قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل السابع عشر

أنهت ولاء مكالمة هاتفية موجزة مع مازن أخبرها فيها بأنه سيعقد قرانه عليها رسمياً الليلة ليتزوجا فعلياً وليس بعقد عرفي.
قفز قلبها من السعادة، وركضت ناحية والدتها مرددة بفرح: -حصل يا ماما، حصل خلاص!
سألتها شادية بإستغراب وهي عاقدة ما بين حاجبيها: -هو ايه؟
أجابتها بتلهف وهي تضم قبضتي يدها إلى صدرها: -مازن هيتجوزني رسمي النهاردة
ابتسمت أمها بزهو، ورددت بتفاخر: -مش قولتلك!

لوحت ولاء بكف يدها في الهواء مرددة بحماس: -محتاجة أحضر حاجات كتير وآآآ..
قاطعتها والدتها بجمود جاد: -مالهاش لازمة، أهم حاجة يبقى معاكي ورقة رسمي تضمن حقوقك!
تساءلت ولاء بقلق خفيف: -طب ويحيى؟
أجابتها شادية بهدوء وثقة: -من بكرة هاكلم المحامي وأخليه يشوف ايه المطلوب من اجراءات لنقل الحضانة ليا، وأهو نبقى مأمنين نفسنا!
اتسعت ابتسامتها السعيدة هاتفة: -كده صح يا ماما.

ثم ضاقت نظراتها، واشتدت تعابير وجهها نوعاً ما. قالت هي من بين أسنانها بغيظ قليل:
-ياما نفسي أشوف شكل دياب لما يعرف ده
حذرتها والدتها قائلة بنبرة عقلانية: -اهدي وماتستعجليش، استني لما نعمل كل حاجة في الدرى، وبعدها يعرف براحته
أومأت برأسها إيجاباً وهي تردد: -تمام، هاصبر واستنى!
تأججت الصدامات العنيفة بين العاملين بالمشفى الحكومي والبلطجي الغاضب.

لم يرتدع أفراد جماعته من التهديدات المحذرة بالقبض والحبس بل استمروا في التخريب.
تلفت منذر حوله بنظرات سريعة محاولاً البحث عن مكان لتخبئة تعيسة الحظ قبل أن يتفاقم الوضع ويتجهوا للإشتباك معهم، فهم لا يفرقون بين أحد.

تفاجئت أسيف بذلك الغريب يقبض على ذراعها بيده القوية، فحدجته بنظرات حادة للغاية مستنكرة فعلته، وقبل أن تنفرج شفتيها لتخرج كلماتها الغاضبة الرافضة لحركته الجرئية وجدته يجذبها خلفه مردداً بصوت صارم للغاية:
-تعالي معايا
قاومته مرددة بصوت متحشرج مصدوم: -إنت. لو سمحت!

وقعت عيناه مصادفة على إحدى اللافتات، فقرأ لافتة ( غرفة الممرضات ) معلقة على حائط حجرة قريبة، فطرأ بباله الاختباء بها واصطحاب ابنة خورشيد معه لحمايتها.
تساءلت أسيف مجدداً بخوف وهي تحاول تخليص ذراعها من قبضته الغليظة: -إنت واخدني على فين؟
دفعها بقوة للأمام نحو باب الغرفة، ثم أجابها بغموض آمر: -خشي جوا!
ما كان منها إلا إتباع أمره رغم اعتراضها لكنها كانت ترى الوضع المتأزم بالخارج.

مشادات كلامية حادة، واشتباكات بالأسلحة البيضاء والعصي، إذن الأسلم لها الابتعاد تواً.
تناست – رغماً عنها - مؤقتاً قلقها المفزوع على صحة والدتها نتيجة للصدمة المفاجأة المهددة بإهدار حياتها.
ولج منذر للداخل خلف أسيف، وأغلق الباب، فاعترضت الممرضات المختبئات بالغرفة على تواجد الاثنين معهما.
هتفت إحداهن قائلة بعصبية رغم خوفها: -ممنوع تيجوا هنا! اتفضلوا برا!

رد عليها منذر بإنفعال وهو يشيح بيده: -انتي مش شايفة اللي بيحصل برا؟!
هتفت قائلة بنبرة مرتفعة: -دي اوضة التمريض، للعاملين بس هنا، مش ل آآ..
قاطعها منذر مردداً بصرامة: -ششش! اسكتي، احنا هنفضل هنا غصب عنكم
ثم سلط أنظاره على أسيف وتابع بحسم غير قابل للنقاش: -وخصوصاً هي!
توترت بشدة عقب جملته الأخيرة، ونظرت له مدهوشة من صرامته الغريبة نحوها وكأنه يمتلك زمام أمرها.

لم تفق أسيف بعد من إندهاشها الصادم إلا على صوت دفعة قوية للباب الذي ضرب ظهر منذر بقسوة فإندفع نحوها كردة فعل طبيعية ليرتطم بها دون قصد.
ضرب صدره جسدها فشهقت مذعورة، وتلون وجهها بحمرة كبيرة
اضطربت بصدمة مما حدث، وحدقت فيه بتوتر رهيب.
تمالك منذر نفسه سريعاً وتراجع مبتعداً عنها للخلف شاعراً بالحرج منها.
هو يعلم أن الأمر غير مقصود، لكنه لا يحبذ أن يكون في مثل تلك الأوضاع الحرجة.

لم تتخيل أسيف نفسها أن تكون في موقف كهذا أبداً، بل لم تجرؤ على التفكير في حدوث ذلك في أحلامها الوردية.
ابتعدت بخجل شديد عنه لتدنو من الممرضات لكنها باتت مكشوفة لأحد البلطجية الذين اقتحموا الغرفة وأعينه تطلق شرراً مستطراً.
اختفى ذلك الإحساس المنزعج من اقترابه الغير مقصود منها فوراً ليحل بديلاً عنه شعوراً بالغضب والشراسة حينما رأى البلطجي يصيح بنبرة مهددة:
-هاجيب رقابتكم!

تجمدت أنظار البلطجي على أسيف، خاصة وأن ثيابها كانت ملطخة بالدماء، فظن أنها واحدة من طاقم التمريض التابع للمشفى. وبالتالي الإعتداء عليها سيكون كأخذ للثأر ونيل رضا رب عمله الذي أتى به إلى هنا.
قرأت أسيف في عينيه الشرستين توعدات عدائية مهلكة، فقفز قلبها في قدميها هلعاً منه، وانكمشت على نفسها أكثر.
تراجعت ببطء للخلف، ورغم ذلك لم تبعد عيناها المذعورتين عنه.
تحرك البلطجي للداخل بوجه قاتم مكفهر للغاية.

استدار منذر ليواجهه، وسد بجسده الطريق عليه مانعاً إياه من المضي قدماً، وهاتفاً بتحدٍ سافر وهو يحدجه بنظرات مظلمة مخيفة:
-خطوة واحدة كمان لجوا، ورقبتك هاتكون تحت رجلي!
رد عليه البلطجي ساخراً منه: -ومين المحروس اللي بيتكلم؟
رد عليه منذر بوعيد صريح وهو يشمر عن ساعديه: -المحروس ده هايعرفك بنفسه هو مين!
في نفس التوقيت، وصل الحاج طه وبصحبته عواطف وابنتها والرضيعة إلى المشفى.

تفاجيء هو بحالة الهرج السائدة بالخارج والصراخ الصادر من أروقة المبنى، فتساءل متعجباً وهو يتلفت حوله:
-هو ايه اللي بيحصل هنا؟ في ايه يا ناس؟
أجابه أحدهم بصوت لاهث: -بلطجية هجموا على المستشفى!
شهقت عواطف بفزع وهي تلطم على صدرها: -ايه، يا لهوي بالي! عشان تبقى كملت!

جحظ الحاج طه بعينيه مرتعداً على ابنه المحبوس بالداخل، خشى من حدوث الأسوأ له. وبلا تردد في التفكير أسرع بإخراج هاتفه المحمول من جيب جلبابه، وهاتف ابنه دياب قائلاً بصياح:
-انت فين يا دياب
أتاه صوته على الطرف الأخر مردداً بهدوء: -في البيت يا أبا، خير في حاجة؟
أجابه طه بصوت حاد ومزعوج: -لم الرجالة وتعالى بسرعة على مشتشفا ((، ))، أخوك بيضارب هناك!
صاح دياب مذهولاً وبحزم: -منذر، جايلك طوالي أنا والرجالة!

وبالفعل لم يكذب دياب خبراً حيث بدل ثيابه المنزلية بأخرى وهو يركض بلهفة نحو الخارج وهاتفاً أحد رجال وكالتهم ليأمره بجمع أكبر قدر من رجاله عند المشفى الحكومي.
صرخت الممرضات بفزع كبير حينما رأين ذلك البلطجي يقتحم الغرفة مهدداً بقتلهن.
تصدى له منذر، وجابهه قائلاً بصوت محتد: -وربنا لأندمك على كلامك!
رد عليه البلطجي بنبرة عنيفة: -ده أنا هاشقك نصين!

ثم رفع سلاحه الأبيض عالياً مهدداً بضربه به، لكن كان منذر الأسرع في الإمساك برسغه ليثبته قبل أن يتهاوى به عليه.
صاحت أسيف والممرضات عالياً بصراخ مرعوب حينما رأين ذلك العنف المفرط نصب أعينهن.
لكز البلطجي منذر في جانبه بركبته القوية بعنف رهيب، فتأوه الأخير متألماً بشدة من إثر الضربة وانحنى للأمام بجذعه لكنه لم يفلت يده عن معصمه، وظل قابضاً عليها بكل قوته.

وضعت أسيف يدها على فمها لتكتم صوت شهقاتها المرتعدة، وتراجعت مع البقية لأقصى زاوية بالغرفة راهبة ذلك المشهد المخيف.
جاهد البلطجي لإفلات يده الممسكة بالسلاح الأبيض لكنه عجز عن هذا فقد كانت مشبثة بإحكام، ومع هذا التوى ثغره بإبتسامة متشفية وهو يرى أثر ضربه على ذلك الجريء الغامض.

وتابع اعتدائه على منذر، لكن الأخير استغل فرصة اقترابه الشديد منه، وسدد له برأسه ضربة قوية مباغتة في مقدمة جبينه جعلت توازنه يختل ويترنح.
عاود تكرار الضربة بشراسة أكبر وكأنه استجمع كل قواه الغاضبة وركزها في تلك التسديدة العنيفة. وأعقبها بلكمة عنيفة من يده نحو فكه.
زاد ترنح البلطجي وتراخى ذراعه، وبدا في حالة غير متزنة.

جذب منذر إحدى المزهريات المعدنية القريبة منه، وانهال بها أولاً على رأسه، ثم على كتفه، وجانبه، وذراعه الأخر بضربات متلاحقة ومتتالية ليفقده قواه بالكامل.
في أقل من ثوانٍ معدودة كان مسيطراً كلياً عليه.
تنفست الممرضات الصعداء لوجوده معهن، فقد تمكن من حمايتهن قبل أن تطالهن أيدي ذلك البربري المتوحش.

لوى منذر ذراع البلطجي خلف ظهره، وأسقطه عنوة على الأرضية ممدداً جسده عليها، وجثى فوقه مثبتاً إياه بركبته القوية.
ضربه بعنف شرس في ظهره قائلاً بعصبية: -هاعرفك منذر حرب هايعمل ايه؟
صرخ البلطجي بصعوبة من بين شفتيه الملتصقتين بالأرضية: -أنا ماليش دعوة، أنا جاي مع سيدنا ناخد بتار ابنه!
رد عليه منذر بصوت متوعد وهو يضغط أكثر على فقرات ظهره مسبباً له الآلم الموجع: -غلطت لما جيت تاخده مني ومن اللي يخصني!

( يخصني ) أثارت تلك الكلمة حفيظة أسيف، هي ليست تابعة له، ولا علاقة لها به من قريب أو بعيد ليردد هذا بثقة. لذا من أين اكتسب هذا اليقين؟
مجرد صدف متتالية جمعتهما سوياً، ومواقف عصيبة فُرضت عليهما ليكونا معاً، فكيف يجزم أمراً كهذا وكأنه يعرفها منذ زمن وهناك روابط وصلات عميقة بينهما.

على الجانب الأخر، وقفت عواطف إلى جوار ابنتها في الخلفية لاعنة الحظ العثر الذي يلحق بعائلتها، والنحس الملازم لها، فلم تكد تخرج من مصيبة حتى تلحق بها الأخرى.
هتفت نيرمين بجزع: -شكلها هتولع على الأخر لو ابن الحاج طه جراله حاجة جوا
ردت عليها بتذمر: -كنا ناقصين ده كمان، مش كفاية مرات المرحوم وبنته اللي مش عارفين عنهم حاجة!
حركت نيرمين فمها للجانبين قائلة بتخوف: -ربنا يسترها معاهم كلهم
-يا رب أمين!

كذلك تجمع العشرات من رجال الحاج طه ومحبيه حول المشفى محملين بالعصي الغليظة والجنازير والأسلحة البيضاء – وعلى رأسهم دياب - من أجل التدخل والاشتباك مع عُصبة ذلك البلطجي.
صاح دياب بصوت جهوري في رجاله: -لو شعرة واحدة اتمست من أخويا هتتحاسبوا انتو!
رد عليه أحدهم بجدية: -اطمن يا سي دياب، الريس منذر هيطلع منها بخير
وأضاف أخر بصوت مرتفع ومتحمس: -وراك رجالة يا حاج طه.

استنفر الجميع، وتأهبوا للهجوم فوراً على المشفى.
وقبل أن ينطلقوا نحو مدخل المشفى كانت سيارات الشرطة تطوق المكان.
ترجل أحد الضباط من إحدى السيارات صائحاً بصوت آمر: -ايه اللي بيحصل هنا؟ هي مش فوضى!
رد عليه دياب بغلظة: -أنا مش هاستنى لما ألاقي أخويا مقتول جوا وأنا واقف برا بتفرج عليه
نهره الضابط مردداً بحزم صارم: -احنا هنتصرف بالقانون، اتفضل خد رجالتك وابعد وإلا هاقبض عليكم كلكم!

هنا تدخل الحاج طه مانعاً ابنه من التهور قائلاً بحذر: -استنى يا دياب نشوف البيه هايعمل ايه
اعترض دياب قائلاً بصوت مهتاج: -يا أبا آآ..
حدجه بنظرات حادة للغاية تحمل الصرامة وهو يردد مقاطعاً إياه بإيجاز حاسم: -دياب! هي كلمة!
على مضض كبير، وبصعوبة بالغة اضطر دياب أن يرضخ لأمر أبيه، وتراجع عدة خطوات للخلف ليبقى إلى جوار رجاله.
واصلت عواطف دعواتها الخفية لعل الله يستجيب لها ولا يحدث الأسوأ.

تنهدت الممرضات بإرتياح وتنفسن الصعداء لتمكن منذر من تقييد حركة ذلك المعتدي وفرض سيطرته الكاملة عليه.
وبالطبع لم يتوقف هو عن ركله ولكزه وإيلامه كنوع من التعنيف القاسي لتجرأه على شخصه.
هتفت إحداهن ممتنة: -كتر خيرك على اللي عملته، امسكه كويس بس!
بينما أضافت أخرى بتوتر وهي تشير بيدها: -اه، احنا هنبلغ الأمن
وعلقت ثالثة بصوت متلهف شبه خائف: -ايوه، بسرعة يالا!

وزع منذر أنظاره عليهم مردداً بثقة مغترة: -ماشي نادوا أي حد لو برا، أنا مكتفه كويس!
ثم سلط أنظاره متعمداً على أسيف ليضيف بتباهي: -المفروض متخافوش، إنتو معاكو منذر حرب!
رمقته أسيف بنظرات غامضة، ولم تعلق مثل الأخريات عليه، فقد استشعرت غروره الواضح وتفاخره الزائد أمامها، واكتفت بالتنحي في أقصى الزاوية بالغرفة.

لمحت هي بطرف عينها وجود باب جانبي موارب قليلاً يطل على غرفة ما، فإشرأبت بعنقها لترى ما بداخله بحذر. اكتشفت أنه المرحاض، فأسرعت نحوه لتختبيء به، وأوصدت الباب خلفها.
كان ملاذها الوحيد لتبقى آمنة من أي خطر خارجي أو داخلي يهددها، هكذا ظنت في نفسها.
وقفت أمام المرآة تطالع هيئتها المزرية، فأخرجت من صدرها زفيراً منهكاً.
لم تتوقع أن تمر بكل تلك الظروف العصيبة في وقت قصير.

أن تكون والدتها بين الحياة والموت، وأن تصبح هي على شفا حفرة من الموت.
بكت عفوياً متأثرة بكل شيء.
هي أسيف مثلما أطلق عليها أبيها ( رقيقة القلب سريعة البكاء )
مدت يدها لتفتح الصنبور ونثرت المياه على وجهها، ثم سحبت بعض المناشف الورقية لتجففه به.
حاولت أن تضبط أعصابها لتفكر بروية في فيما ستفعله.

رتبت أفكارها بتأنٍ ؛ هي عليها أن تخرج من محبسها لتطمئن على حال أمها، وبعدها تحضر الأموال المطلوبة لسداد قيمة فاتورة المشفى من الفندق، ثم تبقى إلى جوار والدتها حتى تتماثل للشفاء.
رتب ضباط وأفراد الشرطة خطة سريعة وعاجلة لإقتحام المشفى وانقاذ من به.
وبالفعل بدأوا التنفيذ. ودخلت مجموعات منظمة للإستقبال، وتدريجياً سيطروا على الوضع الراهن وأمسكوا بمن تطاله أيديهم.

فلم تكن تلك العصبة بمحترفي الإجرام، وإنما مجموعة منوعة ما بين الخارجين عن القانون أو المجاملين للبلطجي الغاضب. فاستطاعوا بحرفية إلقاء القبض على عدد كبير منهم.
وفي الأخير استسلم قائده يائساً بعد تنفيسه عن غضبه المشتعل، وتم تكبيله بالقيود المعدنية واقتياده للخارج.

طال تفكير أسيف بداخل المرحاض حتى لم تعد شاعرة بالوقت، لكنها انتفضت فزعة في مكانها حينما سمعت تلك الدقات القوية على الباب مصحوبة بصوت حاد وآجش:
-مش هاتفضلي حابسة نفسك جوا كتير، اطلعي، معدتش في حاجة تخوف!
انزعجت من ظنه أنها تهابه، لن تنكر أنها شعرت بهذا في البداية، لكن مع الصدمات التي يمر بها الإنسان يتعود تدريجياً أن يكون أقوى، ويتعلم كيفية البقاء وسط غابة الأشراس.

دق بعنف أكبر على الباب مردداً بصوت صارم: -يالا يا بنت خورشيد!
أغضبتها طريقته المستفزة، فاتجهت نحو باب المرحاض لتفتحه بحدة.
وجدته واقفاً أمامها يحدجها بنظرات قاتمة، فهتف فيها بضجر وهو عابس الوجه: -المولد اتفض!
دققت النظر بعينيها للخارج فلم ترَ أي أحد بالغرفة. فتساءلت بإستغراب متقطع: -اومال آآ. اللي كان آآ..
أجابها بنفاذ صبر: -زمانت البوليس بيروق عليه!

تذكرت حال والدتها فجأة، وأنها تناستها أكثر من اللازم، فاتسعت عيناها بشدة، ووضعت يدها على فمها كاتمة شهقتها ومرددة بصوت غير واضح:
-ماما!
اندفعت للخارج دافعة منذر من كتفه بأقصى قوتها فحدجها بنظرات غريبة متعجبة من تبدل حالها في ثوانٍ معدودة.
هرولت في الرواق باحثة عن أمها وهي تلوم وتوبخ نفسها بشدة لتقاعصها عن متابعتها.
شعرت أنها خذلتها لمجرد تفكيرها في نفسها.
نزلت إلى الاستقبال تفتش عمن يرشدها عنها.

تفاجئت بوجود حشد من رجال الشرطة بالمبنى.
وقعت عيناها على الممرضة التي أبلغتها بمليء الأوراق، فركضت نحوها، واقتربت منها، ثم هتفت بصوت لاهث:
-لوسمحتي!
التفتت الممرضة نحوها، ووقفت قبالتها متأملة إياها بنظرات منزعجة.
سألتها أسيف بتلهف: -ماما، متعرفيش حصلها ايه، الحاجة حنان اللي كانت في الطواريء وآآ..
تذكرتها الممرضة على الفور فردت عليها بإقتضاب: -ايوه عارفاها.

سألتها أسيف مجدداً بتخوف: -هي عاملة ايه طمنيني الله يكرمك، انا اتلبخت في الراجل اللي هجم علينا وآآ..
ردت عليها الممرضة مقاطعة بجمود: -اه فاهمة، هي عموماً اتنقلت العناية المركزة، وممنوعة من الزيارة بأوامر الدكتور
تنفست أسيف الصعداء لعدم تدهور حالة والدتها، وسألتها بإستعطاف: -طب مش هاعرف أشوفها؟ عاوزة أطمن عليها الله يكرمك!
ردت عليها الممرضة بجفاء: -ده اللي أعرفه عنها!

ثم أشارت بذراعيها في الهواء متابعة بضجر: -وأكيد إنتي شايفة الوضع دلوقتي عامل ازاي، كلنا بنحاول نشوف الأضرار اللي عملها البلطجي ده!
هزت رأسها بتفهم، وقبل أن تنطق مجدداً تركتها الممرضة وانصرفت.
وقفت أسيف في مكانها عاجزة عن التفكير بذهن صافي. فبالها أصبح مشغول كلياً برؤية أمها.
هي اطمأنت على حالها إلى حد ما، لكنها تتوق إلى رؤيتها بعينيها ليهدأ قلبها الملتاع عليها.

تبعها منذر بخطوات متريثة لكنه لم يبعد عيناه الثاقبتين عنها، أوقفه أحد أفراد الشرطة ليستجوبه بعد أن دلت عليه إحدى الممرضات المحتجزات بالداخل وأبلغتهم بأنه ساعدهم في منع مجرم ما من الإعتداء عليها وعلى زميلاتها.
لم يمضِ الكثير حتى ولج دياب وباقي رجاله للداخل لتفقد حال منذر بعد أن نفذ صبره.
لحق به والده وعواطف وابنتها كل يبحث عمن يخصه.
صاح دياب بصوت متحشرج: -حصلك حاجة يا منذر؟ قولي!

ثم دقق النظر فيه متفرساً تفاصيله ليتأكد من عدم إصابته بمكروه متابعاً بحدة عصبية:
-انت كويس؟ فيك حاجة؟ حد اتعرضلك؟ وربنا أعمل معاه الصح وادفنه هنا
رمقه الضابط بإزدراء قائلاً بتحذير: -هي مش فتونة يا اسمك ايه انت!
رد عليه دياب غير مكترث به: -لا يا باشا، ده أخويا، يعني لحمي ودمي!
هتف منذر بصوت هاديء عقلاني: -خلاص يا دياب، متفردش دراعاتك على الحكومة، الموضوع مش مستاهل!

ضغط دياب عى شفتيه بقوة، وحدج الضابط بنظرات محتقنة للغاية ولم ينطق بالمزيد.
بحثت عواطف عن ابنة أخيها وسط الحضور، تلك الصغيرة التي لم ترها من قبل، ظلت تتخيل شكلها، ومن تشبه، لكنها لم تتوقع أن تلقاها في ظرف كهذا.
اقتربت من منذر وسألته بصوت متلهف وعيناها تدوران بحيرة وخوف في أرجاء المكان:
-فين بنت أخويا؟ هي. هي مش كانت معاك؟

التفت هو نحوها، ونظر لها بوجهٍ خالٍ من التعابير مجيباً إياها بإقتضاب ومشيراً بعينين جامدتين:
-أعدة هناك!
استدارت بجسدها إلى حيث أشار، فاضطربت أنفاسها، وتوترت دقات قلبها أكثر وهي تمعن النظر في تلك الجالسة على المقعد المعدني المنزوي.
توقفت نيرمين في مكانها مترددة فيما تفعله وفضلت أن تتابع المشهد من بعيد، وألا تتدخل فيه، وراقبت بفضول ردة فعل والدتها مع ابنة خالها.

شعرت عواطف بالإرتباك والخوف وهي تقترب منها رويداً رويداً.
حاولت أن تتفرس في وجهها لترى ملامحها بوضوح.
رأت تلك اللمحات الحزينة الطافية على قسمات وجهها المجهد، وذلك العبوس الجلي المعبر عن حالها.
ظلت تدنو منها بتمهل دارسة لكل شيء فيها.
تمنت لو كانت تجمع سمات أبيها الراحل فتعوض عن غيابه بوجودها حية معها وفي وسطهم.
وقفت قبالتها، وعمقت نظراتها إليها.
هتفت بلا وعي وبصوت يمزج بين الفرح والبكاء: -آ. أسيف!

كانت الأخيرة شاردة في عالم أخر خاص بها، لم تستطع الانصراف دون رؤية والدتها أولاً، فأثرت البقاء حتى تطمئن عليها بنفسها.
لم تشعر بنفسها وهي تبكي في صمت متحسرة عليها.
ظلت تدعو الله بتضرع بقلبها لعله يهون عليها وينجيها مما هي فيه.
انتبهت إلى صوت تلك السيدة المنادية بإسمها، فرفعت رأسها في اتجاهها، ونظرت نحوها بغرابة بأعينها الدامعة.

أكملت عواطف قائلة بصوت خفيض وحاني وهي تطالعها بنظراتها الدافئة: -أنا عمتك عواطف يا بنت أخويا الغالي..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة