قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس والأربعون

بدت منزعجة من تجاوز ابنها للأعراف والتقاليد المتبعة في منطقتهم الشعبية، وتصرفه بعقلانية قليلة مع قريبة عواطف.
ربما هي تتعاطف معها لكنها لن تسمح بحدوث شيء غير لائق.
أغلقت الباب بعد انصراف الجميع، وسارت تفكر مليًا فيما رأته عيناها.
استمرت في حك ذقنها وهي تحدث نفسها بضجر: -مايصحش أسكت عن اللي شوفته ده، حتى لو نيته يساعدها!

هزت جليلة رأسها بإيماءة واضحة وهي تضيف مستنكرة: -بردك دي مش أصول، وهو المفروض يبقى عارف ده، والناس ليها الظاهر!
ظلت هكذا لعدة دقائق تحاول اقناع نفسها أن صمتها عما صار يعني رضاؤها التام وهو ما لم يحدث.
هي لديها مخططات من أجله، ولن تحيد عنها في الوقت الحالي، ولن تدع أي شيء يعكر صفوها.

ظل حاملًا إياها طوال هبوطه على الدرج، وهي بالطبع كانت في قمة خجلها منه. هو يبرع في استغلال الموقف، وهي مضطرة لمواكبته رغمًا عنها.
لم تخلو بشرتها من تلك الحمرة الساخنة التي اكتست وجهها كليًا، وتحاشت قدر المستطاع التحديق به على الرغم من إحساسها بأن نظراته لم تفارقها.

أصاب حدسها الأنثوي في ذلك، فمنذر واظب على مطالعتها بنظرات غريبة. نظرات حملت بين طياتها خوفًا من أن تلاقي تلك الهزيلة مصيرًا مشابهًا للمراهقة المتوفاة.
هي مصادفة علقت مع شخص يعلم جيدًا بنواياه الدنيئة. ولكنها غير مدركة بعد لحقيقة الوضع. لذلك أخذ على نفسه العهد أن يمنعه عنها، مهما كلفه الأمر.
لحقت بهما نيرمين وعيناها تطلقان شررًا متقدًا.
لو كان الحنق شخصًا لتجسد ببشاعته ليعكس ما تشعر به الآن.

لم تتوقف عن رمقها بنظرات احتقارية مشتعلة، فتلك البائسة تعيسة الحظ تنعم بما حُرمت هي منه، من أبسط الأحلام الوردية لأي فتاة مقبلة على الزواج.
حرمت من زوج محب يدافع عنها ويحميها، من شخص يخشى عليها من إصابتها بالسوء، بل يفني عمره من أجلها هي فقط.
فأسيف من وجهة نظرها تملك – رغم يتمها – الكثير والكثير. وهي لن تقف في وضع المشاهد الصامت تراقب اندلاع شرارة التجاذب بينهما.

خشيت نيرمين أن تعترف لنفسها بأنها تكن شيئًا لذلك الذي يجذبها إليه رغم جفاءه معها. بأن قلبها قد تحرك ونبض لأجله.
ربما هي مجرد أوهام في عقلها، ليست واثقة من تفكيرها، لكنها إن تركت العنان لمشاعرها، وسمحت لها بالخروج من بوتقتها سيظهر الأمر واضحًا عليها.
تريثت فيما تفكر به. ومع ذلك ستمنع غيرها من التطلع إليه.
بعد لحظات كان قد وصل بها إلى مدخل البناية، وحينما اقترب من سيارته أنزلها على ساقيها.

اتكأت هي على كتف عمتها لتكمل المسافة القصيرة المتبقية سائرة بخطوات عرجاء.
فتح منذر الباب الخلفي لسيارته لتركب بسمة أولًا، وانتصفت في جلستها بالمقعد لتشكل حاجزًا بين أختها وابنة خالها.
جلست إلى جوارها أسيف، وفي الجانب الأخر نيرمين، بينما جلست عواطف في المقعد الأمامي.
عدل هو من وضعية المرآة ليطالع من خلالها وجهها الحزين.
بقيت أنظاره عليها، وكذلك ظلت أنظار نيرمين تراقبه عن كثب.

كانت دومًا تعقد تلك المقارنة المؤلمة.
تمنت لو شعر بتلك الحرقة المتأججة في نفسها. أن تتعلق رغمًا عنك بمن لا يشعر بوجودك.
هي لم تنعم مطلقًا بنظرات كتلك، ولم تحظَ بفرصة للتعبير عن مشاعرها تجاه طليقها. فقط البؤس والإهانة حتى في أبسط الأشياء.
نفضت عن عقلها ذلك التفكير المرهق، ورسمت على ملامح وجهها تعابير جامدة.
فقبل أن تشرع في أي شيء عليها أن تتأكد أولًا مما يؤرقها.

أوقف السيارة عند المدخل تقريبًا، فترجلت أسيف سريعًا منها لتهرب منه قبل أن يحاصرها بأفعاله التي تخجلها، وتحاملت على نفسها تلك الآلام الموجوعة لتلج للبناية.
لحقت بها بسمة، ومن خلفهما كانت تسير عواطف بخطى متمهلة.
أطفأ منذر المحرك، واستعد للنزول والدخول للمدخل للتأكد من وصولهن للأعلى، لكن أسرعت نيرمين بإعتراض طريقه لتمنعه من تكرار الأمر، وشكلت بجسدها حائطًا أمامه، ثم ابتسمت هاتفة بنعومة مصطنعة:.

-ربنا يخليك لينا يا سي منذر، والله لولاك كنا بقينا في حوسة!
نظر لها بجمود وهو يرد بفتور: -عادي يعني!
تابعت قائلة عن عمد: -الحق يتقال مافيش زي شهامتك ولا جدعنتك، وخصوصًا مع آآ.
توقفت عن اتمام عبارتها لتخفض نبرتها قائلة بقصد: -مع الكل حتى لو كان قليل الأدب وناكر للجميل!
انعقد ما بين حاجبيه مرددًا بعبوس: -نعم!

أشارت بكفها للخلف وهي توضح غموض عبارتها بتجهم خفيف: -قصدي على القاسية اللي معدنهاش دم، بنت خالي، وشهامتك معاها مع إنها ماتستهلش!
التوى ثغرها بابتسامة تهكمية وهي تضيف بمكر: -بس هي بردك زي أختك الصغيرة، إنت أكيد اتصرفت معاها على الأساس ده، صح؟
هتف مشدوهًا وقد ارتفع حاجبه للأعلى بإستنكار جلي: -أختي؟!
ابتسمت ببلاهة وهي تكمل بخبث: -اه، ماهي لو مكانتش أختك مكونتش إنت تعبت نفسك عشانها وشلت همها معانا!

فهم منذر ما الذي ترمي إليه، فانتصب في وقفته، ورمقها بنظرات حادة هاتفًا ببرود:
-أها. ما انتو كلكو أخواتي!
اتسعت حدقتاها إلى حد كبير عقب جملته المتعمدة تلك، وتابع بجفاء: -وخصوصًا إنتي!
انفرج ثغرها بصدمة أكبر، وقبل أن تفيق منها، استأنف حديثه بجمود مستفز: -ويالا بقى عشان تلحقي أمك وأخواتك يا. يا أختي!
رمقها بنظرات أخيرة جافة قبل أن يستدير بظهره ليركب سيارته ويقودها مبتعدًا عنها.

ظلت متسمرة في مكانها عدة لحظات محاولة استيعاب الموقف.
غمغمت مع نفسها بغيظ: -أخته مين! هو اللي هاعمله فيها هايطلع عليا، والله ما يحصل أبدًا!
عاودت تكرار العبارة الأخيرة هاتفة بإستنكار: -هه، بيقولي يالا ياختي، أل أخته أل!
لاحقًا، دس في فمه الكثير من الطعام دفعة واحدة يلكوه بطريقة مقززة.
نظر له أباه بنفور مرددًا: -بالراحة يا بني، دي مش طريقة أكل!

رفع مجد أنظاره عن صحنه ليرد عليه بصوت متحشرج وبقايا الطعام تتقاذف من فمه: -جرى ايه يا حاج، معدتي نشفت من الزفت اللي كنت بأكله
نظر له مهدي شزرًا وهو يقول: -مقولتش حاجة، بس مش كده
عبس بوجهه أكثر قائلًا: -طيب! خلاص!
وضع مهدي كفه على الكف الأخر محدقًا أمامه بشرود، ثم تمتم مع نفسه بضجر: -استرها يا رب في اللي جاي!

ضيق مجد نظراته نحوه، ثم مسح يديه في المنشفة الموضوعة أمامه وهو يسأله بجمود: -انت لسه شايل هم الولية شادية؟
رد عليه بامتعاض: -اه، انت مش عارفها دي عقربة، قرصتها والقبر
غرز مجد ظافر يده في أسنانه يسلكها، وصاح بصوته الخشن: -على نفسها مش عليا!
حذره أباه قائلًا بغلظة: -بأقولك ايه أنا مش عاوز مشاكل لا معاها ولا مع غيرها، وكفاية إن الدور اتلم قبل ما يولع من تاني مع عيلة حرب.

أغاظته كلماته الأخيرة، فهب واقفًا من معقده، ثم ضبط حزام بنطاله ليرد بتهكم ساخط:
-انتو لسه بتخافوا منهم؟ دول هوا!
زم والده فمه هاتفًا بحدة وهو يشير بكفه: -لا بنخاف ولا مابنخافش، احنا بقينا حبايب وفينا بينا مصالح!
انعقد ما بين حاجبيه بإندهاش مريب، وردد باستغراب: -مصالح، ده كلام جديد بقى!
هز أباه رأسه بإيماءة ظاهرة وهو يجيبه: -ايوه، ما انت غايب بقالك كتير!

تجشأ مجد قائلًا وهو يدنو منه: -بالراحة كده عليا، واحكيلي بالظبط على اللي فاتني كله!
قبلت بعرضه السخي بعد تفكير مرهق، وارتضت أن تبيع ابنتها مقابل ذلك المبلغ المادي الضخم، ولكنها أخفت عنها الأمر حتى تتماثل تمامًا للشفاء.
تنهدت بعمق، ثم دنت من فراشها الطبي بغرفة العناية المركزة لتقف أمامها محدقة فيها بنظرات مطولة أسفة على حالها البائس.

كانت دومًا أداتها للحصول على مبتغاها من الأموال، واليوم هي تراها عاجزة عن الشعور بأنوثتها الكاملة.
ابتلعت شادية ريقها بتوتر، ثم مدت يدها لتمسح على ساق ابنتها الغائبة عن الوعي مرددة بخفوت حزين:
-سامحيني يا بنتي، كان لازم أوافق، انتي مش عارفة الزفت أخوه ممكن يعمل فيكي ايه!
احتدت نظراتها، ثم زفرت بحنق وهي تتابع: -ده ابن حرام ومش هايسيبك لو حطك في دماغه، وكده كده هتطلعي برضوه خسارة!

رفعت رأسها للأعلى لتكمل بوعيد: -بس وعد مني هأمنك وهاجيب حقك كله بعدين!
سمع تلك الدقات الخافتة على باب غرفته وهو يتقلب على فراشه، فاستدار برأسه نحوه صائحًا بنبرة ثقيلة:
-ايوه!
فتحت والدته الباب راسمة على ثغرها ابتسامة هادئة وهي تسأله: -صاحي يا منذر؟
أجابها بتثاؤب وهو يمط ذراعيه: -اه يامه، في حاجة؟
ولجت إلى داخل الغرفة قائلة بجدية: -معلش يا بني، كنت عاوةز أتكلم معاك في كلمتين كده.

اعتدل في نومته، وسحب الوسادة ليضعها خلف ظهره، ثم سألها بإهتمام: -خير؟
جلست على طرف الفراش إلى جواره، ورسمت تعابير جادة على ملامحها وهي تكمل حديثها بعتاب:
-يصح اللي شوفته قصادي النهاردة؟
عبس وجه منذر بدرجة ملحوظة ساءِلًا إياها باستفهام: -هو في حاجة حصلت وأنا معرفش؟
أومأت برأسها بالإيجاب وهي ترد: -اه. انت مش واخد بالك من آآ.

ضغطت على شفتيها مانعة نفسها من الحديث، فانزعج منذر من صمتها المفاجيء، وصاح بنبرة غليظة:
-كملي يا أمي سكتي ليه؟
تنحنحت جليلة بحرج، وتابعت بامتعاض ظاهر على وجهها: -بص أنا مش عاجبني اللي حصل مع بنت أخو عواطف! هي البت صعبانة عليا، بس بردك مايصحش ت. آآ..

تصلبت قسمات منذر بانزعاج كبير، واحتدت نظراته صائحًا بصوت آجش منفعل: -في ايه يا حاجة؟ هو انتي شوفتني بأعمل الغلط معاها، دي حيالله حتة مساعدة لا راحت ولا جت!
ردت عليه بحذر: -لأ مقصدش!
ثم أخفضت نبرتها لتتابع بتبرم: -بس الناس تقول ايه لما يشوفك شايلها كل شوية وداخل بيها عليا؟!
أشاح منذر بوجهه للجانب، ورفع يده واضعًا يده على رأسه ليحكها عدة مرات، ثم نفخ بنفاذ صبر مرددًا بعصبية:.

-يادي أم الناس اللي طالعنلي في البخت!
التفت ناحيتها مكملًا بصوت قاسٍ يحمل التهديد: -خليهم يكلموا بس وأنا هاقطع لسانهم!
ردت عليه بتجهم: -انت مش هاتمنع الناس تتكلم، ولو مش قدامك هيبقى من وراك! واللي يعيبك يعبنا!
صاح بها بنفاذ صبر: -هاتي الناهية يامه
تنهدت جليلة بإرهاق وهي تتابع بهدوء: -يا حبيبي أنا بس بأنصحك!

تحركت ناحيته قليلًا لتضيف بمكر: -وبعدين ماتنساش نيرمين كانت موجودة معانا وشافت اللي حصل بعنيها، يعني تفكر في ايه لما آآ..
فهم منذر سريعًا ما رمت إليه في كلماتها، لذا قاطعها بتجهم: -أنا كده مش هاخلص بقى!
ردت عليه معللة إصرارها على التفكير في الزواج بابنة عواطف: -ماهو انت مش بتفكر في مصلحتك، والعمر بيجري منك!

رد عليها بحدة وقد أظلمت نظراته: -أنا عاوز أفضل كده ولو حكمت هاتجوز أي حد، بس مش بالشكل ده، ولا هي بالذات!
تفاجئت من ردة فعله المبالغة، وهتفت مستنكرة رفضه لها: -ليه بس؟
صاح بنبرة مزعوجة وقد ارتفع حاجباه للأعلى: -هو بالعافية! يا البت دي يا لأ؟ جرى ايه يامه!
بررت موقفها بحذر محاولة إقناعه: -هي مضمونة يا بني وبتخلف، يعني هاتجيبلك العيل اللي نفسك فيه من زمان.

حدج منذر والدته بنظرات مغتاظة من طريقتها في فرض تلك السمجة عليه، ويئس من تمسكها بها وكأنها أخر النساء على الأرض.
أزاح الوسادة من خلف ظهره، وتزحزح للأسفل قائلًا باقتضاب: -قومي يا حاجة جليلة شوفي البيت، وسيبني أتخمد! أنا مصدع
نظرت إليه جليلة وهو يوليها ظهره بنظرات معاتبة، ثم تابعت قائلة باستسلام وهي تنهض عن الفراش:
-ماشي. براحتك!

تحركت في اتجاه باب الغرفة، وقبل أن تخرج منها استدارت برأسها هاتفة بتحذير: -بس أديني بردك نبهت عليك عشان تاخد بالك!
رفع رأسه عن الوسادة ليصيح بصوت متثاقل: -أمه
ردت عليه بتلهف وقد ظنت أنه ربما رضح لتحذيرها: -نعم يا ضنايا
سألها بجمود بادي عليه: -اياكي تكوني لمحتي بالموضوع ده ليها ولا فاتحتيه فيه؟!
هزت رأسها نافية وهي تقول: -والله ما حصل!
ثم ابتلعت ريقها مضيفة بارتباك: -آآ. هو بس أبوك!

زاد انعقاد ما بين حاجبي منذر وهو يتساءل: -ماله أبويا؟
أجابته بتوجس قليل: -عنده فكرة عنه بس آآ..
صاح مقاطعًا بتذمر من تصرفاتها: -بردك عملتي اللي في دماغك!
حاولت أن تغطي على فعلتها، فزفرت قائلة بإحباط: -يوووه يا منذر، والله الواحد ما عارف يرضيك ازاي، أحسن حاجة أسيبك تنام!
ثم اندفعت للخارج غالقة الباب خلفها.
ظلت أنظاره معلقة عليه لثوانٍ قبل أن يلقي برأسه على الوسادة مرة أخرى.

حدق في سقفية الغرفة مخرجًا زفيرًا عميقًا من صدره، وحدث نفسه بعناد أشد: -طيب يا أمي. وأنا مش هاتجوزها لو عملتي ايه..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة