قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السادس عشر

أسرعت أسيف في خطواتها لتسير إلى جوار الممرضة لكن قبل أن تنحرف للرواق الجانبي سمعت صوت إنزلاق الأبواب، فأدارت رأسها في اتجاه مصدره
رأت طبيب الطواريء وهو يلج من الغرفة، فتوترت أنفاسها، وتوقفت عن السير.
لا إرادياً اندفعت نحوه متساءلة بتلهف: -طمني يا دكتور! ماما عاملة ايه؟
ضغط الطبيب على شفتيه قائلاً بجدية: -خير. هي الحالة مش سهلة، بس ادعيلها.

كتمت شهقتها المرتعدة قبل أن تخرج من فمها بكفي يدها، وحدقت فيه بهلع.
تابع الطبيب مردداً بنبرة عقلانية: -إحنا بنعمل اللي علينا، والباقي على ربنا! ادعيلها!
لم يضف المزيد، وابتعد عنها تاركاً إياها في حالة صدمة.
شعرت أسيف بالضياع والخطر.
هي بمفردها في بلد غريب عنها، في مشفى بارد، حوائطه الكئيبة تكاد تطبق على أنفاسها.
ووالدتها الغالية توشك على ترك تلك الحياة الفانية للأبد.

ترنحت بجسدها بخوف، وعجزت عن الوقوف بثبات، فاستندت على أقرب حائط بكف يدها لتبكي بمرارة وآسى.
حاول منذر اللحاق بها، فرأها تتحدث إلى الطبيب، فتوقف في مكانه، وراقبها منذر بنظرات مشدوهة.
ظل باقياً في مكانه محافظاً على مسافة معقولة بينهما.
هو يحاول أن يستوعب كم الصدمات الغير منطقية التي تحدث أمامه خاصة ما يتعلق بتلك الطائشة البائسة.

لا يعرف لماذا علق بذهنه وصفها بكونها بائسة، هل لأنه هو انعكاساً لها، فلم يصدف أن يراها سوى بالشحوب والحزن والأسف.
ما أصابه بالريبة والحيرة هو تلك الحالة المنكسرة المسيطرة كلياً عليها.
فإن كانت لا تخشى الفقد أو الخسارة ومعتادة على مواجهة الموت يومياً بألاعيبها التي تتقنها فكيف إذن تخاف من حادثة كهذه وترتجف من رأسها لأخمص قدميها وكأنها ترى لأول مرة الدماء والموت نصب عينيها.

مزيج خليط من أفكار غير مرتبة عصفت بعقله جعلته متخبطاً في إصدار حكم صائب عليها.
لكن الأعجب والمثير حقاً لفضوله هو كنيتها ( ابنة عائلة خورشيد )، وتلك معلومة هامة عليه أن يتأكد من صحتها.
أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وسارع بمهاتفة أبيه.
في نفس الأثناء، سردت عواطف للحاج طه ملابسات الحادث المؤسف الذي وقع في مدخل بنايتها وتسبب في إيذاء إحدى السيدات.

بالطبع كانت تهاب من المساءلة القانونية والتعرض لمشكلات هي في غنى عنها، لذا لجأت إليه لمساعدته.
حمدت الله في نفسها وجود منذر الابن البكري له ليشهد بنفسه على كونها غير مسئولة عن وقوع تلك الكارثة، وأنها كانت قضاءاً وقدراً.
طمأنها الحاج طه قائلاً بهدوء عقلاني: -متقلقيش، احنا معاكي يا عواطف، ودي حاجة عادية ويا ماما بتحصل.

ردت عليه بتوتر رهيب وقد زاغت أنظارها: -أنا خايفة يجرونا على الأقسام ونتبهدل، وربنا المعبود العفش كنا حاطينه مؤقتاً بس لحد ما نفضيله مكان!
أردف قائلاً بثبات: -قضا ربنا، أنا هاتصرف، وهاتكلم مع منذر ولو في آآآ..
لم يكمل جملته للأخير حيث قاطعه صوت رنين هاتفه المحمول، فدس يده في جيب جلبابه ليخرجه، ثم حدق في شاشته، وردد بحماس:
-أهوو. ابن حلال بيتصل بيا.

تنهدت عواطف بإرتياح، وهتفت بعدها بتلهف: -الله يكرمك وصيه عليا، وقوله آآ..
قاطعها طه مشيراً بكفه: -استني بس أرد عليه الأول
هزت رأسها بإيماءة طائعة مرددة بخفوت: -اتفضل يا حاج!
وضع طه الهاتف على أذنه متساءلاً بتريث: -أيوه يا منذر، إنت فين؟ لسه في المشتشفا ( مستشفى ) مع الست إياها ولا عملت ايه؟
أجابه الأخير بصوت قاتم: -أيوه أنا معاها في المستشفى!
سأله طه بإهتمام وهو ينظر في اتجاه عواطف: -اخبارها ايه؟

رد عليه منذر بجدية: -حالتها متسرش، بس لسه عايشة
تنهد طه بعمق قائلاً: -الحمدلله، ربنا يسترها معاها، المهم أنا كنت عاوزك آآ..
لم يدعه منذر يكمل عبارته للأخير حيث هاتف بصوت جاد للغاية: -معلش يا حاج لو هاقطعك، بس في حاجة عرفتها ولازم أبلغك فيها
اشتدت ملامح وجه طه، وتأهبت حواسه وهو يسأله بحذر: -حاجة ايه دي؟

انقبض قلب عواطف وهي تتابع بإهتمام تفاصيل تلك المكالمة الغامضة. وأثار ريبتها وزاد من قلقها تبدل ملامح ونبرة الحاج طه.
ابتلعت ريقها بتوجس، وتمتمت مع نفسها قائلة بخوف: -استرها يا رب علينا، ده احنا ولايا ومالناش غيرك!
مالت عليها نيرمين وهمست لها بصوت خفيض: -شكل الموضوع مش هايعدي على خير
لكزتها عواطف بحذر في جانبها مرددة بخفوت: -اسكتي دلوقتي وخلينا نفهم في ايه!

تابع الحاج طه مكالمته مع ابنه متساءلاً بإهتمام: -في ايه يا منذر؟
أجابه الأخير بحذر: -أنا عرفت تقريباً معلومات عن الست المرمية هنا في المستشفى!
ضاقت نظرات طه وسأله مستفسراً: -طيب ودي فيها ايه؟
أجابه منذر بغموض أثار حفيظته: -فيها كتير يا حاج!
سأله أباه مجدداً بإهتمام أكبر وهو يضرب بعكازه الأرضية: -حد قريبنا يعني؟
رد عليه منذر بهدوء مريب: -اللي عرفته إن الست اسمها حنان، وبنتها تبقى بنت رياض خورشيد.

كرر طه بلا وعي اسم الرجل الذي أثار اسمه انتباه جميع حواسه: -رياض خورشيد!
اخترق الاسم مسامع عواطف وابنتها، ونظرت كلاً منهما للأخرى بنظرات مصدومة ومذهولة.
عاودت عواطف التحديق في الحاج طه بخوف بائن على وجهها، وهتفت بلا وعي وهي تحاول السيطرة على انفعالاتها واستيعاب الصدمة:
-هاه، ر. آآ. رياض، قصدك أخويا؟
سأله طه مجدداً محاولاً التأكد من صحة تلك المعلومات التي أخبره بها بعد أن رأى تأثير عباراته على عواطف:.

-انت متأكد يا منذر؟!
أجابه ابنه وهو ينفخ في ضيق: -ده اللي سمعته منها!
دنت عواطف من الحاج طه، ورمشت بعينيها متساءلة بهلع: -مين يا حاج طه؟ قولي؟
هز رأسه بإيماءة واضحة مردداً بجدية: -استنى شوية يا منذر أما أعرف من عواطف، هي واقفة قصادي
أتاه صوت ابنه قائلاً بإيجاز عبر الطرف الأخر: -طيب!
أبعد طه الهاتف عن أذنه، ثم حدق في عواطف بنظرات عميقة متساءلاً بثبات: -انتي تعرفي واحدة اسمها حنان؟

خفق قلبها بقوة فور سماعها للإسم، شكوكها باتت مؤكدة الآن، وهتفت متمتمة بإرتباك كبير:
-حنان!
تابع طه متسءلاً بإهتمام: - أخوكي رياض عنده بنات؟
هزت رأسها بحركة قوية مرددة بلهفة: -ايوه، بنته أسيف، ومراته اسمها حنان
وضع طه الهاتف على أذنه مجدداً، وهتف بنبرة جادة وأنظاره مثبتة على عواطف المذعورة:
-طلعت عارفاهم يا منذر! اخوها عنده بت اسمها أسيف، ودي مراته!

تيقن منذر من صدق حدسه عقب تلك الجملة التأكيدية، واستمع إلى صوت نواح وعويل عواطف المتواصل.
رد على أبيه متساءلاً بصوت جاد: -والمطلوب مني ايه؟
أجابه طه بصرامة: -ماتسيبهومش، تقف جمبهم وتتصرف لو في أي حاجة!

لطمت عواطف على صدرها مرددة بصدمة مفزوعة وهي تلتفت حول نفسها: -يا نصيبتي؟ هي. هي اللي في المستشفى تبقى. آآ. تبقى مرات المرحوم، يا لهوي، يا واقعة منيلة، يا خرابي المستعجل! أنا عاوزة أروحلهم دلوقتي، وديني عندهم يا حاج
أضاف طه قائلاً بنبرة شبه آمرة محذراً ابنه: -سامع يا منذر خليك معاهم لحد ما نجيلك، واحنا مسافة السكة وهنكون عندك!
رد عليه منذر بإقتضاب: -ماشي يا حاج!

تابعت عواطف نواحها مرددة بتحسر: -يالهوي، يبقوا كانوا جايين عشاني وعشان الدكان، جت حنان لقضاها هنا! أه لو كنت أعرف، آآآه!
حذرها طه قائلاً: -اهدي شوية يا عواطف، مش كده!
أكملت هي عويلها بآسى: - لا إله إلا الله! لطفك بينا يا رب، نجيها من عندك يا رب!
انزعج طه من حالة التهويل الزائدة التي سيطرت عليها، وهتف بحدة قليلة: -جرى ايه يا عواطف، ماقولنا بلاش نواح، خلينا نروح الأول المشتشفا ونشوف في ايه!

حركت رأسها بالإيجاب مرددة بصوت مختنق أسف: -اه يا حاج، وديني عندها، حسرة قلبي عليها!
هتفت نيرمين هي الأخرى وهي تهدهد صغيرتها برفق: -أنا جاية معاكو
رد عليها طه بإيجاز وهو يشير بعكازه لها: -تعالي!
اتجهت بسمة إلى منزلها وهي تبرطم مع نفسها بكلمات متذمرة.
لم يعبأ ببالها حالة الهرج الموجودة بالمنطقة، فقد كانت تفكر فيما دار بينها وبين دياب من مشادة أخرى كلامية.

ابتسمت لنفسها بزهو لتمكنها من الرد عليه بجرأة فتمكنت من رد اعتبارها واستعادت كرامتها حينما جاء ليهددها في عقر دارها.
تباطئت خطواتها حينما رأت سيارات الشرطة وأفرادها يحاصرون البناية، فحدقت فيه بإندهاش.
تساءلت مع نفسها متعجبة: -هما بيعملوا ايه عندنا؟
شهقت بقلق متمتمة لنفسها بعد ان طرأ ببالها اعتقاد ما: -لأحسن يكون البيت جايله إزالة وبيخلوه، مش هايحصل، مش هانسيب بيتنا!

ولكن استبعدت تلك الفكرة تماماً عن اعتقادها حينما هدر الجزار عالياً بشماتة: -اللهم احفظنا، عمارة سكانها فقر، مصاحبين عزرائيل، الداخل عندهم مفقود!
التفتت نحوه وحدجته بنظرات مميتة، ثم صاحت به بشراسة مهددة بذراعها: -جرى ايه يا جدع انت! مش هاتلم نفسك ولا استحليت نومة البورش!
نهض عن مقعده قائلاً بفظاظة: -النومة دي هاتطوليها قريب لما ياخدوكي كلابوش يا ست الأبلة مع أمك وأختك!

ردت عليه بحدة قوية وهي ترمقه بنظرات نارية: -قطع لسانك الزفر ده!
نظر لها شزراً، وتابع ببرود مستفزاً إياها أكثر: -هو أنا جايبه من عندي، صحيح تقتلوا القتيل وتمشوا في جنازته!
حدجته بنظرات احتقارية، وهمست لنفسها بضيق: -بيخطرف الراجل ده ولا باينه اتجنن ومخه اتلحس من الحبس!
صاحت فيه بقوة متعمدة إهانته: -أنا غلطانة اني بأعبر واحد زيك وبأتكلم معاه! ده انت تشبهني بشكلك!

اشتعل وجهه من ردها الغليظ، وكور قبضته بغل، وقبل أن ينبس بكلمة زائدة كانت هي قد انصرفت من أمامه.
تابعت سيرها حتى وصلت إلى تلك الحواجز الحديدية التي تسد الطريق المؤدي لمدخل البناية.
رأت عدداً من أفراد الشرطة يطوقون المكان، ويمنعون كل من يقترب منهم.
وقفت قبالة أحدهم، وسألته بجدية وهي تجوب بأنظارها المنطقة: -في ايه يا شاويش، انت قافل السكة ليه؟
أشار لها العسكري بيده مردداً بحسم: -ممنوع يا ست!

هتفت معترضة عن منعه إياها من المرور قائلة بإستغراب: -أنا داخلة بيتنا
صاح بصرامة وهو جامد التعابير: -ممنوع، أما البيه وكيل النيابة يؤمر!
سألته مندهشة: -الله! ليه بس؟
أجابها بنبرة رسمية: -في حادثة حصلت جوا، وبيعاينوا المكان كله!
قطبت جبينها مندهشة مما سمعت، ورددت متساءلة بغرابة: -حادثة ايه دي؟
ولجت أسيف إلى داخل إحدى الغرف الجانبية خلف الممرضة التي أعطتها ورقة خاوية طالبة منها بجدية:.

-املي البيانات دي يا آنسة، وشوية وهايجي الظابط ياخد أقوالك!
حركت رأسها بإيماءة خفيفة مجيبة إياها بنبرة مرتعشة ومبحوحة: -ح. حاضر
تابعت الممرضة مضيفة بجمود: -وبعدها تروحي الحسابات، هاتحطي دفعة تحت حساب لحد ما نشوف هيحصل ايه بعد كده!
ابتلعت أسيف ريقها بتوتر بعد جملتها الأخيرة، فقد كانت لا تحمل من الأموال ما يكفي تغطية مصروفات المشفى، فهي لم تتوقع وقوع هذا الحادث المأساوي لأمها.

تنهدت بعمق وهمست بإرتباك: -ماشي، بس أطمن على ماما الأول!
ردت عليها الممرضة بجفاء قليل غير مكترثة بمشاعرها الحالية: -ده مالوش علاقة، لازم تدفعي، النظام هنا كده
توسلتها أسيف بصوت خفيض: -طب ماينفعش نأجله شوية، أنا معايا فلوس، بس مش دلوقتي، يعني في اللوكاندة وآآ.

قاطعتها الممرضة بتأفف وهي عابسة الوجه: -يا آنسة لو عليا هاسيبها هنا وبلاش، بس أنا بأوعيكي مدير المستشفى مش هايسيب أمك من غير ما تدفع دفعة تحت حساب!
استنكرت أسيف تلك الإجراءات التعسفية المتبعة في هذا المشفى، وعدم رأفة مديرها بالمرضى المتواجدين هنا وأصحاب الحالات الحرجة، فهتفت معترضة:
-ده انتو مستشفى حكومي؟ مش خاص ولا آآآ..

قاطعتها الممرضة مصححة وهي تشير بسبابتها: -اه حكومي، بس نضيف شوية وعندنا خدمة مميزة، مش مجاني زي برا!
حاولت قدر الإمكان إقناع الممرضة بتأجيل مسألة دفع النقود ريثما تتمكن من تدبير أمورها، لكن أبت الأخيرة الانصياع لها، فهي ملزمة بقوانين المكان الذي تعمل به.
في النهاية هتفت بإستسلام محبط: -ماشي، هاتصرف.

ملأت البيانات بعقل شارد، هي تفكر في وسيلة لإحضار المال، ولكنها في نفس الوقت لا تستطيع ترك والدتها بمفردها دون أن تكون إلى جوارها في أصعب لحظاتها.
تابعتها الممرضة بنظرات غير مبالية بحالتها، فهي ترى يومياً عشرات الحالات من أمثالها، فإعتادت ألا تشفق على أحد.
وتعلمت أن الحياة بطبيعتها قاسية، لا ترحم أحداً. هي فقط تؤدي عملها.
-استني!
صاح بتلك الكلمة الآمرة منذر وهو يقف على عتبة مدخل الغرفة.

استدارت أسيف في اتجاهه لتنظر نحو صاحب الصوت بعينين دامعتين فلم تلبث أن اكتسيتا بالدهشة.
انفرجت شفتيها الجافتين بتعجب من رؤيته بقسوته وغلظته يقترب منها..
تجاهل منذر أسيف، وسلط أنظاره على الممرضة متابعاً بجمود جاد: -الكلام معايا أنا!
ارتعدت قليلاً من حضوره القوي، وهمست بصوت هامس شبه خائف: -آآ. انت!
تساءل منذر بصلابة وهو يبحث بجدية عن الأوراق الخاصة بالمصابة: -فين الحسابات بتاعتكو هنا؟

ثم ركز عيناه الحادتين على أسيف ليكمل بحزم: -أنا هادفع لأمها!
أجابته الممرضة بإبتسامة متكلفة: -أول طرقة على شمالك يا حضرت، الأوضة في الأخر
صدمت أسيف مما قاله، هي لم تتوقع أن يأتي ذلك الشخص تحديداً ويقدم لها العون في هذا الوقت العصيب.
نظرت له مذهولة، وطالعته بغرابة عجيبة.
رمقها منذر بغموض، وتأمل تعبيراتها المصدومة بجمود أغرب.

كانت على وشك الحديث رافضة لعرضه لكنها تفاجئت به يتجاهلها ويوليها ظهره وكأنها نكرة.
هي لا تحتاج للإحسان أو الشفقة من أحد، وهو يتعمد معاملتها بتلك الطريقة الدونية كما لو كانت تتسول منه.
استدار عائداً من حيث أتى، فسارت بخطى سريعة خلفه مرددة بإرتباك: -لو سمحت. آآ.
أكمل سيره غير عابيء بها فتحولت طبيعتها المسالمة تدريجياً إلى الضيق.

كانت تخطو بخطوات أقرب إلى الركض لتكون إلى جواره، وأكملت قائلة بصوت متحشرج: -أنا بأكلمك يا أستاذ، أنا مش بأشحت منك ولا عاوزة صدقة من حد!
توقف عن السير فجأة، والتفت نحوها ليحدجها بنظرات قاتمة، أتدعي عدم التسول وهي محترفة في تلك المهنة ( أو هكذا ظن ).
تجمدت في مكانها، وابتلعت ريقها بصعوبة متابعة بنبرة مدافعة عن نفسها: -الحمدلله مستورة معانا، وأنا آآ..

رفع منذر كفه أمام وجهها ليجبرها على الصمت، ثم هتف قائلاً بغلظة: -اللي بأعمله شيء يرجعلي، أنا بس اللي أقرر آآ..
قاطعته قائلة بإصرار: -لا يا حضرت! ده موضوع يخصني
حدث نفسه بإمتعاض وهو يرمقها بنظرات إحتقارية: -اعتبري اللي بيعمل خير بيكمله للأخر
نظرت له بإنزعاج من طريقة نظراته المهينة لشخصها
وتساءلت مع نفسها بحيرة دون أن تنطق: -انا مش فهماك بصراحة، إنت ايه بالظبط؟

حدقت فيه بنظرات مطولة متعجبة، فهو يجمع بين النقيضين. القسوة والرحمة، الشدة والعطف، التهديد والأمان.
ولكن سريعاً ما تلاشى تحديقها المستغرب لتتبدل نظراتها للحدة والحنق حينما أردف قائلاً بشراسة:
-بس اللي مستغربه إن واحدة من عيلة خورشيد تقبل تشتغل كده
سألته بنبرة شبه غاضبة: -قصدك ايه؟
أجابها بجفاء وقد زاد عبوس وجهه: -ماتعمليش عبيطة انتي فاهمة كويس!
ثم تركها وتابع سيره دون إضافة المزيد.

لحقت به مرددة بتذمر من طريقته الفجة في الحديث: -استنى لو سمحت إنت بتكلم عن ايه؟
وفجأة ارتفع ضجيج شجار ما من على مسافة قريبة منهما.
توقف الاثنان عن الحديث والتفتا نحو مصدره.
وقف أحد الأشخاص في بداية الرواق ممسكاً بعصا غليظة في يد، وسلاح حاد ( ما يشبه الساطور ) في اليد الأخرى، وتجمع من خلفه عدداً من مؤيديه.

تفرس منذر في وجه ذلك البلطجي بقلق واضح، فهو يعرف تلك النوعية من الأفراد حادي الطباع حينما يأتون للمشفيات، بالطبع يكون السبب وفاة أحدهم واعتقادهم أنه لم يتلقَ الرعاية الطبية المناسبة.
تسمرت أسيف في مكانها مصدومة مما تراه، فقد كانت سابقتها الأولى والتي ترى فيها على أرض الواقع شجار فعلي عنيف.
صاح الشخص قائلاً بصوت جهوري: -هاتولي الضاكتور اللي هنا، مش سايبه قبل ما أخلص عليه!

لم يجرؤ أحد على إعتراض طريقه منذ إقتحامه وهو أفراد جماعته للمشفى.
فقد باغتوا الجميع بهجومهم الشرس على العاملين به، وكالوا لهم بالضرب والركل والتدمير ما جعلهم يتراجعون فوراً ويفرون من أمامهم.
حاول أفراد الأمن التدخل لكنهم لم يتمكنوا من صدهم، فقد فاقوهم عدداً.

أكمل الشخص الغاضب صراخه المنفعل: -مش هامشي من هنا غير لما أخد روحه، بقى ابني يموت في ال، دي وتقولولي قضا ربنا! أومال أمه ولدته هنا ليه؟ وحاطتوه في حضانة ليه؟
انتبه منذر لصوت ممرضة مرتجفة تقف على بعد خطوتين منهما مرددة لزميلتها بخوف: -مش ده الراجل اياه، اللي ابنه مات في الحضانة امبارح!
أجابتها بصوت مرتعد: -اه هو. حلفان ليموت الدكتور ومدير المستشفى وكل واحد كان ليه علاقة بالموضوع!

تابعت الممرضة الأولى قائلة بجدية: -بس ده نصيبه، الولد أصلاً مولود قبل ميعاده بكتير، وكان عنده مشاكل صحية كتير وحالته حرجة، يعني كده كده كان هيموت!
إرتعاشة قوية دبت في أوصال أسيف وهي تتابع ذلك المشهد العنيف بخوف أكبر.
لم يطل البلطجي في صياحه المهدد، بل إندفع كالثور الهائج – وبلا وجهة محددة – لينقض على من تطاله يده ويعتدي عليه بشراسة.

تبعه أفراد جماعته وأكملوا اعتدائهم الوحشي محطمين في طريقهم محتويات المشفى من مقاعد وأدوات وسلات مهملات.
استدار منذر برأسه نحو أسيف ليحدق بها بقلق كبير، هو يعلم أن هجوم كهذا لن يمر على خير وسيخلف ورائه مصابين وجرحى و..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة