قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل التاسع عشر

وخزات حادة أصابتها في معدتها وهي تجلس إلى جوار جارتها.
قاومت على قدر المستطاع ذلك الوجع، لكنها لم تتحمل اكثر من هذا شدة الآلم، فتأوهت بسمة بأنين صادر من بين شفتيها المضغوطتين:
-مش قادرة، آآآه!
تساءلت الجارة بتوجس وهي محدقة بها: -مالك يا بسمة؟ فيكي حاجة؟
ردت عليها بصعوبة وهي تتأوه من وجع معدتها: -ألم رهيب في بطني، مش عارفة من ايه!
سألتها مجدداً مستفهمة: -من ايه طيب؟

صرخت متآلمة وهي تجيبها بصوت مكتوم: -آآآه، باينه من حاجة البياع الزفت!
قطبت الجارة جبينها، واقتربت منها لتضع يدها على كتفها متساءلة بإهتمام أكبر: -بياع ايه ده
لم تستطع بسمة تحمل الآلم أكثر من هذا، فتكورت على نفسها صارخة بحدة: -لالالا! هاموت!
فزعت الجارة لرؤيتها على تلك الحالة المقلقة فرددت بخوف: -بسمة!
واصلت بسمة صراخها الموجع مرددة بصوت مختنق: -آآآآه، اطلبيلي الإسعاف، آآآه، بسرعة، آآ. هاموت!

ثم انهارت على الأرضية وهي تكمل صراخها الفزع، فانتفضت الجارة من مكانها مذعورة هاتفة بهلع أكبر:
-يا لهوي!
انزوعت نيرمين إلى جوار والدتها في أحد أركان المشفى بعيداً عن غرف المرضي، ثم مالت عليها متساءلة بحيرة وهي متعمدة خفض نبرة صوتها:
-هانتصرف دلوقتي ازاي؟
أجابتها عواطف بقلة حيلة وهي منكسة لرأسها: -مش عارفة يا بنتي، أنا دماغي مشلولة، هو اللي حصل قليل!

ثم تمتمت متحسرة ماسحة لعبراتها العالقة في أهدابها: -المصايب مابتجيش لوحدها أبداً!
بدت نيرمين غير متأثرة بما يحدث مع ابنة خالها على الإطلاق، ربما لأنها لا تعرفها، وليس بينهما أي علاقة وطيدة أو صلات ودية فكانت جامدة عن والدتها التي كانت حزينة للغاية.
دفعها فضولها فقط للسؤال عن أحوالها مرددة بهدوء: -هو الدكتور قال عندها ايه؟

أخرجت عواطف تنهيدة مطولة من صدرها تحمل الكثير من الآسى والضيق، وأجابتها بصوت منتحب:
-اسألي سي منذر هو اللي كان واقف معاه وبيكلمه
تابعت نيرمين قائلة بتبرم: -والله لولا موت أمها كنت رديت على وقاحتها وقلة أدبها
حدجتها عواطف بنظرات قوية منزعجة، وهتفت فيها بحدة: -اسكتي يا نيرمين، هي مش في وعيها، أمها ماتت وانتي جاية تقولي آآ..

قاطعتها نيرمين متذمرة وهي تشير بكف يدها: -خلاص يا ماما، يعني ما اتفكش معاكي بكلمتين!
ردت عليها عواطف بصوت جاف وغليظ: -سيبني لحالي، مش عاوزة أسمع حاجة تنرفزني!
ثم شردت بأنظارها للأمام، وتابعت بصوت نادم: -خليني أشوف الغلبانة اليتيمة دي هاتعمل ايه في اللي جاي!
ثم ساد الصمت بينهما لبعض الوقت قبل أن تقطعه نيرمين هاتفة بصورة فجائية: -ماما احنا نسينا بسمة خالص.

شعرت عواطف بالقلق بعد تلك العبارة، فهي بالفعل لم تهاتف ابنتها طوال اليوم، ولم تعرف عنها أي شيء، وبالطبع الأخيرة ليس لديها أي علم بالمستجدات الطارئة على الساحة.
لذلك رددت بنزق: -يا لهو بالي! اتلبخنا في المصايب اللي نازلة تهف على دماغنا!
ثم بحثت في حافظة نقودها العريضة عن هاتفها النقال، لكنها للأسف لم تجده بالداخل، فارتسمت تعابير الضيق على وجهها، وهتفت بعبوس:
-شوفتي الحظ الفقر أنا نسيت موبايلي!

أضافت نيرمين هي الأخرى قائلة بإمتعاض: -وأنا كمان، كان في الشاحن!
لوت عواطف ثغرها متساءلة بحيرة بائنة وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها: -طب والعمل؟ ده زمانتها هتتهبل؟
مطت شفتاها بضيق أكبر، ونفخت بصوت مسموع مرددة بضجر: -أوصلها ازاي؟
طرأ ببال نيرمين فكرة ما حينما وقعت عيناها على الحاج طه وابنه. فبرقت حدقتيها، وهتفت مقترحة:
-ما تطلبي من الحاج طه موبايله نتصل عليها منه؟

انتبهت لها والدتها وبدت مهتمة بإقتراحها، فتابعت ابنتها مشجعة إياها على تنفيذه:
-هو راجل طيب ومش هيرفض لو طلبتي ده منه!
تساءلت عواطف بتوجس خفيف: -اه والله، بس تفتكري هيرضى؟
ردت عليها نيرمين بتذمر: -دي دقيقة مش حاجة يعني، ولو حكمت ندفعله
استنكرت عواطف تفكير ابنتها قائلة: -مش للدرجادي، انتي كده هتركبيني العيب!
-طيب، قومي اطلبي منه، وشوفي هايقول ايه.

همست بها نيرمين بإلحاح عليها، فاستجابت الأخيرة لها، ونهضت بتثاقل من مكانها لتتجه إليه.
جاب دياب بأنظاره المكان من حوله، وغمغم متساءلاً بضجر: -وبعدين يا أبا؟ هانسيب الولية كده في المشرحة ولا هندفنها؟
رد عليه طه بصوت متحشرج: -ادينا مستنين نشوف ايه الإجراءات ونعملها!
تساءل دياب بإمتعاض وهو يوميء بعينيه: -طب وبنتها؟
أجابه أباه بإنزعاج: -ماهو على يدك، البت غايبة عن الدنيا ومش مالكة نفسها.

سأله دياب بجدية وهو يمسح طرف أنفه بإصبعه: -هي مالهاش قرايب؟
رد عليه طه نافياً: -ولا أعرف، المفروض عواطف تكون أدرى مننا بده، ممكن تسألها!
هتف دياب مستنكراً اقتراحه الغير مُجدي: -يا أبا دي مقطعاهم من زمن، يعني شكلها متعرفش
وافقه طه الرأي مردداً: -على رأيك، دي معرفتش بموت أخوها إلا صدفة
هز دياب رأسه بالإيجاب مضيفاً: -بالظبط، يعني زي قلتها!

ثم أخر زفيراً عميقاً من صدره وهو يتابع: -عموما يا أبا أنا هسأل عن المطلوب وأخلص كل الإجراءات والتصاريح بنفسي!
ربت أباه على كتفه قائلاً بإمتنان: -ربنا يباركلك، هي بردك ولية لوحدها
-ايوه!
ترددت عواطف في مقاطعة حديثهما، لكن لم يكن أمامها وسيلة أخرى سوى استخدام الهاتف النقال الخاص بالحاج طه للإطمئنان على ابنتها.

وبإرتباك واضح وحزن يكسو تعابير وجهها المرهقة هتفت بصوت مبحوح: -معلش يا حاج طه إن مكانش فيها إساءة أدب ممكن طلب!
التفت الاثنان نحوها، ورد عليها طه قائلاً بجدية: -أؤمري يا عواطف
ابتلعت ريقها وهي تجيبه بحرج قليل: -آآ. أنا نسيت التلافون بتاعي في البيت، وزمانت بنتي بسمة رجعت وتلاقيها يا حبة عيني مخها واكلها ومش عارفة حاجة عننا ولا إحنا فين ولا حتى بالمصيبة اللي حصلت!

هز الحاج طه رأسه متفهماً، فأكملت متشجعة: -فإن مكانش فيها مانع أخد تلافونك أكلمها!
رد عليها بجدية وهو يدس يده في جيب جلبابه: -أه وماله
أشار دياب لأبيه بكف يده قائلاً بجمود: -استنى يا أبا، أنا معايا رصيد كفاية!
وجهت عواطف أنظارها إليه، وابتسمت قائلة بحرج شديد: -مافيش داعي تتعب نفسك يا دياب يا بني، الموضوع مش مستاهل!

أخرج طه يده من جيبه خاوية الوفاض، واستند بها على كفه الأخر الموضوع على رأس عكازه، بينما تابع دياب بجدية وهو يضغط على أزرار هاتفه:
-ولا تعب ولا حاجة، مليني الرقم وكلميها!
هتفت عواطف ممتنة: -كتر خيرك يا بني
ثم اقتربت أكثر منه لتضيف بهدوء: -رقمها هو ((، ))
هز رأسه بإيماءة خفيفة قائلاً: -ماشي!
ثم ضغط على الأزرار طالباً إياها، ومن ثم أعطى الهاتف لأمها لتحدثها.

انتظرت الأخيرة للحظات منتظرة أن يأتيها رد ابنتها عليها، لكن لم يحدث.
حدقت في دياب قائلة بريبة: -البت مش بترد!
رد عليها دياب بجمود: -حاولي تاني، جايز ماسمعتش!
-ماشي!
على الجانب الأخر، في إحدى غرف المرضى المشتركة، وقف منذر إلى جوار الطبيب يتحدث معه عن الحالة الصحية لأسيف والتي ساءت كثيراً بعد تلقيها خبر وفاة والدتها.
كان يوزع أنظاره بينه وبين تلك الفاقدة للوعي.

بدت أكثر ضعفاً عن ذي قبل، بل تحتاج إلى الإشفاق والدعم لتجاوز تلك المرحلة العصيبة من حياتها.
استمر الطبيب في وصف حالة أسيف طبياً، لكن كانت عباراته غامضة لمنذر. استصعب فهمها بسهولة، لذلك سأله بإنزعاج وهو يحك مؤخرة رأسه:
-مش فاهم! ده خطر يعني؟
أجابه الطبيب بجدية موضحاً: -اكيد، هي عندها انهيار عصبي ونصيحتي تفضل تحت الملاحظة على الأقل ل 3 أيام!
ضاقت نظرات منذر مردداً بإستغراب: -للدرجادي؟!

رد عليه الطبيب مستنكراً جهله بتقدير وضعها الصحي والنفسي: -انت مكونتش شايف حالتها عاملة ازاي؟
أضاف منذر قائلاً بوجه عابس: -لأ شوفت، بس متوقعتش إنها خطيرة!
رد عليه الطبيب بإستياء: -يا حضرت النوعية دي من الحالات محتاجة اهتمام أكبر، كمان لازم يكون في آآآ..
وقبل أن يكمل جملته للنهاية قاطعتهما ممرضة ما هاتفة بنبرة رسمية: -بعد اذنك، انت من قرايب المرحومة حنان؟

التفت منذر نحوها، واحتار للحظة في الإجابة على سؤالها، فهو لا يعد من أقاربها المباشرين بالمعنى التقليدي، ولكن بحكم ما استنبطه مما حدث فليس لأسيف أو أمها الراحلة أقارب هنا، وبالتالي إن لم يتدخل فربما تضيع أشيائها، وحالتها كما استشف من الطبيب ليست بخير.
نظر لها بحدة، ثم رد بحذر: -يعني، حاجة زي كده!
أكملت الممرضة قائلة بنبرة جافة: -عاوزين حد يمضي إنه استلم متعلقاتها الشخصية، هي في الأمانات!

تفاجئ منذر بما قالته، ومع ذلك حافظ على جمود تعابير وجهه، ورد بإقتضاب: -طيب
تابعت الممرضة قائلة بإلحاح محاولة إخلاء مسئوليتها: -يا ريت ضروري، إن أمكن دلوقتي!
استغل الطبيب الفرصة لإنهاء الحديث الممل مع منذر الذي حاصره بأسئلة كثيرة مزعجة عن حالة تلك المريضة، فهتف بنزق:
-هستأذنك عندي حالات عاوز أتابعها!
استدار الأخير نحوه مردداً بتجهم: -ماشي يا دكتور، متشكرين.

ثم تابعه للحظة وهو ينصرف من أمامه، ولم ينتبه للممرضة التي بدأت تتحرك.
تدارك الموقف سريعاً، وأسرع في أثرها قائلاً بصوت شبه مرتفع: -استني يا ست الحكيمة، أنا جاي معاكي!
نظرت له من طرف عينها قائلة: -اتفضل!
رافقت الجارة بسمة في سيارة الإسعاف وظلت ملازمة لها حتى بعد أن نقلها إلى مشفى قريب. فلم يكن معها أي أحد، ورفضت هي أن تتركها بمفردها في ذلك الوضع العصيب.

تم الكشف عليها وتأكد إصابتها بتسمم غذائي، فأسرع الأطباء بإجراء غسيل معدة لها لتنظيفها مما بها من ملوثات غذائية.
انتظرتها الجارة بالإستقبال حتى وضعت في غرفة طبية. فولجت إليها هاتفة بتلهف: -الف سلامة يا ست بسمة، الحمدلله إنها جت على أد كده!
ردت عليها بسمة بصوت متآلم ومرهق وقد بدا التعب واضحاً عليها: -الله يسلمك!
أضافت الجارة قائلة بإنزعاج: -لو اعرف بس أوصل لأمك ولا أختك كنت بلغتهم!

ردت عليها بسمة بصعوبة: -اها. ماهما مش بيردوا على موبايلاتهم من بدري!
بررت لها الجارة سبب انشغالهما قائلة: -تلاقيهم ملبوخين مع قريبتكم! الله يكون في العون، انتو يا عيني اتنشتوا عين
وافقتها بسمة الرأي مرددة بصوت خفيض: -أها، أنا عارفة عين مين!
شعرت الجارة بإهتزازة ما في تلك الحقيبة التي تحملها في يدها، فنظرت لها بإهتمام.
هي كانت ممسكة بحقيبة بسمة وأخذتها معها، فهتفت قائلة: -ده تليفونك بيرن!

أشارت لها بسمة بسبابتها مرددة بخفوت: -شوفي مين!
فتحت الجارة الحقيبة على عجالة لتعبث بمحتوياتها، وبحثت عن الهاتف النقال بداخلها.
أمسكت به بيدها مرددة بإندهاش وهي تحدق في شاشته: -رقم غريب، أرد عليه يا ست بسمة؟
لم تتمكن الأخيرة من الإجابة عليها بسبب اقتحام الغرفة للطبيب وممرضته، فهتف بحدة:
-بعد اذنك شوية، عاوزين نفحص المريضة تاني
تراجعت خطوة للخلف قائلة بإمتعاض: -حاضر.

التفت الطبيب ناحية مريضته وسألها بإهتمام: -أخبارك ايه دلوقتي؟
أجابته بصعوبة: -أحسن شوية الحمدلله
هتفت الممرضة بنبرة صارمة للجارة وهي تشير بعينيها: -من فضلك، الدكتور عاوز يشوف شغله، استني برا شوية!
ردت عليه بضجر محدجة إياها بنظرات منزعجة: -طيب. طيب!
ثم ولجت إلى خارج الغرفة وهي تتمتم بكلمات غير واضحة.
جلست عواطف على المقعد المعدني بجوار ابنتها، وهمست بقلق: -البت مش بترد! قلبي واكلني عليها!

عللت لها نيرمين عدم ردها قائلة: -تلاقيها نايمة ولا يمكن بتستحمى، ما انتي عارفة بنتك!
بدا وجه عواطف غريباً وهي تعترض بخوف: -لأ. قلبي متوغوش
انزعجت نيرمين من قلقها الزائد، فنهرتها بحذر: -خلاص يا ماما، مافيش داعي تقلقينا على الفاضي، خلينا في الهم اللي احنا فيه
وافقتها عواطف الرأي قائلة: -اه والله، هم من كل حتة، مش ملاحقين!
حدق دياب في شاشة هاتفه مرة أخرى، وقرر معاودة الإتصال ببسمة قبل أن يعطيه لأمها.

سار عدة خطوات مبتعداً عن أبيه ليكون على راحته أكثر، وترقب سماع صوتها.
استند بظهره على الحائط، وتابع حركة الممرضين بنظرات شاردة. فتفكيره منصب على هدف واحد حالياً.
بقيت الجارة خارج غرفة بسمة متابعة بفضول ما يفعله الطبيب بها.
شعرت بإهتزاز الهاتف مجدداً في الحقيبة، فإلتقطته مرددة لنفسها بحيرة: -أعمل ايه في اللي بيتصل تاني ده؟
في الأخير حسمت أمرها بالإجابة عليه.

وضعت الهاتف على أذنها، وصاحت متساءلة بحذر: -ألوو، مين معايا
استمعت إلى صوت ذكوري عبر الطرف الأخر متساءلاً بجمود: -بسمة؟
ردت عليه نافية والفضول يدفعها لمعرفة هوية المتصل الغامض: -لأ، بس ده تليفونها، مين عاوزها؟
رد عليها دياب متساءلاً: -انتي مين؟
أجابته دون تريث: -أنا جارتها، هي أصلها في المستشفى عندها تسمم وبيعالجوها دلوقتي
تفاجيء دياب بما قالته، وصاح مصدوماً: -اييييه، تسمم! ازاي؟

تابعت الجارة موضحة بتحسر: -اه، يا نضري ماستحملتش الأكل البايظ، بس أنا نقلتها وواقفة معاها لحد ما تقوم بالسلامة، ألا انت مين صحيح؟
رد على تساؤلها بسؤال حازم: -انتو في مستشفى ايه؟
أجابته بتأني: -في ((، ))، بس مقولتليش مين انت وآآ..
قطمت عبارتها جبراً لأن المكالمة انتهت فجأة، فهتفت بنزق وهي تبعد الهاتف عن اذنها لتنظر في شاشته بإندهاش:
-ألو. الوو. هو الخط فصل ولا ايه؟!

وقع منذر على عدة أوراق رسمية استلم فيها جميع المتعلقات الشخصية بالحالة المتوفية، ودونت الموظفة المسئولة بياناته الموجودة في بطاقة هويته.
بعدها أعطته أشيائها الخاصة وهي تعزيه قائلة: -ربنا يصبركم!
رد عليها بإقتصاب: -متشكر!
اتجه نحو الخارج وهو ممسك بكيس بلاستيكي وضعت فيه متعلقات الفقيدة من حقيبة يد، وحلي مصطنعة وذهبية، وساعة يد جلدية، وكذلك أوراق الهوية.

لم يتوقف عقله عن التفكير في الخطوة القادمة المطلوب عملها.
هو تحمل مسئولية لا تخصه، وعليه أن يتمها دون نقص.
تفاجيء بأخيه دياب يسلمه تقرير الطبيب الشرعي للحصول على تصريح الدفن مردداً بتلهف:
-معلش يا منذر كمل انت اللي ناقص لأن عندي مشوار مهم
سأله منذر مستغرباً: -مشوار ايه ده؟
أجابه أخيه على عجالة وهو يضغط على شفتيه: -بص، هو بإختصار بنت عواطف التانية محجوزة في المستشفى!

ارتفع حاجباه للأعلى في استنكار مردداً بذهول: -ايه؟
حذره دياب قائلاً بضيق: -أمها متعرفش، وأنا رايح أشوف في ايه
سأله منذر بجدية بعد أن ارتخت ملامح وجهه المشدودة نسبياً: -عرفت عندها ايه؟
رد عليه دياب بتوجس: -تسمم، شكلها رمرمت حاجة من الشارع
أشار منذر بحاجبه متساءلاً بتأكيد: -يعني مش هاتقول لأمها؟

هز رأسه نافياً وهو يرد: -مش دلوقتي، هاشوف الدنيا ماشية ازاي هناك والوضع عامل ايه وبعد كده أعرفها، كفاية أوي البلاوي اللي هنا
حرك منذر رأسه متفهماً، فالحال هنا ليس بالجيد مطلقاً، فهناك عدة مسائل لم تحل بعد.
رد عليه بتنهيدة متعبة: -أها، عندك حق، عندنا كوارث وكلها متخصناش!
أضاف دياب بعفوية: -قدرنا نشبك مع العيلة دي!
ابتسم منذر بتهكم وهو يرد: -باين كده.

ضرب دياب ذراع أخيه بكفه متابعاً بنبرة عازمة: -هاتوكل أنا، وعلى تليفون!
رد أخاه عليه قائلاً بإيجاز: -طيب!
لم يعرف أحدهما بالخطأ الطبي الذي حدث أثناء محاولة إسعاف المريضة. وبالتالي لم يشك أي منهما في صحة ذلك التقرير، وبقي فقط اكمال باقي الإجراءات..
تساءل طه بإهتمام وهو يرى ابنه البكري حائراً في مكانه: -ماله دياب؟
أجابه منذر بغموض موجز: -موضوع كده بيخلصه.

سأله والده مستفهماً وهو يرمقه بنظرات ذات مغزى: -طب وانت؟ دماغك فيها ايه؟
رد عليه ابنه بتذمر: -المصيبة اللي اتوحلنا فيها
مد طه يده ليربت على ذراعه قائلاً بتشجيع: -معلش، هما ولايا ومعهومش حد!
-ايوه
دقق طه النظر في ذلك الكيس البلاستيكي الذي يحمله في يده، وسأله بجدية: -دي حاجة المرحومة؟
حدق منذر فيما معه، وارتفع بأنظاره نحو أبيه ليجيبه: -أه هي، أنا استلمتها.

أضاف والده قائلاً بإهتمام وهو يشير بعينيه نحو أشيائها: -طب ما تشوف كده إن كان فيها حاجة تفيدنا، ليهم قرايب ولا معارف، أي حد مانكونش عارفينه
-ماشي
قالها منذر وهو يفتح الكيس البلاستيكي لينظر بدقة في محتوياته.
استمعت لصوت دقات خافتة على باب غرفتها، فهمست بصوت مجروح: -ايوه، خش!
فتح الباب بحرص، ثم أطل برأسه أولاً ليتفقدها قبل أن يدفعه للأمام ليلج كلياً للداخل.

استدارت ببطء في اتجاه الطارق، واتسعت عيناها مصدومة حينما رأته بشحمه أمامها.
رمشت بعينيها غير مصدقة أنه متواجد معها بالغرفة.
هتفت بنزق مصدوم وقد ارتسم على وجهها علامات الضيق: -انت!
مرر دياب أنظاره على وجهها ثم رسغها المغروز به إبرة طبية، وجسدها المغطى بالملاءة مجيباً إياها بهدوء بارد:
-لوشتي ايه بالظبط؟
حاولت النهوض من رقدتها لترد عليه بحدة رغم تعبها: -ايه اللي جابك هنا؟ وعرفت منين؟

أجابها بجمود وهو يعمق نظراته نحوها: -اللي جابني رجلي! أما عرفت منين فدي مش صعبة يعني!
تأوهت بصوت خفيض لضغطها على كفها الموصول بالإبرة الطبية، ثم ارتخت مجدداً على الوسادة هاتفة بإنهاك وضجر:
-طب اتفضل من غير مطرود، أنا آآ..
وضع دياب يده على طرف ذقنه ليفركه بحركة ثابتة مقاطعاً إياها بصرامة: -انتي تسكتي خالص، وتسمعي كلامي للأخر.

احتدت نظراتها نحوه، وكانت على وشك الانفجار فيه، لكنه بادر قائلاً: -الموضوع مش مستاهل خناقات وأفورة، في مصايب أكبر من اللي انتي فيه
صاحت فيه بصوت متحشرج منفعل وهي مسلطة أنظارها عليه: -وانت ايش دخلك فيا، أنا مش فاهمة أصلاً انت جاي هنا ليه!
سكتت للحظة لتلتقط أنفاسها، ومن ثم واصلت صراخها مرددة: - وبعدين حد طلب مساعدتك ولا آآ..

قاطعها قائلاً بصوت متصلب وهو يدنو من فراشها: -مش محتاج أطلب، انتي ملزمة مني لحد ما أمك تعرف!
ضاقت نظراتها أكثر، وردت عليه مستنكرة محاولته فرض نفسه عليها بالإجبار: -بصفة ايه ان شاء الله؟
أجابها بجمود متحدياً عِنادها: -من غير صفة، هو كده قوة وإقتدار.!
فتش منذر في معظم محتويات الكيس البلاستيكي باحثاً عن أي شيء يمكن أن يفيده.
تساءل طه بإهتمام وهو يجوب ببصره عليهم: -لاقيت حاجة يا بني؟

أجابه ابنه بضجر وهو يلقي بعدم مبالاة بالأشياء: -موبايل قديم، وكارت لوكاندة، ومحفظة، وحاجات مالهاش لازمة!
تناول الحاج طه البطاقة الخاصة بالفندق، وأمعن النظر فيها جيداً ليعرف اسمه وعنوانه. ثم هتف قائلاً:
-أدينا عرفنا المكان اللي كانوا أعدين فيه!
هز منذر رأسه دون أن ينبس بكلمة، بينما تابع والده مكملاً بنبرة مهتمة وهو يشير بإصبعه:
-شوفلنا في الموبايل ده رقم حد من قرايبها!

حدق منذر في وجه أبيه مردداً بغرابة من طلبه: -وأنا هاعرفهم ازاي؟
رد عليه أبيه بجدية: -أكيد هيبان يعني يا منذر، مش محتاجة فقاقة!
ضغط ابنه على شفتيه قائلاً بإقتضاب: -طيب!
زفر بصوت مسموع، وتابع البحث في قائمة الأسماء الموجودة بالهاتف والذي لم يكن على درجة من الصعوبة للتعامل معه.
لم يجد به الكثير من الأسماء، فقط قلة قليلة.

لفت أنظاره اسم الحاج فتحي ، وظن أنه ربما يكون على صلة قريبة بالعائلة، فقرر أن يهاتفه أولاً، ثم يحاول مع شخص أخر.
وبالفعل ضغط على زر الاتصال به، وانتظر بترقب رده عليه..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة