سألها بقلب منقبض: -في ايه؟
أجابته بنبرة متقطعة: -احنا في المستشفى، نيرمين ب. بتموت وأنا لوحدي!
هتف مصدومًا وقد شخصت أبصاره: -بتقولي ايه؟

تغيرت الوجهة تمامًا نحو المشفى، فبعد أن علمت بسمة بسوء حال أختها وتدهور صحتها فجأة انخرطت في بكاء مستمر حزنًا عليها، وحاول دياب تهدئتها بكافة الوسائل لكنه لم ينجح، ففي النهاية هي أختها وقطعة منها، أوصلها إلى هناك، ووقف إلى جوارها يدعمها، لحق به أخيه منذر بعد أن أوصى رجاله بتسليم المنحرف الشاذ للشرطة ليتم التعامل معه، فقد حرر محاميه محضرًا ضده ريثما يلقنه هو درسه القاسي، كذلك انتشر خبر اعتدائه على التلاميذ الصغار بين الجميع، وبالطبع استقبله الأباء الغاضبين عند المخفر بوابل من السباب اللاذع والضربات العنيفة حتى كاد يموت ضربًا بينهم، وتمكن أفراد الشرطة من إبعادهم عنه بصعوبة ليتم فتح تحقيقات دقيقة في قضيته المخجلة.

جلست بسمة إلى جوار والدتها المكلومة تضم ابنة أختها الرضيعة الصغيرة إلى صدرها تواسيها وتشاطرها حزنها الكبير، أحاطتها عواطف بذراعها باكية بقلب منفطر عليها، راقبهما دياب بنظرات أسفة، ثم تركهما وتحرك مبتعدًا ليجري بعض المكالمات الهاتفية عله يصل إلى طبيب جيد يتابع حالتها، بالإضافة إلى متابعة أخر تطورات قضية ذلك الذئب الدنيء، وعلى مقربة منهما وقفت أسيف تطالعهما بنظرات دامعة، هي تشفق على ابنة عمتها كثيرًا، كانت قليلة الحظ، وعاشت حياة تعيسة في زيجتها السابقة، تحرك منذر نحوها هامسًا:.

-اقعدي يا أسيف، مش هاتفضلي وقفة كده
ردت بصوت مرتجف وهي تمسح عبراتها العالقة بأهدابها: -خايفة أوي
تنهد بعمق وهو يقول: -إن شاء الله خير، ربنا موجود!
مط فمه للأمام مضيفًا باستفسار: -بس هي مش كانت كويسة وبدأت تتحسن، ايه اللي حصل؟
تهدل كتفيها بانكسار كبير وهي تجيبه بنبرة مختنقة: -مش عارفة، فجأة كده لاقينها واقعة ومش بترد علينا، والدكاترة هنا قالوا..

وضع يده على كتفها يمسح عليه برفق مقاطعًا بهدوء رغم جدية نبرته: -مافيش حاجة صعبة على ربنا! تفائلي خير
رفعت أعينها الدامعة للسماء لتردد بتضرع واثق: -يا رب اشفيها وخد بإيدها
على المقاعد المعدنية المقابلة، سحبت جليلة حقيبتها نحوها مفسحة المجال لزوجها ليجلس، وضربت كفها بالأخر محركة رأسها للجانبين آسفة على حالها، مالت ناحيته هامسة له:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، ده البت لسه صغيرة وفي عز شبابها.

رد عليها بامتعاض: -أمر الله يا جليلة
تابعت قائلة بنبرة حزينة ومواسية: -ربنا يكون في عونهم!
مصمصت شفتيها مكملة بتحسر: -ولا بنتها كبدي عليها مالحقتش تتهنى بحضن أمها، أه يا ضنايا، ربنا ما يجرب عليهم الخسارة!
نظر طه نحوها بضيق، فلا حاجة به لسماع مثل تلك العبارات المصحوبة بالنواح، فحذرها بصرامة:
-اذكري الله في نفسك يا جليلة، ماتقدريش البلا قبل وقوعه
-حاضر يا حاج، بس أصلهم صعبانين عليا
-ربنا يلطف بيهم وبينا!

لاحقًا، انتهى الطبيب من فحصها مجددًا بغرفة العناية المشددة، وأعطى تعليماته لطاقم التمريض بضرورة متابعة حالتها أولاً بأول وإبلاغه بالمستجدات، فقد استقر وضعها إلى حد ما، وبدأت تستعيد وعيها مما أعطاه مؤشرًا طيبًا، همست نيرمين بصوت واهن للغاية وهي تدير رأسها نحوه:
-أنا هاموت، صح؟
حدق فيها بعبوس طفيف ظاهر على تعبيراته، وابتسم بزيف محاولاً بث الأمل فيها عل روحها المعنوية ترتفع وهو يجيبها:.

-الأعمار بيد الله، ماتفكريش في حاجة يا مدام نيرمين!
أغمضت عينيها وعاودت فتحهما بتثاقل وهي ترد: -أنا حاسة بده، أجلي قرب!
تنحنح بصوت خفيض متابعًا بنبرة شبه متحمسة: -احنا كنا فين وبقينا فين، المهم إن حالتك مستقرة دلوقتي، وده شيء كويس و..
قاطعته بيأس وهي تحاول الإشارة بيدها المرتعشة: -محدش بيقوم من المرض ده
وضع يده على كفها ليعيده إلى مكانه متأكدًا من ضبط الإبرة الطبية به وهو يقول: -خلي عندك أمل في ربنا.

لم يستطع إقناعها فقد كانت متأكدة من دنو أجلها، ابتلعت ريقها المرير في حلقها الجاف متسائلة:
-هما. أهلي برا؟
أومأ برأسه قائلاً: -ايوه، كلهم مستنينك وهايفرحوا لما يشوفوكي
تشكل على ثغرها ابتسامة باهتة وهي ترد: -كويس، أنا محتاجة أشوفهم
حذرها قائلاً بجدية: -مافيش داعي للإجهاد، الراحة مطلوبة يا مدام نيرمين
هزت رأسها معترضة وهي تقول بإصرار مريب: -لازم أتكلم معاهم، لو سمحت ناديلي أهلي.

لم يجد بدًا من الاعتراض على طلبها، فربما دعم أهلها يفيدها في تلك المرحلة الحرجة، لذلك ردد مستسلمًا:
-ماشي، بس مش هاينفع يدخلوا كلهم مرة واحدة، هيتقسموا
أغمضت جفنيها قائلة بضعف: -طيب، خليني أشوف الأول أسيف و. ومنذر لو كان معاها!
رد عليها بهدوء جاد: -حاضر، بس نصيحتي بلاش تكلمي كتير.

حركت رأسها بالإيجاب بإيماءة صغيرة كإشارة عن انصياعها لنصيحته، ابتسم لها مطمئنًا إياها، ثم أشار للممرضة بالبقاء معها ريثما يبلغ عائلتها برغبتها.
تجمعوا حول الطبيب حينما رأه يتجه نحوهم وكل واحد منهم يعتري صدره مشاعرًا مختلفة عن الأخر، كان خوفهم الأكبر والمشترك هو أن يبلغهم بما يخشون سماعه، لكن تنفسوا جميعًا الصعداء حينما استطرد حديثه قائلاً بهدوء:
-حالة مدام نيرمين مستقرة والحمدلله، وفاقت كمان!

بكت عواطف فرحًا لأنها لم تفقد ابنتها بعد، وأنها لا تزال على قيد الحياة، شعرت براحة تجتاح قلبها الملتاع عليها وظلت تهمس بكلمات شاكرة للمولى على رحمته الواسعة بها، في حين ضمت بسمة رضيعتها الوحيدة إلى صدرها بذراعيها وهي تقبلها بحب صادق، ابتسمت أسيف بسعادة من بين عبراتها الساخنة ونظرت في اتجاه منذر الذي كان يطالعها بنظراته الحنونة، أخرجهما الطبيب من تحديقهما حينما تابع بجدية:.

-وهي طالبة تشوفكم كلكم، بس في الأول أسيف ومنذر!
تبادل الاثنان نظرات غريبة عقب جملته تلك، وتحولت ملامحهما للتوتر والقلق، انقبض قلب عواطف بقوة وهي تسأله:
-خير يا ضاكتور؟
أجابها بجمود: -مش عارف والله، بس هي عاوزة الاتنين دول الأول
هتف منذر بجدية: -تعالي يا أسيف، احنا هندخلها وهنعرف في ايه؟

ارتعش جسدها وهي تتحرك معه نحو غرفتها، بدت واجمة للغاية محاولة تخمين سبب طلبها المريب، اضطربت أفكارها وتداخلت معًا فلم تستطع التفكير بذهن صافٍ أو حتى تخمين السر وراءه.

دقت الباب بخفيفة قبل أن تدخل الغرفة وتطالعها بنظراتها الحزينة، كانت مختلفة كليًا عن صورتها السابقة، ذبول رهيب اعتلى قسماتها، بالإضافة إلى شحوب مزعج يشبه الموتى في انتشاره على بشرتها، حاولت أن تبتسم لتقاوم رغبتها في البكاء حسرة على حالها، فبدت ابتسامتها مهتزة باهتة، همست لها نيرمين بصوت خافت:
-قربي مني.

قاومت عبراتها التي تلألأت بكثافة في مقلتيها وهي ترد بصوت شبه مختنق: -حمدلله على سلامتك، الدكتور طمنا وقال..
قاطعتها مبتسمة بتهكم: -هو في حد بيصدق كلام الدكاترة؟!
دق منذر الباب بقبضته منكسًا رأسه قليلاً ومخفضًا أنظاره وهو يقول بصوت خشن ليلفت الانتباه إلى وجوده:
-احم. سلامو عليكم!
همست نيرمين بتنهيدة تحمل الكثير وهي تحرك عينيها نحوه: -سي منذر
ظل مطأطأً لرأسه وهو يسألها بجمود جاد: -ازيك يا أم رنا؟

أجابته ساخرة من مرضها: -زي ما انت شايف، بأموت!
اعتصر قلب أسيف بألم قوي من جملتها تلك، وتوسلتها بصوت مختنق: -ماتقوليش كده الله يكرمك، إنتي هاتعيشي
ردت عليها نيرمين بإحباط تام: -معدتش فارقة!

انهمرت عبرات أسيف بغزارة وغص صدرها بالبكاء الحزين، كانت تراها في أضعف حالاتها، في أصعب المواقف وأقساها، لم تعد تلك القاسية الغليظة متحجرة القلب والمشاعر التي لا تعبأ بأحدٍ سوى نفسها، تحولت كثيرًا، وبدت أخرى، كتمت بصعوبة شهقاتها الموجوعة عليها، لكن زاد ألمها وكذلك حدة الوخزات التي أوجعت حلقها حينما قالت بهدوء:
-أنا عرفت ال. الحيلة اللي لعبتوها عليا.

تجمدت أنظار منذر على زوجته بعد اعترافها بكشف ملعوبهما، وبدا وجهه مشدودًا على الأخير، هو توقع ذلك، وحدث ما كان يخشاه، هتفت أسيف ببكاء تسترجيها:
-أنا أسفة والله، سامحيني يا نيرمين، بس غرضي كان..
قاطعتها الأخيرة بصلابة قليلة: -ماتبرريش!
حاولت توضيح موقفها لها متوسلة: -صدقيني أنا كنت.
ردت عليها نيرمين بتنهيدة متعبة وهي تسعل: -اسمعيني شوية!

صمتت أسيف مجبرة ولم تستطع أن تحيد بعينيها الباكيتين عنها، ربما كانت نيتها حسنة معها لكنها أخطأت بالتلاعب بمشاعرها، ورغم ذلك تابعت قائلة بصوت منهك:
-أنا عاوزة أشكرك على معروفك معايا، إنتي أحسن مني مليون مرة!
نظرت لها أسيف بصدمة، فأكملت بصعوبة وهي تحرك عينيها نحو حبها المستحيل: -ايوه، دي الحقيقة، انتي تستاهلي واحد زي. زي سي منذر!

رفع الأخير عينيه نحوها حينما سمعها تتفوه باسمه ليحدق فيها بنظرات مطولة مستشعرًا تلك المرارة والألم في تحديقها له، واصلت حديثها بابتسامة منكسرة:
-هو بيحبك ومقدرك وهيحافظ عليكي!
كان الموقف عصيبًا للغاية، هي تعبر عن مشاعرها التي لم تجد من يغزيها في صورة أمنيات حلمت بها، خانتها عينيها فبكت وهي تضيف:
-مانكرش إني كان نفسي في حد زيه يحبني، يخاف عليا من الهوا طاير، قلبه يدق عشاني بس. نصيبي كده!

مسحت أسيف عبراتها بالمنشفة قائلة بصوت منتحب: -إن شاء الله هتقومي بالسلامة وه..

اكتفت من تحديقها في وجهه الذي عشقت تفاصيله بجوارحها، هو لم يكن لها منذ البداية، تلك هي الحقيقة التي حاربت لتثبت عكسها، وفي الأخير خسرت المعركة، ولم تظفر سوى بالمعاناة والألم، هو لم يشعر بخفقان قلبها ه ولا بحبها الذي حكم عليه بالنهاية قبل حتى يبدأ، انتهى الأمر بالنسبة لها، استدارت ببطء برأسها نحو ابنة خالها لتحدق فيها بعينين دامعتين وهتفت بجدية وهي تشير لها بسبابتها المرتعشة:.

-بصي عشان مش قادرة أتكلم كتير، أنا عاوزاكم تكملوا فرحكم وتتجوزا..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة