قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الثامن عشر

ضجرت بسمة من الانتظار أمام الحاجز المعدني، وتلفتت حولها بإستياء محاولة التفكير في وسيلة تمكنها من الصعود لمنزلها.
كان الأمر شبه مستحيل بسبب الحصار الأمني حول البناية بسبب حادث إصابة تلك السيدة مجهولة الهوية، في الأخير اضطرت أن تذهب إلى حديقة قريبة من منطقتهم الشعبية لتمكث بها.
وطوال تلك المدة حاولت مهاتفة أمها وأختها، ولكن دون جدوى، رنين متواصل، ولا إجابة على الإطلاق.

زفرت لأكثر من مرة مرددة بيأس لنفسها: -عيلة مامنهاش أمل خالص، كل ما أعوز حد فيهم يختفوا، هافضل أنا كده مقضياها في الشارع!
نفخت بصوت مسموع متابعة حديث نفسها وهي تدور بعينيها ببطء على ما حولها: -استغفر الله العظيم، كله بسبب أر الجزار الفقر ده! عينه مش رحماني!
لمحت أحد الباعة الجائلين المتخصصين في بيع الحلوى منزلية الصنع، فنهضت من مقعدها، وهتفت فيه بصوت مرتفع:
-انت يا عم! استنى!

توجهت نحوه، وتفقدت بنظرات ثاقبة متفحصة ما معه لتشتري المناسب لها لتسد جوع معدتها الخاوية.
عاودت الجلوس على مقعدها، وقضمت قطعة كبيرة من الحلوى متناولة إياها بشراهة، ولم تتوقف عن محاولة الاتصال بعائلتها.
وصلت أخبار الحادثة الغريبة إلى مسامع الحاج مهدي وابنه، لكن لم يهتم الأخير كثيراً بمعرفة التفاصيل.

مجرد أحاديث عابرة من المارة ورواد المطعم جذبت انتباهه فردد مستنكراً: : -أل يعني المشرحة ناقصة قتلى عشان الشرطة تيجي وتعملها حكاية
رد عليه أبيه بتذمر من أسلوبه الغير مكترث: -خليك في نصيبتك انت!
نظر مازن نحوه بطرف عينه قائلاً: -مش خلاص هنحلها
أسند مهدي كفيه على سطح مكتبه مردداً بتوجس: -ربك بس يسترها ومنعلقش مع دياب!
رد عليه مازن غير مبالٍ بتبعات ما سيحدث: -ولو علقنا، ايه يعني؟!

نظر له والده شزراً، وهتف متبرماً من استخفافه بالأمور: -هاتفضل طول عمرك متسرع ومتخلف وباصص تحت رجلك!
نفخ مازن قائلاً بنفاذ صبر: -ما كفاية تهزيق يا حاج
رد عليه مهدي معللاً: -ماهو أنا مبؤوء ( مزعوج ) منك ومن عمايلك!
نهض مازن من على مقعده قائلاً بإقتضاب وهو عابس الوجه: -أنا ماشي
رد عليه والده بإزدراء: -يكون أحسن، وماتتأخرش عن مشوار بالليل.

لم يعلق عليه مازن، بل اكتفى بالتحديق المنزعج نحوه، ثم انصرف من أمامه وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة.
بعد برهة كانت بسمة قد ملت من جلستها الغير مفيدة تلك، فقررت العودة إلى منزلها.
وبالفعل وجدت أفراد الشرطة يجمعون أشيائهم، فهتفت بإرتياح: -أخيراً هاطلع بيتنا، كانت شورة مهببة إني أفضل كده!
انتظرتهم حتى أفسحوا الطريق للجيران للولوج والخروج، فخطت إلى داخل بنايتها.

قابلتها أثناء صعودها على الدرج إحدى الجارات متساءلة بإهتمام: -أخبار قريبتكم ايه؟
نظرت لها بسمة بغرابة قاطبة جبينها، ومرددة بعدم فهم: -قريبة مين دي؟
وضعت الجارة إصبعيها على طرف ذقنها قائلة بإستنكار: -هو انتي مش دريانة باللي حصل ولا ايه؟
هزت رأسها نافية وأجابتها ببلاهة قليلة: -لأ، هو أنا عايشة في كوكب تاني ولا حاجة؟!

أمسكت بها الجارة من ذراعها جاذبة إياها لداخل منزلها مرددة بجدية: -طب تعالي جوا أما أقولك بدل وقفتنا على السلم!
-طيب
قالتها بسمة وهي تلج معها لصالة منزلها، فالفضول يدفعها لمعرفة تفاصيل الأمر كله.
ضاقت نظرات ذلك الشخص ذو ملامح الوجه السمراء و الحادة للغاية - والذي لم تتضح أغلب تفاصيل وجهه بسبب قلة الضوء في تلك الحجرة المظلمة - وهمس متساءلاً بجدية:
-انت متأكد من الكلام ده؟

رد عليه الشخص الأخر مؤكداً بثقة: -ايوه، الصول لسه مبلغني، فيه عفو لشوية مننا، ده قرار من وزير الداخلية، ناقص بس يتصدق عليه!
تحرك مجد قليلاً نحو شعاع الضوء المنبعث من القضبان المعدنية ليردد بتمني: -يا سلام لو اسمي يكون ضمن المفروج عنهم!
تنهد زميله السجين بعمق ليضيف بمكر: -يا مسهل، أنا هاغمز الصول، ولو عرف حاجة هاخليه يبلغنا على طول!

التفت مجد نحوه، وتابع متمنياً وقد ارتخت تعابير وجهه نوعاً ما: -يا ريت، ويبقاله الحلاوة!
تساءل زميله بخبث وهو محدق به: -هو بس؟!
ربت مجد على كتفه بقوة قائلاً بإبتسامة باهتة: -إنت قبله، هخليك تتروق على الأخر!
ثم زادت نظراته ضيقاً، وتابع بصوت واثق متغطرس: -خدها مني كلمة، مجد أبو النجا لما بيوعد بيوفي
هتف المسجون صائحاً بحماس: -الله عليك يا عمنا!
-هانعمل ايه؟

قالتها إحدى الممرضات متساءلة بتوجس وهي تنظر إلى زميلتها المتواجدة معها بغرفة العناية المركزة
ردت عليها الأخرى بصوت خفيض: -مالناش دعوة، احنا ماشوفناش حاجة، اللي حصل حصل، ده قضا ربنا، عمرها وخلص!
همست لها الممرضة بنبرة مرتعدة: -بس دي غلطة الدكتور آآ..
قاطعتها الأخرى محذرة بجدية صارمة: -ششش. كلي عيش، زيها زي أي حد جه ومات، عندها نزيف في المخ، سامعة!

ابتلعت الممرضة ريقها بتوجس، بينما أكملت زميلتها ببؤس: -احنا غلابة ومش حمل رفد ولا بهدلة ولا حتى نقل لمستشفى في أخر الدنيا، وكده كده مكانتش هتطول كتير!
اضطرت الأخيرة أن ترضخ لتحذيراتها المهددة، فهما بالطبع أفقر من تحمل تبعات فضح مسألة ذلك الخطأ الطبي المتعمد من قبل الطبيب، لذلك رددت مستسلمة:
-طيب!
تحركت ممرضة ثالثة في اتجاه الطبيب الذي كان يدون تاريخ الوفاة متساءلة بنبرة رسمية:.

-ايه المطلوب مننا يا دكتور؟
نظر في اتجاهها متساءلاً بجمود: -في حد جه مع المصابة؟ حد من أهلها يعني؟!
أومأت برأسها إيجاباً مرددة: -ايوه، تقريباً!
تابع مكملاً بهدوء بارد اعتاد عليه: -طيب اعرفيلي هما فين، وأنا بنفسي هانزل أبلغهم!
حركت رأسها بإيماءة خفيفة متمتمة: -حاضر
حدقت عواطف في ابنة أخيها بنظرات حانية للغاية، وهتفت من بين شفتيها بصوت شبه باكي:
-أنا عمتك يا ضنايا؟ ايه مش عرفاني!

رمقتها أسيف بنظرات مصدومة نوعاً ما.
لم تتوقع أن تقابلها في المشفى، بل لم يخطر ببالها أن تعرف مكانها وتحضر إليها.
أفاقت من ذهولها المؤقت عليها وهي تميل عليها لتحتضنها بعاطفة جياشة مرددة بتلهف:
-حمدلله على سلامتك يا بنتي، أنا مش عارفة أقولك ايه!
تراجعت للخلف لترى وجهها عن كثب، وأكملت حديثها بصوتها المتأثر: -والله لو أعرف إنكم جايين مكونتش نزلت من البيت خالص! لولا بس تعب البت رنا كنا آآ..

تجمدت نظرات أسيف فجأة، ونظرت لها شزراً، ثم هتفت بقسوة مشحونة مقاطعة إياها:
-ماما في حالة خطرة بسببكم!
جزعت عواطف من هجومها الغير متوقع عليها واتهامها الصريح لها بالتسبب في حادثة أمها، وحدقت فيها بذهول تام..
أضافت أسيف قائلة بمرارة: -احنا لو مكوناش سيبنا البلد وجينا هنا كانت ماما فضلت زي ما هي!
صدمت عمتها مما تفوهت به، وعجزت عن الرد عليها.

ارتفعت نبرة صوت أسيف أكثر وهي تكمل بقسوة غريبة لا تعرف من أين جاءتها وهي تشير بسبابتها:
-إنتي السبب! ايوه إنتي السبب!
انتبه الجميع إلى صوت صياحها الذي تحول إلى صراخ حاد وهي تستأنف اتهاماتها القاسية:
-لو ماما جرالها حاجة أنا مش هاسمحك أبداً، مش هاسمحك!
استغرب منذر من الصدام الدائر بين الاثنتين. فقد خالف الأمر توقعاته تماماً، وتابع بإهتمام كبير ما يحدث.

بالطبع كان يعتقد أنها بائسة متسولة ألقاها القدر في طريقه، وأجزم أن مهنتها التي تؤدي بحرفية هي استجداء عطف الأخير والتسبب في صنع الحوادث، لكن بدأت شكوكه تتزعزع حينما عرف هويتها ورغم إنكاره لذلك ورفضه تصديقه في البداية إلا أنه تيقن من خطأ إعتقاده وسوء ظنه بها حينما تابعت بحدة عنيفة:.

-أول مرة أنا وماما ننزل عندكم بعد سنين، اتبهدلنا واتهزأنا واتمرمطنا واحنا معملناش حاجة، كل ده بس عشان قولتلها عاوزة أشوف عمتي، زي ما يكون قلبها كان حاسس، مكانتش عاوزاني أختلط بيكم، كانت عارفة إنه هيجرالها حاجة، وأنا صممت، صممت أجيبها لقدرها!

ابتلعت عواطف غصة عالقة في حلقها، وحاولت امتصاص غضبها مرددة برجاء: -اهدي يا ضنايا، ده. ده نصيبها، ومحدش بيمنع القدر، إدعي ربنا، وآآآ، وإن شاء الله هاتبقى كويسة!
ثم مدت يدها لتربت على كتفها محاولة التهوين عليها.
أزاحته أسيف بعنف، ثم رددت بعصبية: -بس متحطيش ايدك عليا!
استشاطت نيرمين غضباً من حركتها تلك، واستنكرت بشدة أسلوبها الحاد مع والدتها، لذا تحركت نحوها بعصبية بائنة، وهتفت قائلة بنبرة مغلولة:.

-انتي بتتكلمي كده ليه، دي أمي يا بت انتي؟ في ايه مالك؟ هو حد داسلك على طرف!
تدخل الحاج طه في الحوار محاولاً تلطيف حدة الأجواء قائلاً بتريث: -صلوا على النبي يا جماعة، مايصحش كده!
صرخت فيهم أسيف بصوت جهوري منفعل وهي تمرر نظراتها بينهم: -محدش ليه دعوة بيا، امشوا كلكم من هنا! دي أمي وحالتها تخصني أنا وبس!
رد عليها طه بنبرة هادئة وهو يشير بعكازه: -احنا جايين نطمن عليها، نعمل الواجب بحكم آآ..

قاطعته قائلة بتشنج هادر: -مش عاوزة حاجة منكم، ابعدوا عننا!
إغتاظ دياب هو الأخر من أسلوبها العنيف في الحديث، فاقترب منها مهدداً بالهجوم عليها.
هتف صائحاً بصوت خشن وملوحاً بذراعه في وجهها: -ما تحترمي نفسك، مش عاجبك الراجل الكبير اللي واقف قصادك، ده آآ..
وضع طه قبضة يده على ذراع ابنه ليمنعه من التهور الطائش، وشدد عليه قائلاً بصرامة:
-بس يا دياب، اسكت انت دلوقتي!

التفت دياب نحوه برأسه، ورد عليه بغلظة متعمداً رمق أسيف بنظرات احتقارية: -يا أبا مش شايف طريقتها!
حذره أباه مجدداً قائلاً بصلابة: -شششش. ملكش دعوة!
ظل منذر صامتاً متابعاً نوبتها الغاضبة بأعصاب فولاذية، لكنه كان يغلي من داخله، بركان غضبه على وشك أن يثور في وجهها، لكنه برع تلك المرة في التحكم في أعصابه منتظراً بترقب نهاية ما تقوم به.

التفتت هي نحوه لترمقه بنظرات فارغة، وهدرت فيه بصوت متشنج يحمل الكبرياء: -واللي انت دفعته يا حضرت، أنا هاجيبهولك، أنا مش شحاتة ولا بأقبل صدقة من حد!
سلط أنظاره المحتقنة عليها، ولم يعقب، تحركت نحوه حتى باتت على مسافة قريبة جداً منه، لا تتجاوز الخطوتين، ثم أكملت بنبرة مترفعة محاولة رد جزء قليل من كرامتها المهدورة:.

-أنا بنت المرحوم رياض خورشيد، الراجل اللي انت متعرفوش أصلاً، واللي مات وهو رافع راسه لفوق، لا كان مديون، ولا عمره كان هيطاطي لحد!
ضغطت على شفتيها أكثر لتردد بعزة نفس وهي تبتلع غصة مريرة عالقة بحلقها: -ومكانش هايقبل إنه أو بنته تتذل وتمد إيدها لحد تطلب منه الإحسان!
مال دياب على أباه سألاً إياه بفضول متعجب: -هو ايه اللي حصل؟ هي بتكلم عن ايه؟

أجابه طه بعدم فهم وهو يتابع حوارهما بإهتمام: -مش عارف يا دياب
تساءلت نيرمين بغرابة وهي تسأل أمها: -البت دي بتقول ايه؟
هزت عواطف كتفيها نافية و مرددة بحيرة: -وأنا هاعرف منين؟ ما أنا زيك لسه شيفاها دلوقتي!
قست نظرات منذر أكثر نحوها، ورغم هذا لم تهابه، كان غضبها وثورتها تفوق بكثير احساسها بالرعب والخوف.
كور هو قبضة يده، وضغط على أصابعه بشدة حتى استشعر أبيه أنه سيقدم على فعلة حمقاء.

لذا هتف فجأة بنبرة صارمة محذرة: -منذر!
تجمد الأخير في مكانه لم يصدر عنه أي إشارة أو حركة، لكن تعابير وجهه، عروقه المشدودة، احتقان عيناه، تشنجات تصرفاته توحي بقرب انفجاره.
وقبل أن تضيف أسيف كلمة أخرى انتبه الجميع لصوت مرتفع لممرضة ما وهي تقول ومشيرة نحوها:
-هي دي يا دكتور!
التفتت أسيف نحو صاحبة الصوت، وبالطبع عرفتها، فقد كانت تسألها عن أحوال والدتها طوال الوقت.

انتفضت حواسها بالكامل حينما رأتها بصحبة الطبيب الذي تساءل بنبرة جافة وهو يجوب بأنظاره أوجه الحاضرين:
-انتو أهل المصابة؟
ردت عليه أسيف بتلهف وهي تتجه نحوه: -أنا بس بنتها!
أطرق الطبيب رأسه للأسفل، واستطرد حديثه قائلاً بحذر: -للأسف المصابة لما جاتلنا كانت في وضعية حرجة، واحنا حاولنا نعمل اللي علينا، لكن الحالة ساءت، ونزيف المخ كان صعب السيطرة عليه وآآآ..

هربت الدماء من وجه أسيف، وأصبحت أكثر شحوباً وهي تتابع بفزع كلماته الغامضة.
قلبها ينبؤها بالأسوأ، لكن عقلها يرفض إلى الآن التصديق.
اضطربت دقات قلبها، وشعرت بوخزات مؤلمة في صدرها، ومع ذلك حافظت على صلابتها حتى ينتهي من تفسير ما يريد قوله.
أضاف الطبيب موضحاً بنبرة متأسفة اعتاد اللجوء إليها حينما يبلغ أحدهم بخبر مفجع:
-بس دي مشيئة ربنا، فادعيلها بالرحمة.

لم تستوعب بعد مقصده، فسألته بصدمة واضحة: -يعني انت تقصد انها مش هاتمشي تاني خالص؟!
بدا على وجه الطبيب الاستغراب، فهي تتحدث في شأن أخر، لذا ردد بوضوح جاد: -البقاء لله، المصابة توفت!
شهقت عواطف بهلع كبير، وشخصت أبصارها مصدومة وهاتفة بأنين لاطمة على صدرها: -يا لهوي، حنان ماتت!
ضمت نيرمين رضيعتها إلى صدرها أكثر محاولة كتم صدمتها هي الأخرى.

تبادل دياب وطه نظرات غريبة تحمل الصدمة أيضاً ولا تقل في تأثيرها عن عواطف وابنتها.
هتف طه مواسياً وهو يضرب بكفيه على رأس عكازه: -إنا لله وإنا إليه راجعون!
تحركت أنظار منذر تلقائياً على أسيف وتجمدت عليها.
لا يعرف لماذا شعر بوخزة عميقة في صدره نحوها، ربما إحساسه بالشفقة والأسف لفقدانها أمها في تلك الظروف القاسية أجبرته على التأثر بحالها.
بدت كالمغيبة وهي محدقة في الطبيب بنظرات خاوية من الحياة.

كأن عقلها رفض تصديق كلماته الصريحة، فصاحت فيه بصوت هادر مستنكر: -إنت كداب!
نظر لها الطبيب بغرابة، وهتف منزعجاً: -أفندم؟
توجس الجميع خيفة مما هو مقبل، فقد تبدلت أسيف كثيراً وتحولت لشخص أخر غاضب بضراوة.
مدت كلتا يديها نحو الطبيب لتقبض على ياقته، وصرخت فيه بإهتياج مفاجيء: -انت كداب، سامعني كداب!

شددت من أصابعها عليه، وواصلت صياحها المختنق مستنكرة وفاة أمها: -ماما كويسة؟ انت ليه بتقول كده؟ حرام عليك، عاوز تحرمني منها ليه؟
حاول الطبيب تخليض قبضتيها منه قائلاً بضيق: -ماينفعش اللي بتعمليه ده!
تمسكت أكثر بتلابيبه، وهزته بعنف مكملة صراخها المجنون: -أنا مش هاسيبكم تاخدوها مني، ماما عايشة ومش هاتموت!
قاوم الطبيب إنفلات أعصابها مردداً بضجر: -ده قضاء ربنا!

تلقائياً تحرك منذر نحوها ووقف حائلاً بينهما محاولاً التفريق بينهما.
قام بجذب قبضتيها من على الطبيب وتخليصه منها، لكنها كانت في فورة قوتها الغاضبة. تلك القوة المستنكرة الغاضبة والتي تحرك جسدها كلياً بإنفعال غير مسبوق.
ظلت متشبثة بالطبيب صارخة فيه بجنون: -فين ماما؟ مش هاسيبكم تاخدوها مني!
وضع الطبيب يديه على رسغيها مبعداً إياهما عنه، وقائلاً بإنزعاج أكبر مما يحدث منها:
-اهدي يا أستاذة، ماينفعش كده!

لف منذر ذراعيه حول أسيف، واستغل فارق القوة في تحرير الطبيب من براثنها الشرسة. وقبض على معصميها معاً وضمهما إلى صدرها ليتمكن من تكتيفها.
بكت عواطف متأثرة للموقف برمته، وهتفت قائلة بصوت مختنق: -يا عيني يا ضنايا، كبدي عليكي!
دفع طه ابنه دياب من كتفه قائلاً بحزن: -لا حول ولا قوة إلا بالله، خش مع أخوك يا دياب، بلاش فضايح!
هز الأخير رأسه موافقاً وهو يتحرك نحوهما: -طيب!

قيد منذر حركتها، ومال على رأسها قائلاً من بين ضفتيه المضغوطتين بقسوة: -اهدي شوية!
تلوت بنفسها كلياً محاولة التحرر من ذلك القيد الإجباري المفروض عليها صارخة بإهتياج أكبر:
-انتو كدابين، ماما عايشة، سامعيني! ماما مامتتش!
تعالى صراخها الممزوج بشهقاتها المستنكرة لما حدث، فضمها منذر أكثر إليه، وهتف من بين أسنانه بصعوبة:
-شششششش!

لم يجد دياب ما يفعله معها، فقد كان أخاه مسيطراً على زمامها بالكامل. لذا وقف مجاوراً لهما، ومتأهباً للتحرك في أي لحظة.
واصلت أسيف صراخها المهتاج مرددة بنبرة متشنجة وباكية: -ما تسبنيش يا ماما، لألألألأ!
ارتفع نداء عواطف المتوسل بعد أن رأت ما آلت إليه حالة ابنة أخيها قائلة برجاء: -حوشها يا بني بدل ما تأذي نفسها!
هتف الطبيب في ممرضته مردداً بحدة: -ناديلي حد من فوق!
ردت عليه بجدية: -حاضر يا دكتور!

بدأت قواها تخور تدريجياً بفعل تأثير الصدمة، وانخفض صوت شهقاتها المنهارة لفراقها الأليم.
أشفق منذر عليها كثيراً، وظل ممسكاً بها ومحاوطها بذراعيه مانعاً إياها من السقوط وهامساً لها بصوت عميق محاولاً طمأنتها:
-ششش، اهدي!
أغمضت عيناها قهراً، وبكت بحرقة كبيرة وهي تنادي والدتها بمرارة شديدة بصوت شبه متقطع:
-ما. آآ، ماما!
تكرر المشهد من جديد، وزادت خسارتها بفقدان عزيز أخير.

نعم هي عاشت تلك المعاناة القاسية حتى النخاع ولكن بصورة أشد آلماً ووجعاً.
استشعر منذر وهو يحاوطها رغماً عنها ضعفها الإجباري نتيجة تأثير الصدمة. فتمسك بها أكثر.
استسلمت هي لذلك الخدر القهري الذي تسرب إلى خلايا كيانها. فرضخت بلا وعي لبقائها الحتمي في أحضانه لتغيب بدون إرادتها عن واقع أخر موجع سيترك انعكاسه على حياتها القادمة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة