قصص و روايات - قصص رائعة :

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والعشرون

رواية الدكان للكاتبة منال سالم الفصل الرابع والعشرون

تحركت حافلتي الأجرة في إتجاه العنوان المنشود لبدء المواجهة الحامية مع من تجرأ على أحد كبار قريتهم الحاج فتحي.
بالطبع لم يكن ليتركوا ثأره - والذي اعتبروه أمراً يخصهم هم كذلك - دون الأخذ به، واسترداد ما سُلب منه بالإجبار والقوة.
شعر الحاج فتحي بالإنتشاء لوجود عزوته حوله، وحدث نفسه مهدداً وهو يكور قبضة يده بعنف:
-هادفنك مطرح ما انت واقف!

مدت يدها لتمسك بكفها المسنود إلى جانب جسدها النائم، واحتضنته براحتيها ثم ربتت عليه برفق كبير.
أدمعت عيناها متأثرة، وأخذت نفساً عميقاً لتسيطر على نوبة بكائها المهددة بالبدء في أي لحظة.
نهج صدرها علواً وهبوطاً، ورمقتها بنظرات مطولة أسفة مشفقة على حالها. مالت نحوها لتمسح على وجهها بنعومة هامسة لها بإعتذار:
-سامحيني يا بنتي، حقك تشيليني الذنب، بس والله ما كنت أعرف!

بقيت معها جليلة لبعض الوقت، ثم انسحبت بهدوء لتترك لعواطف مساحة من الحرية لتتحدث مع ابنة أخيها دون شعور بالحرج.
تساءل طه بإهتمام وهو يراها تغلق الباب: -ايه الأخبار يا جليلة؟
دنت منه لتجيبه بصوت خفيض: -أنا سبتهم مع بعض، بس شكل عواطف مش هاتسيب البت تمشي، وشها بيقول كده
أضاف بإقتضاب: -يا مسهل!
سألته جليلة بصوت خافت وهي توميء بعينيها: -تحب أخش عندهم وآآ..

قاطعها قائلاً بجدية: -لالالا. خليهم على راحتهم، وروحي انتي شوفي أروى ويحيى!
هزت رأسها بالإيجاب مرددة: -حاضر يا حاج!
ثم أولته ظهرها، ولكنها استدارت برأسها سريعاً لتسأله بإهتمام: -تحب أعملك حاجة سخنة ولا أغرفلك تاكل يا حاج
لوح بعكازه نافياً: -ماليش نفس!
لم تعقب عليه وأكملت سيرها.
اقترب طه من ابنه منذر، وأردف قائلاً بصوت صارم: -خلص كل حاجة لزوم الدفنة والعزا!

رد عليه منذر بثبات: -اطمن يا حاج، أنا كلمت معارفنا وخلصوها، وشوية وهنروح نستلم الجثة ونطلع على التُرب!
سأله والده بإقتضاب: -وتصريح الدفن؟
أجابه مؤكداً: -طلع خلاص!
ربت طه على كتفه وهو يرمقه بنظرات متفاخرة، ثم تابع قائلاً: -تمام يا بني!
أبعد يده عنه، وضمها على كفه الأخر ليستند على رأس عكازه مردداً: -ربنا يرحمها ويثبتها عند السؤال
-يا رب!
ثم استأنف حديثه بصرامة وقد ضاقت نظراته.

-إدي أجازة للرجالة في الوكالة، احنا مش هانكون فايقين للشغل، وآآ..
اشتد غموض عيني منذر وهو يقاطعه بنبرة مخيفة نوعاً ما: -اعتبره حصل، أنا أصلاً محتاجهم معايا الليلة
فهم الحاج طه سريعاً المقصود من تلك الجملة الجادة، ورد عليه معللاً: -أها. عشان الراجل قريب البت المجنون؟
قست نظرات منذر وهو يرد مؤكداً
-بالظبط كده يا حاج!
زم طه شفتيه متمتماً بتوجس: -ربك يسترها معانا.

-يا رب، هستأذنك يا حاج، هاروح أتابع بنفسي اللي بيحصل
-ماشي يا بني، وربنا يعينك
تحرك بعدها منذر في اتجاه باب منزله ليكمل ما لديه من أعمال معلقة.
بينما عاد الحاج طه إلى غرفته ليبدل جلبابه بأخر.
على الجانب الأخر، جلس دياب بغرفة ابنه يحيى ليقضي معه بعض الوقت.
تمدد على المقعد الموجود بالشرفة، واستند بساقيه على حافة السور.
تساءلت أخته الصغرى أروى بفضول وهي محدقة به: -ودي مين يا أبيه دياب؟

أجابها دياب بضجر قليل: -واحدة قريبة طنطك عواطف
تساءلت أروى بإهتمام أكبر وهي تكتف ساعديها: -بس هي عيانة ليه؟
نفخ من ثرثرتها المتكررة مردداً بإيجاز: -معرفش!
تدخل الصغير يحيى في الحوار قائلاً ببراءة طفولية: -ممكن أدوها حقنة في الكي جي وسخنت!
ردت عليه أروى بجدية بعد أن استدارت نحوه: -الميس بتقول مناكلش سمك ولا بيض لما ناخد حقن!

نظر دياب إلى كليهما بإندهاش عجيب، ورفع حاجبه للأعلى مستغرباً طريقتهما في الحوار،
التوى ثغره للجانب، و تمتم مع نفسه بإبتسامة متهكمة: -وربنا انتو دماغو فاضية!
انتبه لصوت رنين هاتفه، فأنزل ساقيه ليعتدل في جلسته، ثم إلتقطه من على الطاولة وحدق في شاشته.
زفر بتأفف كبير بعد أن قرأ اسم طليقته السابقة، وهو يقول بإشمئزاز: -ودي عايزة ايه؟!

ألقى بالهاتف على الطاولة، وشبك كفيه خلف رأسه مردداً بضجر أكبر: -استغفر الله العظيم، واحدة تفور الدم!
تكرر اتصالها به، فنفخ مجدداً، واضطر مجبراً أن يجيب عليها.
أردف قائلاً بإزدراء وهو يقضم أطراف أظافره: -خير!
ردت عليه بنعومة مصطنعة: -مافيش إزيك يا ولاء؟
بصق تلك البقايا العالقة بين شفتيه، وأجابها بنفور وقد زاد عبوس وجهه: -لأ! في حاجة؟

هتفت قائلة بنبرة هادئة نسبياً: -ايوه، كنت عاوزة أخد يحيى يقضي الويك إند معايا لأني احتمال أسافر السخنة!
رد عليها بتهكم ساخر: -والله! الويك إيند والسخنة! وده من امتى ان شاء الله؟
ثم أبعد الهاتف عن أذنه ليسبها بكلمات لاذعة: -نسيت نفسها بنت ال..!
لم تسمع جيداً ما قاله، فصاحت متساءلة: -بتقول ايه يا دياب؟
أجابها متجهماً: -الواد عنده مدرسة ومش هاينفع!

هتفت معترضة بإصرار: -احنا متفقين يجيلي أيام الأجازات، أنا مقولتش هاخده أيام الدراسة مع إن ده من حقي!
هب واقفاً من على مقعده، فقد أغاظته جملتها الأخيرة وجاهد ليتمسك بعقله ويضبط انفعالاته قبل أن يثور بها.
قبض بأصابعه على حافة السور، وضغط بشراسة عليها مردداً بحنق: -حقك؟!
ردت عليه ببرود متعمدة استفزازه: -ايوه، أنا أمه مش مرات أبوه، وحضانته معايا
صاح بها بصوت جهوري محتد: -دلوقتي افتكرتي انك أمه!

هتفت قائلة بنبرة محذرة: -دياب بلاش نفتح في القديم، خلي يحيى ابننا بعيد عن أي خلافات بينا، عاوزين نفسية الولد تكون كويسة
ضرب بعنف حافة السور بقبضة يده المتكورة، وصاح بها بنفاذ صبر: -لخصي!
استمع إلى صوت زفيرها وهي تصيح بحدة: -ما أنا قولتلك عاوزاه يقضي الأجازة معايا، أنا مسافرة يومين بس ومحتاجاه يغير جو معايا ويشوف مناظر جديدة، مافيهاش حاجة يعني!
تجهمت نبرته أكثر وهو يضيف بسخط: -أها، هابقى أشوف.

سألته بهدوء: -طيب أعدي أخده امتى؟
أجابها بفظاظة متعمداً إهانتها: -لأ متعديش، محدش طايقك هنا!
اغتاظت من رده المستفز، وضبطت نبرتها وهي تقول بصعوبة: -ميرسي لذوقك
تابع قائلاً بإزدراء مهين: -دي الحقيقة!
سألته بصوت حاد بعد أن فاض بها الكيل من استهزائه بها: -طب هاخده إزاي؟ ممكن تقولي!
أجابها بجمود: -هابعتهولك مع واحد من السواقين
ردت عليه قائلة: -اوكي!

ثم رققت من نبرتها لتكمل بنعومة: -وعلى فكرة إنت ممكن تجيبه وتيجي عادي عندي، احنا ممكن نعتبر نفسنا أصحاب وآآ..
قاطعها قائلاً بنبرة فجة: -لأ مش عاوز أشوف خلقتك، بتقفلي اليوم كله!
شهقت مصدومة من وقاحته اللامتناهية مرددة بنبرة مغلولة: -نعم!
تابع قائلاً بإحتقار مسيء لشخصها: -سلام بقى عشان مش فايق لقرفك! كفاية كده!

اتسعت حدقتي ولاء بغيظ كبير بعد أن أنهى دياب المكالمة معها تاركاً إياها تغلي من أسلوبه الفج المستفز لها.
نفخت قائلة بحنق وقد اشتعلت نظراتها: -وقح وقليل الذوق!
كزت على أسنانها متابعة بتوعد شرس: -بكرة تيجيلي زاحف يا دياب عشان خاطر ابنك، وساعتها هردلك القديم والجديد!
ابتلعت شادية قطعة الحلوى التي كانت بيدها وهي تتساءل بهدوء: -ايه اللي حصل؟ متنرفزة كده ليه؟

أجابتها بنبرة حادة: -الزفت دياب بيطول لسانه عليا!
أخذت شادية تلوك بقايا قطعة الحلوى في فمها حتى ابتلعتها تماماً، وردت عليها ببرود وهي تقف قبالتها:
-ده أخره معاكي، مابيعرفش يعمل أكتر من كده، سيبك منه
هتفت ولاء متوعدة بنبرة عدائية بعد أن فلتت أعصابها: -أنا هاوريه! مش هآآ..
قاطعتها أمها بلؤم شيطاني وقد برقت عيناها بوميض مغتر: -هاتي بس يحيى منه الأول وبعد كده هنعرفه إن الله حق!

صرت ولاء على أسنانها قائلة بنبرة محتدة: -ماشي يا ماما!
بدأت أسيف تستعيد وعيها تدريجياً، شعرت بثقل كبير في رأسها، فتأوهت بأنين خفيض وهي تجاهد لفتح عيناها.
انتبهت لها عواطف، وكفكفت عبراتها لتهمس بتلهف: -بنت أخويا الغالي، أنا جمبك يا ضنايا!
ركزت أسيف في ذلك الصوت المألوف الذي اخترق أذنيها رغم همسه، والتفتت برأسها ببطء نحو صاحبته.

نظرت إليها بحزن عميق، ثم تمتمت بصوت خفيض موجوع وعيناها تبكيان: -سابوني وراحوا!
ردت عليها عواطف قائلة بحنو صادق رغم عدم فهمها لما قالته: -متخافيش أنا معاكي ومش هاسيبك، وإن شاء الله ربنا يقدرني وأعوضك عن اللي فات!
إستندت أسيف بمرفقيها محاولة النهوض من نومتها، فانتفضت عمتها واقفة لتعاونها، ومدت يدها لتمسك بها من ذراعها وهي تقول بتلهف:
-بشويش يا بنتي!

أغمضت عيناها الدامعتين للحظة، ثم عاودت فتحهما وهي تسند ظهرها على الوسادة.
انتحبت أكثر، ووضعت إصبعها على طرف أنفها كاتمة لشهقاتها.
مسحت عواطف على ظهرها برفق مواسية إياها: -شدي حيلك يا ضنايا!
رفعت أسيف رأسها للأعلى لتحدق فيها بنظرات خاوية.
ثم تلفتت حولها بإستغراب شديد متساءلة بصوت مختنق: -أنا فين هنا؟

أجابتها عواطف بنبرة مطمئنة وهي تحاول الابتسام لها: -انتي عند جماعة قرايبي، ودلوقتي هاخد وتروحي معايا بيتي، عند عمتك حبيبتك يا غالية!
هزت أسيف رأسها معترضة قائلة بصوت مبحوح: -أنا عاوزة أروح لماما، هي لوحدها!
ضغطت عواطف على شفتيها مانعة نفسها بصعوبة من البكاء، وهتفت بتفهم: -هانروحلها، وهتدفينها وتاخدي عزاها بنفسك.

أجهشت أسيف بالبكاء المرير مرة أخرى، وأخرجت من صدرها شهقة متآلمة صارخة بحرقة: -آآآآه، سابتني وراحت مع بابا
احتضنتها عواطف بذراعيها، وضمتها إلى صدرها قائلة بتأثر: -عيطي يا بنتي، طلعي كل اللي جواكي!
هتفت أسيف بنشيج مخنوق: -ليه كده يا ربي، ليه أتحرم من أغلى الناس؟

اعترضت عواطف على عدم تقبلها لمشيئة المولى قائلة بعتاب خفيف: -متقوليش كده يا بنتي، ده قضاء ربنا، وإن شاء الله هيعوضك خير! اصبري واحتسبي عند الله!
أغمضت هي عيناها قهراً، وواصلت صراخها الموجوع: -آآآآآآه
ضمتها عواطف أكثر، وحاولت احتواء حزنها العصيب بكل ما استطاعت من عاطفة وحنو.
ظلت تمسح على كتفيها وظهرها، وانحنت لتقبلها بعمق في جبينها لعلها تسكن آلامها الملتهبة.

هي اعتبرتها بمثابة ابنة أخرى لها، ولن تتخلى عنها أبداً.
اختلست جليلة النظرات بحذر شديد وهي تراقب كلتاهما دون أن تصدر أي صوت، ثم استمعت لجزء من حوارهما، وأسرعت بمواربة الباب قبل أن تلفت الأنظار إليها.
مصمصت شفتيها مستنكرة حالة الهذيان المسيطرة على تلك الفتاة، وضربت كفاً بالأخر.
تساءل الحاج طه بإهتمام: -ها فاقتك؟
أجابته بإيماءة واضحة منها: -اه يا حاج!

تساءل بجدية أكبر وهو يعقد ما بين حاجبيه: -تفتكري هتبقى كويسة لو خدناها معانا التُرب؟
حركت كتفيها بحيرة وهي تجيبه: -مش عارفة، بس شكلها مايطمنش يا حاج، دي مقطعة نفسها من العياط!
تابع الحاج طه قائلاً: -أنا رأيي بلاش، بدل ما يحصل زي ما حصل في المشتشفا!
وضعت جليلة يدها على طرف ذقنها مرددة بإعتراض: -بس دي أمها والمفروض تحضر دفنتها وآآ..
قاطعها قائلاً بضيق: -عارف، بس انتي شايفة بنفسك!

وافقته الرأي هاتفة بتوجس: -اه يا حاج، البت مش مستحملة، ده الواحد خايف تروح فيها
صمت ليفكر في أمر ما قليلاً، ثم أشار لها بكفه قائلاً بصوت جاد: -خليها معاكي، واحنا بعد الدفنة هناخدها على بيت عواطف!
هزت رأسها موافقة وهي تقول بإبتسامة باهتة: -ماشي يا حاج، اللي تؤمر بيه!
وصلت الحافلتين قبل وقت قليل للمنطقة الشعبية، وترجل منها الحاج فتحي ليبحث عن العنوان المطلوب.

وقعت عيناه على ذلك السرادق الذي يتم نصبه، فتجهم وجهه وعرف تحديداً أين سيتواجه.
استدار برأسه ناحية الحاج اسماعيل مردداً: -شكل ده البيت
استطرد الحاج اسماعيل حديثه قائلاً بصوت متصلب عدائي: -أؤمر يا حاج فتحي واحنا نجيب عليه واطيه، الرجالة جاهزين!
إشرأب الحاج فتحي بعنقه محاولاً البحث عن غريمه المنشود، لكنه لم يره وسط المتواجدين بالسرادق وخارجه، فرد عليه قائلاً بصوت مزعوج:.

-مش وقته، احنا هنستنى شوية لحد ما يجي البأف إياه!
تساءل الحاج اسماعيل بجدية: -هو مش معاهم؟
هز رأسه نافياً وهو يجيبه: -لأ، شكله لسه مجاش!
مط فمه ليضيف بعزم: -طيب، احنا معاك للأخر، وماورناش حاجة إلا هو!
ربت الحاج فتحي على كتفه ممتناً، وهتف صائحاً وهو يمرر أنظاره على بقية الرجال المتأهبين للمشاجرة:
-بينا يا رجالة هنقعد على القهوة اللي على الناصية دي شوية
في وقت لاحق،.

وُريت حنان الثرى، ودُفنت في مقابر عائلة عواطف، وتحديداً في قبر والدتها المتسلطة، بحضور قلة قليلة ممن على صلة بها، تولى رجال عائلة حرب إنهاء كل شيء حسب العُرف المتبع.
بعدها عادت عواطف إلى منزل الحاج طه لتصطحب ابنة أخيها إلى منزلها حيث سرادق العزاء الذي تم إقامته بجوار البناية.
تم نصب أخر صغير على مقربة منه، لكنه مغلق وخاص بالنساء، وأشرفت على خدمة من به بعض العاملات المؤجرات للقيام بمثل تلك المهام.

ارتفع صوت ترتيل آيات القرآن الكريم بالأرجاء، وبدأ قاطني المنطقة في الحضور لتقديم واجب العزاء.
ترأس قائمة متلقي العزاء الحاج طه، ووقف إلى جواره ابنه دياب.
-هاتروح العزا يا مازن؟
تساءل مهدي بتلك العبارة موجهاً حديثه إلى ابنه الذي رد عليه بفتور: -هي كانت قريبتنا لا سمح الله، دي واحدة ولا نعرفها من الأساس، فجأة عزا وصوان ومقرئين وكلام فارغ
انزعج أباه من رده المستفز، ونهره قائلاً: -انت مابتعملش خير أبداً.

رد عليه غير مكترث: -لأ، لو كان من ناحيتهم مش عاوز
هتف والده بعبوس: -أنا رايح أقوم بالواجب، ماهو مش هيبقى احنا الاتنين
رفع مازن عينيه قليلاً ليقول ببرود: -براحتك يا حاج
تمتم الحاج مهدي من بين شفتيه بسباب حاد وهو ينظر لابنه بإزدراء: -تربية، مافيش فيك بركة!
أحضر منذر سيارته، وأوقفها أمام مدخل بنايته منتظراً بترقب نزول أسيف مع عمتها.
بدلت الأخيرة ثيابها بعباءة سوداء أعارتها لها الحاجة جليلة.

بدت فيها نحيلة للغاية، ومتهدلة على جسدها، لكنها كانت الملائمة لمثل تلك الظروف الحزينة.
تجمدت أنظاره عليها، ولم يستطع إبعاد عيناه عنها.
علامات الإنكسار والضعف الممزوج بالحزن كانت مسيطرة عليها كلياً.
كانت تسير بلا عقل، تفكيرها شارد فيمن رحل عنها، في مستقبلها المجهول، مصيرها المقلق.
هي باتت بمفردها لا عائل لها، تحملت مسئولية أكبر بكثير مما كانت تتوقعه.
تأبطت بذراعها عمتها الوحيدة ساحبة إياها نحو السيارة.

فتحت باب السيارة الخلفي، ودفعتها بلا مقاومة للبقاء بالخلف، وجلست هي إلى جوارها.
تساءل منذر بصوت آجش: -نتوكل على الله؟
أجابته عواطف بصوت هاديء ناظرة في إتجاه أسيف: -اه يا سي منذر، وكتر خيرك على كل اللي بتعمله!
تحرك بالسيارة في اتجاه منزل عواطف والذي كان قريباً من بنايتهم. لمح بطرف عينه وهو يلج للمنطقة الشعبية حفنة من الرجال الغرباء المنتشرين على أغلب مقاعد القهوة.

دقق النظر فيهم بإهتمام، وتفرس في ملامح وجوههم الغير مبشرة بقلق كبير.
بدا وكأنهم مجتمعين للقيام بأمر مريب، كما كانت ثيابهم تشير لكونهم من بلدة ريفية.
طرأ بباله شيء ما، واستطاع نوعاً ما تخمين هويتهم خاصة عندما التقطت عيناه أحدهم تحديداً، والذي عرف هويته على التو فتجمدت تعابيره وجهه، وقست نظراته للغاية.

بحذر شديد سحب هاتفه المحمول من جيبه، وطلب أخاه قائلاً بصوت قاتم يحمل الغموض: -جهز الرجالة يا دياب، في عوأ هيحصل!
هتف دياب متساءلاً: -قصدك قريب البت ال آآ..
قاطعه منذر بصوت يوحي بالشراسة: -أه هو، ومش جاي لوحده
رد عليه دياب بثقة: -واحنا جاهزينله
-ماشي
قالها منذر وهو ينهي معه المكالمة على عجالة، لكن عيناه لم تحيدان أبداً عن الحاج فتحي الذي تشنجت قسماته حينما وقعت أنظاره مصادفة عليه.

عرفه فوراً، وتحفزت كافة حواسه للهجوم عليه.
هب واقفاً من مقعده صائحاً بغلظة: -يالا يا رجالة، الدغوف جه برجليه هنا!
هتف الحاج اسماعيل بتوعد هو الأخر: -وقعته سودة، مش هايطلع عليه نهار، بينا يا رجالة..!

الفصل التالي
جميع الفصول
روايات الكاتب
روايات مشابهة